حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

الفتاة الخجولة لا تزال في أعماقها

نيللي كريم: أختار أدواري ببوصلة قلبي

القاهرة - أشرف عزت

 

·        سامية جمال من الشخصيات الثرية التي أحلم بتجسيدها

·        "الزوجة الثانية" لم يعرض علي.. ولا أندم على ما فات

تشبه زهرة "البانسية" التي تتميز بدقة وتباين وامتزاج ألوانها البنفسجي والأرجواني والأحمر والوردي.

"بانسية الفن" نيللي كريم "البالرينا" التي ضلت طريقها الى عالم الفن وما أجمله من تيه, فلقد أصبح "الباليه" محرما عليها منذ سنوات نجحت خلالها أن تفوح بعطور أدوارها الفنية وندخل معها حديقة الفن الغناء, فنستمتع بأفلام ومسلسلات تحمل أريج عطرها الفواح و لا تتنازل أبدا أن تتزين به, فشاهدناها بنت البلد الحسناء في فيلم "سحر العيون" والعاشقة التي تواجه المرض في "أنت عمري" فأدمت قلوبنا ثم سرعان ما رسمت البسمة في فيلمي "غبي منه فيه" و"أحلام الفتى الطائش" ثم تناولت آفة التحرش الجنسي في فيلم"678" ولديها حالياً مسلسل "ذات" لتظل أم يوسف الشهيرة بنيللي كريم تسحرنا بأريج فنها.. زهرة الفن  في حوار مع "السياسة".

في ركن قصي بمنزلها في مدينة 6 أكتوبر على أطراف القاهرة جلست ترهف السمع لـ"سي دي" تنبعث منه أغنيات المطربة الراحلة وردة الجزائرية.

·        ... واسألها لماذا وردة?

فترد باحساسها المرهف لأن وردة عبرت عن أغلى مشاعرنا وأحاسيس العشاق وأوجاعهم وآلامهم بأغنيتها الأخيرة "اللي ضاع من عمري" وبدت كأنها تغني لأول مرة فتمس أغلى جوارحنا, إن وردة تمكنت أن تحكي قصة حياة كل من دق قلبه على سطح الأرض ولو كانت هناك حياة على الكواكب لطالتها أيضا.

·        من الواضح انك معجبة كثيرا بالمطربة وردة?

طبعا, فهي فنانة ومطربة لن تتكرر وأثرت حياتنا الفنية بكثير من الأغنيات الرائعة.

·        وأنت ممثلة لن تتكرر أيضا?

أشكرك على الاطراء, لكنني حتى الآن ورغم مرور أكثر من 13 عاما على عملي في الفن اشعر بانني ما زلت في البداية ولم استطع ان أغادر شخصية الفتاة الخجولة التي ما أن تنظر للكاميرا حتى تبكي من رقة مشاعرها وكأن بيني وبينها قصة حب لا تنتهي أبدا فما زلت اعمل في الفن بروح الهاوية لا المحترفة.

·        ألذلك قدمت عشرات الأدوار التي أضافت الكثير الى الفن في مصر?

لا أخطو خطوة في عالم الفن الا إذا شعرت انها ستضيف جديدا الى الفن ولتاريخي الفني معا فقدمت أدوارا متنوعة.

·        على أي أساس تختارين أدوارك الفنية?

على أساس بوصلة قلبي وعندما قدمت دور المريضة في "أنت عمري" شعرت أن قلبي يتجه الى الدور وحتى عندما قدمت اللون الكوميدي في "غبي منه فيه" و"أحلام الفتى الطائش" كنت أظن أن الجمهور متعطش للكوميديا وعندما قدمت" 678 " وجدت اننا يجب أن نناقش قضايانا الاجتماعية بجرأة ولا ندفن رؤوسنا في الرمال لان قضية التحرش الجنسي كانت وما زالت تعد ظاهرة فناقشناها في الفيلم ونجح, ولو عاد الزمان للوراء لوافقت على بطولة الفيلم من جديد.

·        ولو عاد الزمان هل كنت تقبلين بطولة فيلم  "في شقة مصر الجديدة"?

لا, فانا لا أندم على أي عمل فني اعتذرت عنه حتى في حياتي الخاصة, لا اندم على ما فات أبدا, ولقد اعتذرت عن الفيلم لارتباطي بأعمال أخرى ولو عاد الزمان لاعتذرت عنه من جديد وأيضا الاعتذار عن "في غمضة عين".

·        ما أسباب اعتذارك عن مسلسل  "في غمضة عين"?

ارتباطي أيضا ببطولة مسلسل "ذات" رغم انه يشرفني العمل أمام الفنانة أنغام التي اعتز بها كمطربة وصديقة أيضا وعلاقتي بها "سمن على عسل" كما يقولون ولكن كل شيء قسمة ونصيب.

·        ما سبب ارتباطك الشديد بمسلسل  "ذات"?

