تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

السينما حيت جمال عبدالناصر في حياته ولاحقته بعد رحيله

أحمد طمليه

صادفت قبل أيام الذكرى التسعون لميلاد الزعيم العربي جمال عبدالناصر ، فقد ولد في 15 ـ 1 ـ 1918 بالإسكندرية ، وهو من أصل صعيدى من محافظة أسيوط. وظل في حياته وفي مماته شاغل حديث الناس ، حتى إذا أصابت الأمة كارثة أو مصيبة تذكرته الجماهير وترحمت على روحه ، فهو الذي بشر بالحلم ، رغم النكسة التي قصمت الظهر. وإذا كان عبدالناصر ظاهرة ما زالت تثير رأياً ورأيا آخر بين العديد من الأوساط والشرائح الاجتماعية ، فإن السينما أيضاً ما زالت حتى يومنا هذا تشير للمرحلة الناصرية ، سواء من زاوية النقد أو التجريح ، أو الوفاء والتقدير. ولا أظن أن ثمة زعيماً عربياً لاحقته السينما كما لاحقت عبدالناصر ، وراحت تمعن في فتح الدفاتر القديمة. ولعل السبب يعود إلى التحولات والمنعطفات الحادة التي شهدتها مرحلة الزعيم الراحل ، وأهمها نكسة حزيران 1967 التي لم تكن مجرد هزيمة عسكرية بل كانت انطفاء حلم ، وانتهاء مرحلة كان الوضوح فيها ناصعاً: الأبيض أبيض ، والأسود أسود ولا وجود للون الرمادي ، فالشعارات واضحة ، والأهداف محددة ، والخطابات السياسية تنطق بما يدور على طرف اللسان. وإذا كان هذا الأمر أخذ تداعياته في الأدبيات المختلفة ، فأنه في السينما العربية ، والمصرية على وجه الخصوص ، كان له انعكاساته بشكل واضح ، فكثرت الأفلام التي تلت نكسة حزيران ، وكانت في مجملها تبحث عن مبرر للهزيمة غير المتوقعة لعامة الناس ، فالشعب كان منتشياً بالمرحلة الناصرية ، وكان ما يزال منتشياً بحرب 1956 ، ومنتشياً بزعيمه جمال عبدالناصر وهو يختال بين المدن والعواصم ، ويبحث عن البدائل ، ويتوعد المتربصين بمصر. لم يكن أحد يتوقع أن ينتهي الأمر خلال ست ساعات ، وهي المدة التي استغرقتها الحرب لينهار بعد ذلك كل شيء.

لم تكن الهزيمة عسكرية بالمعنى الحرفي للكلمة ، بل كانت نكسة نفسية وهذا ما جعل تداعياتها تتداعى ، وجعل السينما المصرية تعكس حتى يومنا هذا ذاك التداعي ، فيندر أن يمر فيلم مصري سياسي ، دون أن يشير إلى نكسة حزيران 1967 ، وانعكاساتها المختلفة. وكان لنا وقفة في العام 2003 مع فيلم "بحب السيما" للمخرج أسامة فوزي ، وبطولة ليلى علوي ومحمود حميدة ، فهذا الفيلم الذي يصف حالة أسرة مسيحية منغلقة على ذاتها ، ويعاني ربّ الأسرة من أزمات نفسية تحول دون تجاوبه وتواصله مع محيطه ، لم يبرء ذمة الرئيس الراحل من المسؤولية ، وعلى الرغم من أن الفيلم اجتماعي وليس مسيساً إلا أنه يشير إلى خطاب التنحي للرئيس عبدالناصر في ذروة الأزمات التي تمر بها الأسرة المعنية بالفيلم ، وكأن الفيلم يقول أنه لا يتعرض لأزمة أسرة مصرية في الستينات ، بل أنه يعرض أزمة شعب بأكمله دفع ثمن هزيمته النفسية بخسارته الحرب ، أو بالأحرى بهزيمته في حرب لم يخضها.

ولعل المفارقة هي التي أججت المشاعر على شاشة السينما ، وجعلت الموضوع ساخناً وما يزال قابلاً للطرح حتى يومنا هذا ، وما أقصده بالمفارقة أن مصر ، والأمة العربية معها ، تعرضت لضربة قاصمة ، ولهزيمة معلنة ، في حين أنها لم تخض الحرب ، خاصة على الصعيد الاجتماعي ، على صعيد الشعب ، هذا الشعب الذي وجد نفسه مصدوماً لما آلت اليه الأحوال ، فما بين صباح وضحاه استبدل الحلم بمرارة ما تزال عالقة بالروح وتحولت المشاعر الجياشة ، والحماس الهائل باغماضة عين إلى رماد ، فرأينا أفلاماً تستميت للبحث عن سبب لما جرى ، مما دفع بمخرج مثل صلاح أبو سيف أن يقدم فيلماً هو بمثابة "صفعة" حين صور عالم الرذيلة التي غرقت به مصر في الستينات والسبعينات ، وغياب البوصلة بعد هزيمة غير متوقعة ، فبدا الناس في فيلمه "حمام الملاطيلي" تائهين لا أحد يعرف طريقه أو خلاصه.

وجاء المخرج حسين كمال في فيلم "احنا بتوع الأتوبيس" ليقول أن الهزيمة جاءت بسبب انشغال النظام السياسي بكبت الحريات الداخلية فجاءته الضربة القاصمة من الخلف ، يحكي الفيلم قصة شخصين لا علاقة لهما في السياسة ، يمسك بهما أثناء مداهمة رجال الأمن لمظاهرة تطالب بالحريات ، فيزج بالشخصين بالسجن ويتعرضان لتعذيب قاس ، فتندلع الحرب ويكتشف الجميع أن الهزيمة العسكرية هي إستحقاق لهذا الانغلاق السياسي.

