من خلال فيلم "صعود جوبيتر"، يعود مخرجا فيلم (ماتريكس)؛ الأخوان
آندي ولانا واتشوفسكي إلى عالم أفلام الخيال العلمي، إذ يأملان في
تحقيق نجاحهما الأول في هذا المضمار منذ أكثر من عقد من الزمان.
في السطور التالية يستعرض الناقد الفني أوين غليبرمان رؤيته
النقدية لهذا العمل.
ربما سيعتبر المخرجان واتشوفسكي المثال الأكثر إثارة للدهشة في
تاريخ السينما لأولئك الذين يُعرفون دائما بالنجاح الذي حققوه من
خلال عمل واحد.
فمن خلال فيلم "ماتريكس"، الذي أُنتج عام 1999، قدم الاثنان - وعلى
نحو مذهل ومعقد في الوقت نفسه - عملا ذا طابع حركي يصور البؤس
الإنساني المتمثل في مجتمع يتشابه في بعض جوانبه مع مجتمعنا.
في ذلك المجتمع، كان يتعين فصل عقول المواطنين عن شبكة إليكترونية
خبيثة تحفل بصور زائفة، وذلك حتى يتسنى لهم رؤية الحقيقة.
لكن حقيقة أن "ماتريكس"، الذي بدأ كفيلم خيال علمي ذي طابع شديد
الإثارة، قد انتهى إلى حل الصراعات التي دارت في إطار أحداثه عبر
اللجوء إلى رياضات بدنية مثل الكونغ فو، كان يفترض من الوجهة
النظرية، أن تشير إلى وجود قصور في حبكته.
غير أنه حتى في مشاهد القتال البدني، أظهر الأخوان واتشوفسكي،
أنهما أول من نجح في استلهام روح العصر الرقمي، بين نظرائهما من
صناع السينما.
ولهذا السبب، تمكن فيلم "ماتريكس" من البقاء في الذاكرة كفيلم ناجح.
رغم ذلك، فكل ما فعل المخرجان خلال الأعوام الـ 16 منذ أن رأى "ماتريكس"
النور، لم يتعد ابتكار طرق أكثر فخامة لتزيين وزخرفة إنجازهما
الأصلي الذي تحقق في هذا الفيلم واستخدامه في الأعمال التالية.
فكل الأفلام اللاحقة التي قدماها؛ كشفت عن أنهما يحاولان على ما
يبدو أن يصبحا أشبه بالمخرج الأمريكي الرائد دي.دبليو غريفيث.
غير أن رؤية الأخوين واتشوفسكي، اتضح أنها ليست سوى رؤية فنية قد
يعجب بها البعض ولكنها مبتذلة في جوهرها، وذلك عبر إعادة تناول قصص
تدور حول تيمة الخير في مواجهة الشر، أو حول الصراع بين الكواكب،
وكل ذلك يكتسي بطابع يمتزج فيه فن خبراء في مجال المؤثرات
السينمائية مثل السويسري هانز رودولف غيغر، بعمل فنانين مثل الممثل
والكاتب الأمريكي روبول.
فقد أثار الجزءان الثاني والثالث من"ماتريكس" الكثير من الجلبة
للدفع بالتيمة الخاصة بالتحكم في العقول إلى أشواط أبعد.
لقد أصبحا عملين شديديّ التعقيد، وهو ما أدى إلى أن يصير المشاهدون
أنفسهم هم من يريدون أن تُفصل عقولهم عن هذه الشبكة المعقدة من
الأحداث.
أما فيلم "سبيد راسر" الذي أُنتج عام 2008، فقد كان ذا طابع
استثنائي من حيث مظهره، إذ بدا أشبه بانفجار في مصنع للحلوى، ولكنه
لم يُخلّف رغم ذلك أثرا يذكر.
كذلك، فإن فيلم "كلاود أطلس" الذي أُنتج عام 2012 ويعد بشكل كبير
أفضل الأعمال التي قدمها الأخوان في مرحلة ما بعد "ماتريكس"، كان
أشبه بالمسلسلات التليفزيونية.
ولكن الفارق تمثل في كون أحداث هذا العمل تدور على نطاق كوني أوسع،
وتتنقل من زمن لآخر على نحو متقن، وهو ما يقود لأن يجسد كل من
الممثلين المشاركين في العمل بضعة أدوار.
ولكن حتى البراعة والطابع الطريف اللذين اتسم بهما العمل، بدا
أنهما جاءا بعناء ومشقة.