لأنه يحكي جزءا كبيرا من تاريخ مصر, ودوري فيه جديد تماما ومشاعري فيه مختلفة جدا. كما أن بوصلة قلبي وجهتني اليه كما ذكرت من قبل.

·        هل بوصلة قلبك وجهتك للاستعانة بمفسري الأحلام من قبل?

تقصد استعانتي بالمرحوم الشيخ سيد حمدي لتفسير حلم الاجهاض?

·        نعم

قصة هذا الحلم كانت غريبة جدا, فقد كنت حاملا في ابنتي الأخيرة كندة وأكد لي الأطباء بأني سأفقدها وحلمت حلما ذكرته للشيخ سيد فأخبرني أن حملي سيكمل وستعيش ابنتي وهو ما حدث بالفعل وأنجبت كندة كما انني أؤمن تماما بتفسير الأحلام ولنا في سيدنا يوسف عليه السلام أسوة حسنة, فلقد فسر حلم عزيز مصر كما ذكر القرآن الكريم في سورة يوسف.

·        ما أهم المحطات الفنية في حياتك?

التمثيل امام الزعيم والنجم عادل امام, فلقد كانت تجربة ثرية بحق في فيلم "زهايمر " أتمنى تكرارها مرة أخرى امام الزعيم لأنه مدرسة فنية.

·        هل ما زال يراودك حلم تمثيل قصة حياة الفنانة الاستعراضية الراحلة سامية جمال?

نعم فهي من الشخصيات الثرية جدا وبرغم أنها كانت تعمل راقصة فقد كانت خجولة جدا ومن نوعية النساء التي تجرحها النسمة كما يقال, ولقد تأهبت لتمثيل دورها في يوم ما حتى انني زرت أرشيف مؤسسة دار الهلال أقدم المؤسسات الصحافية في مصر حتى اقرأ الكثير عن تلك الفنانة الرائعة وأشاهد صورها النادرة في المؤسسة تمهيدا لتقديم دورها في فيلم أو مسلسل ربما في الأيام المقبلة.

·        لماذا نادرا ما تتحدثين لوسائل الاعلام?

لانني لا أريد الاطلالة "عمال على بطال"وأخشى ان يتطرق أحد الى حياتي الخاصة فهي خط احمر وارفض أن يمسها أحدا.

·        لماذا لا نراك كثيرا في الحفلات العامة?

ارفض الظهور في الحفلات العامة لأنني خجولة جدا كما ذكرت من قبل, كما انني احرص على أن أظل اطول فترة مع أبنائي لأعوضهم عن الأوقات التي انشغل عنهم فيها بارتباطاتي الفنية وعليه لا وقت لدي لحضور الحفلات العامة الا نادرا.

·        هل صحيح أنك رفضت دور سعاد حسني في مسلسل "الزوجة الثانية"?

هذا غير صحيح, فالدور لم يعرض علي من الأساس ولو عرض علي لترددت كثيرا قبل الموافقة عليه لانني لا يمكن ان أقدم جديدا بعد ما قدمته السندريللا الراحلة سعاد حسني, فلقد لعبت الدور ببراعة وأنا أتمنى التوفيق للفنانة آيتن عامر التي لعبت دورها في المسلسل.

السياسة الكويتية في

17/06/2013

«بيروت متحرّكة».. دراما الصور

نديم جرجورة 

النشاط السينمائي الجديد، المُقام حالياً في صالة سينما «متروبوليس» في الأشرفية، بات في دورته الثالثة. بين 14 و18 حزيران 2013، يُقام مهرجان «بيروت متحرّكة»، المتخصّص بنوع فني بصريّ تقدّم خطوات كبيرة جداً في الغرب. الدورة هذه متميّزة بازدياد عدد الأفلام العربية المتحرّكة، كما بالسعي إلى جعل النظريّ مرادفاً عملياً للمُشاهدة، إذ يرغب منظّموها في جعلها مساحة تواصل مباشر بين عاملين في النتاج السينمائي المتعلّق بالتحريك، وهو تواصل يتوزّع على المُشاهدة والنقاش، وعلى المشاركة في ندوات وورش عمل أيضاً. اللافت للانتباه في هذه الدورة أنها ستُطلق جولة عربية للبرمجة البيروتية، في انتظار «تأسيس مهرجانات عربية محلية»، كما تردّد في أروقة المهرجان. البرمجة البيروتية ستنتقل إلى تونس ودبي والقاهرة.