ويعود المخرج علي بدرخان في فيلمه "الكرنك" ليكرر فكرة القبضة الحديدية للجهاز الأمني في العهد الناصري حين تطرق إلى ما كان يتعرض له الطلبة السياسيون على أيدي الأجهزة الأمنية ، وحرص المخرج أن يوظف مشهد اغتصاب فتاة جامعية (سعاد حسني) من قبل رجال الأمن ليصور المستوى المتردي الذي وصل إليه الجهاز الأمني آنذاك.

وإذا كان الكثير من المخرجين والممثلين والكتاب قد عصفت بهم التحولات فرأيناهم يبدلون مواقفهم ويقدمون ما يختلف مع قناعاتهم ، كما رأينا عادل إمام ، المحسوب ناصرياً في فيلم "إحنا بتوع الأتوبيس" فثمة قلة ظلت قابضة على جمر مبادئها وفي مقدمتهم المخرج صلاح أبو سيف الذي قدم شهادة براءة للرئيس جمال عبدالناصر بكل ما أحيط حوله وحول المرحلة الناصرية ، وتجلت تلك البراءة في فيلمه المتميز "المواطن مصري" الذي يعد من الأفلام القليلة التي أنصفت المرحلة الناصرية ، والزعيم جمال عبدالناصر ، الذي كان يطيب للفلاحين تسميته بـ "الريّس" ، وأهمية هذا الفيلم المأخوذ عن رواية يوسف القعيد باسم "الحرب في بر مصر" فنية ، بمعنى أنه ليس مسيساً ، إذ لم تقتصر أهميته على تجميل أيام الرئيس عبدالناصر ، بل إن الفيلم بحد ذاته أنجز بمهارة ودقة استثنائية تسجل لمخرجه صلاح أبو سيف ، جعلت منه فيلماً سينمائياً لا يمكن تجاهله في مسيرة السينما العربية عموماً ، وقد أختير بمناسبة مئوية السينما ، من بين أهم مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية.

تدور أحداث الفيلم خلال الفترة التي أعقبت رحيل جمال عبدالناصر حتى اندلاع حرب اكتوبر. ودون مقدمات تمهيدية تدخل الأحداث في صلب الحبكة ، ونحن نرى العمدة (عمر الشريف) يستصدر حكماً من المحكمة باستعادة أراضيه من الإصلاح الزراعي الذي كان عبدالناصر قد صادرها ووزعها على الفلاحين. ونتابع فيما يلي من مشاهد احتجاجات الفلاحين العقيمة أمام عنجهية العمدة ، الذي يرفض الاستماع إليهم بأن يؤجرهم الأرض ، ويطالب برحيلهم ، أو باستخدامهم كفلاحين في أرضهم مقابل آجر زهيد. وقد أبدع المخرج صلاح أبو سيف في اظهار الفلاحين باعتبارهم غلابى مساكين ، فهم أعجز من أن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم ، ويظهر تشبثهم بالأرض أقرب إلى التوسل منه إلى التمرد ، مما يكرس إحساس "الأبوة" الذي كان عبدالناصر يضفيه عليهم ، وهذا ما يتجلى أكثر في إشارات أخرى بالفيلم ، كظهور صورة عبدالناصر وهي تتصدر بيوت الفلاحين ، وحديثهم عنه وكأنه واحداً منهم ، بل وكأنه ربّ الأسرة.

كما قلت الفيلم ليس مسيساً بالمعنى المباشر ، فهو لم يُصنع لكي يمجد عهد عبدالناصر ، بل يجسد ملحمة إنسانية سطرها يوسف القعيد في روايته ، وجسدها أبو سيف سينمائياً ، وأدّاها ممثلون التقطوا روح العمل فبرعوا في تجسيد الشخصيات التي أوكلت إليهم.

في فيلم "المواطن مصري" تشمّ رائحة عبدالناصر ، وتتلمس روحه وهي تطوف في الأرياف ، نراها في عيون الفلاحين ، وفي خضار الأرض ، وحمّرة الشمس ، وظلال الأشجار ، ونتلمس هول الفجيعة بعد وفاته ، فالفلاحون لم يعد لهم أحد ، وها هو العمدة الإقطاعي (عمر الشريف) يتحكم بهم ، حتى أنه أنكر أبوة الفلاح جابر (عزت العلايلي) لأبنه الشهيد وأراد أن يختلس هذا الشرف ، أي فراغ تركه عبدالناصر في برّ مصر ، وأية فجيعة تجرعها فقراء مصر؟

لقد نجح المخرج صلاح أبو سيف أن يصنع من فيلمه حبكة درامية بالغة الاتقان ، تتصل بخيط درامي متصاعد ، وأن يذهب بالتسلسل الهرمي للأحداث حتى الذروة.

الفيلم لم يتحدث عن عبدالناصر ، لم يشر إليه باستثناء الصورة المعلقة على جدار ، والتمتمات التي تهامسها الفلاحون ، ولكنه ، أي الفيلم ، كان تأبيناً لائقاً لزعيم شكلت مرحلته السياسية مفصلاً هاماً في مسيرة الأمة العربية ، وهكذا ظل صلاح أبو سيف قابضاً على جمر مبادئه ، وظلت السينما تبحث عن سؤال الهزيمة في حرب خسرناها وما زلنا ندفع ثمن خسارتنا ، رغم أننا لم نخضها فظلت الحسرة عالقة في النفس.

ناقد سينمائي أردني

الدستور الأردنية في

20/02/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)