«سامبا» ... الاغتراب والهوية والحب في باريس
القاهرة - أحمد مجدي همام
في العام 2014، أطلقت المنتجة المصرية ماريان خوري، ابنة شقيقة
المخرج الراحل يوسف شاهين، مبادرة «زاوية»، وهي عبارة عن قاعة
العرض التي تحولت وجهة لعشاق السينما، والتي تقع في صالة سينما
أوديون. وتخصصت «زاوية» في عرض الأفلام المظلومة تجارياً، أو تلك
التي لا تجد فرصة حقيقية في العرض بشكل تجاري، لتتحول «زاوية» منذ
انطلاقتها قبلة لعشاق الأفلام المستقلة، والأفلام التي يصعب العثور
عليها في دور العرض الأخرى، سواء كانت روائية أو وثائقية طويلة أو
قصيرة.
ومن بين نشاطاتها الأخيرة، عرضت «زاوية» فيلم «سامبا»، الذي أُنتج
العام 2014، من بطولة عمر ساي، شارلوت غينسبرغ وطاهر رحيم.
ليست الهجرة غير الشرعية فقط القضية الوحيدة التي يطرحها فيلم
«سامبا»، بل يتناول الفيلم أموراً عدة وقضايا أخرى، على رأسها
العنصرية، والحب، وحتى فكرة الاغتراب، التي يعانيها الإنسان
المعاصر، ســـواء كان ذلك الاغتراب جسدياً، بمعنى الوجود في مكان
بعيد من الوطن، أو الاغتراب بمعناه الواسع، الاغتراب عن الذات
والمجتمع وكل المحيطين.
الفيلم الذي اشترك في إخراجه وكتابة السيناريو الخاص به كل من
أوليفر ناكاتــشي، وإريك توليدانو، يقدم قصة المهاجر السنغالي
سامبا (عمر ساي)، الذي وجد نفسه فجأة بعد سنوات عشر من العمل في
باريس، على موعد مع الترحيل، إثر إلقاء القبض عليه أثناء محاولته
تــقديم أوراق الإقامة الدائمة. في محبس المرحلين يلتقي سامبا
بآليس (شارلوت غينسبرغ) التي تخــضع لفترة عقوبة في خدمة المجتمع
إثر تعدّيها بالضرب على أحد مرؤوسيها أثناء عملها مديراً تنفيذياً
في إحدى الشركات.
إحساس مشترك بالضياع
سامبا وآليس يبدآن علاقة جديدة بعد هذا اللقاء، علاقة يشكل الحب
والاحتياج جانباً كبيراً منها، بينما يشكل إحساسهما المشترك
بالضياع بسبب الإيقاع المتسارع للمجتمعات الغربية الخاضعة برمتها
لسلطة العولمة والقوانين الصارمة، أرضاً مشتركة تجمعهما. فيباشران
محاولاتهما، سامبا للعثور على عمل وتقنين أوراقه ليتمكن من البقاء
في فرنسا وإرسال المصروفات التي يعيل بها أسرته في السنغال، وآليس
لتجاوز الأرق المزمن الذي أصابها وعدم قدرتها على الانخراط مجدداً
في عملها السابق الذي حصلت على إجازة منه لتباشر علاجاً ناجعاً
لأعصابها، يتمثل في الخضوع لكورسات والذهاب في نزهات إلى الطبيعة
لمداعبة الجياد.
يقيم سامبا مع عمه، وهذا الأخير يعيش في فرنسا بصفة قانونية، ويقدم
الكثير من التضحيات والنصائح لسامبا، غير أنهما يصطدمان من حين
لآخر، فالعم يصر على أن ينجح سامبا في تحقيق حلمهما المشترك، وهو
أن يرجعه إلى السنغال بصفة الملوك، بثروة طائلة تؤهلهما لشراء
منزلين قرب البحيرة، ليقضيا بقية حياتهما في نعيم ورغد من العيش.
إلا أن سامبا يخفق مرة بعد الأخرى. وفي إحدى إخفاقاته يلتقي في
محبس المرحلين بأفريقي آخر هو «يونان»، والذي يطلب من سامبا – بعد
أن تم الإفراج عنه– البحث له عن حبيبته غراسيوز في محلات الكوافير
بباريس، وسامبا لا يكذّب خبراً ويسعى لمساعدة صديقه، إلا أنه
وعندما يلتقي بغراسيوز، يقيم معها علاقة ضارباً بأمنيات صديقه عرض
الحائط.
