يكشف المخرج الفلسطيني خالد سليمان الناصري عن جوانب من المغامرة
السينمائية والإنتاجية المدهشة التي قادت إلى إنتاج وثائقي «أنا مع
العروسة» (98 دقيقة، 2014) الذي يمكن اعتباره أحد أهمّ الأفلام
الوثائقية التي تحققت خلال العامين الأخيرين، ويتناول بطريقة جديدة
جوانب من الحال السورية، من خلال قيام فريق العمل بمساعدة مجموعة
من المهاجرين غير الشرعيين، في الانتقال من إيطاليا إلى السويد.
ويوضح الناصري أنه، برفقة صديقيه المخرجين الإيطاليين غابرييل دل
غرانده وأنتونيو آوغليارو، خاضوا مغامرة «التمويل الجماعي» التي
حققت نسبة نجاح 133 في المئة، ليصبح فيلم «أنا مع العروسة» رسمياً،
أكبر مشروع تمويل جماعي في تاريخ السينما الإيطالية، فضلاً عن
نجاحاته على مستوى العروض الرسمية، في نحو30 مهرجاناً حول العالم،
والعروض الجماهيرية التي استقطبت قرابة 130 ألف مشاهد في الصالات
الإيطالية، ناهيك عن الجائزة الكبرى في «مهرجان جنيف لسينما حقوق
الإنسان»، وجائزة أفضل وثائقي في «مهرجان أرض السينما في فرنسا».
ولادة فيلم
> كيف وُلدت فكرة «أنا مع العروسة»؟... بمعنى هل حدث الأمر فقررتم
أن تعملوا فيلماً؟ أم إنكم قررتم عمل فيلم عن الفكرة، ومن ثم بحثتم
عن القصة والشخصيات؟
- لقرابة شهرين، أو أكثر كان الذهاب اليومي إلى محطة قطارات ميلانو
المركزية، ورؤية المهاجرين السوريين والفلسطينيين الوافدين إلى
المدينة، وتملّي وجوههم المحروقة من الشمس، والاستماع إلى قصصهم
وما عانوه في رحلتهم عبر البحر، أصبح عادة شبه يومية لي ولغابرييل
دل غرانده (مؤلف ومخرج) والصديق الشاعر طارق الجبر (مشارك في
الفيلم).
في أحد الأيام قررنا أن نلتقي كأصدقاء بعيداً من هذه المحطة،
وتواعدنا في محطة أخرى من محطات ميلانو. هناك جاء صوبنا شاب وسيم
وأنيق، ولا يبدو عليه أنه مهاجر، يحمل على كتفيه حقيبة ظهر، وسألنا
بالعربية:
- عفواً يا شباب، هل تعرفون من أيّ رصيف تنطلق القطارات إلى
السويد؟
- ليست الأمور بهذه البساطة، ولا توجد قطارات تذهب إلى السويد هكذا
مباشرة. نحن نتحدث هنا عن مسافة 1800 كلم، وعن ثلاث دول تفصل بين
إيطاليا والسويد.
أجبته مباشرة، وسألته:
- أنت سوري؟
- كلا، أنا فلسطيني - سوري.
دعوناه معنا إلى فنجان قهوة (كان معه أيضاً شابان غزيّان، وآخر
سوري، فارقهم في ليبيا والتقاهم في لامبيدوزا). وقبل أن نصل إلى
المقهى بدأ عبدالله سلّام الذي سيكون العريس في الفيلم، الحديث.
روى لنا قصة نجاته من الغرق في البحر، وكيف أنه كان من بين الناجين
من قارب يقل 260 شخصاً، حيث نجا منهم 26 شخصاً. فبعد أن يئِس
عبدالله من وصول أية مساعدات وسلّم وعيه للماء، وصلت فرق الإنقاذ
العسكرية المالطية، وبدأت بانتشال الجثث، وكانت «جثته» بينها، حيث
وُضِعت فوقها جثثٌ أخرى. بالكاد وبعد زوال الماء تمكّن من تحريك
يده، لينتبه الجنود إلى أنه ما زال حياً: «لم أمت غرقاً بالماء،
وكدتُ أن أموت غرقاً بالجثث!» هذه الجملة أصبحت لحظة حاسمة بالنسبة
لي. قررتُ بعد ذلك أنه من الغد سأجلب الكاميرا وأصور شهادة عبدالله،
ليس لعمل فيلم، وإنما للتاريخ ربما، أو ربما بفعل الانفعال، أو
ربما لا أدري لماذا.
