على خلفية ما يتردد عن عودة مهرجان المسرح الضاحك الذي عقد منذ سنوات لدورة واحدة كرم فيها الفنان الراحل محمد رضا ووعد المسؤولون حينئذ بتكريم بعض نجوم الكوميديا واختاروا من بينهم الفنان يونس شلبي الذي ودع خشبة المسرح دون أن يحظى بهذا الشرف، انطلاقا من هذا التراوح وتلك المراوغة بين التكريم وعدمه ومضت ذكرى الكوميديان يونس شلبي في صمت رهيب وهدوء مريب سنلقي الضوء على بعض ملامح وخصائص هذا الفنان في شكل أقرب الى رسم لوحة زيتية له دونما الغوص في عملية التقييم الفني أو تحديد موقعه بالضبط على المسطح الفني الذي اتسع لعشرات أو ربما المئات من كبار نجوم الكوميديا والتراجيديا وغيرها ممن عمل معهم شلبي الذي كانت البراءة تداعب عينيه وتفرد ظلال الأمان عن آخرها لتوصل ذلك الجسر الممتد بينه وبين جمهوره، حيث لم تغرب شمس طفولته حتى بعد أن داهمته الشيخوخة المبكرة قبل أوان الكبر، فقد ظل الطفل الذي يسكنه متوهجا بالحيوية والحب وخفة الروح، يونس شلبي هذا المزيج من الخجل والشجن والأحلام، أحب الفن كما لم يحب من قبل وعشق الكوميديا كأحد مذاهب التعبير الانساني، حيث تنتزع الضحكات من القلوب المكلومة فتروح عن النفس ساعة بعد ساعة، انها الرسالة التي وعاها الموهوب الصغير في مدرسة المشاغبين وهو لا يزال يتحسس الخطى نحو مستقبل واعد، منصور كان اسمه في أولى محطاته الرئيسية، و'إبن الناظر' لقب منحه الجمهور إياه بعد نجاح حافل استحقه عن جدارة فصار بعده مدللا يوزع النكات وينشر الدعابة بين محبيه، لم يلبث الفتى أن أصبح نجما يشار إليه بالبنان بين نجوم كبـــار مثل عادل إمام وحسن مصطفى عبدالله فرغلي وسعيـــد صالــح وسهيـر البابلي وأحمد زكي، فالموهبـــة عزيزة والحضور طاغ والإصرار على النجاح قائم، انتهى عرض المشاغبين ونزل النجــوم من فوق خشبة المسرح وبقي 'منصور' وحده في قلوب الناس وصار كلامه المتقطـــع وجمله الحائرة لزمات فكاهيـة نتداولها بيننــا في أوقات السمر، ومن مدرسة المشاغبين التي تخرج فيها، انتقل يونس شلبي إلى أكاديمية الكوميديا الاجتماعية في مسرحية 'العيال كبرت' مصطحبا معه رفاق الدرب والمشوار سعيد صالح وأحمد زكي وناظر المدرسة حسن مصطفى.

مضى القطار به يقطع أشواطا ويطوي تحته المسافات، وبين المحطات والمسافات تراكم الخبرات ويزداد النضج واللمعان وتصبح النجومية أمرا واقعا فتلتفت السينما بنصف وجهها الى بطل المسرح فتتكون العلاقة التلقائية بتفاصيلها الإنسانية المعهودة ويزداد النشاط وتسند أدوار البطولة لخليفة إسماعيل يس على حد وصف النقاد في ذلك الحين، فهو العسكري شبراوي الساذج البائس وهو المولع بالحب من طرف واحد في 'شفيقة ومتولي، والفلاح البسيط التائه في زحام القاهرة والمجرم الأبله في ريا وسكينة وصديق البطل، الناصح الأمين في العديد من الأدوار، أنماط جسدها يونس شلبي بما أوتي من موهبة فخلق تيارا جديدة لسينما الكوميديا الساخرة التي اعتبرت امتدادا لرواد كبار مثل نجيب الريحاني وعبدالمنعم مدبولي وفؤاد المهندس وغيرهم ممن أرسوا قواعد الفن الهادف.

لم ينس شلبي التلفزيون والإذاعة فقد تنقل بينهما كالفراشة يحط على الأغصان الخضراء ليمتص الرحيق، فهاهو ذا يفاجئ جمهوره بدور بديع يقدمه مع أساتذته ومنهم فؤاد المهندس وسناء جميل في مسلسل 'عيون' يلعب فيه دور حيرم المحامي الطيب الرومانسي الذي يقع في حب ابنة مُعلمه فيدفع ثمن حبه من لحمه ودمه، شخصيات عديدة كونها يونس شلبي وكونته فرسمت خطاه وخطت مسيرته، ولأن الابتسامة كانت عنوان الوجه البشوش فقد ظل ضاحكا رغم البكاء ومرارة الشقاء وهوان الصحة وسكون المرض داخل الجسد العليل.

مات الفنان الطفل وبقيت البراءة وحدها عنوان الجمال، تلك مسيرة الولد الشقي رسمناها بخطوطها وتعاريجها بعد أن اكتست ملامحها بالتعب وترك الزمن بصماته على الوجه فظهرت غضونه تثير الشفقة والحزن وتترك في القلب غصة وفي النفس شيء من الخوف والعتاب، فالرجل توارى تاريخه كما توارت دموعه وابتساماته، ولم يعد هناك من يتذكره، فهل نعقد الأمل على تكريم ينتظر في الدورة الآتية لو عاد بالفعل مهرجان المسرح الكوميدي كما يزعمون؟

القدس العربي في

28/02/2009