تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

بداية الطريق لاستعادة الوطن المفقود

«شبح الحرية».. أحلام غير منطقية فى عالم بلا أخلاق

د.أحمد يوسف

لفترة طويلة من الزمن، ظلت بينى والسيريالية كمذهب فنى حالة من الغربة، أعرف الكثير عنها كنظرية لكننى لم أكن أستمتع بالأعمال الفنية السيريالية، حتى اكتشفت أننى أتذوقها بعقلى على نحو خاطئ، وكان الفضل فى هذا الاكتشاف لأحد آبائى الروحيين، الشاعر العظيم فؤاد حداد، ليس فى ترجمته للشاعر الفرنسى السريالى بول إيلوار و"عيون إلزا"، وإنما فى قصائده المصرية الصميمة المحتشدة بالصور، التى تتوالى فى وعيك ولا وعيك كالشلال المتدفق، قد تبدو للوهلة الأولى وكأنها لا يربطها منطق، لكن الحقيقة أنه كان لها منطقها الفنى الخاص الذى لابد أن تستسلم له حتى يبوح لك بمكنوناته، وأرجو أن تتأمل معى هذا الجزء من إحدى قصائده: "ماليش خيال إن رمتنى بنور هادى ورميت عليا السلام... فى مرة طالع من حسن الاكبر على باب الخلق بين مغربية وعشا، لقيت القمر فى وشى كبير وقريب، تطلع عيونك سلم سطوح بيت، على حدفة دراع من هنا القلعة ومن هنا العتبة، والقمر لون الحنان الصيفى والماضى الصغير، زى اللى خجلان شوية من بهجته وحسنه، وعلى مذهب شارع محمد على، التُرمايات قاطعة الخليج بجرس يجرى، والقمر ميال للدنيا مالى الدنيا، فوق العباسية ولبعد الزتون على نخل، لبلاد تقول نجع، وبلاد تقول كوم، فى نفس اليوم، على مزلقان الجيزة ومقبل سارح غيطان، واقف على كل محطات السكة الحديد، واسكندرية، فى باب الخلق اتملا القرطاس بفول أخضر، رميت عليا السلام، نورت ياولدي"!!! ربما لا تجد تفسيرا بالكلمات للعديد من تعبيرات هذه القصيدة، لكن روحها ومعناها سوف يتسللان إليك، حين "تري" هذه الصور جنبا إلى جنب كأنها الأحلام. 

عرفت منذ تلك اللحظة أن السيريالية بسيطة ومعقدة كالأحلام، وإذا كان الشعب المصرى قد عرف بالفطرة ومنذ قرون طويلة أن "الجعان يحلم بسوق العيش"، فقد انتظر العالم حتى بدايات القرن العشرين ظهور سيجموند فرويد ليصوغ هذه الحقيقة بمصطلحات يعشقها المثقفون، لكن الأمر يتلخص فى الآتي: إن لديك الكثير من الرغبات التى تريد تحقيقها، وتنجح بالفعل فى تحقيق البعض منها لأن المجتمع يسمح لك بذلك، بينما يمنعك من تحقيق رغبات أخرى، لتختفى هذه الرغبات فى منطقة من النفس البشرية يطلق عليها فرويد "اللا وعي"، الذى يصبح الأرض المحاصرة التى تريد السيريالية تحريرها، لكن السيريالية تبدأ بما يبدو أنه شديد الخصوصية والفردية (الأحلام)، وتنتهى بالسياق الاجتماعى العام الذى تعيش فيه، ويصنع لنا الأخلاقيات والأعراف والتقاليد. 

كان المخرج الأسبانى لويس بونويل أحد أعمدة السيريالية فى السينما، وأعترف للقارئ أننى لا أميل إلى أفلامه الأولى مثل "العصر الذهبي" أو "كلب أندلسي"، لأنها كانت مغرقة فى مخاطبة النزعة الذاتية والفردية عند المتلقى، تتعاقب فيها الصور على الشاشة لتترك كل متفرج يشكل رد فعله الخاص جدا، لكن مع تقدم بونويل فى العمر والخبرة، وعمله فى أوساط الفقراء فى المكسيك لفترة من الزمن، أصبحت سيرياليته فى خدمة كل ما هو عام ويخصنا جميعا، لذلك أصبحت أفلامه تقترب فيلما بعد الآخر من السيريالية الملتزمة بالقضايا الاجتماعية، التى كان على رأسها موقفه من ثقافة الطبقة الوسطى فى الغرب، والتى رآها ثقافة منافقة كاذبة يتناقض مظهرها البراق مع جوهرها المتحلل، الثقافة التى أفرزت حربين عالميتين عبثيتين، وحربا باردة أكثر عبثا، ونزعة إمبراطورية صريحة تغزو العالم باسم الحرية، وهى ليست حرية حقيقية وإنما "شبح الحرية" أو "طيف الحرية"، وهو الاسم الذى اختاره لفيلمه الذى صنعه فى عام 1974، ويعتبره الكثيرون من النقاد ذروة نضجة الفنى والسياسى، وكان الغريب (والمنطقى أيضا) أن يتكون الفيلم من "نمر" عديدة تكاد تكون منفصلة عن بعضها البعض، لا يربط بين نمرة سابقة وأخرى لاحقة سوى أن هناك شخصية تظهر فى الفقرتين، لكن هذه الشخصية ما تلبث أن تختفى فى النمرة التالية ليكون الرابط شخصية جديدة تظهر فى نمرتين متتاليتين ثم تختفى بدورها. 