انتهى اللقاء وظللت أنا وغابرييل نتمشى في شوارع ميلانو، وبدأنا
نفكر بالطريقة الآتية:
لماذا لا نجلب بعض البولمانات السياحية ونملأها مهاجرين متنكّرين
على أنهم سياح يابانيون، ونذهب بهم إلى السويد؟ وذهبنا عميقاً مع
خيالاتنا كأن حاجة لدينا للبحث عن الضحك لنسيان ما سمعناه، وبدأت
فكرة تجرّ غيرها، وضحك يجر مثيله، وكله في إطار بحث عن فكرة
كوميدية تتحدث تراجيديا كبرى.
لأيام بعد ذلك ونحن نفكر بما هو مناسب، إلى أن اتصل بي غابرييل في
أحد الصباحات وحدثني عن فكرة العرس التي كنا قد مررنا عليها
سابقاً، وتخيلناها على طريقة بدو فلسطين، بجاهة وأغنام. كان
غابرييل التقى صديقاً له يعمل مونتير للتلفزيون، وقال لي أنه يراها
فكرة رائعة لفيلم وثائقي، وهو يمكنه أن يساعدنا بتأمين المتطلبات
التقنية اللازمة، فما رأيك في أن نلتقي ثلاثتنا ونتحدث؟ وفعلاً
التقينا أنا وغابرييل وأنتونيو آوغليارو، ولم يتطلبنا الأمر أكثر
من خمس دقائق من الحديث، حتى وجدنا أنفسنا بدأنا العمل والبحث عن
العروس.
إذاً، ما تشاهده في الفيلم كان سيحدث من دون أن يكون فيلماً.
اللقاء بأنتونيو أعطانا الإمكانية لتحويله إلى فيلم. الشخصيات
الأساسية كانت موجودة، لكننا بحثنا عن العروس والمدعوين.
تمويل بالجملة
> حدثني عن فكرة «التمويل الجماعي». هي ليست فكرة شائعة في العالم
العربي. هناك تجربة شبه وحيدة (ربما) تقوم بها الفلسطينية فيدا رزق
في دبي، في إطار مشروعها «أفلامنا». أنت كيف فكرت بالموضوع؟ وكيف
سارت الأمور؟
- التمــويل الجماعي ليس شائعاً حتى في إيطاليا، ولا في أوروبا
أيضاً. يعني هو معروف، ولكن لا يُعوّل عليه بنتـــائج كـــبرى
مثلـــما يحدث في أميركا، ففي أميركا حصلت بعض المشاريع على مليون
دولار، بالتأكيد معظمها مشاريع تضم نجوماً بينها، ولكن ليس جميعها.
نحن وضعنا كل ما نملك من نقود (واستدنا أيضاً، أنا أخذت سلفة من
عملي) لتكاليف الرحلة والتصوير. باختصار أصبحنا في تلك اللحظة
مفلسين، ولدينا مشروع قد يودي بنا إلى 15 سنة في السجن. يعني لا
يمكنك حتى التفكير بطلب دعم المؤسسات. ماذا نقول لهم: لقد هرّبنا
بطريقة منظمة 5 مهاجرين غير شرعيين، ونحتاج دعماً لتقديم دليل مرتب
ومنسق وجميل للسلطات، لنتأكد من ذهابنا جميعاً إلى السجن، ليس أقل
من 15 سنة؟! لن يعتذروا حتى، وقد يقومون بإخبار السلطات عنّا!
أحد الأصدقاء اقترح علينا التمويل الجماعي، ففكرنا في أن لا شيء
لنخسره، وأن مغامرتنا يجب ألّا تنتهي عند ذلك الحدّ. المشكلة كانت
أنه حتى التمويل الجماعي في حاجة إلى تمويل. تمويل الحملة
الإعلامية المُصاحبة أقصد، فلا يكفي وضع المشروع على أحد مواقع
التمويل الجماعي. تبرّعت لنا إحدى المنظمات المختصة بقضايا الهجرة
وهي «ليتّيره 27» بمبلغ 10 آلاف يورو لتمويل الحملة، فعينت لنا
مستشاراً مختصاً بمواقع التمويل الجماعي، دلّنا على الموقع الأفضل،
ثم دفعت تكاليف إنشاء موقع خاص بالفيلم. ومن حُسن الحظ أن غابرييل
صحافي، وأنا لدي خبرة بالصحافة، ولدينا علاقات ممتازة، فشكلنا
المكتب الصحافي، ووضعنا استراتيجية وخطة للحملة الإعلامية التي
سترافق فترة التمويل الجماعي، وأطلقنا الحملة (وهذه لوحدها قصة
فيلم)، ثم أطلقنا مشروع التمويل الجماعي.
