... وفي عامه السابع بعد المئة، أسلم الروح ليسجل بهذا رقما
قياسياً بالنسبة الى أكبر المعمرين في تاريخ الإخراج السينمائي، إذ
ليس هناك على حدّ علمنا بين المبدعين السينمائيين من وصل الى هذه
السن، أو على الأقل من واصل الوقوف وراء الكاميرا وكأنه في شرخ
الشباب، إذ نعرف أن مانويل دي أوليفيرا – وهو المخرج البرتغالي
الذي رحل عن عالمنا قبل أيام -، كان حتى شهوره الأخيرة يشتغل على
مشروع جديد، هو الذي اعتاد إنجاز فيلم مرة كل عام أو عامين مسجلاً
بهذا أيضاً ما يشبه الرقم القياسي. والحقيقة أنه إذا كان يحق لدي
أوليفيرا أن يدخل كتاب «غينيس» للأرقام القياسية لأسباب عديدة، فإن
من حقه بالأحرى أن يدخل تاريخ السينما الكبير من الباب الواسع
لكونه، في نصف دزينة على الأقل من أفلامه، تبدّى مبدعاً حقيقياً في
الفن السابع حتى خارج إطار تلك «الأساطير» التي نسجت من حوله، كتلك
التي تقول مثلاً إنه المخرج الذي عاصر السينما منذ حقبتها الصامتة،
والمخرج الذي حقق العدد الأكبر من الأفلام في تاريخ السينما. فلا
هذا كان صحيحاً ولا ذاك. كل ما في الأمر أنه وُلد في أيام السينما
الصامتة - عام 1908 - وأنه حقق عدداً لا بأس به من أفلام. لكن
بدايته الحقيقية كسينمائي، إنما كانت في عام 1942 مع فيلمه الروائي
الطويل الأول «آنيكي بوبو»، الذي تزوّج خلال إنجازه تلك السيدة
الأنيقة الثرية ماريا إيزابيل التي رافقته خلال السبعين سنة
التالية من حياته – رقم قياسي آخر؟ -...
حقائق سينمائيّة
مهما يكن من أمر، لمناسبة رحيل دي أوليفيرا كان لا بد للأرقام
القياسية والتأكيدات الغريبة أن تكثر، ولكن لاحقاً سيُنسى هذا كله
لتبقى من الرجل مجموعة حقائق تخصّ تاريخ السينما وتتعلّق به. ومن
أولى هذه الحقائق بالطبع، أنه هو الذي أدخل، بلده البرتغال، على
خارطة السينما العالمية، وظل حتى رحيله الإسم الأكبر والأشهر في
سينما هذا البلد. ومع هذا، لا بد من القول إن دي أوليفيرا لم يكن
محبوباً في بلده بقدر ما كان محبوباً في العالم الخارجي، مثله في
هذا مثل مبدعين كالياباني كوروساوا والهندي ساتياجيت راي، وحتى
الإسباني لويس بونويل الذي غالباً ما يقارن به، بل إن أوليفيرا في
واحد من أفلامه وهو «حسناء الى الأبد» (2006)، استطرد راوياً حكاية
شخصيتين استعارهما من فيلم «حسناء النهار» لبونويل. لكن هذا
الالتفات الى مبدعين آخرين، لم يكن غريباً على المخضرم البرتغالي.
فهو في الأفضل بين أفلامه، وجد نفسه على التحام حيناً مع بول
كلوديل – حين حقق «حذاء الساتان» عن مسرحية هذا الأخير في أكثر من
أربع ساعات بتمويل فرنسي (1985) – أو حتى مع غوستاف فلوبير حين
أراد مرة أن يؤفلم «مداد بوفاري» ليتناهى الى علمه أن زميله
الفرنسي كلود شابرول بصدد تحقيق مشروع مماثل عن الرواية نفسها، فما
كان منه إلا أن طلب من كاتبة صديقة أن تكتب له نصاً مشابهاً تخلق
فيه مدام بوفاري على الطريقة البرتغالية، فكان فيلم «فال آبراهام»
(1993) الذي حقق نجاحاً مدهشاً حين عرض في «أسبوعي المخرجين» في
مهرجان «كان» في ذلك العام. صحيح أن هذا الفيلم حقق نجاحاً كبيراً
أيضاً حين عرض في البرتغال، لكن ذلك النجاح لم يوقف الحملة
المتواصلة التي كان دي أوليفيرا يتعرض لها هناك بوصفه «مروّجاً
للثقافة الفرنسية». وهذا اتهام جوبه به الرجل منذ نجاحاته
الأوروبية الأولى، إذ كانت فرنسا أول من حضنه، بل إن المنتج الذي
أمن له تمويل الغالبية العظمى من أفلامه منذ «حذاء الساتان»، إنما
كان برتغالياً مهاجراً في فرنسا هو باولو برانكو الذي سيصبح لاحقاً
واحداً من كبار المنتجين الأوروبيين.
