تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

ضوء

بروتولت بريخت وفيلم “المليونير المتشرد

عدنان مدانات

كتب بروتولت بريخت في أواخر عشرينات القرن الماضي مسرحيته الموسيقية الشهيرة “أوبرا البنسات الثلاث” (أوبرا الشحاذين)، والتي توغلت في أعماق المجتمعات السفلى التي تسيطر عليها عصابات الإجرام والتسول، كاشفا عن الوسائل المرعبة التي تلجأ إليها العصابات لصنع العاهات للأطفال تمهيدا لتحويلهم إلى شحاذين ولتحديد النداءات التي عليهم قولها في الشوارع لإثارة الشفقة،اعتمادا على ربط مضمون النداءات بالأزمات السياسية والاجتماعية الراهنة في البلاد. تضمنت المسرحية التي كان فيها الكثير من الترفيه تحليلا عميقا لبنية المجتمع الرأسمالي والقوى الفاعلة فيه ضمن سرد متماسك ومقنع بمصداقيته، وهي من أفضل مسرحياته ومن أكثرها إعادة تقديم على خشبات المسرح العالمية عبر الزمن.

يرتكز الفيلم البريطاني/ الهندي الحديث “المليونير المتشرد” على بعض أجواء مسرحية بريخت المرتبطة بعالم المتسولين والعصابات التي تقوم بتأهيلهم واستغلالهم من خلال متابعة مصير طفلين أخوين وطفلة، حتى وصولهم مرحلة النضج، لكن لا من اجل تقديم تحليل عميق لمشاكل واقع اجتماعي، بل كذريعة لسرد قصة حب، وإن كانت غير تقليدية سواء في تركيبتها أو في طريقة عرضها. يتضمن الفيلم إشارة يتيمة لمشكلة اجتماعية جوهرية، عندما يصور مشهدا، يقوم فيه متعصبون هندوس بمهاجمة حي يقطنه مسلمون ويقتلون أثناء الهجوم والدي الطفلين، مما يجعلهما يتيمين مشردين، والمشهد يمهد لقصة الطفلين الشخصية ولكن الفيلم لا يناقش تبعاتها وانعكاساتها السلبية الخطيرة على الواقع الاجتماعي والسياسي وحتى الأمني في الهند المعاصرة.

يستخدم الفيلم تقنيات تصوير وإخراج تجعل منه استعراضاً سينمائياً مبهراً حقاً، ويروي حكاية مؤثرة جدا، لكنه بالمقابل، يستفيد من حالة الانبهار التي يخضع لها المتفرجون ليغطي على ثغرات أحياناً أو حلول ساذجة أو غير منطقية لبعض المشاهد أحياناً أخرى. هذا ما نلاحظه مثلاً، في المشهد الافتتاحي الذي نرى فيه أطفالاً فقراء يلعبون على أرض مدرج مطار ما، ثم نراهم يهربون بعدما يهجم عليهم رجال شرطة ويطردونهم من المكان ولا يكتفون بذلك بل يستمرون في مطاردتهم وصولا إلى الحي المكتظ بالسكان والبيوت المتلاصقة والأزقة الضيقة. يتابع المخرج تصوير مطاردة رجل الشرطة للطفلين خلال الأزقة الضيقة المزدحمة، على الرغم من ما يسببه له ذلك من عناء، مستخدما مشهد المطاردة لتقديم استعراض مثير بصريا لجغرافية الحي ولقدرات الأطفال على الهرب من الملاحقة بالقفز الجريء بين الأسطح أومن فوق الأسوار العالية، لكنه ينهي المشهد بحل ساذج لا منطق فيه، فما أن يتمكن الشرطي من الوصول إلى الطفل حتى يجد أمامه فجأة والدة الطفل التي تنهي الأزمة بسهولة حيث تقول للشرطي: دعه لي فسوف أعاقبه. ما يزيد من سذاجة هذا المشهد هو لا منطقية الحدث نفسه، فهل يعقل أن يكتفي الشرطي بكلام الأم، أو أن تجري كل هذه المطاردة العنيفة المجهدة بسبب لعب أطفال غير مؤذٍ!

مثال آخر: الحدث الهيكلي في الفيلم هو نجاح الطفل المشرد بعد أن أصبح شابا يعمل في مهنة متواضعة جدا، في المشاركة في برنامج “من سيربح المليون” و تمكنه من الإجابة عن الأسئلة، مما أهله أخيراً للفوز النهائي. يقدم الفيلم إجابة مبتكرة ولكن مفبركة، على الرغم من أن فيها فكرة عميقة، على السؤال المتعلق بكيفية نجاح شاب فقير غير متعلم في الإجابة عن أسئلة يعجز عن الإجابة عليها حاملون لشهادات عليا. تحيلنا الإجابة إلى إمكانية الوصول إلى المعرفة عن طريق الخبرات الحياتية التي يمر بطل الفيلم منذ طفولته. يستعيد سيناريو الفيلم بعض هذه الخبرات التي مر بها بطل الفيلم في سعي منه لتفسير إجابات صحيحة على أسئلة طرحت عليه. أحد هذه الأسئلة يتعلق بمعرفة اسم ممثل هندي رئيسي في أحد الأفلام. لتفسير نجاح المشارك في الإجابة عن السؤال يصور المخرج مشهدا يسترجع فيه حدثاً مر فيه بطل الفيلم في طفولته جعله لا ينسى اسم الممثل النجم. نرى الطفل مقرفصاً في “مرحاض” عمومي مقام في الخلاء، يقوم أخوه، الطفل أيضا، باستثماره وتأجيره للراغبين، ولأن الطفل بقي طويلا داخل المرحاض يقضي حاجته فيما هو يتأمل صورة للممثل النجم، مما حرم الأخ من تأجير المرحاض لقادم جديد مستعجل، يغلق الأخ الباب من الخارج انتقاماً. في هذه اللحظة تهبط طائرة تقل الممثل النجم في المنطقة للقاء المعجبين. ولا يجد الطفل المحبوس في المرحاض وسيلة للخروج ليتمكن من مشاهدة النجم غير القفز من فتحة المرحاض وسط الحفرة المليئة بالبراز، ثم الاندفاع لملاقاة النجم وهو ممتلئ بالقذارة ورائحتها المقززة من رأسه حتى قدميه، حاملا في يده صورة النجم (وحدها الصورة لم تتلوث)، لينجح ببساطة في جعل النجم يضع توقيعه على الصورة.

المثالان أعلاه مجرد غيض من فيض مشاهد مؤثرة استخدمت تقنيات مبهرة بأسلوب مخاتل. شخصياً شاهدت الفيلم باستمتاع في صالة.

الخليج الإماراتية في

28/02/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)