طلبنا 75 ألف يورو، وقال الجميع حينذاك أنكم مجانين رسمياً، الحملة
استمرت لشهرين، وحصلنا بدل الـ75 ألف، على 98 ألف يورو، من 2600
شخص من العالم. أي نسبة نجاح 133 في المئة.
الآن، فيلم «أنا مع العروسة» رسمياً هو أكبر مشروع تمويل جماعي في
تاريخ السينما الإيطالية.
لا يمكنك أن تتخيل الاتصالات التي تأتينا من شباب يريدون
استشاراتنا في التمويل الجماعي، وعروض العمل في هذا المجال. لقد
اكتشفنا أننا خبراء في هذا المجال من دون أن ندري.
> كم استغرق البحث عن الشخصيات والإعداد معها؟
- الشخصيات (المهاجرون الخمسة) كانت موجودة، كما قلت لك، وكنا
سنغادر من دون تصوير. الذي استغرق في الأمر هو البحث عن العروس
والمدعوين، والذين سيستضيفوننا في الدول التي سنعبر منها. لكن كل
هذا استغرق منذ لقائنا أنا وغابرييل وأنتونيو إلى يوم الرحلة 15
يوماً، متضمنة أيضاً كتابة السيناريو.
> كم استغرق التصوير عملياً؟
- خمسة أيام، يوماً قبل الرحلة، وأربعة أيام هي وقت الرحلة. في
الفترة من 13 إلى 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013.
* كم ساعة تصوير أنجزتم قبل الدخول في المونتاج؟
- ستين ساعة تصوير.
> هل تغيّرت أفكار واتجاهات في غرفة المونتاج؟
- نعم، تغير الكثير.
> لو أمكنتكم إعادة التصوير... ما الذي ستقومون بتغييره، أو
إضافته؟
- سنصطحب مهاجرين آخرين (وهكذا نساعد خمسة آخرين). وشخصياً كنتُ
حاولتُ اصطحاب فرقة موسيقية من الغجر معنا في الرحلة، ولم نتمكّن
وقتذاك بسبب التكاليف. إذا تمكنا من إعادة الرحلة فسأصطحبهم، فما
زلت أراهم حتى الآن عند كل إشارة حدود نعبرها، تتوقّف الزفة،
وينزلون مسرعين من السيارات بملابسهم وأدواتهم الموسيقية الغجرية،
ويعزفون موسيقاهم الهازئة، ثم يهرولون إلى السيارات من جديد. لا
أزال أراهم حتى هذه اللحظة... وأضحك.
المخيال إذْ يُحال إلى سن اليأس
باريس - محمد شعبان
عوْدٌ على مجزرة، يُنبئ نيسان، عبء التاريخ إذْ يثقل كاهل الراهن:
مخيم اليرموك، حاضر مخيم جنين 2002 وامتداد قهر دير ياسين 1948
(والضحية معروفة الاسم، فلسطينية..).
حتى الأمس القريب، كنا نتساءل، بعد كل ما حدث ويحدث، وما قيل
ويقال، وما يجري اختباره: أنّى لبقعة جغرافية لا تتعدى مساحتها
الكيلومترات المربعة الثلاثة، أن تحتمل كمّاً هائلاً من الموت بحجم
ثلاثة أعوام من القصف -بشتى آلات الفتك- وعامين من الحصار الخانق
على أساسيات العيش، من ماء وغذاء ودواء؟
وحتى كتابة هذه السطور، وبإضافة طاعون ما يعرف باسم تنظيم «الدولة
الإسلامية»، أو «داعش»، نجد أنفسنا عاجزين حتى عن التفكير بالسؤال،
لولا ما يقدمه الشريط القصير («حصار، أربع حكايات من اليرموك»
2015، حوالى تسع دقائق).
الكاميرا - التميمة
الشريط الذي يتضمن أربعة أفلام قصيرة لا يتعدى أطولها الدقيقتين،
جاء بعد ورشة عمل -عن طريق السكايب- مع مؤسسة «بدايات»، تعلَّمت من
خلالها مجموعة من الشباب صناعة الأفلام لتوثيق أيام الحصار:
عبدالله الخطيب، ضياء يحيى، مؤيد زغموت، براء نمراوي، جمال خليفة،
محمد سكري، وسيم منور، عبد الرحمن سليم، عمر عبدالله ونوار اليوسف.
