ايستوود
يعود ممثلاً ومخرجاً
كلينت
ايستوود فنان لن يتقاعد. هذه العبارة أكثر ملاءمة من غيرها في توصيفه،
خصوصاً، بعد إنجاز فيلميه الأخيرين «تبادل» و«غران تورينو». وربما ستكرس
الجملة ذاتها، خيبة أمل دائمة لرجال الإعلام، الذين أكثروا من نقل أخبار
اعتزاله العمل السينمائي وخلوده الى الراحة بعد بلوغه من العمر عتيا.
فالرجل وبعد أن بلغ الثامنة والسبعين عاد يجمع في فيلمه الجديد بين الإخراج
والتمثيل، ليمنح نفسه تميزا نادرا، لم يجاره فيه سوى كبار صناع بدايات
السينما كتشارلي شابلن، مثلا. فمن بين ثلاثين فيلما أخرجها ايستوود مثّل في
ثلاثة وعشرين منها. وحاز بسبب قوة أدائه كممثل وجودة صنعته كمخرج على أربع
جوائز أوسكار. وحظي باهتمام النقاد والجمهور على السواء. اسم ايستوود صار
مقرونا بالجودة والتميز، حتى لحظة عرض رائعته الأخيرة «غران تورينو».
تتمركز
قصة فيلم «غران تورينو» حول شخصية العجوز والت كوالسكي. الرجل الذي وجد
نفسه في أواخر عمره، وحيدا ومريضا، لا يشاركه في منزله الكبير في أحد أحياء
مدينة ديترويت، سوى كلبه الهرم. ومع هذا احتفظ الرجل بقسط من الحيوية
والنشاط استطاع بهما إخفاء مرضه الخطير عن أفراد عائلته. لقد اختار عزلته
بعدما تركه أولاده، وسعوا بوقاحة للحصول على بقية ما يملك. لقد كرست
أنانيتهم حالة الانقسام، وباعدت بينهم تماما. لم يبق له سوى ذكرياته عن حرب
كوريا التي شارك فيها وسيارة غران تورينو، موديل العام 1972، يلمعها ويحافظ
عليها، لتصبح موضع حسد الآخرين. سيارته مقرونة بسنوات عمله الطويل في مصنع
السيارات. وتجربة الحرب مقرونة بمرارة وحزن عميقين بقيا معه في وحدته، وكان
يسعى الى تبديدهما بصحبة أصدقائه القدامى واحتساء الجعة وأحيانا مراقبة
الجيران الآسيويين الذين قاتلهم في بلادهم، واليوم هم جيرانه، وقد زاد
عددهم كثيرا في حيه الأميركي. هكذا هو المشهد اليومي للعجوز كوالسكي، وهكذا
كان يقضي ما تبقى له من أيام.
كراهية
فائضة
في النصف
ساعة الأولى من الشريط يظهر العجوز كائنا مليئا بالأحقاد. يراقب جارته
الآسيوية العجوز بعينين كارهتين، ويتابع حركة عصابات المنطقة من سود
ومهاجرين بريبة وحقد دفين وبندقيته جاهزة للاطلاق. يدردم، طيلة الوقت، مع
نفسه، جالساً على كرسيه أمام الدار لا شغل له في هذا العالم سوى كراهيته.
في هذا المناخ يضعنا ايستوود المخرج، ويجسده ببراعة ايستوود الممثل. إتقان
مدهش في رسم شخصية بتلك المواصفات الظاهرة. بعدها يبدأ ايستوود مرحلته
الثانية، بالحفر في باطن الكائن المعزول، في الإنسان الآخر، الذي بدأ
بالتجسد، في اللحظة التي دخل فيها ثاو (الممثل بي فانغ) الى منزله سارقا.
سيجد كوالسكي نفسه في مواجهة كائن يشبهه كثيرا: ضعيف بمظهر قاس ومجبر على
تقمصه. لقد راقب العجوز الشاب الآسيوي ثاو ولاحظ اختلافه عن أقرانه من
الشباب وعرف كيف أجبرته عصابات الحي على القيام بمحاولة سرقة سيارته
الثمينة. عرف نقطة ضعفه فسامحه بصمت. ومن دون ان يدري فتح بغفرانه نافذة
روحه على عالم اكثر بساطة وإنسانية. قدم له أهل الشاب آيات الاحترام
والتقدير وأغدقوا عليه الهدايا البسيطة وأكثرها إغراء مثل الطعام الآسيوي.
