العربي في مخيلة السينما الفرنسية:
من العدوّ الى الحليف!
شريف الرملي
من أقدم قواعد الدراما التي عرفتها البشرية وجسدها الإغريق على
مسارح أثينا، خلق الصراع بين الشخصيات المختلفة. لخلق صراع ما،
كثيراً ما يحتاج السرد الدرامي إلى شخصية "الشرير" الذي سيضطلع
بدوره في تأجيج الصراع بين الخير والشر. من هنا تبدأ التحولات في
الشخصيات حيث يصير الرجل أحياناً شريراً نتيجة الظروف الدرامية.
انها الطريقة التقليدية والقديمة جداً التي نراها كثيراً في
السينما العربية والهندية وغيرهما.
الصراع الدرامي يحتاج أيضاً إلى العنصر الطيب (البطل). تتبارى
الشخصيتان عبر النص الكتابي أو المسرحي والسينمائي طوال الحوادث
حتى تنتصر احداهما على الأخرى. الفكر البشري بطبيعته الروحانية
أراد للشخصية الطيبة أن تنتصر في معظم الروايات كرغبة في المحافظة
على الضمير الإنساني الذي يشجع دوماً على فعل الخير تحقيقاً
للعدالة الاجتماعية. لذا، فإن شخصية الشرير هي أحد أهم العناصر في
البناء الدرامي وتساعد في تطوير الحوادث ولولاها لماتت الدراما
منذ زمن.
الجريمة البشعة التي شهدتها مجلة "شارلي ايبدو" الساخرة في مطلع
العام الحالي، تدفعني رغماً عني الى العودة الى صورة الآخر،
تحديداً العربي المسلم في السينما الفرنسية، كمحاولة لفهم تلك
الصورة وتطورها في المخيلة الجماعية للشعب الفرنسي، ومن ثم التنبؤ
بتطورها أو تدهورها على اثر العملية الارهابية.
السينما الكولونيالية
حرب الجزائر التي استمرت من 1954 إلى 1962 كان لها بعض الانعكاسات
السلبية على النص الدرامي السينمائي. أضف إلى ذلك فكرة سحر الشرق
العالقة في مخيلة الغرب التي تصر على تصوير العربي رجلاً أمياً
ساذجاً لئيماً أحياناً يسكن الواحات ويمتلك الكثير من الكنوز التي
لا يعرف قيمتها، إلى أن يأتي الأوروبيون ليساعدوه على استكشاف
الثروات واستغلالها. تلك هي الصورة العامة التي نستخلصها مما يُعرف
بالسينما الكولونيالية. كانت وزارات الإعلام حينها تضطلع
بالبروباغندا التي تخدم مصالح الأمبراطورية وتروّج لسياسات الحكومة
عبر أفلام درامية ووثائقية. البعض يدلل على ضرورة الوجود الأوروبي
في افريقيا والبعض الآخر يروج لأهمية التعاون بين أصحاب الأرض وبين
فرنسا، مع التركيز على القوة العسكرية للمستعمر وولاء الجنود من
الأفارقة والعرب له. هذا بالإضافة الى الأفلام السياحية التي تروج
للصور النمطية عن العرب (الأنف السامي، الوجه المتعرق وغير النظيف،
نظرة اللؤم في العينين...). في أفريقيا، ركزت الأفلام الكولونيالية
على الأنف الأفطس والعيون شبه المستديرة والشفاه الغليظة حيث
تظهرهم بشكل مختلف تماماً عن أشكال البيض.
لم تكن فرنسا الوحيدة التي تنظر الى مستعمراتها باستعلاء. في
الأمبراطورية البريطانية أيضاً، كانت للسينما مساهمة قيمة في تشكيل
صورة معيّنة عن مستعمراتها الهندية، بل ساعدتها السينما
الهوليوودية في تقوية هذه المخيلة وتأصيلها. سينمائياً، الهند مكان
استوائي جميل، فيه الأفيال والنمور والقردة، تكسوه المرتفعات
الخضراء، بيد أن أصحاب الأرض هم بالطبع، أقل معرفة من المستعمر
الأبيض!