والحال أن حكاية «علاقة» مانويل دي أوليفيرا بفرنسا، هذه يجب أن
تلفتنا الى واقع أن هذا المخرج على رغم أن بداياته في تحقيق أفلام
قصيرة ووثائقية، وحتى قبل روائيّه الطويل الأول «آنيكي بوبو»، تعود
الى عام 1931 ليكون بذلك صاحب أول فيلم حمل إسم البرتغال، فإن
مرحلة إبداعه السينمائي الحقيقي إنما بدأت في شكل متواصل في عام
1972 فقط، عبر فيلم «الماضي والحاضر» الذي سيكون مدخله الحقيقي الى
السينما الأوروبية ومهرجاناتها. قبل ذلك، كان حقّق فقط روائياً
طويلاً ثانياً هو «فصل الربيع» الذي حاول أن يروي فيه على طريقته
آلام السيد المسيح. إذاً، عند بداية سنوات السبعين كان الدخول
الأول لأوليفيرا في السينما العالمية، لكنها كانت لا تزال بدايات
متواضعة آيتها بضعة أفلام أخرى لم يفت كلاً منها أن يثير بعض
الإشكاليات، أما الإشكال الأكبر في ذلك الوقت «المبكر» فكان بصدد
فيلمه الرابع «بنيلده أو الأم العذراء»، الذي طلع به الى الجمهور
البرتغالي في وقت كانت البرتغال أنجزت ثورة القرنفل متخلّصة من
الديكتاتور سالازار الذي كان دي أوليفيرا قد عُرف بمناهضته. فكانت
الدهشة كبيرة إزاء فيلم غامض، يتحدث عن فتاة تدّعي أنها حملت من
ملاك جاءها من السماء... في وقت كانت فيه البرتغال قد حققت حريتها!
غير أن الدهشة بقيت برتغالية، إذ إن الجمهور الأوروبي لم يكن قد
تنبه بعد الى وجود هذا المخرج الذي من الطريف أنه «بدأ» حينها في
سن يتقاعد فيها الآخرون. لكنه بدأ شاباً حتى وإن كان قد بارح
الستين من عمره.
دور النقد الفرنسي
وحتى لئن كانت أوروبا لا تزال تجهل دي أوليفيرا في ذلك الحين، فإن
النقد الفرنسي – على عادته -، كان سبّاقاً في الخارج الى الالتفات
ولفت النظر إليه، ولا سيما بعد أن اكتملت له بفيلم تالٍ هو
«فرانسيكا» رباعية رومانسية – غيبية، في عام 1981 بعدما كان حقق
نجاحاً سجالياً بالفيلم السابق «حب الضياع»، المأخوذ عن واحدة من
أشهر الروايات الرومانسية البرتغالية... وكان السجال لأن دي
أوليفيرا حرص على إبقاء الطابع الأدبي للعمل من دون أن يفرط في
التدخل السينمائي. وهذا الجهد الذي اعتبر مجانياً في البرتغال، كان
هو بالذات ما أثار حماسة النقد الفرنسي، ما دفع وزير الثقافة
الفرنسي - آنذاك - جاك لانغ، الى دعم مشروع دي أوليفيرا التالي،
والذي سيدخله مباشرة الى سجل كبار السينمائيين، ونعني به هنا طبعاً
«حذاء الساتان» المقتبس عن مسرحية الفرنسي بول كلوديل، ليصبح ذلك
الفيلم الضخم الذي عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية،
ليشكّل مفاجأة ضخمة بالنسبة الى البعض، ومناسبة للنوم في الصالة
وللملل بالنسبة الى البعض الآخر. وفي الأحوال كافة، سنراه يقفز
باســم مانويل دي أوليفيرا قفزة لا سابق لها، إذ منحته لجنة تحكيم
المهرجان الإيطــالي يومها «أسداً ذهبياً» خاصاً، فيما وجد باولو
برانكو، الذي أضحى صديقه ومنتجه الدائم، من السهولة بمكان الحصول
له على الأموال الكافية لإنتاح أفلامه المقبلة.
كان ذلك كما أشرنا في عام 1985، وكان دي أوليفيرا في السابعة
والسبعين من عمره، لكنه في الحقيقة كان يبدو أكثر نشاطاً من كثر من
السينمائيين الذين يصغرونه سناً بكثير. ولقد مضى الآن أربعون عاماً
على تلك الولادة الجديدة للمخرج الذي بات يرى مكانه الآن طبيعياً
في صفوف الكبار، وتتهافت المهرجانات الى الحصول على جديده. وهذا
الجديد سيكون نحو خمسة وعشرين فيلماً راح دي أوليفيرا يحققها
الواحد تلو الآخر من دون فترات استراحة طويلة بين الفيلم منها
والآخر. وهو لئن كان في البداية، بعد النجاح الكبير لـ «حذاء
الساتان»، قد أمعن اقتباساً ولا سيما من الآداب الكلاسيكية: من
«الكوميديا الإلهية» الى «مدام بوفاري» و«مدام دي لافاييت»
(الأميرة دي كليف في «الرسالة»)، وصولاً الى استلهام شكسبير ولو
بطريقة مواربة في «الدير» (1995)، فإنه في الفيلم الذي حققـه عام
1990 بعنوان «لا... أو مجد القائد غير المجدي»، قدّم في ساعتين
تقريباً وانطلاقاً من حكاية دورية عسكرية برتغالية كولونيالية في
إفريقيا، ما يمكن اعتباره مرافعة حول تاريخ بلده ومفاسد هذا
التاريخ في تعامل البرتغال مع مستعمراتها التي لطالما زعمت أنها
تتطلّع الى تمدينها. والحقيقة أن في هذا الفيلم، الذي حقق بدوره
نجاحاً استثنائياً على مستوى النقد والتقييم الدراسي، أكثر مما على
مستوى الجمهور، دنا دي أوليفيرا من السياسة، في بعدها التاريخي
المجازي على الأقل، دنواً لم يمارسه في أي وقت أو فيلم مضى.