لم يعد هذا المهرجان السينمائي المتخصّص بالتحريك مجرّد نشاط عابر. يُراد له أن يكون أفضل وأمتن موقعاً وتأثيراً؟ هذا صحيح. لكنه فعلياً ليس مهرجاناً عابراً. له «جمهور» خاصّ به؟ ربما. لكنه جذب مشاهدين يُمكن إضافتهم إلى متابعي المهرجانات والنشاطات السينمائية الأخرى، إذ يُمكن أن يكون للتحريك مُشاهدون لا يهتمّون بأنواع سينمائية أخرى. في ليلة الافتتاح مساء الجمعة الفائت، عُرض «قط الحاخام» لجوان سْفار وأنطوان ديليفو. بحسب الأرقام الرسمية، شاهد 110 مشاهدين الشريط المتحرّك الرائع للرسّام سْفار، المأخوذ عن سلسلة ألبومات رسوم متحرّكة (خمسة ألبومات) كتبها ورسمها هو نفسه بالتعاون مع بريجيت فنداكلي، علماً أن الجزء الأول منها صدر في العام 2002.

لجوان سفْار فيلم سابق بعنوان «غينسبور، حياة بطولية» (2010). فيلمه التالي «قط الحاخام»، المشغول كلّياً بتقنية التحريك، أُنجز في العام 2011. الاشتغال الفني والتقني امتداد لحبكة مرتكزة على مقتطفات من سيرة المغنّي الفرنسي سيرج غينسبور. «قطّ الحاخام» يعود إلى عشرينيات القرن الفائت. يعود إلى الجزائر، ويبني ملحمته البصرية على حوار بين قطّ وصاحبه الحاخام، المدعو سْفار هو أيضاً. الحاخام وابنته زلابيا يمتلكان ببغاء أيضاً. قدرة القطّ على التكلّم نابعة من التهامه الببغاء، والبدء بإطلاق أكاذيب، ما حثّ الحاخام على السعي إلى إبعاده. لكن العشق الكبير للقط إزاء الابنة، دفعه إلى «فعل المستحيل» للبقاء في المنزل، بالقرب منها. هذا يعني أن على الحاخام تعليمه القوانين الموسوية. هذه بداية. المسار الدرامي مفتوح على حكايات وتفاصيل وحالات

هذه بداية مهرجان متضمّن ثلاثة أفلام طويلة مُنتجة في العام 2012: «إنه ليوم جميل» (الولايات المتحدّة الأميركية) لدون هرتزفلد (مساء أمس الأحد)، و«استهلاك الأرواح» (الولايات المتحدة الأميركية أيضاً) لكريس سوليفان (مساء أمس الأول السبت)، و«إرنست وسلستين» (إنتاج مشترك بين فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ) لستفان أوبييه وفنسان باتار وبنجامن رنير (مساء أمس الأحد أيضاً). تناول الأول، المستلّ من ثلاثية للمخرج تغوص في عوالم الذات وارتباكاتها، تفاصيل البحث عن أعماق تلك الذات المقيمة في تمزّقاتها. البناء الدرامي مفتوح على خليط النفسيّ بالعقليّ، وعلى البحث عن أجوبة غير واضحة المعالم. الثاني مرتكز على ثلاث حكايات لثلاثة أشخاص متفاوتي الأعمار، ومختلفي الأمزجة والخلفيات والخفايا، قبل أن تنفتح الأبواب المغلقة على أسرار شيطانية أحياناً. أما الثالث، فمرتبط بمغزى الصداقة وعناوينها وحالاتها الإنسانية، خصوصاً أنها قائمة بين دبّ (إرنست) وفأرة (سيلستين).

هناك أيضاً 35 فيلماً قصيراً، وتحية للياباني كاتسوهيرو أوتومو («أكيرا»، الثامنة والنصف مساء غد الثلاثاء في ختام الدورة الثالثة هذه)، وأخرى للأميركي راي هاريهوزن (التاسعة مساء اليوم: «سجلات هاريهوزن» لريتشارد شيكل و«رحلة السندباد السابعة» لنايثن جوران)، وكلاسيكيات الرسوم المتحركة اليابانية المدبلجة إلى العربية (السادسة مساء اليوم: «الأميرة ياقوت» و«زينة ونحّول» و«الليدي أوسكار»)، بالإضافة إلى «رسوم متحرّكة وإيقاعات» (مساء أمس الأحد).

السفير اللبنانية في

17/06/2013

تحت إدارة مخرج جيد

محمد رضا 

كما ورد هنا في الأسبوع الماضي، فإن الممثل الذي لا يستفيد من فرصة وجوده للإبحار في جوهر الحياة ذاتها وفي ثقافته ثم في مهنته، سيبقى إما ناجحا في المنوال ذاته بانيا شعبية سريعة، أو سيتحوّل إلى ممثل مساند في أفضل الحالات وسيبقى كذلك غالبا من دون فرصة أخرى لإثبات جدارته.

لكن الخبرة لها شأنها إذا ما كان لدى الممثل طموح فعلي في الانتقال من أدوار شاب عليها إلى أخرى جديدة؛ فريد شوقي في فيلم صلاح أبو سيف «السقا مات» ليس هو ذاته في 90 في المائة من أدواره الأخرى. يؤدي شخصية رجل مسن، ويعمل في مواكبة الجنازات حين يلتقي بالمعلم (عزت العلايلي) الذي ينقذه من الضرب ويؤويه في منزله. شحاتة رجل سعيد على الرغم من ضيق حيلته وفقره ولديه ما ينصح به المعلم في شؤون الحياة.