"الموجة
الجديدة"
في فيلم "موجة جديدة: عندما باتت السينما تتلون" الذي اخرجه الباحث
في جامعة باريس، ديدرو ادوار ميلس عفيف، نجد أن الخطاب الرسمي
للدولة الفرنسية كان له تأثيره المباشر في التكوين السينمائي
للشخصية العربية، وهذا ما أكدته مجموعة من الممثلين والمخرجين من
ذوي الأصول العربية. منهم المخرجون علي غانم، مهدي شريف، نسيم عموش،
مالك شيبان، كريم دريدي ومحمود زموري. ومن الممثلين، استضاف عفيف
أيضاً صابرينا وزاني، سعاد حميدو، زين الدين سوالم وغيرهم، لكي
يرووا أمام الكاميرا تجربتهم في السينما الفرنسية.
من خلال هذه المجموعة من السينمائيين ذوي الأصول العربية، يحملنا
الفيلم في جولة تاريخية يستعرض من خلالها اولى خطوات العرب في
السينما الفرنسية التي بدأت بفيلم "مكتوب؟" لعلي غانم (1970). هذا
أول فيلم يخرجه عربيّ في فرنسا، مستنداً الى مجتمع العمالة
المهاجرة، وهو أول الأفلام التي لفتت النظر الى هذه الفئة من الناس
وعرضت إشكاليات الاندماج والفقر والغربة بإمكانات ضئيلة وتوزيع
محدود للغاية. يستعرض الفيلم تبلور الصورة النمطية عن العرب
وتاريخ وجودهم السينمائي ونموّهم الفني، وصولاً الى مهرجان كانّ
حيث بات العربي يحصد أرفع الجوائز.
كانت قد مرت ستة أعوام على انتهاء حرب الجزائر ونال الشعب الجزائري
استقلاله عن فرنسا حين شهدت دور العرض الفرنسية فيلم "أنجليك
والسلطان" بعد سلسلة من الأفلام الكوميدية التي حملت اسم الشخصية
الرئيسية، الشقراء الجميلة أنجليك. هذا الفيلم الأخير كان تجارياً.
شتان بين الإمكانات البسيطة التي سيلجأ السينمائيون العرب إليها
لاحقاً للتعبير عن حالهم والامكانات الهائلة التي يتمتع بها
"أنجليك والسلطان". عاب النقاد الفرنسيون على فيلم "مكتوب؟"
افتقاره إلى الأموال الكافية بل وافتقاره الى الحسّ السينمائي، اذ
وصفوه بأنه ريبورتاج طويل أو فيلم وثائقي أكثر منه فيلماً درامياً.
أما "أنجليك والسلطان"، علاوة على انه فيلم تجاري خالص، فهو لا
يعدو كونه مداعبة للبعد الاستعماري في السلطة الفرنسية حيث صورة
العربي نمطية بامتياز. العربي هنا هو هذا السلطان المغرم بالحسناء
الفرنسية، وسيبذل كل جهده ليفوز بها زوجة (أو ربما جارية) له.
في العام نفسه، انقلب المجتمع الفرنسي رأساً على عقب من خلال حوادث
أيار 68، وعرفت السينما اليسارية طريقها إلى صالات العرض. من هنا
بدأت الصورة النمطية عن العرب في الزوال تدريجياً. في العام 1970،
شهدت صالات العرض الفرنسية "إليز أو الحياة الحقيقية"، أحد أهم
الأفلام التي نددت بـ"العنصرية" الفرنسية والقمع البوليسي وصعوبة
الحب بين شابة فرنسية وعامل جزائري. هذه سينما مؤلف رفضت النوع
الكوميدي الرائج حينها وهدفت في الأساس الى إيصال رسالة مليئة
بالنقد للمجتمع الفرنسي أثناء حرب الجزائر، ومن ثم التنديد
بالممارسات القمعية من السلطة تجاه المهاجرين العرب.
