من صنّاع العصر الذهبي للمسرح اللبناني:
ريمون جبارة يصعد إلى السماء
بيار أبي صعب
المسرحي ريمون جبارة انطفأ أمس في مستشفى بحنّس. ستارة الفصل
الأخير ــ المخمليّة الحمراء نفسها ــ أسدلت أخيراً على حياة فنّان
خارج السرب، غير قابل للتصنيف، بعد معاناة طويلة مع المرض. لقد
تعامل المعلّم مع هذا الوضع الصعب، منذ التسعينيات (إثر إصابته
بفالج كانت نتيجته شللاً نصفياً حدّ من قدراته الجسديّة)، كما
تحايل على الحياة نفسها: بمزيج من السخرية، والشاعريّة، والهذيان
الواعي، والغضب المكبوت، والفطرة (القرويّة) الشعبيّة.
إنّه سرّ هذا الفنان العفوي الذي التفّ على الوجود، ليكتب مسيرته
الاستثنائيّة التي لم يكن ليتنبّأ بها أحد. وحدها تلك الأداة
الخارقة التي يسمّونها السليقة، وفي رواية أخرى الموهبة، نقلته من
عالم إلى آخر مثل المصعد السحري في المسرح الاغريقي، وجعلت من ابن
«البلانتون» (الحاجب)، الذي بدأ «موظّفاً في (دائرة) المساحة» ــ
مثلما كان الشاعر ميشال طراد حارساً للقلعة ــ أحد كبار الثقافة
اللبنانيّة في القرن العشرين. لذا كانت دائماً علاقة شخصيّاته
بالوجود عموديّة ربّما: تخاطب السماوات، وتتحدّى الآلهة، وتهزأ من
أصحاب السلطة والنفوذ، بكوات كانوا، أم قادة ميليشيا، أم رجال دين.
«ما حاجتنا بالدين إذا لم يكن هدفه إسعاد البشر؟» يسأل الراحل
زميله روجيه عسّاف في الفيلم الذي أنتجته «جمعيّة شمس» في اليوبيل
الذهبي للمسرح اللبناني (٢٠١١).
«مسرحي
مشكلته مع الله، مع نظام الوجود. المشروع الانساني نفسه. وهذه
الأفكار هواجس منذ صغري، لا أعرف. ربما تربيتي وضعتني في هذا
الاتجاه. ربما سنوات المرض في طفولتي المعذبة هي بئر عطائي»، يقول
في حديث إلى سليمان بختي بعد مسرحيّته «من قطف زهرة الخريف؟»
(«النهار»، تموز/ يوليو ١٩٩٢). أما الأسياد الذين لم يفوّت فرصة
للاقتصاص منهم، فقد نجد سرّهم عند «مسيو عسّاف» ربّ عمل والده الذي
كان يمسّد شعره صغيراً بفوقيّته، وشفقته الجارحة، وودّه الكاذب.
كان ريمون الصغير يقبل خاضعاً طبعاً، ويأخذ الإكراميّة من مسيو
عسّاف. لكنّ تمسيد الشَعر بات بالنسبة إليه إهانة قصوى، تدجيناً
وازدراءً وإذلالاً، رمزاً لخضوع «زردشت» (كميل سلامة) المثقّف
والدكتور الجامعي الذي صار كلباً (على طريقة الأرجنتيني أوسفالدو
دراكوني الذي استوحى منه رائعته «زرادشت صار كلباً» ١٩٧٧).
لن يشفى ريمون ــ لحسن الحظ ــ من حقده الطبقي، فقد أقسم في سرّه
ألا يمسّد أحد شَعره عندما يكبر. ذات يوم، دخل إلى المسرح
«بالمصادفة» كما كان يحب أن يردد بفضل منير أبو دبس، مستعيداً
تجارب الطفولة والمراهقة في مسرحيّات الضيعة، ليجد هنا حصانته،
ويهتدي إلى ذاته الحقيقيّة. فاجأ الجمهور ممثلاً أوّلاً، ثم
«مؤلّفاً» بالمعنى الأشمل، أي مخرجاً ومؤلفاً ومصمّماً لأعمال هي
اليوم علامات في سجل المسرح العربي. لن يخضع أحد، بعد ذاك، هذا
الوحش المتمرّد الذي سيردّ بالمسرح على ظلم العالم، وخلله، وعيوبه،
وصغائره.