الفيلم، الذي حققه أبو سيف سنة 1975 بحس عال من التعاطف والواقعية المدروسة، منقول عن رواية يوسف السباعي (تحت العنوان نفسه) التي نُشرت سنة 1952. والمفاد الوجداني كما الأحداث عامّة، هي واحدة في الرواية كما في الفيلم. الآن لنأخذ المعلم شحاتة المسن ونحاول أن نسحب من الشخصية قبسا مما كانت عليه في شبابها. هذا بناء لا يخلو من الافتراض، لكنه مهم هنا. ذلك أن الشخصية مكتوبة بذلك القدر الكبير من الثراء في وجهات النظر والحكمة والرؤى، حيث إن تاريخ هذا الرجل المطروح أمامنا في الستين وما فوق من العمر، لا بد أن يكون مزدحما بالمواقف التي صاغته على هذا النحو.

إذا ما نظرت إلى تاريخه المؤلف، ثم إلى تاريخ الممثل فريد شوقي، فإن ما يطالعك شخصية لم يكن الممثل الراحل لعبها من قبل ولا كانت من عناصر شخصياته المعتادة. لا يمكن، بكلمات أخرى، أن تكون شخصية شحاتة أفندي وريثة «ابن حميدو» مثلا، لكن لاحظ كيف أن شخصيات حميدو وابن حميدو وأبو حديد وكل الشخصيات الأخرى التي لعبها في أفلام الفتوّة والقتال لا توصل ممثلها إلى شخصية شحاتة أفندي. ارسم خطين؛ واحدا ممتدا من أي من تلك الشخصيات وآخر من شخصية شحاتة وستراهما يمرّان متحاذين لكنهما لن يلتقيا.

طبعا هناك الخبرة وهناك الرغبة في تقديم المنحى الجديد لدى الممثل، لكن ذلك لا ينجح إلا تحت إدارة مخرج جيّد مثل صلاح أبو سيف أو يوسف شاهين (في «باب الحديد»). مخرج يعرف ما يستطيع الممثل الذي بنى مهنته على عناصر باتت متوقّعة توفيره في مجال آخر وإلى أي حد. هذا أيضا كان منوال العلاقة بين يوسف شاهين والممثل محمود المليجي، عندما أسند الأول للثاني دوره المهم في فيلم «الأرض» (1970). مثل غريمه في أفلام الأكشن والفتوات والخارجين عن القانون، وجد محمود المليجي نفسه منمّطا في أدوار الشر (على الرغم من إجادته لها)، لذا استوجب الدور الجديد عليه أن يأتي بمخزونه من الموهبة متجاوزا المتوقع إلى حيث يؤدي ما تبلور كأهم دور سينمائي له على الإطلاق.

العلاقة بين غالبية مخرجينا وغالبية الممثلين هي عبارة عن أن يطلب المخرج من الممثل تعابير معيّنة، وأن يكون الممثل قد قرأ السيناريو. هذا مؤسف، لكن حال الفن في شتى ميادينه هو كذلك بدوره. إنها ثغرة فنية ناتجة عن ثغرة أكبر (بحجم الأوزون) تكمن في صميم علاقتنا بالإنسان ومفاهيم الحياة وما هو مطلوب منا حيالها.

الشرق الأوسط في

17/06/2013

تقنية الرسائل في صياغة القصة السينمائية

فلم (الرحيل عن بغداد) لقتيبة الجنابي أنموذجاً

لندن / عدنان حسين أحمد 

لا شك في أن (الرحيل عن بغداد) هو الفلم الروائي الطويل الأكثر رصانة في تجربة المخرج السينمائي العراقي قتيبة الجنابي (المقيم في لندن حالياً)، إذ بذل جهداً واضحاً لتحقيق معظم الاشتراطات الفنية التي يتطلّبها الفلم الناجح بدءاً من القصة السينمائية المُحكَمة وما ينجم عنها من سيناريو مقنع يساعد الممثلين في فهم التفاصيل الدقيقة للقصة السينمائية وتجسيدها على أكمل وجه، مروراً بحرفية التصوير الذي يستنطق أمكنة التصوير ويعبِّر عنها أفضل تعبير في علاقتها بحركة الشخوص المُنْشدّين إلى مواقعهم الجغرافية القابلة على توليد وإنتاج الدلالات الرمزية القوية التي تشدّ المتلقي وتأسره إلى الدرجة التي يتماهى فيها مع المُعطى المكاني الذي يحيل إلى هذه التجربة الحياتية أو تلك ولا يدعها تنفلت وتتشتّت إلى دلالات عائمة قد لا تحيل إلى أمكنة محددة بعينها، وانتهاءً بالرؤية الإخراجية التي حققها الجنابي بواسطة توظيف مجمل العناصر والمعطيات التي وفَّرها طاقم العمل من ممثلين وتقنيين قدّموا أفضل ما عندهم لإنجاز هذا الفلم الروائي الذي فاز بالجائزة الأولى في الدورة الرابعة لمهرجان الخليج السينمائي، كما قوبل بالاستحسان من الجمهور والنقاد على حد سواء في مهرجان رين دانس السينمائي الدولي بلندن هذا العام.