سينما المهاجر الخارج على القانون
في دراسة عن صورة العربي في السينما الفرنسية من السبعينات إلى
نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، قدم جوليان جارتنر تحليلاً
دقيقاً لصورة العربي والكليشيهات التي التصقت بها وتطورها عبر
الحقب الزمنية والسياقات السياسية المختلفة.
يقول جارتنر عن حقبة الثمانينات: "رغم وصول اليسار الى السلطة في
فرنسا، قلبت الأفلام البوليسية حال السينما الفرنسية رأساً على
عقب، نتيجة النجاح التجاري الهائل الذي حققه "المخبر" لبوب سوام.
يغوص الفيلم بالمشاهد في قلب احدى الوحدات البوليسية المنهكة من
كثرة العمل في بلفيل، احد الأحياء الشعبية الباريسية الذي يسكنه -
في الإطار السينمائي - تجار المخدرات وبائعات الهوى من الأصول
المغاربية. في خلال أربعة أعوام، انتجت السينما الفرنسية أكثر من
خمسين فيلماً بسيناريو مشابه لفيلم "المخبر"، حيث رجال القانون في
مواجهة مجموعات من الخارجين عليه من ذوي الأصول المغاربية الذين
تلاحقهم الشرطة في قلب باريس".
المواطنة وتطبيع العربي المهاجر
بعد أكثر من خمسة عشر عاماً من الاضطرابات في ضواحي باريس التي
باتت تعج بالمساكن الفقيرة حيث تتركز فيها طبقة من المهاجرين
والفرنسيين الفقراء، جاء ماتيو كاسوفيتس بأحد أهم الأفلام عن هذه
الطبقة وصراعها مع الحياة ومشاكسات الشرطة الفرنسية. انه فيلم
"الكراهية" (1995) الذي يروي قصة ثلاثة من الأصدقاء الشباب أولهم
يهودي أبيض عنيف الطباع، ثانيهم عربي مسلم، وثالثهم افريقي أسود
البشرة. ثلاثتهم مهمشون تربط بينهم صداقة حميمة وكراهية شديدة
لرجال الشرطة الذين تسبب أحدهم في إصابة مواطن شاب من أصل عربي.
أثار هذا الحادث اضطرابات شعبية فقد فيها الشرطي سلاحه قبل أن يعثر
عليه الشاب اليهودي متوعداً بأن ينتقم للعربي المصاب.
الحدث الذي يهمّنا في هذا الفيلم هو التحول الأهم في بناء الشخصية
العربية. فخلافاً لما سبقه من أفلام، العربي هنا ليس مواطناً
أجنبياً خالصاً ولا هو بفرنسي. انه مزيج من الاثنين: عربي ولكن
فرنسي النشأة. تالياً، ليس بهذا الأجنبي الخارج على القانون كما
كانت الحال سابقاً. هو خارج عن القانون رغماً عنه لأن المجتمع
يتعامل معه بحذر، والدولة لا تهتم به البتة بل تتركه ضحية للعنف
والإهمال رغم تمتعه بالجنسية الفرنسية. من هنا تحديداً تبدأ
السينما في التعامل مع العربي الموجود على أراضيها ولن تحتاج إلا
في ما ندر إلى البحث عن عربي تجتاز من أجله البحر المتوسط كي تصوره
في بيئة مغايرة بملابس فولكلورية وبلكنة مثيرة للسخرية، وتجد
البديل تلقائياً في الفرنسيين المغاربة.