انتقد السلطة السياسية والطبقية والدينية لكنه بقي في الدائرة
التقليدية المحافظة
مسرح لامعقول، يجمع بين عبثيّة فرناندو أرابال الجنائزيّة،
وغرائبيّة فدريكو فلليني، من دون أن ننسى الحزن الاحتفالي الذي
يرشح من عالم البولوني تاديوش كانتور بين أشباح طفولة كئيبة،
وأعباء الحروب، وأطياف الموتى، وطغيان رجل العسكر ورجل الدين. مسرح
مزعج، يصعب تصنيفه في خانة، ولو أن صاحبه الذي انتقد رجال الدين،
وأصحاب السلطة، والتقط غصّة المهمّشين والضعفاء، بقي في الدائرة
الانعزاليّة، وانزلق إلى العنصريّة أحياناً، من دون أن يتخلّى عن
تمرّده. تلك واحدة من المفارقات الإشكاليّة التي تصنع فرادته. أليس
هذا تحديد الفوضوي اليميني؟
«ييي
مات!» تصرخ (الراحلة) رضا خوري ممثلته الأيقونة، في «قندلفت يصعد
إلى السماء» (1980، مستوحاة من «احتفال بزنجي مقتول» لأرابال).
«ليش قديش كان عمرو؟» يسأل كميل سلامة. وبعدما يعرف الاجابة، يضيف
هذا الممثل المميّز الذي جسّد جبارة طويلاً، وكان صنوَه و«قرينته»
على المسرح: «يا حرام شو بيكون ضجر بحياته». هذا المشهد يأخذ اليوم
بعداً آخر، مثل مشاهد كثيرة من أعمال ريمون جبارة حاضرة بشكل مدهش
في ذاكرتنا. يا حرام ريمون جبارة؟ ليس تماماً. ليس للأسباب نفسها
على الأقل. لعلّه، رغم عبء المرض، وانحسار الطاقة الإبداعيّة في
السنوات الأخيرة، لم يجد وقتاً للضجر، هو الذي أمضى عمره يستفزّ
معاصريه بمزيج من القسوة والرقّة، ويستهزئ بالواقع، ويتحدّى السائد
من دون أي ادّعاء «ثوري» بالمعنى الذي يمليه الوعي السياسي. رائد
المسرح العبثي في لبنان والعالم العربي الذي حيّا فيه الناقد
والمنظر ميشال كورفان «ذلك الفنّان الفطري»، لم يدرس المسرح، ولم
يأت الفنّ من الثقافة والمعرفة، بل من المخزون الشعبي، ومن طاقة
إبداعيّة تشبه الينابيع الصافية. يقول ريمون إنّه تعلّم من مطر
محمد فضيلة الصمت في المسرح. وهو يلتقي مع عازف البزق «الغجري» في
تلك النزعة الفطريّة التي اكتسبت نعمة الخلق عن طريق «السماع»،
وطوّعت القواعد بقوّة الوحي والموهبة والممارسة.