وإنْ كانت «مخيم فوق المخيم» هي المقولة التي تندَّر بها أهالي
مخيم اليرموك إثر انتشار حالات البناء على أسطح المنازل، فإنّ
«مخيم داخل المخيم» هي الأقرب لراهن الحصار، كما يبدو في الفيلم.
فعلى قتامته، لم يحُلْ الحصار الذي أضنك عيش الشباب وأنحل أجسادهم،
دون إنسيتهم، فخرجوا علينا بأشبه ما يكون حصاراً للحصار. بيد أنهم،
إذِ اتخذوا من الكاميرا تميمة، علها تقيهم «رمية نرد»، إلا أنّ ذلك
لم يف بالغرض، فقد غيّب قصف النظام السوري الشهيد جمال خليفة، مع
الساعات الأولى لدخول تنظيم داعش المخيم، واغتيل الناشط فراس
الناجي (شريك في صناعة الفيلم). كما تعرض عبدالله الخطيب لمحاولة
اختطاف. هو الواقعي إذاً: لا مكان تجتمع فيه التمائم مع الحصار.
سن يأس المخيلة
يفتتح الشريط أول مشاهده على طفلة تجر عربة محملة بأوعية ماء
بأحجام مختلفة. دانا، الطفلة التي عُنون القسم الأول باسمها، إذْ
تنقل الماء إلى بيتها، يبدو أنها قد كررت ذلك مرات عدة، حيث تبدو
متمرسة على التعامل مع الحفر التي خدّدت الشارع، على وعورتها.
تُفرغ الماء من وعاء في آخر، فآخر. لا شيء في الكادر الموحش يشي
بوجود حياة في المكان سوى حركتها الدؤوبة، وصوت الماء. لا كلام في
المشهد أيضاً، ولا نتبين ملامح الطفلة بوضوح، فالبرد ألزمها معطفاً
أخفت طاقيته معظمَ وجهها، وكأني بها اختيرت لتكون من ضمن الجنود
المجهولين، أولئك الذين يصنعون الحياة بصمت جميل، على رغم المرارة.
وفيما تبدو يداها المتشبثتان بمقبض العربة توغلان في ليّ عنق
الحصار، فإنهما إذْ تسكبان الماء، تعلنان هزيمته وانتصارها.
في «أمبير»، القسم الثاني، تسجل الكاميرا خيالات أشخاص غارقين في
العتمة والانتظار، تؤنس ليلهم ثلاث شمعات وأركيلة، ونسمع من هنا
وهناك همساً ملؤه اليأس والسأم.
يتوسط الكادر، في الخلف، موقد حطب يدويّ الصنع، أو ما كان للحطب
قبل نفاد الخشب، بحسب ما قاله لي أحد مخرجي الفيلم -في أحــاديث
ســـابقة عبر السكايب-، وكيف أنهم لم يوفروا أي شيء، حتى الأحذية
ومقابض الأواني، في محاولات شبه يائسة للإبقاء على النار مشتعلة.
وضحكنا كثيراً إذْ تهكّم: «وجدنا كنزاً اليوم، مستودع أشرطة فيديو
قديمة. كل ليلة نشاهد العديد من الأفلام..».
مع عودة التيار الكهربائي، لا تلبث أن تنفرج المشاهد عن طاقات
وانفعالات وعبارات سريعة، وكأن بالعتمة ستارة قد أزيحت لتعلن بدء
العرض.
«بزحمة الحصار، وعجقة الموت اللي عم نعيشها، بننسى كتير تفاصيل
كانت أساسية بحياتنا، وكنا نفكرها مملة..». هكذا يفتتح صوت الراوي
القسم الثالث من الشريط: «يرموك – كراجات».
ويتضح من كلام محدثنا، أنّ أحد تلك التفاصيل الأساسية، والتي
يتمحور حولها الفيلم، هي ركوب الحافلة، أو السرفيس. ويا لكمِّ
التفاصيل التي تتفرع من هذا العنوان العريض، حيث إن «يرموك-
كراجات» هو أحد خطوط سير الحافلات التي تصل المخيم بقلب العاصمة
دمشق. وهو حيز التـــقاء حــركة الزمن بالأمكنة والمشاهد من جهة،
والأصوات والروائح من جهة أخرى.