توالت هذه النمر فى فيلم "شبح الحرية" كأنها الأحلام التى تقفز فى قفزات تبدو غير منطقية، لكن الحقيقة أن منطقها الخاص كان التأكيد على عجز الثقافة الغربية عن تلبية الحاجات الإنسانية الأساسية، وميلها إلى تسمية الأشياء بغير أسمائها الحقيقية، إلى درجة تقترب كثيرا من "مسرح العبث" الذى يجعلك تضحك بقدر كبير من المرارة، لتدرك _ ربما للمرة الأولى _ أن الكثير من الأخلاقيات التى اعتمدناها أسلوبا فى حياتنا، والشعارات التى نرفعها، والأقوال والأفعال التى نرددها ونمارسها، ليست إلا باطلا محضا، وربما لو عاش بونويل خلال العقود الثلاثة الأخيرة لصنع عشرات الأفلام المغرقة فى سيرياليتها! 

فلأكن صريحا معك من البداية: ليست هناك فى الفيلم "حكاية"، لكن هناك عشرات الشخصيات والمواقف التى سوف تسحرك بظهورها على الشاشة، بما يجعلك تدخل إلى هذا العالم لتراه كما يرى النائم الأحلام. يبدأ الفيلم بلوحة جويا الشهيرة "الإعدام فى الثالث من مايو"، لتتحول اللوحة إلى حدث حى، نحن فى عام 1808 فى مدينة توليدو الإسبانية، وقد غزت قوات نابليون إسبانيا باسم "الحرية"، لكن الثوار الإسبان يقاومون ويرفضون تلك الحرية المزعومة التى تخفى وراءها نزعة إمبراطورية دموية، وهكذا يساق الثوار إلى الإعدام، ليهتف أحدهم قبل إطلاق الرصاص عليه: "تسقط الحرية!"، أو بالترجمة الحرفية عن الإسبانية: "تحيا الأغلال!". هذا هو المشهد التاريخى الوحيد فى الفيلم، لكننى كمتفرج أراه "هنا والآن"، وبعد خمسة وثلاثين عاما من صنع الفيلم، أرى أمامى على الفور العراق وفلسطين، كما أرى التناقض الذى يعيشه وطننا بين القول والفعل، بين الحديث عن الديمقراطية وممارسة الفاشية، بين رفع شعار الحكمة والتعقل وحياة المهادنة والاستسلام. هذا التناقض فى كل صوره هو البؤرة الدرامية للفيلم، وسوف ندرك أن هذا المشهد التاريخى ليس إلا إحدى صفحات رواية تقرأها خادمة فى حديقة، بينما طفلة مخدوميها تلعب بعيدا، حيث يغويها رجل كهل بإعطائها صورا "مثيرة" ينصحها ألا تريها للكبار، لكن عندما تعود الطفلة تعطى الصور لوالديها، اللذين يفزعان منها وإن بدا عليهما الشبق أيضا، ويجعلنا بونويل نرى معهما هذه الصور فإذا بها معالم أثرية مثل برج إيفيل والأكروبول، وإن كانت أكثر الصور إثارة هى تاج محل!! هذه إذن هى الصور المحرمة فى هذه الثقافة، أما اللوحات التى يضعونها على الجدران فهى مجموعة نادرة من العناكب المحنطة! 

نحن الآن مع الأب الذى يعانى مما يشبه الأرق، يرى خلال نومه (أو يقظته) أشياء وأشخاصا يمرون فى غرفة نومه، ديكا ونعامة وامرأة تحمل شمعة، وساعى بريد بدراجته يترك للأب خطابا على سريره. يذهب الأب فى اليوم التالى إلى الطبيب وهو يحمل الخطاب ليشكك فى أنه كان حلما، لكن سرعان ما نترك الرجلين لنبقى مع الممرضة التى تغادر العيادة لتبدأ رحلة إلى بلدتها بسبب مرض أبيها، لكن المطر يغلق الطريق لتلجأ لفندق متواضع، نقابل فيه مجموعة من البشر: رهبان يبدأون الليل بالصلاة وينتهون بلعب الورق مع الممرضة، وشاب جاء مع عمته سرا لأن هناك بداية عشق محرم بينهما، ورجل يستمتع بأن تضربه صديقته بالسياط على مؤخرته العارية! (هاتان الشخصيتان الأخيرتان نقلتهما السينما المصرية مرارا بلازمة ومن غير لازمة). وعندما تترك الممرضة الفندق فى الصباح تأخذ معها نزيلا وتتركه فى المدينة لنبقى معه، إنه محاضر يلقى دروسه عن القانون لرجال الشرطة الذين يبدون فى الفصل كأنهم "مدرسة المشاغبين"، ويضع بونويل على لسان المحاضر الفكرة الأساسية فى الفيلم: "القانون هو الذى يحفظ النظام، وهو يختلف من مجتمع إلى آخر لأنه ليس إلا مواضعات مثل الأعراف والعادات والتقاليد"، لكن هذه "المعرفة" أو الثقافة لا تمنع الرجل نفسه من ممارسة أكثر الأعراف عبثية، فى صورة سينمائية لن ينساها المتفرج أبدا، إن الرجل مع مجموعة من أصدقائه وصديقاته يجلسون إلى مائدة، لكن بدلا من الكراسى هناك مقاعد "التواليت"، لكن عندما يريد الرجل أن يأكل فإنه يدخل إلى غرفة شديدة الضيق، يحكم بابها ليأكل وحده، لأن تناول الطعام فعل خاص لا تنبغى ممارسته أمام الآخرين! 

