عقد على رحيل أحمد زكي: الإمبراطور بيننا اليوم
علي وجيه
في «مدرسة المشاغبين»، كان أحمد زكي (1949 – 2005/ الصورة) هو
الطالب «المختلف» عن بقيّة الأشقياء في الصف. يسخر منه عادل إمام
(بهجت الأباصيري) في أحد المشاهد: «إنت مختلف، ووضعك مختلف. أنت
واخد الدنيا من ورا ولا إيه؟». نعم، كان العبقري المصري مختلفاً عن
كلّ مجايليه في الموهبة والرهافة والعفوية وحتى الشكل الخارجي.
الشاب الأسود لم يكن ذلك الجغل الملائم لسينما تلك الفترة، مثل
محمود عبد العزيز ونور الشريف.
عادل إمام تشبّث بالكوميديا كضمانة إلى الأبد. كلّهم تعكّزوا على
مطابقتهم للمعايير بشكل أو بآخر، للحصول على الوقت الكافي للتثبيت
والنضج و«التجوهر». وحده أحمد زكي، كان عليه إثبات نفسه منذ
المشاهد الأولى. ونعم، كان آتياً من الوراء. قدم إلى العاصمة من
«الزقازيق» في محافظة الشرقية. هناك، أمضى طفولة يتيمةً مع «أناس
بسطاء بلا عقد عظمة ولا هستيريا شهرة» حسب تعبيره. اليتم في بيوت
العائلة فرض الانزواء والهشاشة ومراقبة الناس بعين سمكة. مفاعيل
تلك الفترة رافقته حتى الوداع الأخير بسبب سرطان الرئة في مستشفى
دار الفؤاد. كان شديد التطرّف في أحاسيسه. يشعّ فرحاً، وينفجر
ضحكاً، ويبكي كطفل صغير لأتفه الأسباب. عجينة من النوع الممتاز،
وإسفنجة لا تشبع بين أيدي المخرجين. ياقوت صرف قابل للصقل إلى أيّ
شكل أو شخص. الجندي المدهش في التقمّص في «البريء»، حتى أنّ عاطف
الطيّب اعتقد أنّه عسكري يمشي في الطريق أثناء مجيئه إلى موقع
التصوير. الضابط الغول في «زوجة رجل مهم»، والتائه في الفيلم
الوجودي الآسر «أرض الخوف». الصعيدي الساذج في «البيه البوّاب»،
والمطلوب للعدالة في «الهروب». الموظّف المطحون في «الحب فوق هضبة
الهرم». المحامي الفاسد في «ضد الحكومة». في الأدوار البيوغرافية،
لا يمكن نسيان أبهى تجسيد لطه حسين في مسلسل «الأيام»، والإبهار في
«ناصر 56» و«أيام السادات» و«حليم».
كان زكي متفانياً في العمل حتى الاستهلاك الذاتي. التمثيل حياة
بمعنى الكلمة وتوازن الأعصاب. محاولة الانتحار الشهيرة بعد
استبعاده من «الكرنك» لعلي بدرخان، أحد الأدلّة على ذلك. نادر هو
انغماسه الكليّ في الدور، حتى لو كان وجبة خفيفة. بحساسية وبساطة،
كان بارعاً في حلّ الشخصية وتفكيك مراحلها. وفق منهجه، مرّ عبد
الحليم بثلاث مراحل: الاعتماد على الإحساس بسبب نقص الثقة في
البدايات، ثمّ الغرق في هذا الإحساس مع حركة الرأس والفيزيك
الخارجي، وأخيراً استحضار الصورة مع الكلمة وتمثيل معناها في
الغناء. إسماعيل في «عيون لا تنام» لرأفت الميهي، يمرّ بأربع نقلات
في الإحساس: ولد عدواني كريه يصبح طفلاً عند وقوعه في الحب. بعدها،
يتوحش من أجل المال، ثم يحاول الخلاص، قبل أن يفقد صوابه. التماهي
يفسّر جرأة الممثّل التلقائية في الجلوس على سطح قطار منطلق، أو
النوم في برّاد مشرحة. هكذا، ظهرت كل شخصياته بمنتهى الحياتية
والاختلاف، حتى المستهلك منها. الموهبة الاستثنائية والمناخ الجديد
إثر وصول السادات إلى السلطة، أنقذا «مستر كاراتيه» من تصنيف
المنتجين الجائر بسبب الشكل الخارجي، وإن ببطء تدريجي مرهق.
غالباً، كان الدور يصل إليه بعد المرور على عادل إمام ومحمود عبد
العزيز ونور الشريف. هذا نفس سبب تفرّده لاحقاً، وفتح الباب أمام
أسماء مثل يحيى الفخراني. تمثّل المصري البسيط فيه روحاً وسلوكاً
وحتى تاريخاً. لذلك، كان الممثل المفضل عند مخرجي الواقعية
الجديدة. تحت إدارة رأفت الميهي وعاطف الطيب ومحمد خان وخيري بشارة
وداوود عبد السيد، توهّج بطلنا في أداءات لا تُنسى. أحمد زكي هو
البطل المصري المضاد الذي ينزف ويُقهر ويُنتهك، فيردّ بدمعة وضحكة
ونكتة ساخرة. ليس مفاجئاً ما كان يحصل معه أثناء صراعه مع السرطان
في المشفى. جاء رجل من الصعيد يريد التبرّع بكليته أو «خدوا أيّ
حاجة» من أجل شفائه. كذلك، الفتاة التي عرضت التبرّع بإحدى رئتيها.
فقدانه انسحب على كلّ بيت، وعصر قلب كلّ أم وأخت وحبيبة. مصر ودّعت
جزءاً منها يوم 27 آذار (مارس) المشؤوم. تماماً كوداع أم كلثوم
ونجيب محفوظ وفاتن حمامة.
بعد عشر سنوات على الغياب، يحضر «النمر الأسود» بكل راهنية وقوّة.