تقنية الرسائل

لابد من الإشارة إلى أن (الرحيل عن بغداد) هو فلم روائي مطعّم بلقطات ومَشاهِد وثائقية كنّا قد شاهدناها بأسىً كبير في بعض القنوات الفضائية التلفازية العراقية والأجنبية مثل الـ (سي أن أن)، ولكن توظيف الجنابي لها قد منحها أبعاداً جديدة تتناغم مع الفكرة الرئيسة للفلم التي تتناول حياة المصوِّر الشخصي للرئيس العراقي السابق صدّام حسين وزوجته ساجدة خيرالله طلفاح (سيدة العراق الأولى آنذاك)، إضافة إلى تصويره لمَشاهد القتل والتعذيب المروِّعة التي كان يوثقها هذا المصور الخاص بحيث أصبحت مثل خطيئة يحملها في عنقه أينما حلّ أو ارتحل. وعلى الرغم من أهمية هذا التلاقح بين ما هو روائي ووثائقي إلا أن المخرج قتيبة الجنابي قد استعان بتقنية الرسائل في كتابة قصته السينمائية وهي تقنية جميلة أتاحت لنا، نحن المشاهين، أن نتعرّف على قصة الفلم بطريقة مغايرة لما هو مألوف ومتعارف عليه. فالقصة بمجملها تُسرَد لنا بتقنية (الفويس أوفر) بصوت المخرج نفسه الذي تقمّص شخصية المصور الفوتوغرافي للرئيس ليضعنا بالصورة النهائية للثيمة الرئيسة للفلم. قبل أن نتتبع تفاصيل الفلم عبر تقنية الرسائل التي أشرنا إليها تواً لابد لنا أن نشير إلى اللقطة الافتتاحية للفلم التي اشتملت على مقدمة استهلالية تسبق بعض الأغاني العراقية الحزينة ومطلعها (أويلي) التي تتكرر ثلاث مرات غالباً ثم تُقفل بـ (أويلاخ) الأكثر ثقلاً ووقعاً، وهي تجسّد الحزن العراقي في أعلى درجاته. يوحي هذا الاستهلال المفعم بالحزن، للمتلقي العراقي والعربي في الأقل، بأن هناك محنة أو كارثة ما سوف تقع لا محالة لذلك نتوقع أن الفلم لا ينطوي بأي حال من الأحوال على كوميديا أو أي عنصر من عناصر الفرح والمسرّة، وهذا ما حدث بالضبط. لنفحص متن الرسالة الأولى التي وجهّها الأب صادق إلى ابنه الوحيد سمير الذي ترك النعمة التي تنغمس فيها الأسرة والتحق بالحزب الشيوعي العراقي المعارض للنظام السابق، الأمر الذي سيفضي إلى هرب والده إلى هنغاريا التي تدور فيها بقية أحداث الفلم. يتساءل صادق، والد سمير، مدهوشاً: (لا أعرف كيف أبدأ رسالتي لك، ولكن لدي سؤال أود أن أطرحه عليك: لماذا لم تتمتع بكل ما عملته أنا إلى العائلة وكل ما قدّمه الرفيق والقائد صدام حسين إلى عائلتنا من رعاية ومكافآت)؟ ومن الواضح جداً أن ولده سمير غير معني بهذه الرعاية (الأبوية) أو المكافآت المجزية التي كان يقدّمها الرفيق القائد، لأنه منغمس بهمومه الفكرية التي تقف بالضد من توجهات رأس السلطة في بغداد، ولذلك فقد آثر الالتحاق بالمعارضة على الرغم من الخطورة الجدية لهذا القرار