التصوير المدروس
يبدأ الفيلم بمشهد لإحدى الحفلات التي يرتادها صفوة المجتمع
الباريسي، ما بين الرقص والموسيقى والوجوه النضرة المتوردة، ثم
تنتقل الكاميرا بالتصوير الاستعراضي المتصل (بان) إلى كواليس الحفل
حيث المطبخ وعمّال النظافة والمضيفين، المشهد يريد أن يقول: «هنا
باريس، ستجد الثراء الفاحش، وبالمثل ستــجد المعدمين الذين يكدحون
في ظروف صعبة ليضمنوا البقاء على قيد الحياة». كان ذلك مدخلاً
جيداً للعمل، مدخلا يعرّف المشاهد أن هناك أكثر من عالم في هذه
المدينة.
المخرجان تألقا في اختيار طريقة التصوير التي تناسب كل مشهد،
فعندما يقع سامبا في يد قوات الشرطة لترحيله، وأثناء وجوده في محبس
المرحلين، تتقافز الكاميرا في لقطات سريعة بين نماذج إنسانية
للمرحلين، عرب من شمال إفريقيا، آسيويين، لاتينيين وأفارقة، لغات
مختلفة ومشكلات متنوعة، يتخللها تعليقات كوميدية تعكس فوارق
الثقافة بين المجتمع الفرنسي وقوانين الهجرة الخاصة به، وبين هؤلاء
القادمين من جهات الأرض الأربع.
الكادرات القريبة، القصيرة، تعكس الحياة الضيقة التي يعيشها هؤلاء
المهاجرون، في شــقق الأستوديو التي يتشاركون فيها، أو في المصاعد
والحمامات ومطابخ المطاعم التي يتولون تنظيفها. أما الكادرات
الواسعة فكانت تأتي في شـوارع المدينة، وفي لحظات الحب، سواء تلك
التي عاشــها ســـامبا وآليس، أو التي عاشـــها صديقه ويلسون -
وليد (طاهر رحيم) مع صديقة آليس.
يمر سامبا بمنعطفات عدة، ما بين فشله في الاستمرار في مهنة، إلى
خطورة وضعه غير المقنن والذي يؤدي به لتعرضه لمطاردات من الشرطة،
رفقة صديقه الجزائري الأصل وليد، مروراً بالصدامات العديدة التي
تحصل بينه وبين عمه، وهذا الأخير مل من رعونة سامبا وانصياعه التام
لآليس وقصة الحب الناشئة بينهما.
سامبا ينتحل شخصيات عدة لأفارقة عاشوا في باريس، وينتحل أوراقاً
كلــما أتيح له ذلك ليحصل على عمل ويــفلت من الشرطة، فتتعدد
أســماؤه، حتى يصل لمرحلة أن تختلط عليه هويته، فمرة ســـامبا،
ومرة موديــبو، ومرة ينتحل اسم عمه.. وهكذا، هذا ما تتسبب به
قوانين الهجرة والظروف التي يعيشها المهاجرون غير الشرعيين في
باريس.
برازيلي من الجزائر
وعلى هامش هذه القصة يعرض فيلم «سامبا» لقصة فرعية، هي قصة
الجزائري وليد، الذي يزعم أمام باريس كلها أنه برازيلي واسمه
ويلسون، وليد فعل ذلك لأنه يرى أن فرص البرازيليين تبدو أسهل وأوفر
حظاً في ما يتعلق بالعمل، وكذلك في ما يتعلق بالحصول على فتيات
حسناوات. وليد وسامبا يشكلان ثنائياً مميزاً، ويظفران بآليس
وصديقتها، وإن ظلت مشكلة الهجرة غير الشرعية والأوضاع غير المقننة
بمثابة كابوس يطل عليهما من حين لآخر، فيهربان من مطاردات الشرطة،
ويختبئان فوق أسطح المباني وفي الممرات المظلمة وبين أكوام
النفايات.