في «هستيريا» عادل أديب، ركض زين هرباً من المتطرّفين في مترو
الأنفاق. لم يكن يعلم أنّ هذا سيحصل بعد سنوات على المستوى الجمعي.
«معالي الوزير» يبدو وديعاً مقارنةً بأصحاب معالي هذا العصر. لا
يمكن لمقال أن يحيط بجلالة «الإمبراطور» وحضرة «البرنس». كلماته
الشخصية قد تغني عن كثير من التوقع والتحليل. «اليوم علينا معالجة
الإنسان. أنا لا أجيد الفلسفة ولا العلوم العويصة. أنا رجل بسيط
جداً، لديه أحاسيس يريد التعبير عنها. لستُ رجل مذهب سياسي ولا
غيره. أنا إنسان ممثل، يبحث عن وسائل للتعبير عن الإنسان. الإنسان
في هذا العصر يعيش وسط عواصف من الماديات الجنونية، والسينما في
بلادنا تظل تتطرق إليه بسطحية. هدفي هو ابن آدم، تشريحه، السير
وراءه، ملاحقته، الكشف عمّا وراء الكلمات، ما هو خلف الحوار
المباشر. الإنسان ومتناقضاته، أي إنسان، إذا حلل بعمق يشبهني
ويشبهك ويشبه غيرنا. المعاناة هي واحدة. الطبقات والثقافات عناصر
مهمة، لكن الجوهر واحد. الجنون موحد. حروب وأسلحة وألم وخوف ودمار.
كتلة غربية وكتلة شرقية. العالم كلّه غارق في العنف نفسه، والقلق
ذاته. والإنسان هو المطحون. ليس هناك ثورة حقيقية في أيّ مكان من
العالم. هناك غباء عام وإنسان مطحون».
(زمن)
عبد الحليم... أكثر من فقد
«العندليب
الأسمر» أخفى شقاءه في صوته
سيد محمود
38
عاماً على رحيل عبد الحليم حافظ (21 يونيو 1929 - 30 مارس 1977)،
وما زال عشاقه يديرون يومياً إذاعة «الأغاني» المصرية في السابعة
مساءً بحثاً عن «الزمن المفقود»
القاهرة
| بعد
38 عاماً من غيابه، ليس في حياة عبد الحليم حافظ (21 يونيو 1929 -
30 مارس 1977) علامات مفقودة. مَن أدمن الاستماع إليه، يحفظ سيرته
كما يعرف قائد الطائرة محطة الهبوط من إحداثيات واقعة في الغيم.
المطرب الذي نال لقب «العندليب الأسمر» أخفى شقاءه في رهافة صوته
وظلت «ندبة الفقر» التي ولد بها معلّقة في الواجهة كشارة نصر وأثر
لا يمحى.
استثمر عبد الحليم هذه الندبة بذكاء يصعب تفاديه، وتعامل معها كما
تتعامل نجمة سينمائية مع شامة حسن ولدت بها. عاش ومات مريضاً بشقاء
«البدايات» رغم أنّ صوته كان عنواناً لعصر أخفى إخفاقاته السياسية
تحت أصوات غنائية اتسمت كلها بالسطوع الذي يلائم أحلاماً طليعية
حركت جيل «ثورة يوليو» 1952. ولد العندليب في قرية الحلوات في
محافظة الشرقية.
كان الابن الأصغر بين أربعة إخوة هم إسماعيل ومحمد وعلية التي لعبت
في حياته دور الأم ولم تتنازل عنه أبداً حتى عقب وفاته. تشكل
تجربتا اليتم وفقدان الأم مع داء البهارسيا العنوان الأبرز في
سنوات طفولة حليم ومراهقته التي لا تختلف اختلافاً جذرياً عن حياة
أغلب فقراء مصر من أبناء الريف. كانت الكتاتيب المدرسة الأولية حيث
أتيح له تلقي أبسط أنواع التعليم، لكن خلافاً لمن كانوا معه، تابع
مسيرة شقيقه الأكبر اسماعيل شبانة مع الغناء.
استناداً إلى تجربة الأخ الأكبر، التحق حليم بـ «معهد الموسيقى
العربية» (قسم التلحين) عام 1943 وتعرف هناك إلى كمال الطويل الذي
كان طالباً في قسم الغناء والأصوات. درسا معاً في المعهد حتى
تخرجهما عام 1948. بعدها، رشِّح للسفر في بعثة حكومية إلى الخارج،
لكنه ألغى سفره وعمل لأربع سنوات مدرساً للموسيقى في طنطا ثم
الزقازيق وأخيراً في القاهرة، ثم قدم استقالته من التدريس. التحق
بعدها بفرقة الإذاعة الموسيقية عازفاً على آلة «الأبواه» عام 1950.
في الإذاعة، تبادل مع كمال الطويل الأدوار، إذ تحول الى مغن، وأصبح
الطويل ملحناً بارزاً. لكن نقطة التحول الرئيسة جاءت من لقاء مع
محام من كبار هواة الفن هو مجدي العمروسي الذي أصبح لاحقاً رفيقه
وشريكه التجاري. لعب العمروسي الدور الأكبر في تيسير مهمة العندليب
في الغناء في الإذاعة بعدما تبناه رئيسها حافظ عبد الوهاب الذي سمح
له باستخدام اسمه «حافظ» بدلاً من شبانة. اعتُمد عبد الحليم مطرباً
بعدما قدم قصيدة «لقاء» (كلمات صلاح عبد الصبور، وألحان كمال
الطويل) عام 1951، في حين ترى مصادر أخرى أن ّإجازته كانت عام 1952
بعدما قدم أغنية «يا حلو يا اسمر» (كلمات سمير محجوب، وألحان محمد
الموجي). لكن الأكيد أنّه غنى «صافيني مرة» (كلمات سمير محجوب،
وألحان محمد الموجي) في آب (أغسطس) عام 1952 ورفضتها الجماهير في
الوهلة الأولى، إذ لم يكن الناس على استعداد لتلقي هذا النوع من
الغناء الجديد. لكنه أعاد غناء «صافيني مرة» في حزيران (يونيو) عام
1953، يوم إعلان الجمهورية، وحققت نجاحاً كبيراً. مصادفة جعلت
نجاحه مقترناً بصعود «ثورة يوليو»، ثم تم اعتماده مطرباً لها. تبنت
الثورة صوته واختارت ملحنيها من بين مجايليه كمال الطويل والموجي.