العربي الجديد ورفض النمطية
يعود الفضل في عملية الإسراع في محو النمطية عن العرب في السينما
الفرنسية إلى سلسلة أفلام "تاكسي" الشهيرة التي أنتجها لوك بوسون
وظهر جزئها الأول في العام 1998. دانيال (سامي ناصري) ترك وظيفته
كعامل توصيل لطلبات البيتزا الى المنازل كي يعمل سائق تاكسي ويمارس
هوايته في القيادة كأنه أحد سائقي الـ"فورمولا وان". خلال استعراضه
مهاراته في القيادة في شوارع مرسيليا أمام الشرطي إيميليان، يقوده
الأخير إلى قسم الشرطة ويبتزه كي يتعاون معه وإلا سيكون عليه دفع
غرامات كبيره بسبب قيادته السريعة. من هنا يتعاونان حتى يلقي
إيميليان القبض على احدى العصابات التي كانت تخصصت في سرقة المصارف.
يرمز دانيال الى اصوله المغاربية بارتدائه قميص زين الدين زيدان
ويرمز الى نادي مرسيليا أيضاً بارتدائه قميص النادي. دانيال، هذا
العربي "شكلاً"، الخارج على القانون، يتعاون مع الشرطة من أجل
مصلحة الوطن ويشارك في إيقاف الأشرار.
نجح الفيلم في استقطاب الجمهور الفرنسي الى الصالات، ما ساعد في
رسم صورة جديدة للعرب الفرنسيين. لكن ما قد نعيبه على هذه الشخصية
أنها رغم رفضها النمطية جاءت كأنها رفض للعربي التقليدي الذي هو،
غالباً مسلم، وغالباً ملتزم ومحافظ. نجد الشخصية نفسها لاحقاً في
"اهرب سريعاً" (2007)، لكنها تأتي عربية صريحة حيث يؤدي رشدي زمّ
شخصية ماريك، شرطي فرنسي من أصل عربي يتسلل الى قلب إحدى العصابات
بهوية عربية زائفة، مخاطراً بحياته من أجل فرنسا حتى يتمكن أخيراً
من ضبط أفراد العصابة. هنا أيضاً تحولٌ آخر، فالعربي ليس فقط يلتزم
القانون الفرنسي ويندمج مع المجتمع بل يطبق القانون لحماية الدولة
التي ينتمي اليها. بين الفيلمين يسطع نجم من باتوا أعلاماً في
السينما الفرنسية، كعبد اللطيف كشيش ورشيد بو بشارب وغيرهما،
وهؤلاء سيحصدون أرفع الجوائز عن أفلامهم التي تتناول إشكاليات
الهوية والاندماج والمعاناة والحب والحرب.
الانسلاخ من الهوية
بعد معارك طويلة ناضل من خلالها العرب كي يندمجوا في المجتمع
الفرنسي وبعد أن آمن الكلّ بأن المهاجر ليس مرادفاً للمنعزل عن
المجتمع، كان لا بد أن تأتي نظرة نقدية لا على العرب ولا على
الإسلام ولكن على بعض التصرفات الحمقاء مثل رفض الاندماج والجهاد
ومن ثم إعلان الحرب على الدولة الفرنسية ومجتمعها وهذا ما رأيناه
في جريمة "شارلي ايبدو". عن مثل هذه التصرفات أيضاً خصصت السينما
الفرنسية مساحة وإن كانت محدودة جداً.
المحاولة الأخيرة لرصد التحولات في الإندماج العربي جاءت في
"الانسلاخ" (2011) لفيليب فوكون الذي تدور حوادثه في الشمال
الفرنسي وتحديداً في إحدى ضواحي مدينة ليل. ثلاثة من الفرنسيين
المغاربة (علي وناصر وحمزة) يعانون من البطالة والتمييز. في ظلّ
هذا الحاضر الشاق والمستقبل القاتم، يتعرفون إلى جمال، جهادي يقدمه
الفيلم في صورة أبعد ما تكون عن الصورة الرائجة للإرهابيين. شاب
ثلاثيني يرتدي البنطلون والـ"تي شرت" ويتحدث الفرنسية بلا أدنى
لكنة. لكن يسيطر جمال على فكر هؤلاء الشباب ويستغل بحثهم عن هويتهم
والبطالة، فيجندهم لكي يقوموا بعملية انتحارية في مقر حلف الأطلسي
في بلجيكا.