برحيل ريمون جبارة نخسر واحداً من كبار المسرحيين العرب ومن أهمّ
رواد المسرح اللبناني الحديث الذي عرف أوجه في السبعينيّات عشيّة
الحرب الأهليّة. فنان على حدة بأسلوبه، ونظرته إلى العالم، بكلمته
اللاذعة وعبثيته، وتمرّده، وشعريّته، وجمعه بين الفجاجة السوقيّة
والجماليّة المترفة. برز ممثلاً من الطراز الرفيع في إدارة مخرجين
كبار مثل منير أبو دبس (كريون في «انتيغونا» سوفوكل، وراسكلنيكوف
في «جريمة وعقاب» دستويفسكي، 1962) وأنطوان ملتقى (ريتشارد الثالث،
شكسبير)، ولطيفة ملتقى («وصية كلب»)، وبيرج فازليان («لعبة
الختيار»، «الزنزلخت» لعصام محفوظ)… لكنّه للأسف سرعان ما أقلع عن
التمثيل ليقف من الجهة الأخرى. ابتداءً من عام ١٩٧٠، مع باكورته
«لتمت ديسدمونة»، أبدع مسرحه الخاص، مسرحاً يشبهه في كل شيء،
بعوالمه، وموضوعاته، ولغته، وصوره، وحواراته… يشبهه في التمثيل
والإخراج، وتقشّف الخشبة التي تقوم على نصّ وممثّل ومناخات بصريّة
أشرك فيها تشكيليين كباراً مثل الراحل ألفونس فيليبس. هكذا وضع
جبارة نفسه في كل شخصيّاته، وفي كل ممثلاته وممثليه: رضا خوري التي
كانت ملهمته (رحلت بفارق 4 أيام، ١٨ ابريل، قبل ١٤ عاماً)، الراحل
فيليب عقيقي، كميل سلامة، رفعت طربيه، منير معاصري، موريس معلوف،
جوزيف بو نصّار… ثم الجيل اللاحق غابرييل يمين، جوليا قصار، رندا
الأسمر…
أخرج خلال السبعينيات والثمانينيات أعمالاً أساسية قوامها العبث
واللامعقول، مستعيداً ثيماته الأثيرة: الموت، الرغبة، القمع، العجز
الجنسي، الفشل، اللعبة السلطويّة، القمع، الهوّة بين المثال
والواقع، التفاوت الطبقي، التمرّد الفردي، الإحباط، تخبّط الافراد
في المتاهة، وصاية رجال الدين والسلطة، قيود المجتمع المريض،
وعبثية الوجود… أعطى جبارة المسرح العربي واللبناني بعض روائعه:
«تحت رعاية زكور» (1972)، و«زرادشت صار كلباً» (1977)، و«دكر
النحل» (1982)، و«صانع الأحلام» (1985)، إضافة إلى مسرحيتين تدوران
في فلك الدين، على خلفيّة الحرب الأهليّة: «شربل» (1976)، و«محاكمة
يسوع» (1979). انقطع سنوات عن المسرح قبل أن يعود مع «من قطف زهرة
الخريف؟» في إعادة افتتاح «مسرح بيروت» (١٩٩٢). العمل المذكور كان
فيه قدر كبير من المرارة والسوداويّة، واعتبره النقاد وصيّته… ثم
جاءت «بيكنيك ع خطوط التماس» (1997) لتعكس وهناً واضحاً، لم يقض
على النفس الساخر الذي وظّفه طوال السنوات الأخيرة في كتابة
المقالات (المثيرة للجدل، مع سقطات مقلقة أحياناً) في الملحق
الثقافي لجريدة «النهار». وكان آخر ما قدّمه للخشبة «مقتل إنّ
وأخواتها» (2012)، ويتناول فيه بشكل غير مباشر انهيار العالم
القديم ــ عالمه ــ من خلال تلك المواجهة العبثية كالعادة بين
السمكري «محظوظ» (غابرييل يمين)، والأستاذ «مأيّر» (رفعت طربيه)
المثقف المسكون بالمرارة والعقم والفشل والقطيعة مع الواقع. مواجهة
تنتهي ــ على طريقة «فاندو وليز» مسرحية أرابال ــ بفعل القتل
الرمزي، كوسيلة الاقتصاص والاحتجاج (والخلاص) الوحيدة المتبقية.
أبدع ريمون جبارة أعمالاً فلسفيّة قبل كلّ شيء. كل مسرحيّة له
مانيفستو يطرح أسئلة جماليّة، أسئلة مسكونة بهواجس وجوديّة،
وفرديّة، تواجه النظام القمعي بلغة هذيانيّة، بوعي متمرّد للعالم.
إبداعه كان ثمرة تجربة حياتيّة تبدأ من الشخصي لتعانق العام، وتصبّ
في الوجدان الجماعي لمعاصريه. وحكايته حكاية فريدة في تاريخنا
الثقافي. بعد غدٍ الجمعة سنصفّق للنعش الخارج من الكنيسة، وسننحني
أمام «صانع أحلام» استثنائي غيّر حياتنا، وقال أوجاعنا وتناقضاتنا
وأحلامنا الضائعة.
*
تقام مراسم الدفن عند الرابعة من بعد ظهر يوم الجمعة في «كنيسة
الرسولين بطرس وبولس» في قرنة شهوان. وتقبل التعازي أيام الأربعاء
والخميس والجمعة والسبت في 15 و16 و17 و18 نيسان (أبريل) من
الحادية عشرة صباحاً لغاية السابعة مساء في صالون الكنيسة.
يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر
| PierreABISAAB@
«إن
وأخواتها» آخر أعماله: ذاك اللقاء في «مسرح مونو»
روي ديب
صمت فوق خشبة المسرح اللبناني: مات ريمون جبارة. ذلك الصمت الذي
أحبّه جبارة ومنحه أربع دقائق كاملة في خطوة اعتبرها بعضهم جنونيّة
في مسرحيّة «لتمت ديسدمونة» (١٩٧٠). وكما قال لنا في آخر لقاء معه
عام ٢٠١٢ في «مسرح مونو» خلال افتتاح عرض «مقتل إنّ وأخواتها»
(الأخبار 13/12/2012)، فإنّه تعلّم هذا الصمت من عازف آلة البزق
البدوّي مطر محمد. كما فعل أبوه، قام محمد بدفن سرّة ابنه داخل
بزقه. وخلال العزف، كان يتوقف أحياناً ويضع أذنه على البزق ليستمع
إلى سرّة ابنه.
اليوم نضع أذننا على خشبة المسرح صامتين لنستمع إلى أثر ريمون
جبارة فوق تلك الخشبة، إلى جزء أساسيّ من تاريخ المسرح اللبناني،
إلى أبي العبث اللبناني. خلال اللقاء الأخير إياه، تحدث جبارة عن
فطرته في كتابة مسرحه: «لم أتعلم المسرح، لكن مثلما شعرت، فعلت.
أنا بعمل مسرح لأتسلى». لم يكتب يوماً نصاً مسرحيّاً كاملاً، بل
كان يلج التمارين مع الممثلين مع ورقة أو اثنتين. أمّا الباقي،
فكان يلد على الخشبة. اختار العمل مع ممثلين محددين وثابر على
العمل معهم، لأنه أحبّهم، وكان يكتب لهم الأدوار خصيصاً، منهم:
جوليا قصّار، غابريـال يمّين، رفعت طربيه، رضا خوري، فيليب عقيقي،
كميل سلامة، رندا الأسمر، ومادونا غازي...
صنع مسرحاً عن الإنسان، وهمومه وأوجاعه وأفراحه
الجميع حوله كان يعمل معه بحبّ وثقة عمياء. أحد أهم مؤسسي المسرح
الحديث في لبنان، لم يعنه يوماً الهدف أو الرسالة في المسرح، بل
صنع مسرحاً عن الإنسان، وهمومه وأوجاعه وأفراحه. صنع مسرحاً يخاطب
جميع فئات الجمهور من النخب إلى العريض. اختار لغة بسيطة وساخرة
يختزن فيها أسئلة عميقة عن الإنسانيّة، ما جعل مسرحياته حيّة
ومعاصرة حتى اليوم. رغم معاناته من عوارض صحيّة في أواخر سنوات
حياته، إلا أنه سخر من مرضه وتابع العمل، كتابة وإخراجاً. في أحد
مقاهي قرنة شهوان، حوّل طاولة إلى مكتب يتابع فيه كتابة المسرح.
وإن كانت بعض الكلمات تبدأ على الورق وتنتهي على الطاولة، بسبب
الشلل النصفي الذي أصابه، إلا أن الممثل وصديقه العزيز غابريـال
يمّين كان يعاونه على إعادة نسخ النصوص. في «مقتل إنّ وأخواتها»،
ورغم حالته الجسديّة السيئة، أبى أن يغيب عن ليلة الافتتاح. أراد
أن يرى الممثلين على الخشبة، هو الذي يعشق التمثيل ولطالما قال إنّ
الممثل فيه يبقى أقوى من الكاتب والمخرج. يومها قال لنا: «أريد أن
أتابع العرض كي أضحك على أخطاء الممثلين». ذلك الرجل عرف كيف يضحك،
ويعشق المسرح، ويتسلى في خلق مسرحه. نصمت اليوم لفقدانك، ونسخر من
الموت الذي ـ وإن خطفك منّا ـ لن يستطيع أن يسلبنا الإرث المسرحي
الذي تركته لنا. يا «صانع الأحلام» وداعاً.