كان الأول الاكثر التصاقاً بمشروعها السياسي وانحاز لها بوضوح حتى
تغلب ملحّنو الجيل السابق على التردد الذي صاحب عملية التغيير
السياسي العنيف. بعد فترة تأمل، سعى محمد عبد الوهاب بذكائه
المعتاد إلى استثمار النبرة المغايرة لصوت عبد الحليم التي تستمد
حلاوتها من الضعف لا من قوة الصوت.
حكايات حب غير مكتملة جعلته دوماً عاشقاً محتملاً لكل الجميلات
وكما كانت إطلالة جمال عبد الناصر وصحبه من الضباط الأحرار معياراً
لوسامة خلقتها الثورة، كانت صورة عبد الحليم ونبرته الهشة معياراً
لوسامة من نوع أخرى تنسجم مع الشفقة التي نعرفها في صورة فاتن
حمامة والأنوثة الطاغية في إطلالة سعاد حسني والتطلع الموجود في
أداء نادية لطفي. ثم بدا عبد الحليم منسجماً تماماً مع لحظته
التاريخية التي قامت على إبدال وتغيير في المواقع ليس فقط على
الصعيد السياسي، بل أيضاً على صعيد تكون الانحيازات الجمالية التي
تجلّت بوضوح في تعاونه الفذ مع محمد عبد الوهاب. توقف الأخير عن
الغناء وترك الساحة تماماً لمطرب جاء مثله من خلفية شعبية، لكنه
يعبر عن الثورة التي تردد عبد الوهاب في الالتحاق بها في البدايات،
كونه مطرباً للعهد البائد وتحول معه إلى «موسيقار الأجيال».
تعكس الأغنيات التي رسخت لشعبية حليم مثل «أهواك»، «نبتدي منين
الحكاية»، «فاتت جنبنا»، صيغة فريدة من صيغ الشراكة والاختلاف من
خلال السعي إلى بناء سرديات جديدة في الغناء المصري تخالف سردياته
الكبرى التي خلقتها أم كلثوم وفريد الأطرش وتقارب الى حد كبير ما
تقدمه الحياة اليومية من فرص للتواصل لم تكن متاحة لجيل أم كلثوم
وعبد الوهاب. فرصة شهدت تطوّر النصوص الكلاسيكية مع الشعراء حسين
السيد، ومرسي جميل عزيز، ومأمون الشناوي الذين قدموا نصوصاً غنائية
أقصر تقوم على صيغ التكثيف والمفارقة. جاءت نقطة التحول الأخيرة في
حياة حليم بتعاونه مع بليغ الملحن الأكثر شعبية من بين كل ملحني
جيله.
نجاح هذا التعاون جاء من مصدر لا يختلف عن مصادر الشرعية السياسية
التي تغذت عليها «ثورة يوليو» وهي الانحياز إلى الريف والطبقات
الفقيرة وتبني خطط الإصلاح الزراعي والتأميم. قام مشروع بليغ
بكامله على استلهام الغناء الشعبي. ساعدته في ذلك نصوص عبد الرحمن
الأبنودي، ومحمد حمزة، وعبد الرحيم منصور وظهرت أغنيات مثل «زي
الهوا»، «سواح»، «حاول تفتكرني»، «أي دمعة حزن لا»، «موعود» و«أنا
كل ما اقول التوبة»، «أعز الناس». وكما نجحت أم كلثوم في توطيد
صلاتها بالناصرية وتحولت إلى معبر قوي عن خطابها العروبي اعتباراً
من معركة 1956 ثم حفلات المجهود الحربي بعد نكسة الـ 1967، فإنّ
عبد الحليم اعتبر نفسه مهزوماً مثل النظام الذي عبر عن طموحات
مؤيديه. لذلك، عبّر بإخلاص عن رغبة في مراجعة التجربة ومقاومة
الهزيمة كما عبرت عن ذلك أغنيات «المسيح»، «عدى النهار» (كلمات عبد
الرحمن الأبنودي وألحان بليغ حمدي). وكما جعلت أم كلثوم أسطورتها
أداةً من أدوات القوة المصرية الناعمة، طغى حضور عبد الحليم على
حضور مجايليه في أرجاء العالم العربي ووطد صداقته بزعماء تاريخيين
من أمثال الحبيب بورقيبة، والحسن الثاني.
يعرف المتابع لسيرة حليم معنى الجملة التي صاغها صديقه الصحافي
الراحل محمود عوض الذي كتب له مسلسلاً إذاعياً شهيراً وكانت تقول:
«كان لعبد الحليم صوت ضعيف، لكن كان له مجلس إدارة قوي يدير
موهبته». عبارة تفسر شغف حليم بصداقة كبار الصحافيين بداية من
مصطفى أمين، وأحمد بهاء الدين، وإحسان عبد القدوس وحتى جيل مفيد
فوزي، ومنير عامر، ومحمود عوض. صداقات منحته مصادر ثقافية مختلفة
وجعلت حياته مادة صحافية غنية تغذت من مصادر بعضها يتعلق بظروفه
الصحية، وبعضها الآخر يخص حكايات حب غير مكتملة جعلته دوماً عاشقاً
محتملاً لكل الجميلات اللواتي اعتبرن غيابه خسارة شخصية وفقداً لا
يمكن تعويضه. لحظة التقطها بقوة الشريط السينمائي «زوجة رجل مهم»
(1987) لمحمد خان لأنّ ما عاشته بطلة الفيلم ميرفت أمين بقوة الربط
بين يومياتها وأغنيات العندليب كان جزءاً من ذاكرة شكلها عبد
الحليم ولا يزال. إذ يوقف عشّاقه مؤشر إذاعة «الأغاني» المصرية بين
السابعة والسابعة والنصف مساءً بحثاً عن «الزمن المفقود».