عودة الى الذات
في ذلك الحين، كان لا بد أخيراً لدي أوليفـــيرا من أن يبدأ
التفكير بمواضيعه الخاصة. لقد خدم مواضيع الآخرين وأفكارهم بأشكال
سينمائية غالباً ما اتّسمت بكلاسيكية محدثنة، وبات عليه الآن أن
يقدم سينما – مؤلف أكد له فيلم «لا...» أنه قادر على صياغتها.
وهكذا راح مخرجنا، بين الحين والآخر، يحقق فيلماً جــــديداً من
هذه الطينة. وهو بقدر ما كــان يتقدم في مثل هذا المجهود، كانـــت
سينماه تتهذب وتبدو مصقولة أكثـــر وأكثر، بحيث أن في إمكاننا هنا
أن نقول إن المتن السينمائي الذي حققه دي أوليفيرا خلال العقد ونصف
العـــقد الأخيرين من حياته، يشكل عملاً متكـــاملاً لا يزال في
الحقيقة في حاجة الى المزيد من الدراسة والتوليف النقدي بغية
اكتشاف تلك الوحدة، المـــوضوعية أو الشكلية أو الإثنتين معـــاً،
التي تسم هذا المتن الذي راح متــــسارعاً في تقديم أفلامه، ولا
سيما في مهرجاني «البنــدقية» و «كان»، في وقت كان قد بات أشبه
ببطل قومي في بلده وبظاهرة مستغربة في أوروبا والعالم.
ففي الفترة بين سن الثانية والتسعين وسن الخامسة بعد المئة، أي قبل
عامين من رحيله، حقق دي أوليفيرا عشرة أفلام أكثرها أعمال روائية
تتسم بقدر كبير من الطموح التشكيلي، وبقدر أقل من الادعاء الأخلاقي
الذي يسم المبدعين عادة حين يصلون الى أقل من هذه السن بكثير. ومع
هذا، فإن فيلموغرافيا تلك السنوات لم تخلُ من أعمال يمكن النظر
إليها اليوم على أنها أشبه بأن تكون وصايا مبدع يريد أخيراً أن
يقول ذاته. فمن «بورتو طفولتي» (2001) و «الصندوق» عن مسقط رأسه،
الى «فيلم ناطق» (2003) الذي يتطلع الى تصوير ما يمكن اعتباره
تاريخاً للبشرية، الى «سأعود الى البيت» (2001) الذي يعالج إشكالية
سن القدرة على الإبداع تحديداً، وصولاً الى «سفر الى آخر العالم»،
الذي يصور لنا مخرجاً سينمائياً يعود الى الأماكن التي شهدت
طفولته... عرف دي أوليفيرا كيف يقدم لنا، وغالباً بمشاركة ممثلين
كبار من طينة جان مورو وكاترين دونوف وجون مالكوفتش وميشال بيكولي
وميكائيل لونسدال، وحتى مارتشيللو ماستروياني (في آخر دور مثله قبل
رحيله، في «سفر الى آخر العالم»)، عملاً سينمائياً يحفر عميقاً في
الذات ويطرح أسئلة الإبداع والكينونة البشرية.
غير أن الانصراف الى مثل هذه المواضيع التي تتسم بقدر كبير من
الذاتية، لم يمنع المخرج من مواصلة طريقه الأخرى في الاقتباس، ولا
سيما عن أعمال أدبية برتغالية، ومن النهل من التاريخ حيث قدم في
«كريستوف كولومبوس... اللغز» حكاية مانويل لوتشيانو الذي يسعى منذ
العام 1940، الى حلّ ما يعتبره لغز مكتشف أميركا. ولعلّ من اللافت
في هذا كله أخيراً، أن دي أوليفيرا حقق آخر حياته فيلمين ربما يمكن
اعتبارهما الأكثر شباباً، مع تباعد في الذهنية والموضوع بين
الفيلمين لا يخلو من غرابة، ففي «حالة أنجيليكا الغريبة» (2010)
حدّثنا عن مصوّر يُدعى ذات ليلة الى بيت أسرة ثرية لتصوير جثمان
ابنتها المسجاة قبل الذفن. فيعيش المصور حالاً من الاستحواذ، إذ
يجد أن الجثمان أمام كاميراه فقط تدبّ فيه الحياة. أما في الفيلم
التالي «جيبو والشبح» (2012)، فإن ما لدينا – بتمثيل أخاذ من
المخضرمين الثلاثة: ميكائيل لونسدال وجان مورو وكلوديا كاردينالي –
حكــايـــة أسرة تتألف من محاسب عجوز وزوجته وكنّته، يعيشون في
انتظار عودة ابن ذينك وزوج هذه الغائب في شكل غامض... لا يعرفون
أين هو ولا لماذا غاب، لكنهم لسبب ما يعرفون أنه سيرجع... وهو
بالفعل يرجع ولكن....
إذاً، عن عمر يماثل ضعف عمر أي مخرج كبير آخر من مبدعي السينما،
رحل مانويل دي أوليفيرا قبل أيام مخلّفاً كل هذا المتن السينمائي،
رحيلاً يقول لنا ببساطة إنه متن جدير بالاكتشاف.