الآن، يعود الأخوان واتشوفسكي، بشجاعة ودون وجل إلى الانغماس في
تقديم قصة خيالية جامحة ومبهرجة من تلك المتعلقة بالفضاء الخارجي،
من خلال فيلم "صعود جوبيتر".
الفيلم الجديد عبارة عن عمل آخر ذي طابع هجومي؛ يبدو جذابا من حيث
المظهر، ولكنه غير ذي عمق فكري كبير، وتدور أحداثه حول شرور من
الفضاء الخارجي، وكذلك أبناء الأرض الأبرياء الذين يتأثرون بقوى
آتية من خارج كوكبهم.
وتقوم ببطولة الفيلم ميلا كِونيس، التي تجسد دور جوبيتر جونز، تلك
الشخصية التي تشبه شخصية "نيو"، التي تظهر ضمن أحداث فيلم
"ماتريكس"، في أن كلا منهما "شخصية مصطفاة".
في الظاهر، تبدو جوبيتر جونز مجرد مديرة منزل بائسة الحال في
شيكاغو، لكنها في حقيقة الأمر ليست سوى امرأة تتجسد فيها روح ملكة
متوفاة من كوكب جوبيتر عبر استنساخ الأرواح؛ وهي ملكة يتشاجر
أبناؤها الثلاثة البالغون على مصير ملكية عقارية ما، تحمل اسم
"كوكب الأرض".
أمور فضائية غريبة الأطوار
ويجسد الممثل إيدي ردمين دور بيلَم؛ الأخ الأكثر شرا بين الأخوة
الثلاثة، وهو ديكتاتور حقير يرتدي زيا ذا رقبة معدنية، يرغب في
"حصد" أرواح أبناء الجنس البشري، بغية الحصول في الأساس على سائل
يتم فصله عن الدم بالتخثر، ويُستخدم لتحضير مادة ذات طبيعة خارقة
تُكسب من يتناولها الشباب والفتوة.
وبحسب العمل، يكفي المرء الاستحمام لمرة واحدة في هذه المادة، لمحو
آلاف الأعوام التي تركت آثارها على ملامحه.
لكن تَيتس؛ الشقيق الأصغر لـ"بيلَم" والذي يجسد شخصيته الممثل
دوغلاس بووث، يتوق لوقف مثل هذه الممارسة الهمجية.
أما أختهما كاليكي، (وتلعب دورها توبِنس ميدلتون)، فلا تلزم نفسها
بأي من هذين الموقفين، رغم أنها في مرحلة ما من الفيلم تتلذذ
وتستمتع ببشرتها التي عادت إليها نضارتها، كما لو أن السماء حبتها
للتو بعملية تجميل.
في الأساس، يبدو فيلم "صعود جوبيتر" أشبه بفيلم "سويلَنت غرين"
الذي أُنتج عام 1973، ذاك العمل الصادم الذي تتضمن أحداثه تحويل
البعض لرفات البشر إلى طعام.
لكن الفارق هو أن "صعود جوبيتر" يبدو كما لو كان نسخة معاد صياغتها
من ذاك الفيلم القديم، والهدف هذه المرة انتقاد خيلاء وزيف عالم
عمليات التجميل، إذ يتناول العمل مدى الفظاعة الكامنة في فكرة
إبادة الجنس البشري من أجل الحصول على مستحضر يضمن الجمال الدائم.
رغم ذلك، فإن الفيلم يُعنى أكثر - في حقيقة الأمر- بمشاهد القتال
الذي يخوضه الأبطال وهم يحلقون في الهواء، بالإضافة إلى التقنية
العالية التي استخدمت لرسم تفاصيل ومكونات مشاهد العمل بشكل عام.
وفي إطار أحداث الفيلم، يلعب الممثل تشاننيغ تاتوم دور كين، وهو
مقتفي أثر محترف، يوجد رابط بين حمضه النووي (دي إن آيه) والحمض
النووي للذئاب. وتتسم شخصية كين بالفظاظة ذات الطابع النبيل بعض
الشيء.
ومن خلال تجسيده لذلك الدور بشعر مصفف بعناية ولحية مشذبة على شكل
مثلث مقلوب، أصبح تاتوم أشبه بشخصية "هان سولو" التي ظهرت في
ثلاثية أفلام "ستار وورز" (حرب النجوم)، ولكن بطابع تتسم به
الشخصيات القادمة من بيفرلي هيلز.
وقد خاض تاتوم خلال العمل العديد من مشاهد الصراع البدني العنيف
التي تدور في الهواء.