(زمن)
عبد الحليم... أكثر من فقد
حليم وناصر... حلم الوحدة العربية
محمد خير
القاهرة
| كانت
مجرد مصادفة، لأن أذواق الجمهور و»السمّيعة» لا تتغير بأوامر
الحكومات، لكن هذا ما حدث: في العام الذي استقبل فيه الزعيم الشاب
جمال عبد الناصر المطرب الشاب جداً عبد الحليم حافظ... في ذلك
الخريف من عام 1953، دوى نجاح أغنية حليم «صافيني مرّة» (ألحان
محمد الموجي وكلمات سمير محجوب)، رغم فشلها المدوّي حين غنّاها في
العام الأسبق. لم تكن الصدفة «الناصرية» في الاستقبال فحسب، بل
تمثلت أيضاً في أن الغناء «الناجح» لـ «صافيني مرّة» كان في «عيد
الجمهورية». الجمهورية التي تأسست للتوّ، لم تكن تبحث عن مطرب جديد
بعينه، لكنها بحثت عن أبناء كثر. كان عبد الحليم حافظ ربما أكثر
أبنائها إخلاصاً، وكان بالتأكيد أكثرهم نجاحاً. حين توفي بعد سبع
سنوات من وفاة الزعيم وربع قرن من «ثورة يوليو»، لم تضاهِ جنازة
الفنان سوى جنازة الزعيم. بالطبع، لم تكن بينهما في الحجم والمهابة
سوى جنازة «كوكب الشرق».
لكن أم كلثوم (التي اتهمت في بداية ثورة يوليو بأنها من رموز العهد
الملكي البائد)، وغيرها من كبار الفنانين المعاصرين لعبد الناصر،
مهما انحازوا إلى الثورة، فإنهم لم يكونوا في موضع البنوّة للزعيم
الأب، كما كان حليم لعبد الناصر، رغم فارق العمر غير الكبير الذي
لم يتخط عشر سنوات، ورغم التقارب المدهش في عمر الوفاة (52 سنة
لناصر و48 سنة للعندليب الأسمر)، يا لها من سنوات قليلة بالنظر إلى
التاريخ الهائل الذي صنعه الاسمان، كل في مجاله.
لم يخطر اسم عبد الناصر على لسان فنان ـ ثوري أو غير ثوري ـ كما
تغنى به لسان عبد الحليم، صراحة وتلميحاً مرات عدة. صراحة في
الكلمات الأصلية في أغنية «ناصر يا حرية، ناصر يا وطنية، يا روح
الأمة العربية يا ناصر» (كلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل)، أو
حين يلفظ اسم الزعيم بتحوير الكلمات، فتتحول «صوّرنا يا زمان» في
أغنية «صورة» (جاهين والطويل أيضاً) إلى «صوّرنا يا جمال» على لسان
الكورال المصاحب.
في أيامنا هذه، نهاية الربع الأول من 2015، تُستدعى مع تطورات
الأزمة اليمنية الجديدة، والدور المصري فيها، أغنية «بالأحضان»
(الثنائي ذاته جاهين والطويل) التي تغنى بها حليم بجنود مصر
العائدين من حرب اليمن في الستينيات.
بعد النكسة، قرر ألا يتغنى باسم زعيم أبداً
لكنه في تلك الأغنية أيضاً، يتغنى بالزعيم لكن من دون الاسم صراحة
هذه المرة: «وزعيمك خلاكي زعيمة في طريق الخير والعمران». لقد كان
ذلك تشخيصاً مباشراً، وغير متعلق بحدث معين كما فعل مثلاً الشاعر
أحمد شفيق كامل في أغنية «حكاية شعب»، حيث نسمع حليم يتغنى بتأميم
القناة «ضربة كانت من معلّم خلت الاستعمار يسلّم».
تمكن إذن ملاحظة تكرار الثنائي جاهين/ الطويل في تلك الأغنيات التي
تذكر ناصر اسماً، كما أيضاً في أغنيتهما «على راس بستان
الاشتراكية» حيث نستمع إلى «ومعانا جمال بنغني غنوة فرايحية». هل
كان إيماناً «ثلاثياً» بالزعيم أم رغبة حليم نفسه التي نفذها
الكاتب والملحن أم العكس؟ أياً كان، فقد قيل إن حليم قرر بعد نكسة
الـ 1967 ألا يتغنى باسم زعيم أبداً. هذا ما حدث فعلاً على أي حال،
وزاد اعتماد العندليب في وطنياته على كلمات عبد الرحمن الأبنودي
الذي صنع معه علامات فنية لا وطنية فحسب، على رأسها «عدى النهار»
و»المسيح». قصائد فائقة الفنيّة، وألحان ناضجة، وحزينة على غير
عادة ملحنها بليغ حمدي. علامات نضج وشجن لا تخطئها الأذن، وغياب
«ناصري» لا يخطئه المستمعون.
ثم غاب ناصر ذاته على كل حال بعد هذا التغيّر بزمن قليل، وغاب حليم
بعده سنوات قليلة، وغاب ما جمعهما دائماً، حلم قومي بوحدة عربية لم
تتحقق أبداً.
(زمن)
عبد الحليم... أكثر من فقد
معبود الحسناوات والسينما الرومانسية
علا الشافعي
القاهرة
| تماماً
كما حقق ذلك الفتى النحيل الأسمر ثورة في عالم الغناء، فعلها أيضاً
في عالم السينما، فكان من أهم المطربين الذين حققوا نجومية وشعبية
طاغية في هوليوود الشرق. ذلك المثابر الذي ــ رغم اليتم والفقر ــ
لم يكن يملك من أمره سوى الحلم. آمن فيه ووثق بكل خطوة يخطوها.