صار يتذوقه مجبرا وكبرت مشتركات ما يجمعه مع هؤلاء الغرباء. مشتركات لم يكن
يعلم بوجودها داخله. لقد وجد فيهم الصدق والسوية، التواضع والعطاء. أذكت
خصالهم الحميدة في روحه نارا ظن انها خمدت وطغى ثلج الكراهية على ما تبقى
فيها. سينتقل العجوز من موقع الكاره الى موضع المحب. ويبدأ في مساعدة ثاو.
سيجد له عملا في حقل البناء، وسيعلمه فن استخدام تقنياته. بدأت، الآن ملامح
الإنسان الثاني بالتكشف، وبدأت معها ملامح أبطال «غران تورينو» في الظهور.
وأهم ما
تعلمه العجوز كوالسكي من جارته الشابة الآسيوية سو (الممثلة آهي هير) قوة
مكاشفة الذات. منها استمد شجاعة مكاشفة نفسه والاعتراف بما جنته يداه من
جرائم أثناء مشاركته في الحرب الكورية. فالحرب هي من سوداوية رؤيته للعالم
وقلبت حياته الى كابوس، وفي اللحظة التي تحرر فيها من عبء الماضي، انحاز
بقوة الى الحاضر، فقرر التضحية بحياته في سبيل تخليص جيرانه من هيمنة
العصابات. لقد مهد لنا ايستوود طريقا طويلة لنقتنع بقراره المصيري.
فالتضحية بحياته من أجل جيرانه، لا تبدو مقنعة، إذا لم يقتنع بها المشاهد
أولا. لقد شكل مرضه نقطة غامضة في سلوكه، جيرها العجوز في خاتمة المطاف،
لصالح قراره. أدرك تماما ان موته محتوم وكان عليه استباقه بفعل يخدم فيه
ثاو وأخته، ويضمن، أيضا، رعاية صادقة لكلبه الوفي. حسم العجوز أمره، فنظف
روحه من الكراهية، وطرد العنصرية من رأسه، فذهب الى حتفه راضيا بما وصل
إليه. لكن الوصول الى خاتمة الشريط لم تأت بالإيقاع الهوليوودي المعروف.
بالعكس، طابع حركته بقي بطيئا، وبدا وكأنه مقسم وفق حركة درامية داخلية،
حركة تشبه حركة باطن الأرض: عنيفة لكنها مضمرة. وفي وسعنا وصف الفيلم
بكامله بأنه رسم دقيق وبطيء لمسار حياة كائن توزعت بين منعطفات دراماتيكية
ومتناقضة، وخضعت في الوقت ذاته لمتغيرات خارجية مسته ومست المجتمع الذي عاش
فيه. متغيرات موضوعية لم يستطع أحد الوقوف في وجهها. متغيرات بدت للوهلة
الأولى وكأنها فنطازية، تريد جمع الضحية والجلاد في مكان واحد، وتجري
تبادلا لأدوار الناس عنوة. ولأن ايستوود لا يحيلنا في فيلمه الى نظريات
سياسية، تقر بالمتغيرات وفق المصالح المتبادلة بين الحكومات والدول، بل
يذهب الى أبعد من ذلك، يذهب الى الروح الإنسانية ووحدتها القوية. يبحث في
جوامعها المتشبثة بالتسامح والتعاضد البشري بغض النظر عن نوع الجنس واللون
والموطن. سندرك حينها ان ما بدا فنطازيا صار واقعا، فما جرى من متغيرات
لكوالسكي سنجدها في آلاف من الحالات البشرية المتشابهة وفي أمكنة مختلفة من
العالم، وما يجمع البشرية هو أكبر بكثير مما يفرقها. هذا ما قاله لنا
ايستوود في فيلمه الرائع «غران تورنتو».
الأسبوعية العراقية في
18
يناير 2009 |