غير أن تلك المغامرات تأخذ منعطفا آخر، عندما يُفاجأ سامبا بصديقه
الأفريقي الذي رافقه في محبس المرحلين (يونان)، وقد حصل هذا الأخير
على أوراق لجوء سياسي لمدة عشر سنوات، وخرج من المحبس ليبحث عن
سامبا وينتقم منه بسبب العلاقة التي أقامها مع غراسيوز. فينشب شجار
بينهما ينتهي بيونان ميتاً في قناة مائية، وهو ما يؤهل سامبا
لانتزاع الأوراق الثبوتية الخاصة به، ومن ثم يصبح متاحاً له
الاستمرار في باريس بتلك الأوراق المنتحلة، ليواصل مشوار كفاحه،
ويكمل قصة حبه مع آليس.
«سامبا» في المجمل فيلم عن المجتمع والواقع، إلا أنه ومثل أي عمل
فني، واقع أكثر غنى وعمقاً من الواقع الحقيقي.
الرعب الناجح ولو على الطريقة المصرية
القاهرة - عزة سلطان
تنجح سينما الرعب إذا ما اعتمدت على إثارة الخوف لدى المشاهد
المستهدف. هذا هو المبدأ العام حيث يتعدد نمط أفلام الرعب في
السينما العالمية. أما المُتابع أفلام «الرعب» في السينما المصرية
فسيجدها لا تقوم إلا على فكرة العلاقة مع الجن، وتأثيرات تلك
العلاقة على بطل الأحداث. وهذا ما نراه بوضوح في فيلمي «التعويذة»
و «الإنس والجن» مثلاً، على اختلاف مخرجي العملين وكاتبيهما.
تخرج المخاوف في السينما من كونها مجرد هلوسات لتفعيل ما نخاف منه،
فتصبح المشاهد والملابسات على الشاشة إشارة إلى هذا العدو الخفي،
حيث إن مفارقات مثل هذه الوضعية هي التي تنتج حالة الخوف عبر
الشاشة.
في هذا الإطار لا بد لنا من تصنيف فيلم «وردة» على أنه فيلم رُعب
طويل، على رغم أن زمن عرضه يقل عن ساعة وربع الساعة. فهذا لا يمنع
كونه ضمن الأفلام الروائية الطويلة.
تعتمد اللعبة الدرامية هنا، على مزج لافت بين الحقيقة والخيال،
فالسيناريو قائم على الشخصية المحورية، وليد (فاروق هاشم) مخرج
الأفلام الوثائقية الذي يعيش في هولندا لكنه يعود الآن إلى إحدى
القرى التابعة لمحافظة المنوفية، حيث يقوم بتصوير عمل له في مواقع
تصوير أرادها حقيقية، ما ينتج هنا ذلك المزيج الذي يتكون لدى
المشاهد ويستمر لبعض الوقت متسائلاً: هل ما يراه هو فيلم وثائقي أم
فيلم روائي.
ويستمر السؤال على مدار ثلثي الفيلم، انطلاقاً على الدوام من وجود
مبررات لاستمرار التصوير، في وقت تتنقل فيه الكاميرا من يد وليد
إلى يد صديقته التونسية (آمنة)، وكذلك إلى يد أخيه الصغير يوسف
الذي يأخذ الكاميرا لبعض الوقت.
وليد الذي جاء ليصنع فيلماً وثائقياً عن عائلته وعن نفسه وبلده،
يجد أخته وقد مسها جن كما تصف الأم حالتها، وأخته هي وردة التي
تعيش في حال انسحاب من الواقع طيلة الوقت، وتعاني ذهولاً وتتصرف
بغرابة. وهنا بين حال الرفض وحال القبول تمضي الأحداث، لنجد انتقال
الفكرة إلى حالة مختلفة من الرعب، وهو ما نراه في آخر مشاهد
الفيلم، حين تكشف الأحداث عن شيء آخر يتعدى فكرة مس الجن، وهو ما
لا نعتاده في السينما العربية.
إننا هنا بالأحرى أمام نموذج من تلك الأفكار التي تقوم عليها قصص
الرعب في سينما شرق آسيا، لكن الفيلم المصري سينتهي من دون أن يعطي
المشاهد تفاصيل أكبر، ومن دون أن يسمح له كذلك بالتقاط أنفاسه.
ويمكن القول عن الفيلم أنه صناعة جيدة للغاية، فكتابة محمد حفظي
جاءت متماسكة والتصاعد الدرامي طبيعياً ومنطقياً يخلو من الحشو
والتطويل غير المبررين، وأداء الممثلين لم يكن مختلفاً عن هذا
المستوى، وهو ما يزيد حالة الارتباك لدى المشاهد الذي تستمر معه
التساؤلات حول كون الفيلم وثائقياً أم روائياً.
