تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

فيلم (حالة بنجامين بوتون الغريبة) الذي رشح لجائزة الأوسكار

عن لغز الزمن وخبايا النفس البشرية

إبراهيم حاج عبدي/ دمشق / الاتحاد

قليلة هي الأفلام التي تهز مشاعر المرء، وتدفعه إلى طرح أسئلة مقلقة، ولعل فيلم "حالة بنجامين بوتون الغريبة" (إنتاج 2008) للمخرج الأمريكي ديفيد فينشر، ينتمي إلى هذا النوع الخاص، والنادر، بل أن هذا العمق الفلسفي الذي ينطوي عليه الفيلم يصل عبر صياغة سينمائية مؤثرة؛ بالغة الإتقان، لدرجة يصعب معها العثور على دقيقة مهدورة، أو رؤية مشهد نافل؛ مقحم خلال نحو ثلاث ساعات إلا ربع، هي مدة الفيلم، الذي كتب له السيناريو أريك روث استنادا إلى قصة قصيرة للكاتب المعروف سكوت فيتزجيرالد.

حكاية الفيلم غريبة، حقا، كما يشير العنوان، فهي تتناول حياة بنجامين بوتون (براد بيت) الذي ولد شيخا مسنا، هرما يعاني من الأمراض والعلل، ومات طفلا وديعا لا يتذكر من حياته الصاخبة سوى اسمه. بين الشيخوخة، والطفولة ثمة حياة مديدة، تبدأ، بالضبط، مع احتفالات نهاية الحرب العالمية الأولى علم 1918م، حين ولد الشيخ ـ الطفل لأمٍ توفيت إثر ولادة استثنائية، وتنتهي مع مطلع الألفية الثالثة. هذه الحياة بكل ألغازها، ووعورتها، وخيباتها، وبهجتها...تتكشف، برفق، وأناة أمام عدسة فينشر الذي لم يدخر جهدا في الاعتناء بأدق التفاصيل، حتى أنجز فيلما بهذا المستوى الرفيع.

يبدأ الفيلم، الذي كان مرشحا لعدد من جوائز اوسكار هذا العام، بمشهد تظهر فيه ديزي (كيت بلانشيت) العجوز المسنة، وهي تحتضر في مستشفى بمدينة نيو اورليانز التي تتأهب لمجيء إعصار مدمر، مثلما يتأهب المشاهد لسماع قصة عاصفة. تطلب ديزي، التي تكاد تقوى على الكلام، من ابنتها الشابة كارولين (جوليا اورموند) أن تقرأ دفتر يوميات صديقها الراحل بنجامين بوتون، التي تحتفظ به كذكرى نقية لحب رسم مسار حياتها، كي تعرف الابنة سرا لم تبح به الأم حتى اللحظة. تقرأ كارولين ما كتبه بنجامين في عام 1985م: "هذه وصيتي الأخيرة. ليس لدي الكثير لأورثه، بضعة أملاك... لكن ليس لدي مال. سأخرج من هذا العالم بنفس الطريقة التي دخلت فيها وحيدا، وبلا شيء. جلّ ما أملكه هو قصتي". هنا تبدأ قصة بنجامين الذي ولد غريبا، فذهب به والده توماس بوتون ليتركه أمام باب دار للمسنين، فتعثر عليه إحدى خادمات الدار، وهي الآنسة السوداء كويني التي تعتقد بان هذا الوليد المشوه هو "هبة من الله" لكنها من النوع الذي لا يرغب المرء في رؤيتها. يثابر بنجامين على البقاء رغم توقعات الطبيب بموته، ويترعرع في هذه الدار التي تعج بأنفاس العجزة، وبحركاتهم المتعبة، وذاكرتهم المعطوبة، وهناك يتعرف على الفتاة الصغيرة ديزي؛ حفيدة إحدى نزيلات الدار، التي ستظل كوشم أبدي في ذاكرة رجل يعود بالتدريج، من الشيخوخة إلى الصبا، فالطفولة مجسدا نبوءة، بل رغبة صانع الساعات الأعمى الذي فقد ابنه في الحرب العالمية الأولى، فصنع ساعة كبيرة يعود عقاربها إلى الوراء، أملا في أن يعود ابنه إليه سالما!