المُلاحَظ من سياق هذه الرسالة أن الوالد صادق كان يحلم منذ زمن طويل بأن يكون مصوِّراً فوتوغرافياً، وحينما انتمى إلى حزب البعث لم يكن انتماءه عن مصلحة شخصية، وإنما جاء عن قناعة تامة وإيمان مطلق بأفكار هذا الحزب العروبي. كما أنه يحب صدام حسين من أعماق قلبه، ونتيجة لهذا الحب المطلق والولاء التام له فقد أحبّوه رفاقه في الحزب ومنحوه كل الثقة والدعم لأن يكون واحداً منهم، وخيطاً من نسيجهم المُحكَم، فلاغرابة أن يصف الرئيس بأنه (كان حنوناً ودافئاً وأباً للجميع). إن شخصية الأب صادق يقينية جداً، ولا نستغرب حينما يقول عن نفسه بأنه قد أصبح ( أسعد مخلوق على وجه الأرض عندما كُلِّف بأن يصوِّر سيدة العراق الأولى) وأكثر من ذلك فقد أحبّ الرفاق والمسؤلون في القصر صوره وأخلاقه وإخلاصه. وعلى الرغم من أهمية المكانة التي يحتلها صادق والمهمات الكبرى التي كُلف بها، إلا أن المهمة الأعظم التي أُسنِدت إليه هي أن يكون المصور الشخصي للقائد صدام حسين الذي وصفه بأنه (درع العراق والعرب). ثم يختم رسالته بالقول: (أنت لا تعرف حجم الثقة التي أُعطيت لي بأن أكون في بيت الرئيس وعلى مقربة من عائلته الحاكمة التي كانت كريمة معي). إن المصور صادق لا يحب الرئيس حسب، وإنما هو يتغزل به ويتماهى معه حينما يقول بأنه (لا يستطيع أن ينسى إطلالاته وقامته العظيمة) فلا غرابة أن يذهب في ولائه الأعمى إلى أقصى الحدود الممكنة، ويحاول أن يشدّ أفراد عائلته في الأقل إلى دائرة الانجذاب التي وقع فيها وأصبح أسيراً أبدياً لها.

اللقطات والمَشاهِد الوثائقية

يستمثر الجنابي هذه المناسبة ليقدّم لنا لقطات ومشاهد وثائقية من المظاهرات المؤيدة لصدام حسين، ومروره ببزته العسكرية على جواد عربي أصيل من تحت قوس النصر بساحة الاحتفالات، وزيارة السيدة الأولى لأحد المعارض التي أقامها اتحاد نساء العراق، وحفل عيد ميلاد (حلا) ابنة الرئيس، والإطلالة المفاجئة لـ (علي)، الابن الثالث للرئيس صدام من زوجته الثانية سميرة الشاهبندر، الذي لم نره هو وأمه في وسائل الإعلام العراقية. وإضافة إلى هذا المشهد النادر الذي يجمع بين الرئيس صدام وابنه علي ثمة مشهدين مروِّعين لتعذيب بعض الضحايا، أحدهم يضربون يده بالسيف والثاني ينهالون عليه بالهراوات والكيبلات المطاطية. يجمع صادق ملابسه وأوراقه الثبوتية ويدسها في حقيبته ويغادر بغداد متجهاً إلى شمال العراق حيث يتبنى أحد الأشخاص مساعدته لكي يجتاز الحدود.

يعرب صادق في رسالته الثانية عن خشيته وقلقه المتواصلين من ملاحقة العناصر الأمنية العراقية له طالما أن بحوزته مثل هذه الوثائق الخطيرة التي تكشف عن جرائم النظام السابق التي دأب على تصويرها وتوثيقها بشكل دائم. لنتمثل فحوى الرسالة الثانية التي يقول فيها: ( أنا الآن تجاوزت الحدود العراقية وأحس نوعاً من الأمان، ولكن البعد عن العراق وبغداد لا يعني شيئاً أحياناً حيث أن رجال الأمن العراقي متواجدين في كل البلدان. لدي إحساس بأنهم سوف يتابعونني بكل تأكيد كوني أحمل أسراراً كبيرة ولن يتروكنني طليقاً. الخوف والشعور بالمراقبة مسيطران عليّ دائماً). ينطوي الجزء الثاني من الرسالة على مناجاة لابنه سمير الذي كان يتمناه أن يكون موجوداً معه في كل القطارات التي يستقلها والرحلات التي يقوم بها. ويسأله إن كان يتذكر تلك الرحلة التي أخذه بها إلى بحيرة الرزازة التي اعتَقدَ أنها البحر؟ وقد وعده أن يأخذه ذات يوم إلى البحر. وها هو الأب يذهب لوحده إلى البحر، مع الأسف الشديد، من دون أن يعرف مصير ابنه وإلى أين آل به المطاف؟

يطعِّم قتيبة الجنابي فلمه الروائي، كما أشرنا سابقاً، ببعض اللقطات والمشاهد الوثائقية وقد اختار بعد الرسالة الثانية مشهداً لا يقل ترويعاً عن المشاهد السابقة إن لم يكن أفظع منها، فقد اختار الجناة اثنين من الضحايا ووضعوا في جيبي قميصيهما متفجرتين صغيرتين جداً كانوا قد ربطوهما بسلك كهربائي، ثم فجروهما من مسافة بعيدة وتلاشى جسداهما في لمح البصر!