ولأنه كان يدرك أن عمره قصير جداً، اهتم بالسينما والإذاعة وقدم
عدداً من الأفلام ليخلد ليس بصوته فحسب، بل بصورته أيضاً. أسس شركة
إنتاج سينمائية مع المصور المبدع وحيد فريد وموسيقار الأجيال محمد
عبد الوهاب.
ولم يكتف حليم بإنتاج أفلام لنفسه فقط من خلال شركته، بل أنتج
أفلاماً لنجوم آخرين منهم سعاد حسني («حسن ونعيمة»، و«جناب
السفير»)، وهند رستم (الراهبة)، ووردة (حكايتي مع الزمان)... حتى
أن حليم كان المطرب الذي قدم أول فيلم سكوب وبالألوان في تاريخ
السينما المصرية وهو «دليلة» (1956).
حليم الذي شكّل ثورة غنائية وصار صوتاً لــ «ثورة يوليو» ولزعيمها
جمال عبد الناصر، دخل عالم السينما من بوابة الرومانسية. ورغم أنه
لم يكن صاحب موهبة تمثيلية قوية، إذ كان هناك مطربون آخرون يتفوقون
عليه في الأداء التمثيلي مثل محمد فوزي، إلا أنه حقق شعبية طاغية.
لقد كان يدرك تماماً، بذكائه المعهود، أنه يجب أن يكون محاطاً في
أفلامه بكوكبة من النجوم، سواء نجوم جيله أو «كوميديانات» ذلك
العصر، كزينات صدقي وعبد السلام النابلسي وعبدالمنعم ابراهيم ومحمد
رضا وفؤاد المهندس، أو الممثلين أصحاب الموهبة الثقيلة ومنهم محمود
المليجي وفردوس محمد وحسين رياض. حليم واحد من أهم نجوم الغناء في
تاريخ السينما المصرية والعربية. يكمن سر جاذبية سينما حليم في أنّ
الكثير من أفلامه كانت تحمل بعضاً مما عاناه في حياته ورحلته
الصعبة التي بدأت من الحلوات قريته في محافظة الشرقية وسط الدلتا
في مصر، إلى أن صار من أهم النجوم في تاريخ الفن العربي. في شهادته
عن سينما حليم، يؤكد المؤرخ والناقد الراحل فرج العنتري أن أفلام
«العندليب الأسمر» كانت تتطابق في كثير منها مع حياته وظروفه
ومعاناته. لقد جسد مثلاً تجربته الشخصية التي عاشها في الحب والفقر
والمرض في فيلم «حكاية حب» (1959) مع المخرج حلمي حليم. وبدا
صادقاً في أدائه حتى توحد مع أفلامه وصار معها شيئاً واحداً.
شادية تحتل المرتبة الأولى في قائمة الفنانات اللواتي مثّلن معه
ويضيف العنتري: «لا شك في أن سبب استمرار نجاح أفلامه هو السبب
نفسه في استمرار عبد الحليم كصوت وهو أنه كان يمثل «نغمة جديدة»
تختلف عما يقدمه المطربون في عصره، وقد قوبل ما يقدمه في البداية
بالهجوم والرفض، إلى أن تصدر المشهد الفني وأثبت جرأته وذكاءه وأنه
كان سابقاً لعصره على مستوى الكلمة واللحن والصورة التي يقدمها».
أما المخرج الراحل كمال الشيخ، فقال في شهادته عن سينما حليم: «أن
أفلامه عاشت في وجدان الناس كما عاشت أغانيه». كان حليم يدرك
بذكائه الفطري أهمية الصورة، فلم تكن الكاميرا تفارقه في رحلاته
سواء داخل مصر أو خارجها، حيث كان يصطحب معه مصوره الخاص الراحل
فاروق إبراهيم أو كاميراته الشخصية. وهو ما انعكس على اهتمام حليم
بصورته في السينما التي كان يقدمها مع البطلة التي تقف أمامه، فحتى
لو كان بسيطاً فقيراً، إلا انه عادة ما يكون متأنقاً لأنه لم ينس
لحظة نجوميته التي يؤرخ لها من خلال السينما، شاهده مثلاً في دور
منعم الشاب البسيط في فيلم «شارع الحب»، أو علي الطالب في كلية
الزراعة في «أيامنا الحلوة».
رغم أن حليم وقف أمام جميلات السينما المصرية في أفلامه، كإيمان
ومريم فخر الدين وماجدة وفاتن حمامة، إلا أن النجمة الكبيرة شادية
تحتل المرتبة الأولى في قائمة الفنانات اللواتي مثّلن مع العندليب.
استطاعت أن تجسد ببراعة شخصية مختلفة تماماً في كل من الأفلام
الثلاثة التي أدتها معه: «لحن الوفاء» (1955)، و«دليلة»
(1956)،
و«معبودة الجماهير» (1967)، كما استطاعت بخفة دمها أن تقدم تجربة
مميزة معه.
وفي عام 1955، شاركت فاتن حمامة للمرّة الأولى البطولة مع عبد
الحليم حافظ في فيلم «أيامنا الحلوة»، لكن وجود عمر الشريف
وكاريزماه، إضافة إلى أحمد رمزي أخذا كثيراً من رصيد حليم
التمثيلي، لذلك لم يتنازل عن مشاركته فاتن حمامة بطولة فيلم آخر
يقف أمامها بمفرده وهو «موعد غرام» (1956). في الشريط الذي حقق
نجاحاً كبيراً حينها، تعاطف الجمهور مع قصة نوال وسمير، تلك
الصحافية التي تقوم بحل المشاكل العاطفية ويقع في غرامها سمير
المطرب الشاب قبل أن تمرض وتصبح مقعدة وتحاول ابعاد سمير عنها بكل
الطرق.