المجتمع العميق حين ينظر إلى المرأة
نيودلهي - ندى الأزهري
في الموعد الذي كان مقرراً لعرض فيلم «ابنة الهند» على إحدى محطات
التلفزيون الهندي الخاصة، قُطع البث لتظهر شاشة سوداء في وسطها
شعلة من اللهب وذلك احتجاجاً على منع السلطات الهندية لبث هذا
الفيلم الوثائقي الذي حققته البريطانية ليسلي أودوين.
سنتان من الجهد الدؤوب والتحقيق وصعوبات عملية ومعنوية لا تحصى
لتحقيق الفيلم، حيث «ما إن نخرج من مومباي واستوديواتها حتى يغدو
التصوير شاقاً مهما كان الموضوع بسبب ثقل البيروقراطية والمشاكل
التقنية» كما صرحت المخرجة في حديث إلى جريدة «ليبراسيون»
الفرنسية. الشريط الذي تعود فيه أودوين إلى حادثة اغتصاب جماعي
لفتاة حتى الموت في نيودلهي، حظرت الحكومة الهندية عرضه بقرار من
المحكمة (حتى على اليوتوب) في الرابع من آذار( مارس) الفائت
لخشيتها من أن تثير تعليقات أحد المغتصبين الواردة فيه أجواء من
الخوف والتوتر في البلاد لما فيها من ازدراء للمرأة.
كانت حادثة الاغتصاب المفجعة نهاية 2012 قد أثارت حينها موجة عنيفة
من الاحتجاجات مطالبة بالقصاص من المجرمين وقتلهم ومتهمة الحكومة
بعدم حماية النساء كما يجب. يومها انتحر أحد المعتدين المعتقلين في
السجن (قالت عائلته أنه قُتل)، وحكم على أحدهم بالحبس ثلاث سنوات
كونه كان قاصراً وقت الاعتداء (17 سنة)، فيما حكم على الأربعة
الباقين بالإعدام.
اختبار للديموقراطية
لم تكن المخرجة تتوقع أن يثير فيلمها كل هذا الجدل وهي نفت في
المقابلة مع «ليبراسيون» أدنى ميل لها للاستهزاء أو التشكيك،
معتبرة أن الفيلم «نوع من الاختبار لقدرة الديموقراطية الهندية
لمواجهة العوائق والمشاكل» كما قالت. كما استغربت أودوين منع
الفيلم من قبل برلمانيين «لم يروه» كمعظم من يهاجمه على أية حال.
لم يقتصر الغضب على هؤلاء فحسب بل جاء أيضاً من الجمعيات النسائية
الهندية التي شعرت بخيبة الأمل لأن المخرجة لم تذكر نشاطاتها
وكفاحها. المحطة التي أرادت بث الفيلم ارتكبت بحسب المخرجة خطأ
ببثها شريطاً إعلانياً عنه مع عبارات لأحد المغتصبين «أخرجت من
سياقها» فبدا الأمر وكأن الفيلم يقدم منصة للمجرم ليعبر من خلالها
عن نفسه. كان نائب رئيس الشرطة قد وصف مقاطع المقابلة مع أحد
المغتصبين الواردة في الفيلم بأنها «مهينة وهجومية وتسببت بحال من
التوتر والخوف بين النساء في المجتمع وأن قرار المنع هو من مصلحة
العدالة والحفاظ على الأمن العام.
قُسم الفيلم الوثائقي إلى عدة محاور كان يتنقّل بينها معتمداً
كركيزة أساسية على الحوار مع الأبوين وأحد المغتصبين في السجن.
واستهله لقاء والديّ الضحية والتعرف إلى هويتهما وأسلوب تفكيرهما،
عائلة تقليدية شعبية لكنها لم تعتبر إنجابها بنتاً أمراً غير مرغوب
به كما هي الحال في عديد من الأوساط الشعبية في الهند، لقد فرح
الأبوين بـ«جوتي» وبذلا كل جهدهما في تعليمها ورضيا باستعمال المال
المدّخر لمهرها كي تكمل دراسة الطبّ.
من كلام أم مفجوعة تفطر القلوب بمأساتها وكلامها وعينيها الحزينتين
ودموعها السارحة على خديها، يدرك المشاهد مدى الأمل الذي كان ومن
ثم مدى الفاجعة التي حلت على الأبوين. لكن الانتقال من تلك المشاهد
المؤثرة إلى اللقاء مع أحد المعتدين في السجن يصيب المشاهد بصدمة
من نوع آخر، فهذا الشاب (28 سنة) والمحكوم بالإعدام يظهر ليتحف
المقابلة بآراء تبرر فعلته «حين تُغتصب ليس عليها أن تقاوم. عليها
أن تبقى صامتة وتسمح بالاغتصاب. فبعد أن يقوموا بفعلتهم معها
يرمونها ويكتفون بضرب الصبي الذي كان معها»، مضيفاً بوقاحة: «تقع
مسؤولية الاغتصاب على الفتاة أكثر بكثير مما على الشاب... فتاة
محترمة لا تهيم في الخارج في التاسعة ليلاً. العمل المنزلي هو
للفتيات وليس التشرد في علب الليل والبارات لترتكبن أعمال سيئة وهن
يرتدين ثياباً غير لائقة». لقد «أعطوها درساً» كما استنتج،
و«التصفيق يحتاج ليدين» وتعليقات من هذا القبيل تبدي النظرة
الذكورية الصادمة واللاأخلاقية إلى الأنثى.