لا يقصد الفيلم الدعاية ضد الإسلام كما قد يظن البعض، بل يدين
المجتمع الذي يترك الشباب ضحية أوهام كالجهاد. أما عن صورة العربي
في الفيلم فنحن في صدد تجسيد للعربي التائه الذي يلفظه المجتمع
بعنصرية غير مسؤولة فيلجأ الى أكثر الأساليب قسوة ويبدأ تدريجياً
في الإنسلاخ من المجتمع الذي لم يعرف سواه بل ويناصبه العداء. هناك
أيضاً صورة إيجابية وشاعرية لإمرأة عربية هي أمّ أحد هؤلاء الشبان،
نراها تؤمن بإسلام وسطي وتحاول جاهدة صرف تلك الأفكار الحقودة عن
فكر ابنها من دون أن يثنيها هذا عن عملها الشاق في تنظيف غرف
الفنادق.
في النهاية، نجد أن صورة العربي في السينما الفرنسية شهدت تطوراً
كبيراً وطبيعياً على مدى أكثر من أربعين عاماً تحولت فيها من
الصورة المستشرقة التي تصوّر المنطقة العربية باعتبارها أماكن
استوائية متخلفة مثيرة للسخرية، قبل أن تبلغ حقيقة ان العربي كائن
يخطئ ويصيب ويتأثر بالمجتمع المحيط به، فإن توافرت له الظروف
والمناخ المناسب تحول عنصراً ناجحاً من عناصر المجتمع، وإن لم
يتوفر ذلك اصبح مثله مثل الفرنسي التائه.
"من
أجلكم" رسالة هادفة في زمن القيم المهددة
المصدر: "دليل النهار"
- جوزفين حبشي
قبل 2015 عاماً، عُلّق السيد المسيح على الصليب من اجلنا جميعاً،
ليفدينا ويخلصنا من خطايانا. ترى هل تتخيلون الحقيقة الصادمة التي
تواجه يسوع المسيح، لو اراد اليوم مثلاً، وبعد 2015 سنة على فدائه
للبشرية، أن ينزل عن خشبته المقدسة ليرى ما حلّ بشعبه الذي افتداه
بروحه؟ الممثل شادي حداد الذي لم يتخيّل يوماً أنه قد يتجرأ ويتخطى
رعبه من تجسيد شخصية الرمز الاقدس لمسيحيي العالم كله، تخيّل قبل
خمسة اعوام هذه الفكرة المبتكرة التي تحمل نظرة مختلفة الى الآلام.
الفكرة تحوّلت مع المخرج الأب الكرملي شارل صوايا شريطا حمل عنوان
"من اجلكم"، بعدما نجح حداد قبل عامين تقريباً في تأمين التمويل
الذي تولى قسمه الاكبر رشيد رزق احد الشركاء في شركة Juntbox Films Los Angeles.
عودة الاب صوايا الى الاخراج بعد دخوله الدير ليست مناطة فقط
بروحانية هذا العمل الديني، فهو اكد انه مستعد لاخراج اي عمل آخر
تتوافر فيه القيم الانسانية والرسالة الوجدانية مثل "من اجلكم".
و"من اجلنا" جميعاً صُلب السيد المسيح، و"من أجله" وحده يقدم كلّ
من الممثل شادي حداد والمخرج والمعدّ الأب شارل صوايا برؤية حديثة
شريطا دينياً قصيراً (مدته 13 دقيقة)، لكن مشواره سيكون طويلاً
جداً على طريق النجاح، مع كل مقوّماته الفنية العالية. نبدأ باللغة
المشهدية السينمائية المتقنة والراقية التي ادارها باحتراف كبير
مدير التصوير ميلاد طوق في مناطق الأرز وضهر القضيب ودير سيدة
المعونات في جبيل، والتي طعّمت ببعض اللقطات الارشيفية من محطة
LBC.