كانت للفنانة والمطربة صباح تجربة واحدة مع عبد الحليم عام 1958،
في فيلم «شارع الحبّ» (إخراج عز الدين ذو الفقار ــ تأليف يوسف
السباعي). حقّق الشريط نجاحاً متوقعاً لأنه جمع نجمين في عمل
متكامل، مزج الكوميديا بالرومانسية، لتكون تلك خلطة سحرية أخرى في
تاريخ عبد الحليم حافظ السينمائي. وتألّقت مريم فخر الدين في فيلم
«حكاية حب» (تأليف وإخراج حلمي حليم) عام 1959، أمام الفتى الأسمر،
في دور «نادية» الذي شكّل أحد أهم أدوارها في مسيرتها. وقد غنّى
عبد الحليم في هذا الفيلم أغنيات لا يمكن أن تنسى منها: «بحلم بيك
أنا بحلم بيك»، و«بتلوموني ليه».
كما شاركت نادية لطفي مرتين مع عبد الحليم في «الخطايا» (1962)
و«أبي فوق الشجرة» (1969)، الذي كان آخر أفلامه. الدوران كانا
مختلفين تماماً، ففي الأوّل كانت حبيبته التي يريد والده تزويجها
من أخيه، وفي الثاني كانت المرأة اللعوب التي تحاول الإيقاع
بالعندليب وإبعاده عن حبيبته ميرفت أمين.
كانت ملامح زبيدة ثروت الهادئة وعيونها الجميلة سبباً في اختيارها
لتأدية دور «نادية» أمام عبد الحليم حافظ في فيلم «يوم من عمري»
(إخراج عاطف سالم عام 1961). لكنّ موهبتها فقط هي التي جعلتها
تتألق أمام العندليب، فغنّى لها «ضحك ولعب وجدّ وحبّ»، وحقّق معها
نجاحاً باهراً في هذا العمل.
أما «الوسادة الخالية» (1957) الذي يعتبر من أنجح وأشهر أفلام
السينما العربية، فقد أدت بطولته النجمة لبنى عبد العزيز في دور
«سميحة»، صاحبة العيون الناعسة التي جعلت الحب يدقّ لأوّل مرة في
قلب صلاح بطل العمل وصارت الجملة الشهيرة في الفيلم: «اقفل انت
اقفلي انتي الأول» من أشهر الجمل المتداولة بين الأحبة، كما غنى
لها أغنيته الشهيرة «أوّل مرة تحبّ يا قلبي». العمل الذي حقّق
نجاحاً كبيراً، أخرجه صلاح أبوسيف عن قصة لإحسان عبد القدوس.
بالفعل تحقق لحليم ما كان يريد وصارت أفلامه من الكلاسيكيات
الرومانسية وحفظت أيضاً جزءاً كبيراً من تراثه ومشواره.
(زمن)
عبد الحليم... أكثر من فقد
رحلة طويلة مع شعراء العامية
محب جميل
القاهرة
| جمعت
عبد الحليم حافظ علاقة قوية بمجموعة من شعراء العامية في مصر،
أوجدوا معه واقعاً مغايراً للأغنية المصرية. كان على رأسهم عبد
الرحمن الأبنودي (الخال) الذي انتقل مع بليغ حمدي من محمد رشدي إلى
حليم. يروي الأبنودي في كتابه «الخال» (منشورات «دار المصري»،
2013) أنه لمح في غرفة نوم حليم ديوانه «الأرض والعيال»، وقد طلب
منه الأبنودي بدايةً أن تكون قصيدة عن العدوان الثلاثي أولى
الأغنيات التي يغنيها حليم من أشعاره. رأى حليم أن اختيار أغنية عن
العدوان الثلاثي ليس موفقاً، خصوصاً أنّها مناسبة متأخرة.
مع عبد العظيم محمد الملحن، خرجت أول أغنية بعنوان «الفنار». لكن
الحكاية الأطرف أن أغنية «أنا كل ما أقول التوبة» كانت ارتجالية
المقاطع، فلم يكن الأبنودي قد انتهى منها بعد وكتب باقي مقاطعها في
الاستوديو أثناء التسجيل، وكان لحن بليغ حمدي هو الأنسب.
بعد النكسة، طلب حليم من الأبنودي أغنية عن تلك الفترة، فأعطاه
ورقة لقصيدة كتبها قبل النكسة تقول مفرداتها: «عدى النهار/
والمغربية جاية/ تتخفى ورا ضهر الشجر/ وعشان نتوه في السكة/ تاهت
من ليالينا القمر/ وبلدنا على الترعة/ بتغسل شعرها/ جانا نهار/ ما
قدرش يدفع مهرها...». كانت «عدى النهار» من المحطات الفارقة في
حياة عبد الحليم وكان عبد الناصر يتفقد الأغنية على إذاعة «صوت
العرب». التعاون الأخير بينهما كان أغنية «صباح الخير يا سينا» بعد
نصر أكتوبر.
عندما توفي حليم، رثاه الأبنودي بقصيدة قال فيها: «فينك يا عبد
الحليم/ كتبت سطرين/ بس كنت حزين/ أدي ورقتي لمين/ فينك/ نغني تاني
موال النهار/ يا صاحب الرحلة ف طريق الشوك/ أنت مامتش/ هما شبعوا
موت».
جمعت صداقة قوية أيضاً بين حليم والشاعر صلاح جاهين الذي اتسمت
كلماته بسلاسة واضحة، بالإضافة إلى قدرتها على اقتناص الموقف من
دون تكلّف أو مواربة. أول اللقاءات بينهما كانت في رائعة «إحنا
الشعب» التي غناها حليم (24 يوليو 1956) في مناسبة اختيار الشعب
المصري عبد الناصر رئيساً للجمهورية، وقد لحنها كمال الطويل، ويقول
مطلعها: «إحنا الشعب/إحنا الشعب/ إختارناك من قلب الشعب/ يا فاتح
باب الحرية/ يا ريس يا كبير القلب...». ثم جاءت المحطة الثانية بين
جاهين وحليم في أغنية «بالأحضان» التي لحنّها كمال الطويل احتفالاً
بالعيد التاسع للثورة (23 يوليو 1961) التي يقول مطلعها: «بالأحضان
يا بلادنا يا حلوة بالأحضان/ في ميعادك يتلموا ولادك/ يا بلادنا
وتعود أعيادك والغايب ما يطقش بعادك/ يرجع ياخدك بالأحضان/
بالأحضان يا حبيبي يا أمي/ يا بلادي يا غنوة في دمي».
