المخرج البريطاني جاء من عالم الفن التشكيلي، لكنه يمتلك أيضا رؤية
فلسفية تدور حول رفض السائد والعودة إلى الماضي لتقديم نظرة موازية
نقدية للحاضر.
في معرض الحديث عن الفيلم الشهير “كتب بروسبيرو” الذي أخرجه المخرج
البريطاني المرموق بيتر غريناواي عام 1991، تحدث عملاق التمثيل
الإنكليزي الراحل جون غيلغود ذات مرة مقدما وصفا بليغا لغريناواي
عندما قال «ذات يوم اتصل بي بيتر غريناواي يطلب مني العمل معه لمدة
ثلاثة أو أربعة ايام، في فيلم تلفزيوني جديد من إخراجه عن رواية
“الجحيم” لدانتي، وكنت دائما من المعجبين بفيلم غريناواي “عقد
الرسام” (1982)، وقد سارت الأمور بيننا على ما يرام. ثم بينما كنا
نتناول طعام الغداء معا ذات مرة، قلت له إنني كنت دائما أحلم
بتقديم فيلم سينمائي عن مسرحية “العاصفة” لشكسبير.
وبعد نحو ستة أسابيع، فوجئت به يرسل إلي بمخطوطة سيناريو تفصيلي عن
المسرحية بدا لي رائعا جدا، ثم التقينا مرة أخرى فوجدته يطلب مني
تمثيل كل الأدوار في المسرحية. وكان أول شيء خطر على بالي وقتها
أنه لابد أن يكون مجنونا».
غريناواي ليس فنانا سينمائيا عاديا، بل لديه بالتأكيد مس من
الجنون، جنون العبقرية الفريدة التي جعلته يتمرد على كل أشكال
السينما السائدة في بلاده، ويتجه أكثر لأن يصبح مخرجا سينمائيا
أوروبيا؛ أي ينتمي إلى التجارب الفنية الأكثر تحررا التي عرف بها
كثير من سينمائيي القارة العجوز، رافضا سينما الحبكة والدراما
والعقدة والخلاص.
ولكن على الرغم من أن اهتمام غريناواي بالسينما نشأ بعد تأثره
بفيلم “الختم السابع″ لبرغمان، إلا أن أسلوبه السينمائي يمكن
مقارنته بأسلوب المخرج الفرنسي الكبير جون لوك غودار، رغم الاختلاف
الكبير في ما بينهما في توظيف الصوت والصورة، لكن ربما يكون القاسم
المشترك بينهما يكمن في قدرتهما على التلاعب بالوسيط السينمائي
وصياغة شكل جديد، وطريقة مختلفة تماما في تقديم “الرؤية” التي تفرض
على المشاهدين أيضا، طريقة مختلفة في استقبالها.
كثير من المشاهدين الذين اعتادوا على الفيلم الدرامي التقليدي الذي
يروي قصة، قد يرون أن فيلما مثل “كتب بروسبيرو” الذي يبدو فيه جون
غيلغود وهو يقرأ كل سطور مسرحية شكسبير بصوته دون أي توقف، عملا
مملا غامضا غير مفهوم، لكن جماله الحقيقي لا ينبع من “نمط السرد”
غير المعتاد، بل من طريقة وضع العناصر البصرية والصوتية وترتيبها
معا في سياق مركب ومتداخل، قد يكون مربكا أيضا أحيانا. إنه ذلك
الاحتفال الكبير بالصوت والصورة، بفن التمثيل الجماعي والفردي،
بالرقص التعبيري، بالعري الجسدي، بالمزج المركب بين اللقطات، وبين
الصور السينمائية ورسوم الغرافيك، وبالقطع في الصورة نفسها عن طريق
إدخال صورة أخرى في منتصفها، نشاهد فيها شيئا آخر يحدث في مكان
آخر، وهي الطريقة التي ابتكرها غريناواي وأطلق عليها “صندوق
الرسم”.