حيث إن التعامل مع المواقع الحقيقية والانتقال عبر وسائل المواصلات
نفسها، والتصوير في أماكن فعلية، يعتمد على المعرفة المسبقة لدى
كثير من المشاهدين بالجغرافيا وبنمط الحياة، كل ذلك يجري في تأكيد
واقعية الفيلم، بما في ذلك تلك الجملة التي يبدأ بها الفيلم معلناً
أنه يعتمد على قصة حقيقية.
الفيلم من إخراج هادي الباجوري وهو الأمر الذي يستحق التريث
قليلاً، فالذين يعرفون هادي الباجوري يعرفون أن اسمه كثيراً ما
ارتبط بتصوير الكليبات الغنائية، وهذا النمط من المواد المصورة
يفترض أن هناك اهتماماً واضحاً بالصورة وتقنيات التصوير، وإخراجاً
مُدهشاً وحركة مختلفة سواء للكاميرا أو الموديلز. غير أن الباجوري
ينحاز هنا لمصلحة المشروع، ويتخلى عن كل جماليات تصوير الكليبات،
ليقدم نمطاً جديداً مختلفاً عن أعماله السابقة. في المقابل إذا كان
اسم محمد حفظي وشركة إنتاجه «فيلم كلينك» قد ارتبطا من البداية
بتقديم التجارب المختلفة والاعتماد على نمط إنتاجي منخفض التكاليف،
فإنه هنا على العكس يرتبط باسم الباجوري ونوعية ما يقدمه.
حركة ما...
هنا نرى الانحياز إلى نجاح المشروع ومدى تمكن صناع الفيلم من
صنعتهم، فالباجوري يعتمد في لقطاته على الحركة، والتصوير بكاميرا
محمولة في مواقف كثيرة، بل إنه أحياناً يعتمد على لقطات من كاميرات
المراقبة، وباستثناء مشاهد قليلة تضم خدعاً بصرية جاءت لتخدم
الفكرة وفق سيناريو متماسك ومصنوع بحرفية واضحة.
تبدو عبير منصور مبهرة في دورها (الأم) بحيث لا يمكن أن يداخلك
الشك للحظة أنها ليست شخصية حقيقية، بانفعالاتها وطريقة الأداء
أمام الكاميرا، وهو أيضاً ما نجده واضحاً عند فاروق هاشم (وليد)
وباقي الممثلين. وباستثناء سميرة مقرون التي أدت دور آمنة يقدم
الممثلون أداءً مميزاً يُشير إلى موهبة وإدارة جيدة من الباجوري.
أما آمنة أو سميرة مقرون تلك الفتاة التونسية التي تعيش في هولندا،
وهي صديقة وليد وتأتي معه إلى بلدته كفر البتانون، فإنها تبدو هي
نغمة نشاز وحيدة وذلك بخاصة بسبب لهجتها المصرية الخالصة والجيدة
جداً كأهل مصر، وهو أمر يبدو غير مبرر بأي حال، فالفيلم يقدمها لنا
تونسية وتعيش في هولندا منذ سنوات طويلة، لكن لكنتها ولهجتها فأتت
مصرية كلهجة صبية لا تفارق شوارع القاهرة ولا ناسها. ولكن من ناحية
ثانية لا بد من القول أن سميرة مقرون أدت دورها في شكل جيد إذا
تناسينا فكرة اللهجة.
في الأحوال كلها لا شك في أن فيلم «وردة» مشروع لفيلم ناجح
جماهيرياً، إذ إنه يعتمد قيمة اجتماعية متداولة، ويعبر عن مخاوف
تسود عند طبقات متعددة وشرائح اجتماعية متنوعة.
ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن نمط السيناريو وهو تقديم
فيلم روائي يحمل شبهة وثائقية، على رغم غرابته على المشاهد المصري
والعربي، ممكن أن يكون المدخل لفيلم يتفاعل مع المشاهد أكثر، حيث
يبتعد عن الأجواء المبهرة والممثلات الجميلات، والديكور الضخم،
والمعارك الكبيرة والتي تروح ضحيتها عشرات السيارات.