وأمام توقف الحافلة، يبدو الزمن إهليلجياً في حركته، وبالتالي
إحالة أمْس الأشياء والأمكنة إلى ما يختزنه راهن الذاكرة، فيبرز
تدفق الأخيرة في مشاهد الفيلم، إذ تلتقط عدسة الكاميرا الشاب مؤيد
وهو يجلس حاملاً في يده كتاباً داخل ما تبقى من حافلة، وعند كرسي
السائق نرى مذياعاً صغيراً، نسمع من خلاله صوت أبو رياح ينشد
«الشام، لولا المظالم كانت فوق المدن جنة..»، إلى جانبه كأس شاي
وعلبة سجائر «حمراء طويلة»، وعلى أحد الكراسي أُجلست دمية، وعلى
آخر، حقيبة مدرسية.
وفيما يطيل مؤيد التأمل من النافذة، يسبر لنا صوت الراوي ما قد
يجول بخاطره، «حصار صغير مع عشرين راكب بمكرو بيسع عشرة، بس بياخدك
لوين ما بدك، أجمل بكتير من حصار بأرض كبيرة، بس مسيجة بالموت
والسواتر».
أرض سمراء
يختتم الشريط بآخر أقسامه، «ولاد الأرض السمرا». تتناوب الكاميرا
على مشاهد حقل أخضر مزروع بالجرجير والفجل، وأناس هنا وهناك يجنون
حاجتهم منه. وفيما تدس طفلة في جيبها ما أمكنها التقاطه، اختارت
أخرى أن تأكل مباشرة فور القطاف.
الجوع، غول الحصار وسَمْتُه الأقسى، فليس ثمة قمح هناك، ولا ملح.
176 شخصاً قضوا جوعاً على مدى عامين، لا جراح في أجسادهم إذاً: فمن
أين سيخرج المارّون يا درويش؟
ولكن، يبقى لافتاً ذلك الإصرار على انتهاج ثقافة الحياة، فحقل أخضر
وسط أبنية متهاوية إنما يدلل على تعاون أبناء المخيم، وإيمانهم
بأنّه لا بد من إعادة خلق للأمل، وإنْ على مضض. وهو ربما ما يفسر
الهجوم الأخير للمغول الجدد على المخيم، إذْ أخفق القتلة في أن
ينالوا من إرادة الناس.
يستحوذ الذهول على كل من يشاهد كم الدمار والخراب والألم في
اليرموك، وهو الذي كان مصنفاً بين أكثر البقع السكانية ازدحاماً
بالأشخاص والبهجة في سوريا، عدا عن كونه عاصمة الشتات الفلسطيني.
وعلى رغم علو رمزية الفيلم وكثافتها وما كتب عن المخيم، ومن ضمنها
هذه السطور، إلا أنّ للواقع كلمته الأخيرة في أن يحيل المخيال إلى
سن اليأس.
حضور عربي متميز في «رؤى أفريقيا»
مونتريال - «الحياة»
جاء مهرجان «رؤى أفريقيا» لهذا العام، تظاهرة عالمية ترمي إلى عرض
المنتجات الفنية الثقافية الأفريقية وجعلها جسراً للتقارب والتعايش
داخل شعوب القارة السوداء وخارجها.
وانطلقت فعاليات المهرجان في دورته الواحدة والثلاثين في 29 نيسان
(أبريل) لتنتهي في 3 أيار (مايو). واشتملت على عرض نحو من 80
فيلماً من 31 بلداً، فيما اقتصرت مشاركة العرب فيها على الجزائر
والمغرب ومصر. ولقد انتهى المهرجان بعرض وثائقي تكريماً لشخصيتين
عربيتين هما الكاتب المغربي طاهر بن جلون والروائية الجزائرية آسيا
دجبار الراحلة حديثاً والتي عُرفت كسينمائية أيضاً. علماً أن لجنة
تحكيم المهرجان تضم الجزائرية سارة ناصر، المديرة العامة لـ «منتدى
المستقبل».
تعاون جزائري - كيبيكي
في هذه التظاهرة، مدّت الجزائر الشاشة الكندية لأول مرة، بمجموعة
أفلام وثائقية قصيرة تعود لخمسة مخرجين جزائريين وكيبيكيين
يصوّرون، بعد خمسين سنة على استقلال الجزائر، مجتمعاً جزائرياً غير
موحد ثقافياً ووطنياً واجتماعياً. مهما يكن، يحاول هؤلاء المخرجون
أن يجعلوا الحب عنصراً جامعاً لأعمالهم يقوم على التعايش والانفتاح
والمشاركة، تحت عنوان عريض هو «الجزائر حبي-
Al Djazaïr Mon Amour»
.