بعد سنوات يترك بنجامين الدار، ليعمل على متن باخرة. يختبر تجارب مختلفة، ويلتقي بأناس ذوي أفكار وطموحات، ويعيش قصة حب حسية عابرة في ميناء مورمانسك، ويشارك مع أفراد الباخرة في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، إذ نجا من قصف تعرضت له باخرتهم، ورأى أصدقاء له يموتون أمام عينيه. وجد الكثير من الصعاب، وواجه المخاطر، ووقف في محطات عدة، وعاد شابا إلى الدار التي نشأ فيها، ليلتقي من جديد بفتاة حياته ديزي، فتستيقظ في روحه، من جديد، تلك المشاعر التي تنتابه لدى رؤية هذه الفتاة. قصة الحب الفريدة هذه تثمر عن فتاة هي كارولين التي تتعرف الآن على حكاية والدها الغريبة، بينما ترقد والدتها ديزي، الآن، بجانبها على سرير الموت الوشيك. أدرك بنجامين لدى ولادة كارولين بأنه لا يصلح لأن يكون أبا طالما هو يصغر في السن، فيقرر الهجر مرة أخرى، ويعود من جديد ليلتقي بابنته لمرة واحدة، وسرعان ما يعود طفلا ليموت رضيعا في حضن حبيبته، وصديقته ديزي.

رغم فرادة الحكاية، وجاذبيتها، إلا أن ما يسجل للفيلم هو الطريقة الأخاذة في سردها بلغة سينمائية تضمر الخيال، والتشويق، والرومانسية، والغموض، والحساسية المرهفة...بل هو يغوص في سيكولوجية الشخصيات، ويقرأ انفعالاتها ودوافعها. وبالنظر إلى زمن الحكاية الطويل، وتعدد مواقع التصوير فقد جاء مونتاج الفيلم، بالرغم من ذلك، متقنا، ورشيقا، كما أن الموسيقا التصويرية جاءت لتعبر عن أجواء وعوالم الفيلم، واللافت في الفيلم، أيضا، هو الأداء البارع للممثل براد بيت الذي أجاد في تجسيد المراحل العمرية المختلفة لشخصية بنجامين بوتون. ومع أن الحكاية غريبة، لكن المخرج ينأى بفيلمه عن التعقيد، والتشويش بل يقدم فيلمه، الأقرب إلى الملحمة، في قالب سينمائي بسيط عبر حوار عميق يسهم في إظهار حقائق حول الحياة والموت، وحول المشاعر الإنسانية، وحول رجل يكتشف أسرار الحياة من زوايا خاصة تتعلق بحالته الخاصة.

يمكن تصنيف فيلم "حالة ينجامين بوتون الغريبة" على انه فيلم فلسفي يناقش موضوعة الزمن كقدر يترصد الوجوه الباحثة عن لحظة طمأنينة في انتظار الوصول إلى نهاية النفق، فالفيلم، بهذا المعنى، يسبر أغوار النفس البشرية، ويلج أكثر المناطق عتمة، وسرية، غير أن المخرج لا يهدف من وراء ذلك إلى إظهار عالم غرائبي، متوهم، ولا يستثمر هذه الحكاية الفريدة في ابتكار خدع سينمائية، أو أفعال خارقة، وهو لا يناقش أصلا أسباب ولادة هذه الشخصية على هذا النحو الغريب، بل هو ينطلق من حقيقة وجود مثل هذا الكائن ليناقش، من خلاله، حكاية حب، ولوعة، وهجر، وحرمان، وبهجة ناقصة، بل يذهب إلى ابعد من ذلك عندما يفسر للمشاهد لغز الزمن كحقيقة تنعكس في حركات الإنسان وتغضنات وجهه، وفي سلوكه، ونبرة صوته، وتحفر عميقا في وجدانه...كل ذلك يمر كومضة خاطفة، كخفق جناح طير، وهو ما يحيلنا إلى عبارة لأليوت تقول: "ليس لك شباب، ولا شيخوخة، بل كما لو كنت في قيلولة، وحلمت بكليهما". 

الإتحاد العراقية في

01/03/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)