إنه بعد كل شيء فيلم ينتمي إلى السينما الروائية التي لا تبتعد
كثيراً عن تصوير حياة المشاهد، وهو ما ينتج حالة تقارب كبيرة
ومُدهشة، ويجعل منه فيلماً ناجحاً جماهيرياً، فضلاً عن نجاحه
النقدي، إذ يجد كل من المشاهد والناقد ضالته في هذا الفيلم.
فيلم «فورمطاج» لمراد الخوضي: سينما الصور الصاخبة
الدار البيضاء - مبارك حسني
من كلمة تقنية محضة صارت متداولة في الكلام اليومي، استقى المخرج
المغربي الشاب مراد الخوضي فيلمه هذا الذي أراد له أن يكون منخرطاً
في العصر الحالي برموزه ومنطوقه الشائع الشبابي طبعاً، حول مسح
الذاكرة ومحاوﻻت استعادتها وإحيائها. ولهذا الغرض يًعَوم الشريط
مشاهده في حمّى صوت وصورة صاخبين ومتسارعي الوقع، على غرار ما يُرى
في اليوتوب والكليب الموسيقي الغربي والفيلم التقنوي الشكل
والمضمون.
الزاوية- المعتقل
في المضمون لدينا في فيلم «فورمطاج»، شخص فقد ذاكرته ووجد نفسه في
زاوية دينية هي مزار معروف وشهير، لكن هذه الزاوية هي في ذات الوقت
مُعتقل لا يُصرّح باسمه هذا يُقفل فيه على المكتئبين المتوترين
والمجانين والمرضى النفسانيين بالحديد والسلاسل في ظروف قاسية
تعوّق حركتهم في شكل كبير. الفيلم يصور هذا المكان العجيب وقد أعيد
إنشاؤه ديكوراً وفضاء مشابهين للأصل الذي ثمة تأكيدات بوجود ما
يماثله على أرض الواقع، لكن النتيجة تحيل أكثر على موضع مُتخيل
ومبني على شاكلة المخيمات من حيث اللباس والهيئة والسحنات التي
للممثلين. والأجواء المنفرة الغريبة هي أقرب إلى مجمع غجر، ما يمنح
في بداية الأمر المخرج إمكانية تصوير مُشوق بأفق انتظار خاص.
ذات يوم تتدخل امرأة وهي البطلة «ريحانة» لدى القائمين على أمور
الزاوية بمدهم بالنقود رشوة لفك قيد أسير يحمل اسم رمزي. بالنسبة
للمخرج هي محاولة لتوظيف موضوع اجتماعي معروف كمحاولة «فضح» لما
يمارس في تلك «المصحات» النفسية الشعبية، لوﻻ أن وقائع الفيلم ﻻ
تؤكد ذلك. لأن ما تم تصويره يضمن تلك المبالغة السينمائية التي
تضيف من اﻹثارة، وهو ما سيظهر تباعاً داخل الشريط.
فالمرأة غرضها الأساسي هو تخليص الأسير الذي اسمه رمزي وتبوح له
بأنه زوجها الذي تعاني من غيابه بعيداً منها ومن حالته المزرية.
لكن سيتضح لاحقاً بأنه أيضاً عُرضة لرصد ومتابعة قريبة من المطاردة
من طرف شخص رئيسي ثالث اسمه فاضل. وهكذا يجد رمزي نفسه طرفاً في
ثلاثي غامض يؤكد حقائق ونقيضها. حقائق تُعلن أحداثاً نُشاهدها
ونتتبعها من دون هوادة، في توالٍ اعتباطي حيناً ومنطقي حيناً أخرى.
المرأة تمنحه من خلال التذكر والحكي حياة عائلية سابقة بكل ما
تتضمن من دفء منزلي وذرية هي بنت ولحظات سعادة هادئة تشاهد من خلال
الفلاش الباك. لكن فاضل يدحض كلّ ما باحت به المرأة وأكدته، بوضعها
في خانة المرأة المُستغلة الوضيعة الأخلاق ما يجعل رمزي يحتاط
وينزعج وينفر منها، أي يفعل ما كان يمكن ان يفعله اي انسان سوي
وعادي.