وفي تلك المشاهد، بدا وكأنه يتزلج في الهواء، وهو أمر يُحدث تأثيرا
بارعا، ولكن تلك المشاهد ظلت أقل إثارة للدهشة والإعجاب من
مثيلاتها التي كان تتالى بسرعة البرق على الشاشة ضمن أحداث
"ماتريكس".
وربما يكون هذا الفيلم الجديد هو أكثر الأعمال السينمائية التي
قدمها الأخوان واتشوفسكي تقليدية على الإطلاق، وهي تلك الأعمال
التي لم تكن مُعدة بشكل جيد من الأساس.
فقد بدا الفيلم جزئيا كما لو كان أحد الأعمال المملة التي قدمها
المخرج جورج لوكاس في المرحلة التي سبقت سلسلة "حرب النجوم"،
باستثناء أننا هنا بصدد بعض الممثلين الذين أدوا أدوارهم بأناقة
وزهو غريبين يناسبان أولئك الشبان ذوي الطابع الساحر الذين ظهروا
في بريطانيا في ستينيات القرن الماضي، وكانوا يعشقون موسيقى الروك
آند رول.
فبكل ازدراء للطبقة الارستقراطية، يؤدي ردمين مشاهده في العمل كما
لو كان يلتهم طعاما شهيا يُقدم في مطعم فاخر، وهو ما يجعله في
نهاية المطاف أقرب لشخصية أكثر انغماسا في الملذات كتلك التي كانت
للمغني البريطاني دافيد بوي، الذي حظي بالشهرة في أواخر سبعينيات
القرن الماضي.
أما بووث فقد أدى دور تَيتس كما لو كان يجسد شخصية متفائلة على نحو
مفرط من تلك التي تمثل أحد رموز الموجة الجديدة في الموسيقى التي
سادت في ثمانينات القرن العشرين.
وعلى كل الأحوال، فإن أداء هذيّن الممثليّن يجعل المرء يواصل
مشاهدته للعمل.
لكن رغم ذلك، فإن كِونيس – تلك الممثلة المحبوبة – لا تقدم للأسف
أكثر من مجرد أداء فاتر، وكأنها مجرد عارضة أزياء عابسة، اختيرت
لتقديم دور ماثيو كيدمان في فيلم "ذا غيرل نيكست دور" (الفتاة التي
تعيش في الجوار).
ويمكن القول إن اللقطات السينمائية التي ينفذها الأخوان واتشوفسكي
ذات تأثير فوري ومباشر، إذ تعطي للمشاهد انطباعا بأنه جزء منها،
وبمقدوره الوصول إليها، بل ويشعر أن بوسعه على سبيل المثال؛ لمس
سفن الفضاء وهي تمر عبر الثقوب المتوهجة لتغوص في قلب الهالة
الحمراء الضخمة المحيطة بجوبيتر، تلك الهالة التي بدت في أعين صناع
الفيلم وكأنها محيط منذر بالشؤم والسوء، خطته ضربات فرشاة الرسام
الهولندي الراحل فان جوخ.
من جهة أخرى، يبقى العمل ذا طابع تقليدي، إلى حد أن نجومه -
المعتادين على السير على البسط الحمراء في المهرجانات السينمائية -
قد يحققون نجاحا جماهيريا، في بقاع سبق وأن فشلت فيها غالبية
الأفلام التي قدمها الأخوان واتشوفسكي في مرحلة ما بعد "ماتريكس".
غير أن ثمة فكرة هنا يتعين أن يضعها صناع الفيلم في الاعتبار، ألا
وهي أن هناك سببا يجعل الفيلم جديرا بالمشاهدة رغم كون فكرته
مستهلكة، ومع وجود ملمح معين جذاب فيه يثير ضحك مشاهديه.
ويتمثل هذا السبب في أن أداء آندي ولانا واتشوفسكي في الإخراج
السينمائي، أفضل منه بكثير في كتابة السيناريو.
فقد ابتكر الاثنان فكرة عظيمة قام على أساسها فيلم "ماتريكس"،
ولكنهما عندما عبرا عن هذه الفكرة على الشاشة، قدماها عبر استخدام
رشيق للصورة السينمائية، بقدر أكبر من الاعتماد على سيناريو يتضمن
أفكارا تتسم بالأصالة.
في نهاية المطاف، يتعين على الأخوين واتشوفسكي ألا يحاولا في
عملهما المقبل الظهور في ثوب أصحاب الرؤى السينمائية في مجال أفلام
الخيال العلمي، نظرا لأنه صار واضحا أن رؤيتهما في هذا الشأن بلا
مضمون حقيقي.
يمكنك قراءة الموضوع
الأصلي على
موقع BBC
Culture. |