ثم يعرّف الفيلم بالشخصيات وبيئتها. فتتوضح شخصية «جوتي» من خلال
كلام والديها وصديقها، فهي فتاة مجدة جادة عملت إلى جانب دراستها
لمساعدة أهلها، ثم يتلو ذلك سرد سير المعتدين. كان أحدهم رياضياًَ
معتاداً على التحرش بالفتيات ومدمناً على الحقن النافخة للعضلات،
وثان يعيش في المدينة بعيداً من زوجته وطفله وعائلته التي تقطن
القرية، وثالث شاب تحت السابعة عشر... جميعهم من بيئة ريفية مدقعة
الفقر قدمــوا إلى المدينة بحثاً عن عـــمل. كما توقف الفيلم عند
آراء رجال الشرطة والممرضة وحقوقيين ومحلليـــن، وبيّن مشاعر أهالي
الضحية والمجـــرمين وهذا الأمل الذي قُتــــل وانقتـــل لدى
الطرفين من الأهل. كــما نقـل الاحتجاجات الضخمة التي تلــــت
الحادثة والتي انتقدت الحكومة لعـــدم تقديمها الحماية الكافية
للنساء.
وبين كل هذه المواقف أعاد الفيلم تركيب مشاهد يوم الحادثة. لقد سكر
الشباب وذهبوا للتجول، وهنا بنت المخرجة الواقعة وتمثيلاً للجريمة
فـــي صـــور مشوشة وخيالات تتحرك في مشاهد معتمة في باص. السائق
هو الراوي: لقد صعدت الفتاة الحافلة، كانت نجحت في الامتحان الأخير
وأرادت الاحتفال بالذهاب إلى السينما برفقة رفيق لها (بعلم أهلها).
هاجمها الرفاق الستة الذين كانوا في الباص واغتصبوها واحداً تلو
آخر بعد أن ضربوا رفيقها ولجأوا إلى العنف بسبب مقاومتها لهم بحيث
أمست في النهاية في حالة يرثى لها، ثم رموها هي وصديقها لتفقد
الحياة بعد أيام.
لو كانت ابنته
استعانت المخرجة بمحامي الدفاع ليتحف الفيلم هو الآخر بأقوال من
نوع «إذا أقامت ابنتي أو أختي علاقة قبل الزواج وأساءت لنفسها
وسمحت بأن تضيع كرامتها وشخصيتها بقيامها بأفعال كتلك، سأقوم
بالتأكيد بأخذ هذه الابنة أو الأخت إلى بيت العائلة وأمام الجميع
سأصبّ زيتاً عليها وأحرقها». كما أبرزت أقوال أخرى للمعتدين: «ماذا
كانت تفعل في وقت كهذا مع شاب في الباص؟!».
المخرجة كما صرحت، أرادته فيلماً عن الناس الذين عاشوا هذه
المأساة، عن هويتهم وكيف يفكرون، لكنه ذهب بعيداً مع كل من قابلتهم
في الاتهامات والتحليلات عن العادات الاجتماعية ودور المرأة في
المجتمع الهندي وثقافة العيب مع تركيز على النظرة الذكورية
والتقاليد. ولكن، هل هذا يشكل وحده دافعاً للاغتصابات الجماعية
التي تتزايد في الهند؟ وهل يكفي الإتكاء على هذه النظرة الذكورية
الفجة للمرأة لدى أوساط عدة لتبرير الاغتصاب؟ وأين الحديث عن هذا
المجتمع الذي يمور بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تجعل من
الفرد تائهاً هائماً على وجهه في وسط لا يعرفه ولا مرجع له فيه ولا
بيئة أليفة تحيط به؟، إنه مجرد مستهلك لكل ما تقدمه المدينة وطامع
في استهلاك كل ما تتيحه المدينة من سيارات، وأضواء وأحذية رياضية
و... فتيات! هذا ما لم يتحدث أحد عنه في الفيلم.
أسئلة الحيرة والقسوة كما يطرحها إنسان عصر القلق
مونتريال - «الحياة»
يشهد بعض صالات مونتريال عرضاً أول لفيلم «كلمات مع الآلهة» (مدته
135 دقيقة). ويتضمن هذا الفيلم تسعة شرائط وثائقية قصيرة تشكل مع
بعضها بعضاً، فسيفساء من طقوس دينية تكتنفها مشاعر الغضب والإيمان
والنشوة، ويقدمها تسعة مخــرجين من جنسيات وثقافات وأديان مختلفة.
وهم جميعاً يتصدون لقضايا شعوب في مناطق نائية مـن العالم آمنت
بعقائد ورؤى فلسفية وميثولوجية شغلت حيزاً كبيراً من تاريخ
البشرية. ويعالجها كل مخرج من منطلق العقيدة التي نشأ عليها
وترعرع.
يتضمن الفيلم الأول للمخرج غييرمو آرياغا عرضاً لفتاة حامل من
السكان الأصليين في أستراليا. وتختار مكاناً نائياً تلد فيه وحدها.