شهادة | بصمة الرفض والمعاناة والسخرية
جلال خوري*
كان دائماً يغرد خارج السرب، من البدايات حتى النهاية. في الكتابة،
في المسرح، في الصحافة، في السلوك، في الحياة... فكانت أعماله
تتمحور دائماً في دائرة خاصة به، بعيداً عن المفاهيم المألوفة. صعد
على الخشبة، ونزل منها وحيداً، هامشياً. لم أنس تجسيده لشخصية
راسكلنيكوف في مسرحية «جريمة وعقاب».
كما أتذكره جيداً في العديد من الأدوار التي دمغها بمقاربته
الخاصة. فغالباً ما حملت أعماله بصمة الرفض والمعاناة والسخرية،
هذه السخرية التي لم تفارقه لحظة... حتى عندما كنا معاً في طائرة
تجنح يميناً ويساراً تحت تأثير العاصفة. تمكّن من جمع حوله نخبة من
الفنانين القادرين الذين تعاونوا معه حتى لا أقول تفانوا من أجله،
لنقل فنه الصعب إلى الجمهور الذي أراد: النخبة. وتبقى «تحت رعاية
زكور» في نظري أكثر أعماله تأنقاً، وتميزاً وتعبيراً لرؤيته الخاصة.
*
مسرحي لبناني
شهادة | الإبداع من رحم الوجع
رندا الأسمر*
ريمون جبارة بطل، هو أب لا نظير له لكل شباب المسرح وطلابه، وكل
الذين عملوا معه في المسرح. إنّه جبّار جبار عاش 26 سنة مصاباً
بفالج، ولم يتوان عن العمل الفكري والإبداعي والكتابي والإخراجي،
أكان في الإذاعة والجريدة والمسرح. لعل العزاء الكبير أنّه أكثر
مسرحي كرِّم في لبنان في حياته.
ما كان يتكابر على أي تكريم من أي مصدر أتاه. كان يفرح، ويفرح
الناس بحضوره، وأعتقد بأنه بينه وبين نفسه كان وحيداً بامتياز. هذه
الوحدة هي التي أبقت الفنان حياً فيه. حزن عتيق أبقى الفنان
بداخله، لذا، كان يكتب ويقاوم كل شيء وكل بشاعة حوله، كان يجاهر
فيه ويحاربه بكتاباته ومسرحه. كان إنساناً ثائراً على الحياة
العادية التي يعيشها ويرضى بها الناس. كان يؤمن بأنّ الانسان
يستحقّ حياة أفضل، يستحق أن يحلم ويحب ويعيش بكرامة، وبحرية، التي
تعدّ أدنى الحقوق في البلاد المتحضرة. أما عن الجاه والمقامات،
فكان متواضعاً جداً. لا ينسى رفاقه في أكثر لحظات مجده، بل يبرزهم
ويشكر طلابه، وظلّ يتذكر رفاقه الذين رحلوا ويبكي عليهم. كان همّ
ريمون الانسان المظلوم والفقير أينما كان. كان فنّه موجّهاً إلى
هذا الإنسان.
كان زاهداً في الدنيا، ومتكابراً على الوجع وعلى سوء التفاهم، وكان
عفوياً صاحب نكتة. كان في مرضه لا يتذمر ولا يتباكى على نفسه. في
أيامه الأخيرة، كان يذهب إلى «جامعة الكسليك» على الكرسي المدولب،
وكان طلابه يحملونه إلى الصف لإلقاء محاضرته ثم يعيدونه إلى
السيارة. لقد عاش الحياة ببساطة فظيعة، حتى إنّه عندما نال وساماً
فرنسياً في الثمانينات، قال إنّه أخذه كي يفرح والده! كان يتفاخر
بأنه لا يحمل شهادات عالية ولا يخجل من ذلك لأنّه رأى أن الفكر
والتأمل في الحياة وتفاصيلها هما ما يصنعان إنساناً مبدعاً وطبعاً
هناك الوجع. كان دائماً يردد أنْ لا فن من دون وجع. فالوجع هو الذي
يحوّل الفن إلى لحظة جمال وإبداع. وكان يردد دوماً أنّ الحياة نفق،
وعلى الانسان الرأفة بأخيه في هذا النفق الدامس. أنا أفتخر بأنني
كنت تلميذته وعملت معه، وعشت على عهده وعصره.