غريناواي ليس فنانا سينمائيا عاديا، بل لديه بالتأكيد مس من
الجنون، جنون العبقرية الفريدة التي جعلته يتمرد على كل أشكال
السينما السائدة في بلاده
ولع بالفن
جاء غريناواي من عالم الفن التشكيلي، لكنه يمتلك أيضا رؤية فلسفية
تدور حول رفض السائد، والعودة إلى الماضي لتقديم نظرة موازية نقدية
للحاضر، وهو يوجه غضبه إلى ما يسمى بـ”مجتمع الوفرة” الرأسمالي
بقيمه التي تتركز حول الاستحواذ والملكية، مع احتقار الفن الرفيع،
لذلك هو مغرم أيضا بفن عصر النهضة، وبأعمال الفن الكلاسيكية
والباروكية، ويحمل عشقا خاصا للفنان الهولندي رمبرانت الذي قدم عنه
عرضا أوبراليا، ثم فيلما بعنوان “المراقبة الليلة” (2007) نسبة إلى
لوحة رمبرانت الشهيرة.
أخرج غريناواي كل أنواع الأفلام (68 فيلما)، ما بين قصيرة وطويلة،
روائية وتسجيلية، للسينما وللتلفزيون، كما ألف عددا من الكتب
المصورة، وأخرج للأوبرا، واستخدم وسائط الاتصال الحديثة في أفلامه،
كما استفاد ووظف في بعض أفلامه الحديثة “الفيديو ميوزيك. غريناواي
بهذا المعنى فنان شديد المعاصرة، صحيح أنه يهجو السينما التقليدية
ويؤمن بقدرة الصورة على إحداث صدمة في الوعي، إلا أنه في الوقت
نفسه، مهموم بما يجري في الواقع من حوله، ينظر إليه بغضب، ولكن
بسخرية قاسية تصل إلى أقصى درجات “العرض الساخر”- الساتير
Satire
خصوصا في فيلم مثل “الطاهي واللص وزوجته وعشيقها” (1989) الفيلم
الذي اعتبر وقت ظهوره، أعنف هجوم على “مجتمع التاتشرية” نسبة إلى
سياسة مرغريت تاتشر التي أدت إلى ظهور طبقة جديدة من الأثرياء
اللصوص.
ولع بالأرقام
غريناواي أيضا، مغرم بالأرقام وبالتناظر أو “السيمترية” في الحياة
وليس فقط في الفن، ويتضح هوسه بهذين العنصرين في أكثر من فيلم
أشهرها “حديقة الحيوانات” (أو حرف زد وحرفان أوه) – (1985)،
و”الغرق بالأرقام” (1988). ويرى الموسيقار مايكل نيمان الذي كتب
الموسيقى لستة عشر فيلما من أفلامه، أن ولع غريناواي بالأرقام
والمسافات والتواريخ والأسماء والفصائل الحيوانية، هو امتداد للولع
البريطاني التقليدي برصد القطارات وتسجيل أرقامها، أما غريناواي
فيعتقد أنه ورث هذا الولع من والده الذي كان يتاجر في العقارات،
وكان يهوى جمع الموسوعات والتنقيب عن المعلومات.
يؤمن غريناواي بالعلاقة الخاصة بين الإنسان والطبيعة، ويصور
التعارض الفظ أحيانا في ما بينهما “عقد الرسام”، وبالعلاقة بين
الجنس والموت التي تتضح في “عقد الرسام” و”بطن المعماري”
و”أيزنشتاين في غواناخواتو”. وفي هذا الفيلم يصل غريناواي إلى أقصى
درجات التحرر في تصوير أكثر مشاهد الشذوذ الجنسي جرأة في تاريخ
السينما، ويصدم المؤسسة الرسمية في موسكو التي استنكرت ما اعتبرته
“تشويها” لصورة المخرج المرموق سيرغي أيزنشتاين.
ولد غريناواي في مقاطعة ويلز عام 1942، أي أنه بلغ الآن الثالثة
والسبعين من عمره، وقد ظل يعيش ويعمل في لندن، إلى أن غادرها منذ
18 عاما ليستقر في أمستردام، حيث يعتقد أن البيئة الفنية هناك
مهيّأة أكثر لاستقبال أعماله، ومنذ ذلك الحين، وهو يخرج أفلاما من
الإنتاج الهولندي المشترك مع فرنسا واليابان وألمانيا والدول
الأسكندنافية. وبينما يعاني غريناواي من عدم فهم الجمهور البريطاني
لأفلامه، والهجوم الحادّ من جانب النقاد البريطانيين، يحتفي
الجمهور الفرنسي بأفلامه.
