تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

فاز بـ "أفضل إخراج" في مهرجان (كان) الماضي:الفيلم التركي "ثلاثة قرود":

دراما نفسية تغوص في أعماق شخصيات حائرة

دمشق ـ ابراهيم حاج عبدي

استطاع المخرج التركي نوري بليج جيلان، المولود في اسطنبول سنة 1959 م، أن يمنح هوية خاصة للسينما التي يصنعها، فهو يتناول مواضيع عزلة الفرد، وأسئلته الوجودية المقلقة، ورتابة الحياة البشرية بهمومها، وخيباتها الكثيرة، كما هو الحال مع أفلامه السابقة "بلدة صغيرة"، و"بعيد"، و"أجواء"، ولا يبتعد فيلمه الجديد "ثلاثة قرود"، الحائز على جائزة أفضل إخراج في مهرجان كان السينمائي العام الماضي، عن هذا التوجه.

في هذا الفيلم تذهب عدسة جيلان إلى أحد أحياء اسطنبول الفقيرة، والمهملة، لترصد حكاية أسرة مؤلفة من الأب والأم والابن الوحيد، تعيش في أجواء كئيبة؛ حزينة إثر فقدانها لأحد أبنائها الذي يتكرر ظهوره في أحلام الأب والأخ، كدلالة على ذكرى نقية لأسرة راحت تفقد قيمها التقليدية المتوارثة نتيجة للوضع الاقتصادي البائس. وسط هذه العزلة الخانقة، والمناخات الأسرية المضطربة، الملبدة بالترقب، وانتظار أمل مجهول، ومؤجل يوافق الأب على الدخول إلى السجن بدلا من رب عمله الذي صدم شخصا بالسيارة، وأراد تجنب التشويش على مكانته السياسية ووضعه الانتخابي، فعرض "صفقة غير عادلة" على الأب الذي يرضخ لرب عمله بسبب حاجته للمال. ولا يكتفي هذا السياسي الثري بإرسال الأب إلى السجن، بل يقيم علاقة غير شرعية مع زوجة السجين التي اضطرت إلى اللجوء إليه بغرض الحصول على أموال لشراء سيارة طلبها الابن الشاب، فيستغل ضعفها وحاجتها. بعد مرور تسعة أشهر يخرج الأب من السجن ليعلم بأمر السيارة، ويكتشف خيانة زوجته له مع الثري السياسي مثلما كان يعرف ابنه الذي صمت، بدوره، عن الأمر وذلك تجسيدا لحكاية القرود الثلاثة التي لا تسمع، ولا ترى، ولا تتكلم. غير أن هذا التواطؤ لا يستمر طويلا، فالشعور بالذنب يدفع الابن إلى قتل السياسي، ولم يشفِ هذا التصرف غليل الأب الذي يطلب من احد صبية المقهى قتل زوجته "الخائنة" مقابل مبلغ من المال، وينتهي الفيلم، هنا، ليطرح جملة من الأسئلة المعقدة، والغامضة.

فرغم هذه الحكاية البسيطة لكن المخرج التركي يرصد بكاميرته الهادئة؛ والصبورة تفاصيل حياة أسرية غارقة في الصمت، وينفذ إلى أعماق شخصياته القليلة ساعيا إلى إبراز عجزها أمام امتحان الحياة، وإزاء الأقدار الغامضة التي تلهو بمصائر الشخصيات. هذه القصة البسيطة، والمتقنة، في آن، هي ذريعة لإظهار الطبيعة الفاسدة، والشريرة للرجل السياسي الذي يبتز كل من حوله في سبيل تحقيق أهدافه في الوصول إلى المال والسلطة. وفي موازاة هذه الشخصية الانتهازية فان الفيلم يكشف عن العطب الذي تعاني منه أسرة بسيطة تجهد لكي تبقى موحدة أمام صعوبات الحياة وأعبائها الكثيرة، وكأن المخرج يسعى عبر التركيز على هذا التناقض بين أسرة معدمة؛ مغلوبة على أمرها، وبين سياسي ثري، إلى تسليط الضوء على الصراع الطبقي في المجتمع التركي حيث الهوة راحت تتوسع كثيرا بين طبقات مسحوقة تبحث عن لقمة العيش، وتعيش في فقر مدقع على أطراف المدينة الكبيرة في بيوت متواضعة، وطبقات أخرى قليلة تعيش في الرفاهية، وتنعم بمنتجات الحداثة الوافدة، وتستغل المسحوقين والبسطاء، بل ترسلهم، ببساطة، إلى السجون ليدفعوا ثمن أخطائها هي كطبقة واسعة النفوذ وتستحوذ على كل شيء.

على مدى نحو ساعتين، وهو مدة الفيلم، تتنقل الكاميرا ببطء شديد بين أربعة وجوه، فيتيح ذلك التأمل طويلا في تلك الوجوه الحائرة. شخصيات سلبية مستسلمة لقدرها الغامض، تتحرك بلا هدف محدد أمام كاميرا المخرج جيلان الذي يعرف كيف يقرأ دواخل شخصياته الصامتة في غالب الأحيان، والتي تعبر عن عجزها عبر تعابير الوجه، وحركات الجسد المتعب، والسلوكيات الغريبة، لدرجة كاد أن يستغني المخرج عن الحوار الذي جاء مقتضبا، ومكثفا على أي حال.

"ثلاثة قرود" هو دراما نفسية عاطفية، تلّمح أكثر مما تصرح، تطرح المعضلة دون أن تبحث عن حل جذري لها، ويمكن القول بأن الفيلم يمتحن قدرة المرء على الغفران، وعلى تجاوز أخطاء وخطايا ترتكب تحت وطأة الوضع الاقتصادي الضاغط، والصعب، وإذا ما أراد المرء أن يتعمق في التأويل فيمكن، عندئذ، أن يشير إلى خطيئة حواء الأولى، إذ يعيد المخرج إلى الأذهان تلك الحكاية الموغلة في القدم ليقدمها في قالب سينمائي جذاب.

ما يميز الفيلم هو قدرة المخرج، الذي بدأ حياته الفنية مصورا فوتوغرافيا، على صنع كوادر بصرية مدهشة عبر الاختيار الدقيق لزوايا التصوير، وعبر الاستعانة بإضاءة خافتة، كئيبة ترمز بصدق إلى عجز الشخصيات، وتعكس خريف اسطنبول؛ المدينة الكوسموبوليتية التي تلتقي عندها الحضارات، واللغات، والثقافات، وقد أجاد جيلان في إبراز هذا التنوع التاريخي لهذه المدينة المتأرجحة بين الحداثة والتقليد، والمنقسمة جغرافيا بين قارتين، ويبدو أن هذا الشرخ الذي تعيشه المدينة امتدت إلى الشخصيات التي تسعى، كذلك، إلى الاستقرار والهدوء غير أن العواصف الخفية سرعان ما تهب على حياتها، فتجد نفسها نهبا لمشاعر متضاربة، فلا تقوى على الصمود لتكتفي بمراقبة القوارب الساكنة في المياه قبالة النافذة، وتصغي إلى صفير القطارات الذي لا ينقطع، وتعبر الأنفاق المظلمة، لتدون حكايتها الصغيرة في عالم صاخب، متموج يلفظ البسطاء، والكادحين.

الإتحاد العراقية في

01/02/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)