حينما يصل صادق إلى بودابست، العاصمة الهنغارية التي عاش فيها المخرج ردحاً من الزمن، يتصل بزوجته التي لم نرها قط في الفلم، ولم نسمع صوتها أبداً، ولكننا كنا نثق بوجودها من خلال صادق الذي كان يرّد على الحجج التي تتذرع بها وكأنها لا تريده أن يصل إلى لندن، ولا تحبِّذ اللقاء به، وربما تعتبره السبب الأول والأخير في غياب ابنها وموته المحقق لاحقاً. يعزز الجنابي تقنية الرسائل بتقنية المكالمات الهاتفية التي تحدث بين صادق، المأزوم والعالق في بودابست من جهة، وبين زوجته المسترخية واللامبالية في لندن من جهة أخرى. وقد أعرب في هذه المكالمة عن تذمره من ملاحقة الجهات الأمنية العراقية له، وأن النقود التي يطلبها ليست له، وإنما لشخص آخر يريد أن يساعده في الخروج من هنغاريا بغية الوصول إلى لندن. وفي أثناء ساعات فراغه الطويل يلتقي بأحد الأشخاص العرب الذي ينصحه بالعودة إلى بلده، فهو مهاجر مقيم في هذا البلد منذ سنوات طويلة، ولم يجنِ سوى الغربة والمتاعب اليومية المتواترة

يتأكد لنا بعد هذا المشهد مباشرة أن هناك أحد الأشخاص العراقيين يتابع تحركات صادق في بودابست حيث نراه وهو في جوف سيارته يقلّب صوراً عديدة لضحيته الجديدة، بينما يمشي صادق إلى جوار سياج عال. في المكالمة الثانية يحاول صادق أن يبتز زوجته حينما يخبرها بأن المبلغ الذي يطلبه ليس له، وإنما لكي يصرفه في البحث عن ابنهما المفقود أو الذي تلاشى في شمال الوطن وقد قرّعها بالقول بأنها قد تركت الزوج والابن معاً، وأنها لا تفكر إلا بنفسها. وحينما يتضايق جداً تفلت من لسانه عبارات غير مألوفة من قبيل: (ماذا خلّف لنا صدام غير القنابل والقتل والدم) على غير عادته في الدفاع عن صدام وقامته المهيبة التي أصبحت درعاً للعراقيين والعرب على حد سواء! ثم يطلب منها أن تنفِّذ ما تقول وأن لا تكتفي بإطلاق الوعود الكاذبة وهددها بأنه سيحطّم الهاتف الذي يتكلم منه إذا استمرت في تعاملها البارد معه فهي مسترخية بلندن بينما يعاني هو من اليأس والغربة والإفلاس في بودابست.

يلتقي صادق في المترو شخصاً مصرياً ينصحه بأن لا يسلّم لحيته بأيدي النصّابين واللصوص (العرب تحديداً) الذين يتكفلون بإيصاله إلى لندن، وطلب منه أن يؤمِّن المبلغ المادي عند صديق موثوق وحينما يصل إلى هدفه يسلّمه النقود. وقد أعطاه رقم هاتفه المجري للاتصال به في الحالات الطارئة، ودلّه على المهرّب (أتيللا) الذي سيتبّنى عمليه تهريبه إلى لندن. وقد أخذ هذا الأخير جواز سفر صادق ووعده بأن يلتقيا بعد ثلاثة أيام وقد أمنّ له سكناً متواضعاً فيه فرشه ينام عليها وبقايا طعام يسد به رمقه. لم يستطع صادق أن ينام لأن الكوابيس كانت تؤرق لياليه وقد استفاق ذات مرة وهو يرى الضحية يسقط من سطح بناية شاهقة ويرتطم بالأرض الكونكريتية ليفارق الحياة في لمح البصر!

في رسالته الثالثة يُلقي صادق اللوم على ابنه ويحمّله مسؤولية تفكك العائلة وانهيارها وتشتتها في خاتمة المطاف حيث يقول في مطلع الرسالة: (أنني آسف لأن أقول لك بأنني فقدت مكان عملي المميّز بسببك لأنك أخذت طريقاً آخر وذهبت إلى المعارضة. ماذا تفعل مع الحزب الشيوعي؟ أنت تعرف جيداً بأنني أعمل في القصر الجمهوري. الرفاق والمسؤولون غضبوا عليّ عندما عرفوا بقصتك، فما الذي دفعك للسياسة)؟ لا يريد الأب أن يحمّل نفسه أية مسؤولية حينما اختار العمل في القصر الجمهوري ليؤازر نظاماً مستبداً يعذب أبناءه ومواطنيه ويوثِّق تعذيبهم بأشرطة فيديو، وأكثر من ذلك فهو يحملّه قضية تفكك الأسرة وتشرذمها: ( بسببك بدأت كل المشاكل داخل عائلتنا. أمك تركتني وغادرت، كما أخبروني أن أترك عملي. غادرت كل تلك النعمة والخير ولا أستطيع أن أعود مرة أخرى، فعودتي تعني نهايتي). ربما الشيء الوحيد الذي يعترف به الأب صادق أنه يحْمل عاره وخطيئته معه حيث يقول: ( لقد أُجبرت أن أترك الحزب والثورة والقصر. ماذا نفعك الشيوعيون؟ أنا أحمل عاري وخطيئتي معي وكل ما عملته من خلال عدسة كاميرتي. إنها محنة الثلاثة، أنا وأنت والوالدة، ويجب أن تعرف بأنكَ السبب في كل ذلك). قد يكون الابن سمير هو أحد الأسباب، ولكنه ليس السبب الرئيس بالتأكيد، فالمصور صادق وضع ثقته الكاملة في الحزب والقائد وأخلص لهما، ونسي أو تناسى أنه جزء من آلة الجريمة حتى وإن كان برغياً صغيراً في ماكينتها العملاقة.