ففي «إيقاع الزمن–
au rythme du temps»
للمخرج إلياس جميل (مهاجر عاد من منفاه إلى الجزائر بعد 21 عاماً)
يتحدث عن ألوان من الموسيقى الجزائرية الصاعدة وإقبال الشباب عليها
رغم معاناتهم الاجتماعية والفنية والمهنية وتعرّضهم لرقابة الحركات
الأصولية المتحكمة بالبلاد والعباد واستحالة تعايشها مع الحداثة
والعصرنة.
وفي سياق آخر، يستكشف صموئيل ماتو في «كريم وهاجر-
Karim +Hadjar»
موضوعاً عالمياً عن الحب تحت الحجاب. ويعتمد فيه على موهبته
السينمائية، وعلى اختياره لقصة تحفل بالإيحاءات والصور والحب
المكبوت والرغبة الجامحة للانعتاق والتحرر.
أما يانيك نولن، فيبدو فيلمه «1-2-3 تحيا الجزائر-Viva
Algerie»
مثيراً للاهتمام، إذ يقتصر على رجال في مقهى يتابعون وصول الجزائر
إلى تصفيات كأس العالم الأخيرة. فمن خلال بعض المشاهد المؤثرة تكشف
كرة القدم المحببة إلى قلوبهم عن ملامح الأمل والإحباط، الفرح
والخيبة، التي تبدو على وجوههم بين الحين والآخر.
من جهة أخرى، يقدم غيّوم فورنييه في فيلمه الخيالي «فكرة لأجل
الغد-
Idee pour Demain»
عملاً يعكس مدى الحب والحنان كجامع مشترك بين أخوين متفاوتين في
العمر ومتعلقين أحدهما بالآخر.
أفريقية - عربية
في هذا الجانب من المهرجان، يقدم المخرج المغربي هشام العسري فيلمه
الطويل «البحر من ورائكم»،في بلد غابت عنه الألوان، وتلوثت مياهه
بظاهرة غريبة هي «بق المياه» (نوع من الحشرات المائية) وأتت على كل
شيء. ويعيش في هذا البلد رجل يدعى «طارق» تخلى عنه والده وتحول إلى
مثلي يرتدي ثياب النساء ويتبرج مثلهن. ويرقص على عربة يجرها حصان
يحتضر. ذات يوم يقف الحصان ويعجز عن متابعة المشي، فتنتاب طارق
نوبات عصبية وتسوء حاله ويجد نفسه بعيداً من العالم. باختصار، يبدو
الفيلم، على رغم تناقض المشاعر والمواقف فيه، محاولة سينمائية
تنتصر لقيم الفن والانفتاح والحرية، وتعبر عن مسار جديد لجيل من
المخرجين الطامحين لأخذ مكانهم في صناعة السينما المعاصرة.
وفي السياق المغربي أيضاً، يعرض المخرج كمال لزرق فيلمه الخيالي
القصير «مول للكلب–
MOUL ILKELB»
(ناطق بالعربية، حوالى 29 دقيقة) لحياة يوسف (بطل الفيلم) الذي
يعيش حياة هامشية لا يجد فيها صديقاً سوى الكلب (شاغادي) الذي
اختفى ذات مساء على الشاطئ، فقام بمغامرة عبثية للبحث عنه في أعماق
الأحياء الشعبية في الدار البيضاء. وأمام إخفاقه بالوصول إلى
الكلب، يقع يوسف في حالة من الجنون وفقدان الوعي.
أما الفيلم المصري الوثائقي المتوسط «علياء الثورية عارية» (52
دقيقة) للمخرج الفرنسي بيير توري، فيلفت إلى أول حالة احتجاج
لمدونة مصرية (علياء ماجدة المهدي- 20 ســــنة) تظهر عارية كلوحة
إعلانات للتنديد بالأنظمة العربية التي تسلب المرأة الكثير من
حريتها وحقوقها (هذا الأسلوب في التعري والاحتجاج تنتهجه منظمة
«فيمن» العالمية)، وعلى هذه الخلفية، تهدَّد عليا بالقتل من قبل
متطرفين، نساء ورجالاً، في ميدان التحرير بالقاهرة، وترغم على
الفرار من بلدها. |