ويستند الفيلم في سياقه إلى عقائد السكان الدينية هناك، والتي تؤكد
أن المولود هو نتاج مشترك من الأم والطبيعة التي تتكفل بحمايته
ورعايته. وينتهي الفيلم بمشهد مؤثر يبدو فيه الطفل مغطى بالدم
لتقوم الأم بقطع حبل الخلاص بأسنانها.
ويمتد الحديث عن الأطفال إلى الفيلم الثاني «الرجل الذي سرق بطة»
لمخرجه الأرجنتيني هيكتور بابينكو. ويتضمن مشاهدات لبعض العادات
الدينية والاجتماعية التي يختلط فيها العنف الأسري والحياة العبثية
بنماذح غريبة من طقوس الحياة والموت (رجل مدمن على الخمر يعنف
زوجته فتهجره ويموت طفله الرضيع ليصبح بعد الدفن مجنوناً، ويستعيض
عن طفله ببطة سرقها. ويهيم على وجهه إلى أن يتلاشى ويجد نفسه في
حلقة تمارس طقوساً دينية تؤمن بالخوارق الطبيعية).
صور غريبة
وفي فيلم «غرفة الرب» تواصل المخرجة الهندية ميرا نايير تتبع
الديانة الهندوسية في شكل يوفق بين الحداثة والتقاليد المتجذرة في
المجتمع الهندي في محاولة لا تخلو من نكهة كوميدية للتخفيف من حدة
التصادم بين القديم والجديد. وهذه الحالة يترجمها مشهد عائلة
هندوسية تزور بيتها الجديد القائم في عمارة حديثة. وخلال الزيارة
يحدث خلاف بين أفراد العائلة حيال إصرار الام، على تخصيص غرفة
للعبادة الهندوسية (غرفة الرب). ويتلو المشهد صور غريبة للرب
الهندوسي هذا والذي يظهر تارة على شكل رأس فيل وتارة أخرى محاطاً
بأشكال هواتف محمولة. وفي هذه اللحظات ينطلق طفل إلى خارح البناء
باتجاه البحر ويختفي أثره.
أما المخرج الإسباني أليكس دي لا إيغليسيا فيقدم فيلماً في عنوان
«الاعتراف» يتحدث عن غياب الإيمان لدى رجل كافر يحلم بالانتحار
فيكون أن يستجيب الله له ويحقق حلمه.
ويلي ذلك المخرج الكردي بهمن قبادي في فيلمه «كابوكي» الذي يعرض
توأماً برأسين ملتصقين يعيشان في بلدة كردية صغيرة. ويطرح الفيلم
من خلال هذين التوأمين «السياميين» تساؤلات عدة بينها حيرة رجل دين
عجز عن إيجاد حل لهذه الإعاقة النادرة من طريق الفقه الديني.
ومن اليابان يساهم المخرج هيدو ناكاتا في فيلم عن البوذية في عنوان
«معاناة» يطلق فيه حواراً بين صياد فقد كل عائلته أثناء إعصار
تسونامي وبين راهب بوذي حول عدالة السماء التي لا تتدخل لإنقاذ
الأبرياء من الموت.
تساؤلات القلقين
أما فيلم «كتاب عاموس» للمخرج الإسرائيلي عاموس غيتاي، فيقدم
نصوصاً من العهد القديم للديانة اليهودية تنبئ بالعنف والحرب
والتدمير في المناطق المحيطة بإسرائيل. وتنتهي بانوراما الوثائق
القصيرة هذه بفيلم للمخرج أمير كوستاريتسا جعل عنوانه «حياتنا».
ويمثل وقفة تأملية حول طروحات الديانة المسيحية الأرثوذكسية
الشرقية وتساؤلات عن الوجود. ويتناول المخرج من خلال تلك التأملات،
دور راهب يختبر صبره وآلامه وقوة تحمله في نقل الحجارة ورميها.
وفي الختام يعرض المخرج المكسيكي غييرمو آرياغا شريطه المعنون «دم
الرب» الذي يطرح منظوراً أيديولوجيا يمكن اعتباره أقرب إلى نص
مسيحي عن أجواء القيامة. ويتمثل بحكاية أب يائس يروي لابنه المهندس
الذي فقد إيمانه رؤى أحلام مضطربة لا يصدقها. وينتهي الأمر
بانتحاره في مشهد فريد تمطر فيه السماء دماً على وقع موسيقي
للبناني الأصل غابريال يارد.
«ترنيمة مدينة» والمجازفة بالوجوه الجديدة
لندن - «الحياة»
«لم أشعر بقوة ممثل جديد أقدمه للسينما منذ أن قدمت ليوناردو (دي
كابريو).. إحساسي بأنه باستطاعتها أن تصل إلى القمة إذا أرادت
ذلك». بهذه العبارات تحدث المخرج السينمائي مايكل كيتون جونز
لجريدة الأوبزرفر البريطانية قبل أيام، معبراً عن رأيه بـ
«اكتشافه» الوجه الجديد لاتيشيا رايت، الممثلة الشابة التي تقوم
بالدور الأول في فيلمه «ترنيمة مدينة»، الذي ينهي عمليات المونتاج
والميكساج له ليكون جاهزاً للعرض خلال الفترة المقبلة. و «ترنيمة
مدينة» هو الفيلم الروائي الطويل الثاني الذي تنتجه شركة «دشيشة
غلوبال للإنتاج السينمائي العالمي»، تحت إدارة رئيس مجلس إدارتها
السعودي إبراهيم دشيشة وبإشراف المخرج/ المنتج أنور قوادري (صاحب
الفيلم المعروف عن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ومسلسل «الموت
الآتي إلى الشرق» التلفزيوني إضافة إلى عدد من الأفلام القصيرة
والمتوسطة التي حققها في إنكلترا). وكانت الشركة نفسها أنتجت قبل
فترة فيلم «هيدا غابلر»، عن مسرحية هنريك إبسين الشهيرة، من إخراج
البريطاني ماثيو جون (الفيلم الأول له ولمجموعة من الفنانين معه).