غريناواي مغرم بتصوير أفلامه في الاستديو لكي يمكنه التحكم بشكل
دقيق في الحركة والصورة تماما كما كان هيتشكوك، كما أنه يبدأ
أفلامه عادة من مجرد اسكتشات بسيطة، ويتوصل إلى شكلها النهائي في
مرحلة المونتاج، ويتلاعب بشخصيات أفلامه كما لو كانت دمى يحركها
كما يشاء. وقد صرح ذات مرة بأنه يستمد الكثير من أفكار أفلامه من
مجرد صورة أو رسم يراه بشكل عابر. وقد جاءته فكرة فيلم “حديقة
الحيوانات” مثلا، من مشاهدة قرد بساق واحدة، وفأر متعفن، وامرأة
تقف بين توأم متطابق.
هجوم واتهامات
يرى كثير من النقاد البريطانيين أن غريناواي يصنع أفلاما ثقيلة
مفتعلة صعبة تستغلق على الفهم، وأنه يغالي في استخدام الصور، بل
يتهمونه بمعاداة المرأة، والتلذذ بمشاهد تعذيب الأطفال، وربما
أيضا، كراهية الجنس البشري كله، وبأنه يفرط في تصوير مشاهد الحرق
والعنف وممارسة الجنس بشكل فظ، في دورات المياه أو وسط الطبيعة،
وفي أفلامه لا يتوقف تدفق الدماء والبول واللعاب والسائل المنوي
والبراز.
ذات مرة قال المخرج البريطاني المرموق آلان باركر -صاحب “قطار
منتصف الليل” و”بيردي”- إنه سيأخذ أبناءه ويرحل إلى الخارج إذا ما
أخرج غريناواي فيلما آخر بعد “عقد الرسام” (1982)، لكن غريناواي
أخرج بعده أكثر من خمسة وعشرين فيلما، ولم يغادر باركر البلاد، بل
توقف هو عن الإخراج منذ ثلاثة عشر عاما.
رغم هذا لا يُحرم غريناواي من وجود نقاد مرموقين يدافعون عن
أفلامه، يرون أنه سابق لعصره، أو ربما كان ينتمي إلى عصر سابق، عصر
الفن الرفيع، في فترة الستينات التي كانت حبلى بأشكال التمرد على
الأشكال الفنية السائدة. كتب أحدهم ذات مرة يقول “إذا كان يمكن
اعتبار ديفيد لين هو تشارلز ديكنز السينما البريطانية، فيمكن القول
إن بيتر غريناواي هو جيمس جويس السينما البريطانية”.
فيلم غريناواي الأول 'الشلالات' (1980)
The Falls
كشف عن موهبته التشكيلية الكبيرة وخياله الفني المدهش
معنى الحياة
يعتبر غريناواي نفسه رساما سينمائيا، وليس مخرجا سينمائيا، ويرى أن
السينما البريطانية سينما “باروكية” وتعتبر امتدادا للتلفزيون،
ويرفض ولع الإنكليز بأفلام القصة الجيدة، قائلا إن هذا الولع يكرس
لسينما عقيمة. لكن الأغرب هو تصريحه أخيرا بأنه يريد أن ينهي حياته
عندما يبلغ الثمانين من عمره. فهو يرى أن العالم الآن أصبح مزدحما،
ومناسبا أكثر للشباب. ويقول إنه لا يعرف أن أحدا من المبدعين قدم
شيئا ملموسا بعد أن تجاوز الثمانين من العمر “بيكاسو لم يقدم سوى
لوحة أو اثنتين، وكذلك تيتان”.