اما الاداءات فتثير القشعريرة في الابدان، وخصوصاً أداء شادي حداد
الذي لا نستطيع سوى ان نقول "السلام" على الشخصية التي يجسدها وعلى
نظراته المعجونة بالألم وتعبيراته المؤثرة وأدائه المقنع والصعب
لهذا الدور الذي قد يحصره لاحقاً في خانة محددة.
يقول حداد: "لم تكن الفكرة مجرد عرض لآلام المسيح او حتى رغبة مني
فقط في تحقيق حلم تمثيل دور المخلص بل رسالة هادفة في زمن باتت فيه
القيم الانسانية في مرحلة الخطر". أيضاً تتألق الممثلة ميرانا
نعيمة في تجسيد امومة السيدة العذراء ووجعها، وهي ملائمة للشخصية
بعدما أدّت في السابق دور القديسة رفقا في تليفيلم "لتكن مشيئتك".
كما يتميّز الفيلم بالفكرة المبتكرة في تقديم الآلام بنظرة حديثة،
فكما قال المخرج الأب شارل صوايا "دائماً نسمع الناس يقولون، يا
ليت السيد المسيح يتجسّد الآن. طيب ماذا سيتغيّر لو عاد الينا
اليوم؟ الانسان لا يزال انساناً وخطاياه لا تزال موجودة". ويتابع
شادي حداد: "البارحة واليوم وغدا، الخطيئة ستظل موجودة، وحده
القربان المقدس والايمان بالله هو خلاصنا. هذه هي رسالة
الفيلم".بدورها الديكورات جميلة فيها خشوع وتقشف، والماكياج الفني
متقن مثل الملابس والموسيقى التي تضفي على الشريط روحانية قصوى.
لكن ليت القيمين اكتفوا بإيقاعات الـ "فوكاليز" (تمارين الصوت)
التي منحت الشريط سمواً واختلافاً في دقائقه الاولى (أداء عبير
نعمة)، ولم يلجأوا في دقائقه الأخيرة الى اعتماد الترانيم
والتراتيل التقليدية التي لم تخدم كثيراً الرؤية المبتكرة لمفهوم
الآلام كما هي مقدمة. ويبقى الأهم، المباركة التي نالها الفيلم من
البابا فرنسيس يوم قدمه اليه كل من صوايا وحداد في روما، والمشاركة
قريباً في المهرجان المسيحي العالمي في فلوريدا، بعدما اختير مع 40
شريطا اخر للمنافسة على جائزة المهرجان الذي توافد اليه هذه السنة
400 فيلم من ارجاء العالم كافة. ليس هذا فحسب، إذ من المهم ايضاً
التنويه بالدعم الكبير الذي قدمته شبكة صالات غراند لهذا الفيلم
القصير بعدما آمنت به وبرسالته الانسانية والدينية والاجتماعية،
وقررت الاستغناء عن الشريط الدعائي لمجموعة الافلام المتوقعة في
صالاتها والذي يسبق عرض فيلم
A Little Chaos،
لتعرض مكانه "من اجلكم" في اسبوعي الآلام لكل "المؤمنين" بسينما
تحمل رسالة. وكانت غراند قد استبقت بدء العروض التجارية في 26 اذار
الجاري، بافتتاح خصص لأهل الصحافة والفن، جرى ليل الاثنين 23 اذار
الجاري في صالاتها في مجمع
ABC
ضبيه، برعاية البطريرك الراعي، وبمشاركة جوقة مدرسة بعبدا للضرير
والأصم.
A Little Chaos
حدائق لويس الرابع عشر تزهر شغفاً
المصدر: "دليل النهار"
- جوزفين حبشي
بعد فيلم
The Winter Guest
الذي خطا من خلاله آلن ريكمان خطوته الاولى على درب الاخراج
السينمائي عام 1997، يثبت الممثل البريطاني من خلال تحفته
الاخراجية الثانية
A Little Chaos
أنه لم يكن مجرد
Guest
أو ضيف في عالم الاخراج.