وحول هذين العملين يقول مسؤولو الشركة السعودية العاملة في
بريطانيا: «بهذا نكون حققنا أحد أهداف شركتنا، ألا وهو إعطاء فرص
لوجوه جديدة -أمام الكاميرا وخلفها- لضخ دم جديد وتقديم أفلام
مميزة في السينما العالمية..». هذا ليس بجديد -كما تذكّر الشركة-
على المخرج أنور قوادري الذي كان قدّم فينولا هيوز في فيلم «كسارة
البندق» أمام النجمة الكبيرة جوان كولينز ليختارها سيلفستر ستالون
مخرجاً لتقف أمام جون ترافولتا في فيلم «البقاء حياً».. ثم أعاد
الكرة مع النجم الأميركي جيف فاهي في أوائل التسعينات في فيلم
«الصياد الأبيض ذو القلب الأسود» حيث أخذه كلينت إيستوود لبطولة
الفيلم. علماً بأن قوادري نفسه كان أول من قدّم النجم المصري خالد
الصاوي في السينما العربية في فيلم «جمال عبد الناصر» حيث قام بدور
الزعيم المصري إلى جانب غادة عبد الرازق -وكانت في بداياتها- في
دور برلنتي عبد الحميد، والراحل خالد صالح في دور صلاح نصر.
ويرى قوادري اليوم، أن النتيجة التي أسفر عنها قيام الوجه الجديد
لاتيشيا رايت بالدور الأول في «ترنيمة مدينة»، تكشف عن «أن
الاختيار كان صائباً»، كما حال اختيار مايكل كيتون جونز لإخراج هذا
الفيلم. وعن هذا يقول قوادري: «مايكل لم يكن أخرج فيلماً منذ
«غريزة أساسية2» لشارون ستون، ومن هنا كان من المجازفة أول الأمر
أن يوافقني إبراهيم دشيشة لإعادته إلى العمل في لندن، إذ اقتنعت
بأنه الخيار الصحيح، بعد أن تم الاتفاق على السيناريو مع الكاتب أن
يقدم رؤية سينمائية مميزة في «ترنيمة مدينة»، الفيلم الذي يعالج
قضايا الشباب وضياعهم على خلفية أحداث الشغب والفوضى التي حصلت في
لندن وغيرها صيف 2011 الساخن». ويضيف قوادري: «إن هذه الاختيارات
نابعة لدينا من كوننا ملتزمين بتقديم أفلام تعالج قضايا مستعصية
وجريئة ومستعدين للمخاطرة بأسماء جديدة وهذا سينتج عنه أفلام تترك
بصمة. وطبعاً يجب أن يتم ذلك عن قناعة وبعد بحث وتمحيص، لنبني
مكتبة سينمائية لشركة دشيشة غلوبال فيلم للإنتاج السينمائي على
طريق محاولتنا أن نوجد لأنفسنا مكاناً متقدماً في عالم الإنتاج
السينمائي العالمي.. فهذه هي استراتيجيتنا لإنتاج أفلامنا
السينمائية في السنوات القادمة، من دون أن ننسى أن السينما العربية
بأزماتها ليست بعيدة من أعيننا لأننا بعد أن نثبّت خطانا وتصبح لنا
مكانة في عالم الإنتاج والتوزيع العالمي، سندخل بإنتاج أفلام
عربية/ أجنبية مشتركة لفتح أسواق جديدة للسينما العربية وعدم
الاتكال فقط على الأسواق المحلية».
«آهات الحرية»: شتات الروح قبل البلدان
القاهرة - عزة سلطان
العلاقة بين الرمز والصورة علاقة قوية، ولا يقتصر استخدام الرمز في
الإشارة إلى قيمة أو فكرة، على نوع من الصور، فالأمر ممتد من الصور
الفوتوغرافية مروراً بالسينما الروائية وكذلك السينما الوثائقية.
فيلم «آهات الحرية» سيبدأ من لقطات أرشيفية لمشاهد من الثورات
العربية، ما يُحيل المشاهد لا إرادياً للتفكير في الثورة، كل وفق
بلده، وتبعاً لما تركته بداخله من خليط من المشاعر، قبل أن يبدأ
الفيلم في التخصص، أو الاكتفاء ببقعة واحدة في الوطن العربي، وهذه
الطريقة في التناول لافتة حيث البدء من لقطة عامة، قبل أن تصبح
لقطة مقربة لحيز بعينه.