سوف يكون صعبا على فى هذه المساحة المحدودة أن أمضى معك فى كل هذه النمر، وأرجو أن يكون هذا دافعا إلى أن تشاهد الفيلم بنفسك لترى ذلك القدر الهائل من العبث فى حياتنا وبحياتنا، العبث الذى نمارسه وتتم ممارسته علينا، والمفارقة شديدة الرهافة والرقة أن الفيلم لن يصدمك أبدا عندما يتناول التابوهات الجنسية، مثلما تصنع معظم أفلامنا بمعالجاتها التى لا يمكن وصفها إلا بالسوقية وتحويل المتفرج إلى مريض بالفرجة على المحرمات، أما عند بونويل فالهدف يختلف تماما، فعرضه للتابوهات ليس لاستغلالها وإنما لكى يضع التساؤلات أمام أعيننا عن حقيقة المشاعر العاطفية والرغبات الجنسية. تأمل على سبيل المثال كل العبث الصارخ فى فقرة الفندق، لكن هناك نصف دقيقة نرى فيها عازف جيتار وراقصة فلامنجو، لكن وجودهما يثير النزلاء فيغلقون الباب عليهما، فكأن تلك النقطة البيضاء الصغيرة سوف تفسد الثوب الأخلاقى المهترئ وسواده الكالح! وعلى عكس رهافة معالجة الجنس، فإن الصادم حقا هو الموقف السياسى للفيلم، ففى مشهد النهاية تذهب قوات الأمن إلى حديقة الحيوانات، لأن هناك احتمالا لأن تتمرد هذه الحيوانات، وأرجو أن تتأمل لقطة لها وهى حبيسة وراء أسوار أقفاصها، ثم على شريط الصوت نسمع نفس الصيحة البشرية التى سمعناها فى البداية: "تسقط الحرية!"، وطلقات رصاص، وهتافات صاخبة لانتفاضة غامضة. 

إنها إذن أحلام غير منطقية الحدوث فى الواقع، وقد يتصور البعض أن ذلك سوف يؤدى إلى بناء سردى مفكك، لكن الأمر على العكس تماما، فالمنطق الفنى شديد التماسك حتى أنك لا تستطيع أن تحذف مشهدا أو تغير مكانه، كما أرجو أن تتأمل الوعى الجمالى الذى جعل بونويل لا يستخدم أى موسيقى تصويرية من خارج الأحداث، بينما تسود المؤثرات الصوتية عميقة التأثير، وهو ما يضفى واقعية طاغية على هذه الأحلام العبثية، ولعل ذلك يذكِّرنا مرة أخرى بأنه ليست هناك فى الفن مدارس جاهزة، وإنما هو تلاقى القصد الجمالى مع القصد السياسى. إننى أتذكر فقرة فى أحد الكتب التى قمت بترجمتها، عن مشهد من فيلم "سارقو الدراجات"، أكدت فيه المؤلفة على واقعية الفيلم باعتباره "نافذة على العالم" بالمعنى الحرفى، خلال لقطة يغلق فيها الصبى الصغير نافذة غرفته، لكننى وجدت فى "شبح الحرية" السيريالى نفس اللقطة للمرضة وهى تغلق النافذة، لكنها هنا نافذة على عالم نفضل أن نخفيه، لأنه العالم الحقيقى، عالم يرفع شعارات الحرية وهو يمارس أقسى وأقصى أنواع القمع، عالم يتزايد فيه الأغنياء رفاهية ويزداد الفقراء بؤسا، عالم بلا أخلاق رغم المسابح والذقون وفتاوى الفضائيات، لأن الأخلاق لا يمكن أن تعيش فى هذا التفاوت الطبقى الرهيب، وضياع الحلم القومى، وفقدان الكرامة الإنسانية، عالم حيث "ما ليش خيال إلا إن رميتنى بنور هادى ورميت عليا السلام"، وأرجو أن تفكر فى هذا الجملة السيريالية طويلا، فهى بداية الطريق لاستعادة الوطن المفقود!! 

العربي المصرية في

17/02/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)