نشر إعلاناً في «الأهرام»
مفاده: «ارجع يا صلاح جاهين، أهلك بيدوروا عليك»
أما اللقاء الثالث بينهما، فكان في «المسؤولية» التي لحنّها أيضاً
الطويل في عيد الثورة الـ 11 عام 1963 التي تدور في صميمها عن
الاتحاد الاشتراكي الذي فرض حاله على واقع الحياة المصرية. لكن
بصمة جاهين الواضحة ظهرت في التعاون الأخير مع حليم في أغنية «يا
أهلاً بالمعارك» التي غناها حليم في عيد الثورة الـ 13 عام 1965
وقد خيّم عليها النفس الثوري والتشجيعي نحو الحرب وشحذ الهمم،
ويمكن ملاحظة ذلك من خلال المقطع: «يا أهلاً بالمعارك/ يا بخت مين
يشارك/ بنارها نستبارك ونطلع منصورين/ ملايين الشعب تدق الكعب/
تقول كلنا جاهزين/ يا أهلا بالمعارك...». التعاون الخامس بينهما
كان في أغنية «صورة» التي جمعت الشعب تحت راية واحدة من خلال صوت
حليم الذي يلمع بين كورس من النساء والرجال ويقول: «صورة/ كلنا كده
عايزين صورة/ صورة تحت الراية المنصورة/ صورة للشعب الفرحان تحت
الراية المنصورة/ يا زمان صورنا/ ح نقرب من بعض كمان/ واللي هيبعد
من الميدان/ عمره ما هيبان في الصورة...». واختتم جاهين أغنياته مع
حليم بـ «ناصر يا حرية» التي حملت المشاعر الناصرية في تلك الفترة:
«ناصر يا حرية/ ناصر يا وطنية/ ناصر يا روح الأمة العربية».
تلك الصداقة التي استمرت لفترة طويلة أخرجت ثنائياً فنياً إلى
الحياة المصرية، جعلت بهيجة أخت جاهين إلى الذهاب مرةً إلى منزل
حليم، والطلب منه أن يعيد أخاها جاهين بعد اختفائه. في اليوم
التالي، نشر حليم إعلاناً في «الأهرام» مفاده: «إرجع يا صلاح. أهلك
بيدوروا عليك». فقد اختفى جاهين لفترة في الإسكندرية بعد وفاة
والده الذي لم يتحمل رؤيته مريضاً.
تعاون حليم أيضاً مع الشاعر فتحي قورة الذي كتب له «يا سيدي أمرك»،
و«وحياة قلبي وأفراحه»، و«بكره وبعده». الأخيرة تحديداً ظهرت في
ألبوم فريق «بينك مارتيني» العالمي
(Hey Eugene-2007).
ومن بين الشعراء الذين كانت لهم بصمة واضحة في حياة العندليب مرسي
جميل عزيز في أغنيات شهيرة مثل «بحلم بيك» التي لحنها منير مراد في
فيلم «حكاية حب»، بالإضافة إلى «بتلوموني ليه»، و«جواب»، و«بأمر
الحب». وبالتأكيد لا ننسى رائعته «من غير ليه».
الشاعر الأخير الذي كانت له نكهته الخاصة هو محسن الخياط صاحب
رائعة «النجمة مالت ع القمر» التي تعدّ من أبرز أغنيات حليم التي
يقول فيها: «النجمة مالت ع القمر/ فوق في العلالي/ قالت له شايفه
يا قمر أفراح قبالي/ قال القمر بينا نسهر على المينا/ ده النور على
شط القنال سهران يلالي/ شاف القمر ع الضفتين زفة زينة».
تلك المسيرة الطويلة التي جمعت حليم مع شعراء العامية في مصر أسهمت
في تكوين واقع مغاير في الحياة المصرية بدأت معالمها تتبدل يوماً
بعد يوم خصوصاً مع تقنيات الأغنية الجديدة التي تفتقر ربما إلى
الروح والشجن.
(زمن)
عبد الحليم... أكثر من فقد
كولاج عاطفي غير مكتمل مع «السندريلا»
محب جميل
في فيلم «البنات والصيف» (1960) عن قصة الكاتب الكبير إحسان عبد
القدوس، رُشحت «السندريلا» سعاد حسني لتلعب دور أخت عبد الحليم
حافظ في الفيلم. خفق قلب حليم لتلك الفتاة بملامحها التي تمزج بين
الأنوثة الطاغية والرقة. كافح كي تلعب سعاد دور الحبيبة بدلاً من
الأخت. في بداية الستينيات، نمت العلاقة بين حليم وسعاد، وشهدت
الدولة وقتها العديد من التغيرات السياسية والاقتصادية
والاجتماعية. في تلك المرحلة، كان حليم يلعب دور الأب الروحي
والراعي والناصح لسعاد، وكانت هي تأخذ بنصائحه في حياتها الفنية
والشخصية.
في عام 1961، نظمت إذاعة «الشرق الأوسط» مجموعة من الحفلات تذهب
أرباحها لضحايا مدينة أغادير المغربية (29 فبراير 1960). ضمت
البعثة كلاً من عبد الحليم حافظ، ومحمد عبد المطلب، ومحمود شكوكو،
ومحمد قنديل، وهدى سلطان، وشريفة فاضل، وسعاد حسني.