*
ممثلة لبنانية
«جبارة»
وثائقي يحفظ إرثه
«جبارة»
هو عنوان الشريط الوثائقي الذي أنجزه نصري البركس عام 2013،
تكريماً للمعلم اللبناني ريمون جبارة. في العمل نستمع إلى شهادات
ممثلين وفنانين ونقاد عاصروا جبارة ورافقوا تجربته وأبرز أعماله،
منهم أنطوان كرباج، رفعت طربيه، كميل سلامة، جوزيف بو نصار، مي
منسى، غبريـال يمين، جوليا قصار، وأنطوان أبي عقل. على مدى 120
دقيقة، مقسمة إلى خمس حقبات، يتتبع الشريط تجربة جبارة المسرحية.
الحقبة الأولى تبدأ في الستينيات، مع قرار لجنة «مهرجانات بعلبك»
تأسيس «معهد المسرح الحديث»، و«فرقة المسرح الحديث». التحق جبارة
بهما، قبل أن ينتقل إلى «حلقة المسرح اللبناني» ثم «فرقة المسرح
الحر» التي أسهم في تأسيسها. تنطلق الحقبة الثانية من بداية
السبعينيات، لتتناول مرحلة ما قبل الحرب الأهلية وبداية التباينات
الفكرية. حملت تلك الفترة انطلاق تجربته في الإخراج والتأليف مع
باكورة أعماله ««لتمُت ديسدمونة»، وبداية تمارين «دكر النحل» التي
قطعها اندلاع الأعمال العسكرية بداية الحرب الأهلية عام 1975.
الحقبة الثالثة تمتد بين عامي 1975 و1986. تلك الفترة كانت الذروة
الإنتاجية في مسرح جبارة. انجرّ كالآخرين إلى الأعمال المؤدلجة
الخادمة للقضية، فقدّم «شربل» و«زردشت صار كلباً» و«محاكمة يسوع»،
وصولاً إلى «دكر النحل» ورائعته «صانع الأحلام». تغطي الحقبة
الرابعة (من 1987 حتى 1990) مرحلة التراجع في مسيرة جبارة المسرحية
مع تعيينه رئيساً لمجلس ادارة «تلفزيون لبنان» واصابته بشلل نصفي
أبعده عن المسرح. في الحقبة الخامسة، نشاهد مرحلة عودته المتقطعة
بين 1993 و2013، مع «بيكنيك ع خطوط التماس»، و«يوسف بك كرم»،
وصولاً إلى «مقتل إن واخواتها» عام 2012.
سيرة
بين ولادة ندم عليها، واختياره الفن الذي اعتبره خطأً لكنه لم يندم
عليه، أكثر من 40 عاماً شكّلت مسيرة أحد أهم المسرحيين العرب،
وأبرز رواد المسرح اللبناني الحديث. انطفأ ريمون جبارة (1935 ـــ
2015) أمس في «مستشفى بحنس»، تاركاً شيئاً منه في كل الأعمال التي
قدمها على حد تعبيره. جدلية الفقير والمثقف والأحلام المحبطة،
الموت، الرغبة، القمع، اللعبة السلطويّة، وصاية رجال الدين والله،
عيوب المجتمع، وعبثية الوجود... كلها تيمات ارتكز عليها نتاج أحد
روّاد المسرح العبثي في العالم العربي.