المياه العطنة، وأوراق الشجر المتساقطة، ولون رمادي يكسو الشاشة
ستظل هذه الرموز تيمة أساسية في الفيلم الممتد زمن عرضه إلى خمسين
دقيقة. عنونة الأماكن تيـــمة أخرى، فالمخرج أراد أن يـــصل
بالمــشاهد إلى حقيقة الوضع في ســـورية، حالة من الشتات، فالشاشة
ستتلوّن بأربعة بلدان يقطنها ضيوف الفيلم.
بـعد خمس دقائق من بداية الفيلم يدرك المشاهد أن الفيلم يدور عن
الثورة السورية وحدها، دون بقية الثورات في المنطقة والتي تم
الإشارة إليها في مفتتح الفيلم.
وسيلة الانتقال من ضيف إلى آخر وفق ما يستخدمه المخرج ستكون
تداعيات الخريف، والرحيل، فالطرق يتم تصويرها من داخل السيارة في
إشارة إلى مغادرة، والطريق يتآكل سريعاً، الأشجار الذابلة لا تنقطع
رؤيتها لأكثر من ثلاثين دقيقة، واعتماد أن تكون هناك لقطات خارج
المركز في إشارة أخرى إلى ضبابية المشهد، وعدم وضوح شيء. بصورة
عامة يتم تناول الموضوع بطريقة آلية ومعتادة، مقابلات الضيوف تسير
في روتينية، الحديث عن أسباب الرحيل والمغادرة، تلك التي حدثت
قهراً، فالملاحقات كانت السمة الأساسية للدفع بعدد من الكُتاب
والفنانين لمغادرة بلدهم سورية قسراً.
الانتقال من مدينة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر رغم أن الجميع سوريون،
يُسهم في خلق إحساس الشتات لدى المشاهد، دون أن تكون هناك إشارات
واضحة أو صريحة لكون الأوضاع الحالية قد صنعت حالة من الشتات للشعب
السوري.
الحديث عن العقبات والصعاب التي يواجهها الضيوف يقول لنا أنها في
مجملها صعوبات فردية، رغم عموم القضية، لكنّ ضيفاً واحداً فقط
يتعرض إلى مشكلات اللاجئين السوريين، من برد وظروف إقامة صعبة، في
حالة من الانتقال بالمشاهد من متابعة شريط الأخبار، إلى مشاهدة بشر
يعانون من أجل الحياة.
يتعرض الفيلم لعدد من القضايا المهمة والمتعلقة بالسوريين خارج
أرضهم، خاصة هؤلاء الذين هربوا نظراً لملاحقات، فالفنانة التشكيلية
هبة العقاد تحكي عن ابنها الذي لا يمتلك أوراقاً ثبوتية وعمره عام
واحد فقط. إن مثل هذه المشكلات التي يتعرض لها السوريون في بلاد
اللجوء إنما تكشف عن حالات ومشاعر متعلقة بالوحدة والغربة والبرد،
لتصل إلى مشكلات من نوعية خطيرة، تتعلق بهوية الفرد ووجوده
القانوني.
في خضمّ هذا يمضي الفيلم في أُطره التقليدية في معالجة المحتوى،
فبعد أن تعرفنا إلى المصاعب التي يمر بها كل ضيف، نرى شكل حياته في
البلد الآخر. ثم في الثلث الأخير وفي الدقيقة 36 يبدأ التفاؤل
يسود، عبر أحلام كل ضيف وتصوره المتفائل لنفسه وبلده.
عدوى التفاؤل
لكن هذا التفاؤل ليس لفظياً فقط بل تدعمه الصورة، فالشجر الذابل
الذي سيطر على المشهد طوال ثلثي الفيلم، سيتلون وتصبح الأشجار
خضراء، سنرى بنايات عديدة تحل محل البيوت المهدومة، التصوير يتم في
نفق، ثم يخرج إلى منطقة مضيئة، التصوير من السيارة سيكون عبر طريق
تقطعه السيارة ببطء في محاولة لتأمل معالمه، حتى اللقطات الأخيرة
للفيلم، ومنها لقطة من داخل السيارة، حيث نرى لافتة تُشير إلى
دمشق، وحين تتساقط الأمطار، يتم من طريق المسّاحات في السيارة مسح
الزجاج لتتضح الرؤية، مع أن المطر ما زال يتساقط.
يتناول هذا الفيلم قضية مهمة قد لا ينتبه إليها الكثيرون نظراً لأن
المنطقة مشتعلة بالعديد من التفاصيل ما يحول الوضع السوري إلى مجرد
شريط أخبار على الشاشة، كما قال أحد الضيوف منتقداً، ورغم الأهمية
التي لا ننفيها، فإن التعامل مع القضية تم عبر أدوات وطرق نمطية
للغاية وتقليدية، تجاوزها كثر من صُناع الأفلام أخيراً، ناهيك
بأننا أيضاً لن نتعرف إلى أسماء طاقم عمل الفيلم الذي عُرض دون
عناوين «لدواعٍ أمنية».
وكنتيجة لهذا كله نجد أن تقليدية العرض والرمز ألحقت بالفيلم حالة
من الفتور، وبعضاً من الملل، يكسره على أية حال التعاطف الذي قد
تصنعه بعض الحكايات التي يرويها الضيوف، أو القطع المتوازي الذي
يتم بين المقابلات، حيث إن الانتقال من بلد إلى آخر (تركيا –
الأردن- لبنان) يصنع كسراً لحالة الملل التي تخلق التناول المكرر. |