يحصر رمزي المرأة إذن في خانة أخلاقية سلبية كمومس سابقة تحاول
النصب عليه والزواج منه، واستغلال مرضه كي تتخلص من زوج ثان خارج
من حكاية ثانية فيها زوج ثري لا تريد استمرار العلاقة برفقته بعد
أن أخذت منه المال. ولأن الفراغ لا يجب أن يظل كذلك، ورمزي يجب أن
يتوافر على هوية، فقد أخبره هذا الشخص الثالث فاضل الذي قدم نفسه
كفاعل خير وكمنقذ بأنه في صلب عملية إجرام كبيرة ومتشعبة وتخص
الأمن العام.
حل المعضلة
وهكذا نصبح أمام رجل منغلق منزوٍ يجد نفسه بين حالتين، الأولى حياة
سعادة وهناء، والثانية حياة توتر ومغامرة، فأيهما يصدق وما التي
ستنجذب إليها صفحة ذاكرته الممسوحة ؟ لا يهم في الحقيقة، فالأساسي
هو كيف سيمَارس الفعل السينمائي وسيشتغل لحل معضلة بهذا الحجم
الكبير؟ رمزي الذي تعرضت ذاكرته للمسح سيعمرها اﻵخرون، بكل ما يمكن
تصوره. الفكرة في حد ذاتها تحوي دهاء سيناريستياً ملحوظاً. بطل بلا
ماضٍ جسد بحواس، لكنه بات أداة طيعة بين يد السينما المعتادة على
الإثارة كما قلنا.
وهكذا تتوالد الحكايا إذن من بعضها بعضاً بقدرة متكلفة تستسهل
السرد الفيلمي بوثوقية المُشاهد المتعود على ملء العين بأفلام
الحركة والتشويق وأفلام التحري الجماهيرية التي سمتها المبالغة
والتضخيم في السينما العالمية الشائعة. والدليل هو كون فاضل يمتهن
حرفة رجل المخابرات، وللكلمة وقع رهيب ومرعب في آذان جماهير غير
مُحصنة بثقافة الحقوق المدنية والمواطنة. والسينما من ضروريات
أهدافها أن تثير. وهذا عين ما قصده شريط «فورماطاج» بوضوح وعلانية.
بتوليفة هي مزيج من الكوميديا السوداء والفانتازيا السطحية
والدراما المُبكية، حيث المشاهد لا تقف على حالة إلا لكي تنزاح نحو
الأخرى بيسر من لا تتملكه سوى جاذبية الصورة من دون سند موضوعي
حقيقي. سينما شد العين واحتكارها.
وهذه الإثارة تتأكد أكثر عبر بعض الانفجارات، وعبر صور العنف
المتبادل، والتداخل بين المصائر والأقدار مع تخيّر لقطات تحضر فيها
النيران والوحل والفضاءات الخالية المقفرة والألوان المعتمة
والكابية. على سبيل المثال نستحضر صور الزاوية المزار حيث نرى
رجالاً بأسمال رثة وأقدام حافية تجر قيودها المثقلة في شمس حارقة،
وأراضٍ قاحلة لتضخيم القسوة والألم (صورة ويسترن بمسحة مكسيكية).
وصور سيارات تنفجر وتنقلب محدثة لهيباً جهنمياً حارقاً ومروعاً.
وصور المٍرأة وهي في حالة عويل قاس ولقطات ضرب وتعنيف بالأيدي
والأجساد. كما تحضر الإثارة حين يتخيّر الفيلم صفات لشخوصه مأخوذة
من ذاكرة السينما أو لها علاقة بالمهنة كما لو أن الأمر خارق.
فشخصية/شخص ثان هو أخ للزوجة المفترضة قُدم على أنه كاتب سيناريو
يريد أن يقضي عليها بدعوى إساءتها للعائلة وكي ينال ثروتها ويحقق
حلمه بممارسة هوايته السيناريسيتية. والواضح ان لدينا هنا تمازجاً
سينمائياً متكلفاً قد يكون رغبة من المخرج لكنه سينما في سينما،
بالمعنى الفرنسي للكلمة، أي وهم في وهم وليس سينما كرؤية.
«فورمطاج» شريط جماهيري من أشرطة النتاج التكنولوجي والسينما
الرائجة. وهو كبعض الأفلام المغربية المشاهدة في الفترة الحالية،
ينطلق من فكرة طيبة أو موضوع مثير للنقاش وللاهتمام اجتماعياً،
ليمنح فيلماً آخر لا يبرر هذا المُنطلق. يصير فيلماً للجمهور قد
يمتع لكنه لا يسمح كثيراً بالتفكير والأسئلة. |