دراما تاريخية جميلة لا تخلو من الطرافة من اخراج "ساحر" سلسلة
Harry Potter
وبطلها، لن تسحر عشاق زمن الملوك الفرنسيين والزراعة والحدائق
فحسب، بل عشاق السينما المبنية على حبكة ممتعة ممزوجة بالرومانسية
والمؤامرات ومواجهة المخاوف والتحديات، وعلى حوارات ذكية فيها
الكثير من الرمزية حيناً (مشهد تشبيه المرأة بالوردة) والاستمتاع
اللذيذ احياناً اخرى (مشهد سابين عندما ظنت الملك هو مسؤول
الحديقة) وتصوير عابق بالاناقة وبجمال حدائق قصر فرساي الاسطورية،
واداءات قوية ومؤثرة.
آلن ريكمان المخرج والممثل في الفيلم، أحاط نفسه وشريطه بباقة من
اهم الممثلين الموهوبين امثال ابنة بلده الفائزة بالأوسكار كايت
وينسلت المثالية في شخصية مختلقة لم تكن طبعاً موجودة في حقبة
الملك لويس الرابع عشر. شخصية وهمية اضيفت الى الشخصيات التاريخية،
فحررت الفيلم من القيود الواقعية البحتة وجعلته يحلق في دنيا
الخيال الممتع، وخصوصاً أن شخصية منسقة الحدائق سابين بارا التي
تؤديها وينسلت، مختلفة وتسير عكس التيار، وهي مسكونة بالحزم
والشجاعة والشغف ومعجونة بالقلق والالم نتيجة مأساة عائلية. شخصية
تعيد وينسلت الى الحقب القديمة التي اشتهرت بأدائها في بداياتها،
لكنها هذه المرة لن تكتفي بارتداء الفساتين الطويلة والانيقة، بل
تنتعل الاحذية والكفوف وتغطس في الوحل وتقلّم الزرع وتنزع الشوك
بمنتهى الاتقان الممزوج بالرقة الآسرة. والى جانبها، الممثل
البلجيكي ماتياس شونارتس الذي شكّل معها ثنائياً متناغماً ومحاطاً
بكثير من الشغف والحنان والشرقطة، اضافة الى البارع ستانلي توتشي
الذي بدا مستمتعاَ باداء دور الدوك فيليب دورليانز المثلي وشقيق
الملك لويس الرابع عشر (آلن ريكمان) المهووس بالحدائق الجميلة.
الملك مصمم على جعل حدائق قصر فرساي الاجمل في العالم، لذلك يطلب
من المسؤول عن حدائقه اندريه لونوتر (ماتياس شونارتس) ابتكار جنة
عدن. لاتمام المهمة يطلب اندريه مقابلة أهم منسقي الحدائق في
فرنسا، وحباً بالتجديد والاختلاف، يوافق على توظيف منسقة المناظر
الطبيعية الارملة سابين بارا (كايت وينسلت) ويوكل اليها مهمة
الاهتمام بصالة الرقص الخارجية. صحيح أن اساليبهما متناقضة
ونظرتهما مختلفة في العمل، الا ان هذا لن يمنع انجذاب عاشقي
الحدائق الى بعضهما البعض رغم معاناة اندريه الزوجية مع امرأة تهتم
بالمصالح اكثر من الحب (هيلين ماكروري) ومأساة سابين العائلية.
ورغم موهبة سابين الكبيرة، تدرك ان مهارتها وحدها لا تكفي لتخطي
المؤامرات التي تنصب لها على طريق القصر. عليها ان تتعلم كيف تتخطى
العراقيل الاجتماعية المرتبطة بكونها امرأة في عالم يحكمه الرجال،
وكيف تكسب ثقة الملك ونساء البلاط وتوصل علاقتها باندريه الى برّ
الأمان.