خلال تلك الرحلة، تطورت علاقة الحب بين حليم وسعاد بشكل لاحظه
الجميع. في كتابه «حليم وأنا» (دار الشروق 2010) يروي الطبيب
المعالج له هشام عيسى أنّ حليم وسعاد كانا قد أعجبا بسرير من نحاس،
فقام حليم بدفع ثمنه وشحنه إلى القاهرة. لكن الإعلامي وجدي الحكيم
في نهاية البعثة تفاجأ بمكالمة من حليم يخبره فيها بأن يلغي عملية
شراء السرير لأن سعاد غيرت رأيها فجأة.
ربما رأت سعاد أن زواجها من حليم وإقامتها في منزله في الزمالك،
سيحولها إلى ربة منزل تعمل على الاعتناء بحليم ورعاية شؤونه الصحية
حتى يواصل مشوار نجوميته.
لم ترَ سعاد أن المؤسسة الزوجية هي نهاية المطاف بالنسبة إليها،
فقد أخذت منها حياة النجومية والشهرة الكثير. ربما أدركت أيضاً أن
حليم لم يكن من نمط الأشخاص الذين يفضلون الاستقرار، فهو يحلق من
زهرةٍ إلى أخرى. نجومية حليم لعبت دوراً كبيراً في تلك العلاقة.
بهذا الكم من الزخم والشهرة، يصبح صعباً على كل منهما أن يجتمعا
تحت سقفٍ واحد.
كانت سعاد ترى في حليم حماساً أكثر من اللازم يوقعه في الخطأ
أحياناً. وفي أحد حواراتها التلفزيونية مع الإعلامي مفيد فوزي،
قالت عنه: «إنّه وفي جداً وطيب ومخلص، وملتزم بصداقاته وجميع
علاقاته، وكان بيتهيأ لي بيضحي كتير، كان بيضحي بنفسه كإنسان في
مقابل صورته كفنان، بيدور إزاي يكون سعيد».
(زمن)
عبد الحليم... أكثر من فقد
صوت هش يخترق القلب سريعاً
نهلة مطر *
للجماهير صورة تهيم بها شغفاً لمعبودها! يقع الفنان أسيراً لها وقد
تُصبح دوراً يؤديه إلى جانب فنه. وهكذا عندما تغنى «العندليب
الأسمر» بكلمات «في يوم في شهر في سنة»، لم يكن البطل شخصيته في
الفيلم، بل كان عبد الحليم نفسه. مِن ألمه، صنع حبلاً ربطه بجماهير
غفيره هامت وراء أخباره لتصبح لكل أغنية دلالة ترتبط بحياته
ومساحته الخاصة.
وعلى الجانب الآخر، يتطرف آخرون ليصفوا صوته بالضعيف غير القادر
على التطريب وأنه فقط صوت لمَّاح. تعددت النظريات وتنوعت الآراء
الشائعة التي تفرق بين المُطرب والمغني والمؤدي وما إلى ذلك من جدل
لن يفيد في تفهم ذلك الرباط الوثيق بين العندليب وعشاقه في كل
مكان. ما يهم المستمع بالأغنية هو ذلك الإحساس بالهشاشة، والتمكن
من توصيل إنسانية التعبير من خلال وجه يتسم في أغلب الأوقات
بتعبيرات الألم، ويلمع أحياناً بالذكاء وتندفع الحيوية من عينيه.
الهشاشة في رأي كثير من نقاد علوم الأداء الفني هي أكبر رابط بين
الجمهور والفنان، ومتى تعالى الفنان على هذا الإحساس، يفقد توصليته
الدافئة مع مستمعيه. الهشاشة الموسيقية عند عبد الحليم حافظ، ابن
الشرقية، والدارس للموسيقى مثل أقرانه الذكور آنذاك في معهد
الموسيقى المسرحية بعد تحولهم عن الدراسة التقليدية في معهد
الموسيقى العربية، عازف الآلة الخنفاء التي تحتاج إلى سيطرة ونفس
كبير جداً: آلة الأوبوا، الهشاشة هي إخفاء المهارة أو ما سأسميه من
الآن التمكن الخفي. مع أول أغنية له للجماهير العريضة، جماهير
السينما التي لحنها له صديق الدراسة ثم زميل المشوار الفني الملحن
الكبير كمال الطويل: «على قدّ الشوق»، نلحظ اللحن الرقيق والدقيق
جداً. يمتلئ ذلك الخط اللحني بتعرجات كثيرة يُطلق عليها الموسيقيون
مصطلح العُرب. أداء العندليب جاء كآلة كمنجة في تمكنه في تلك
السحبات والتموجات التي لا يمكن أن يؤديها صوت جهوري، بل صوت خفيف
متمكن جداً لتأتي متماسكة متناغمة حيث يلحظها القلب وتُنعشه. ولا
يكتفي بإتقان هذه التموجات الخفية، بل يُظهر بعضها مع تزايد انفعال
الكلمات في «دمعي شهودي جرح خدودي في ليل سهادي». وعندما تنظر إلى
وجه عبد الحليم أثناء هذا اللحن الدقيق، لا تلحظ عليه أي شيء غير
صورة الألم التي ارتسمت عليه وارتبطت بمعاناته. وما أغنية «كامل
الأوصاف» إلا مثالاً آخر على التطريب الذي يُحدثُه العندليب في قلب
سامعه. وهي من الأغنيات الشهيرة من تلحين العبقري محمد الموجي الذي
تميزت ألحانه بعبقرية السرد الدرامي أو ما نُطلق عليه «الحكيّ».
مرت 38 عاماً على رحيل العندليب، فهل رحل الحب عنا أيضاً، وهل نجد
صوتاً آخر يجوز أن تُعبّر عنه الحكمة الإنكليزية: «الماء المستقر
متحرك في الأعماق». لقد فارقتنا «أحضان الحبايب» و»مشينا على
الأشواك». يسترق قلبنا الإنصات إلى نغمات عبقرية للموجي وكلمات
معبرة من الخال وأداء خالد الذكر: العندليب عبد الحليم حافظ. رميت
نفسك في حضن.... سقاك الحضن حزن...
*
مؤلفة مصرية ومديرة سابقة لـ «متحف أم كلثوم» |