فيلم غريناواي الأول “الشلالات” (1980)
The Falls
(حوالي 4 ساعات) كشف عن موهبته التشكيلية الكبيرة وخياله الفني
المدهش، فالفيلم يروي قصة خيالية في سياق تسجيلي، تدور في المستقبل
حيث يتعرض مجموعة من الأشخاص لأحداث غامضة، يعقبها ظهور أعراض
غريبة مثل الحلم بالماء والهوس بالطيور والطيران واكتشاف لغات
جديدة. بعد ذلك امتدتّ هجائية غريناواي إلى فساد النظام الطبقي في
“عقد الرسام”، ثم غالى في سخريته وهجائيته في “حديقة الحيوانات”،
ثم عاد إلى أسلوب أقرب إلى الكلاسيكية الرومانسية في “بطن
المعماري” (1987) وهو الفيلم الذي اعتبره النقاد الذين كانوا
يرفضون أفلامه، تحفة فنية، وكتب أحدهم «لاشك أن غريناواي ابتلع هنا
عقار العبقرية، فهذا فيلم يجعل العلاقة بين “عقد الرسام” و”الغرق
بالأرقام” تماما مثل العلاقة بين “الملك لير” و”لاسي” تعود إلى
المنزل».
يدور الفيلم حول معماري أميركي يذهب الى روما حيث سيمكث هناك تسعة
أشهر، لتقديم معرض في إطار تكريم المعماري الفرنسي من القرن الثامن
عشر إتيين لوي بوليه، الذي مات دون أن يكمل معظم مشاريعه
المعمارية، ويصبح المعماري الأميركي مفتونا بروما، بالتاريخ،
بالعمارة، مهووسا بالفنان الفرنسي يحاول أن يسبر أغواره، وفي الوقت
نفسه، يزداد شكه في زوجته التي يتقرب منها رجل أعمال إيطالي من
رعاة المعرض، ويصل هوس المعماري إلى ذروته بعد أن يكتشف أنه مريض
بسرطان المعدة، وأنه مكتوب عليه أن يموت بعد فترة قصيرة.
ينتقل الفيلم من الهوس بالفن إلى الهوس بالصحة، ثمّ الهوس بالجنس،
يرثي مصير الفن الرفيع، كما يرثي مصير روما التي أصبحت مهملة بسبب
طغيان القيم الاستهلاكية، لكن الفيلم يعكس خشية غريناواي من الموت
المفاجئ الذي يحرم الفنان من استكمال مشروعه تماما كما حدث لبوليه.
“بطن المعماري” أحد أجمل أفلام غريناواي من الناحية التشكيلية، فهو
لا يترك لقطة واحدة من دون الاهتمام بالتكوين، بـ”السيمترية”، بوضع
بطله الذي يعاني من زيادة الوزن، وسط الكادر، بين الأعمدة
الرومانية الشهيرة، وفي أحد المشاهد يصوره جالسا فوق حافة نافورة
يتطلع ثملا إلى مبنى “البانثيون” الشهير في روما، ثم يهتف وهو يصفق
بيديه: برافو.. برافو.. في تحية للفن الذي لا يمكنه مضاهاته.
ينهي المعماري في الفيلم حياته في مشهد جليل قرب النهاية بالقفز من
أعلى المبنى الذي يفتتح فيه المعرض، ثم نرى جسده ممددا فوق سيارة
أسفل قصر فينيسيا الشهير في روما على خلفية جدار يظهر عليه اسم
وتاريخ مولد الفنان الفرنسي المحتفى به. وفي لقطة قريبة نرى وجه
المعماري مبتسما، ثمّ في لقطة قريبة أخرى نشاهد يده تقبض على ورقة
من فئة الجنيه الإسترليني، سبق أن تردد حديث عنها في الفيلم كونها
تحمل صورة العالم نيوتن، ولكنها تخفي صورة التفاحة الشهيرة التي
كانت سببا في اكتشاف قانون الجاذبية. فالجاذبية الأرضية هي التي
استخدمها المعماري في النهاية لإنهاء حياته.
ولعل هذه النهاية تعكس هاجسا خاصا لدى غريناواي الذي يرى أنه سيكون
أمرا رائعا لو اختار المرء نهايته بنفسه، واختار المكان الذي تنتهي
فيه حياته، ويقول إنه لو عرفه مسبقا، لربما جعل لما بقي من حياته
معنى. |