Ex-Machina
المرأة هي المرأة... ولو الكترونية
المصدر: "دليل النهار"
- جوزفين حبشي
الروبوطات المزودة ذكاء اصطناعيا كبيرا ومشاعر انسانية مؤثرة تنافس
كبار نجوم هوليوود في عقر دارهم السينمائية هذه الفترة. بعد "شابي"
الروبوط الطفل الانساني الذكي والطيب والحنون الذي تعاطفنا معه
كثيراً في فيلم
Chappie
من اخراج نيل بلومكامب، حان الوقت لنلتقي "ايفا" نجمة فيلم
Ex- Machina
من اخراج البريطاني الكس غارلند في اولى تجاربه الاخراجية بعدما
اشتهر بكتابة سيناريوات أفلام ثريلر وخيال علمي مثل
The Beach
و28
Days Later
وSunshine
وكلها من اخراج داني بويل.
"ايفا"
(تؤدي دورها أليسيا فيكاندير) لا تشبه حبيبة روبوط الانيمايشن
الشهير
Wall-E،
فرغم نعومتها وجمالها واحاسيسها الانسانية الجياشة، الا انها تتمتع
بذكاء جهنمي وخطط بعيدة عن البراءة التي تحاول أن تقنع بها كلا من
الجمهور، ومبرمج الكومبيوتر الشاب كايلب (دومنال جليسون). كايلب
يحضر لاختبار انسانية هذه الروبوط بعدما اختاره لهذه المهمة مديره
ومخترع "ايفا" عبقري البرمجة الالكترونية الميلياردير نايثن (أوسكار
إيزاك) الذي يعيش معزولاً في قلعة الكترونية محصنة وسط الجبال.
كايلب يقع في غرام "ايفا" (كما في شريط
Her)،
ويسعى الى تحريرها من سجنها ومن تلاعب نايثن بمصيرها، من دون ان
يدرك انها اذكى من ان تسمح لاحد بالتلاعب بها، وانها قادرة على
ادخال الجميع في سجن لا خروج منه.
رغم موازنته المتواضعة (13 مليون دولار فقط) وتصويره على طريقة "وي
ــ كلو" داخل منزل مجهّز بتكنولوجيا عالية، يعتبر فيلم
Ex Machina
من اهم الافلام الخيالية العلمية التي تتناول الذكاء الاصطناعي،
واكثرها قدرة على الغوص في العمق من دون ان تفقد طرافتها وتشويقها
ومن دون أن تجعلنا نتوقع مفاجآتها. خيال علمي، ذكاء اصطناعي، ثريلر
وتشويق وتوتّر، حب ورومانسية وتلاعب بين ثلاث شخصيات، سيناريو عميق
ذكي وطريف، تصوير مثير، مؤثرات مشهدية مغلفة بالرقي والفخامة،
ديكورات متأثرة بالثقافة اليابانية وغارقة في برودة تكنولوجية
ومناخات قمعية، اخراج متقن بتقطيعه واطاراته رغم بعض البطء في
الايقاع، وخصوصاً تمثيل بارع. أوسكار إيزاك يثير القشعريرة في
الابدان بادائه الموتّر المغلف بهدوء فيه جنون غير متوقع، وابتعاد
عن الانسانية التي يسعى الى خلقها لدى آلاته، ولحيته الكثيفة
وعضلاته البارزة، وهو بذلك يجسد شخصية بعيدة ومختلفة عن دوره فيA
Most Violent
الذي تابعناه قبل اشهر. بدوره دومنال جليسون الذي اشتهر من خلال
سلسلةHarry
Potter،
مقنع بدور المبرمج الشاب الذي تتلاعب بذكائه واحاسيسه الروبوط
الناعمة "ايفا" التي تؤدي دورها ممثلة غير معروفة سبق وشاركت في
فيلم
Anna Karenina
لجو رايت، هي أليسيا فيكاندير الساحرة بجمالها الناعم، وادائها
المؤثر والملوّن بتمزقات عديدة تعيشها شخصيتها الالية في طريقها
للتحوّل انسانة. |