الممثل ثم المؤلف والمخرج اللبناني ولد في قرنة شهوان عام 1935. في
مدرسة «راهبات القلبين الأقدسين»، اكتشف حبّ التمثيل، فدأب على
المشاركة في المسرحيات التي كان يخرجها المختار وفق ما قال لنا في
مقابلة سابقة (الأخبار 21/2/2011). بعد سنوات، انتقلت عائلته إلى
بيروت حيث التحق بمدرسة «الحكمة» في الأشرفية، لكنه لم يكمل
الشهادة الثانوية بسبب مرض والده الذي دخل «الدوائر العقارية
حاجباً وخرج منها حاجباً فيما اغتنى آخرون». ظلّ حلم الخشبة يراوده
من دون أن يصارح أهله به إلى أن أتته الفرصة عام 1961. ضمن أنشطة
«مهرجانات بعلبك الدولية»، كان صديقه المسرحي منير أبو دبس يدير
«معهد التمثيل الحديث» الذي سيصبح لاحقاً «مدرسة بيروت للمسرح
الحديث». لعب هذا الفضاء دوراً أساسياً في النهضة المسرحية خلال
ستينيات القرن الماضي، مع أسماء من أمثال أنطوان ولطيفة ملتقى،
ورضا خوري، وميشال نبعة، وشكيب خوري، ويعقوب الشدراوي... في ذلك
العام، أتاح له أبو دبس فرصته الأولى، فجسد دور «كريون» في مسرحية
«أنتيغونا». لاحقاً، حين وقعت القطيعة بينه وبين أبو دبس، انضم إلى
أنطوان ملتقى الذي أسس «حلقة المسرح اللبناني»، وأدى أدواراً
رئيسية تحت إدارة ملتقى وبيرج فازيليان. تزامناً مع ذلك، بدأ
بتدريس المسرح في «الجامعة اللبنانية» ثم «جامعة الكسليك» التي بقي
فيها حتى أيامه الأخيرة. بعد تجاربه التمثيلية، خاض غمار التأليف
لأنّه اعتبر أنّ الممثل هو أفضل من كتب للمسرح. هكذا، قدّم باكورته
«لتمُت ديسدمونة» التي ألفها وأخرجها على مسرح بعلبك عام 1970
واعتبرها الأحب إلى قلبه لأنّ النقاد رأوا أنّه نسف فيها قواعد
المسرح من أوله إلى آخره. بعدها، توالت أعماله مع حفنة من الممثلين
البارزين: الراحلة رضا خوري، الراحل فيليب عقيقي، كميل سلامة، رفعت
طربيه، جوزف بونصّار، والجيل اللاحق أي غابريـال يمين، جوليا قصار،
رندا الأسمر… فقدم «تحت رعاية زكور» (1972)، «شربل» (1976)، «زرادشت
صار كلباً» (1977)، «محاكمة يسوع» (1979)، «قندلفت يصعد إلى
السماء» (1980)، «دكر النحل» (1982)، «صانع الاحلام» (1985)، «مَن
قطف زهرة الخريف» (1992)، «بيكنيك ع خطوط التماس» (1997)، «مقتل إن
واخواتها» (2012 ـ إنتاج "جامعة اللويزة" التي كرمته وأطلقت جائزة
باسمه عام 2011)... حتى إنّه في آخر أيامه، كان يكتب مسرحية لكميل
سلامة يلعبها بمفرده مع حذائه بعنوان «الصبّاط» وفق ما قال في
مقابلته الأخيرة مع دنيز مشنتف (مجلة «الأمن العام») قبل أشهر. خاض
جبارة أيضاً تجارب مرادفة عدة منها مثل برنامجه اليومي "ألو سيتّي"
على إذاعة "صوت لبنان"، وعموده في ملحق «النهار» الثقافي وإدارته
«تلفزيون لبنان» بين أعوام 1986 حتى 1990 التي خرج منها بشلل نصفي.
لقد آمن هذا السوداوي والعدمي بأنّ النص والممثل هما العنصران
الأهم في المسرح، وأنّ الفن ينطلق من حالات سوء التفاهم مع الله
والناس والحياة، وبأنه لا إبداع من دون وجع، فـ«الإنسان الذي يعيش
هذه الحالات يصبح فناناً. لكن المتَّفِق مع الله والناس والحياة
يكون إما بطريركاً أو كاهناً أو شيخاً أو نائباً».
مواقفه السياسية
شكّل «ملحق النهار» منصة أساسية لآراء ريمون جبارة السياسية التي
صنّفته مع اليمين المسيحي المتطرف. أخذت عليه مواقف وصلت إلى حد
العنصرية ضد الشعبين السوري وخصوصاً الفلسطيني، حين عمم أنه لا
وجود لبريء واحد بينهم. أما رؤيته النموذجية إلى الوطن، فكانت
"بلداً علمانياً". تغيّر لبنان كثيراً بالنسبة إلى المسرحي
اللبناني. كان ينتظر خروج شعب جديد من الحرب الأهلية، إلا أنه صار
يؤمن بعدها بأن حسنات الحرب تتمثل في «أنّ الآدمي أصبح أكثر آدمية،
والأزعر أكثر زعرنة». كان يردد دائماً: «كنت أفضل أن تحكمني أم
شهيد على أن يحكمني شخص قلبه من حجر» |