بنية التوازي

تتكرر المكالمات الهاتفية مع زوجته التي تركته ووصلت إلى لندن وكأنها تحمّله تبعات فقدان الابن ومسؤولية غيابه الأبدي، فالمكالمات الهاتفية تكاد توازي الرسائل التي كتبها لابنه أو تزيد عنها بقليل وهي في مجملها شكوى من ضيق ذات اليد وتشبث بأمل ضعيف. فالزوجة، على ما يبدو، لا تريد أن تمدّ يد المساعدة إليه لأنها تعتبره السبب الأول والأخير في انهيار هذه الأسرة وضياعها وتشتتها في ثلاثة بلدان متفرقة في أصقاع الأرض. كما يشكو الأب من ملاحقة العناصر الأمنية والوحشة وتفاقم المرض الذي يضاعف من ضغوطه النفسية المريرة. لا يستطيع الأب أن يتخلص من هاجس الابن المفقود الذي يحمل صورته معه ويعرضها لكل من يصادفه ويتجاذب معه أطراف الحديث مثل العراقي الذي المغترب الذي دعاه لتناول الشاي في منزله وتبين لاحقاً أنه مكلف بمراقبته، أو المرأة الطاعنة في السن التي التقته في المتنزّه. يفشل (أتيللا) في تهريبه لأن وثائقه مزوّرة فيغادر هذا الأخير إلى غير رجعة. وعندما يتلاشى هذا الأمل الضعيف يأخذ كلام الشخص العراقي الذي كان يلاحقه على محمل الجد.

في المكالمة الرابعة والأخيرة يتأكد صادق بأن زوجته لم تبعث له أية نقود البتة، ويبدو أنها تلعب على أعصابة المُتعبة أو الموشكة على الانهيار. وفي خاتمة المطاف يقرر صادق أن ينفِّذ اقتراح الشخص العراقي في الذهاب إلى المنطقة الحدودية حيث سيهرِّبه بعض الأشخاص والمعارف شرط أن يترك وثائقه كلها عنده بما فيها جواز السفر، وإذا ما وقع في فخ ما فإن السلطات لن تعرف هويته في الأقل. يصل صادق إلى القرية الحدودية ويقيم في بيت مهجور لم ينم فيه لمدة ثلاثة أيام، ثم يستضيفه أحد القرويين البسطاء الذين لا يتقنون الحديث إلا بالهنغارية، ومع ذلك يرسم له خريطه لمغادرة البلد تقود إلى برلين في أضعف الأحوال. يتصل الشخص الذي كان يطارده في بودابست بـ (لاسي) ويجلب معه بندقيته القناصة التي تشي بأنه قَتَله قبل أن يغادر الحدود. وربما يكون هذا التداخل هو أحد العناصر الفنية في نجاح الفلم بحيث يُوهم المتلقي بأن صادق قد قُتل فعلاً برصاص القناص، خصوصاً وأننا شاهدناه يسقط صريعاً على أرض الغابة العذراء، لكننا في لقطة لاحقة نشاهده يدخن سيجارة في غرفة قديمة متداعية.

اللحظة التنويرية 

تكشف الرسالة الرابعة والأخيرة عن التفاصيل الكاملة لبنية القصة السينمائية برمتها، كما تفضح بعض الأساليب الدنيئة التي تستهدف ضرب العلاقة الإنسانية بين الابن وأبيه، وقد حدثت فعلاً خلال الحقبة الدكتاتورية أن وشى بعض الآباء بأبنائهم، فيما أقدم أحدهم على قتل ابنه ونال وساماً رفيعاً عن هذه الفعلة الشنيعة. يقول صادق في رسالته الأخيرة لولده: (إن عدم حُبِّك للقائد صدام حسين والثورة كلّفني الكثير. لقد أجبروني على أن أخبرهم عن مكان اختفائك حيث كان لديّ أمل واحد هو أن يعفوا عنك كوني واحداً منهم. لقد أعطوني مكافأة مادية للوشاية عنك ولو رفضت المكافأة لكان مصيري الموت ووعدوني بأن لا يعاقبوك). وعلى الرغم من عدم قدرة صادق على تبرير ما أقدمَ عليه من وشاية مدمرة إلا أنه بدأ يشعر بتأنيب الضمير حيث يقول: (أنا لا أستطيع أن أنسى وجهك كيف كنت تمشي، أنا أشعر بالعار من كاميرتي، الخطيئة ساكنة في روحي، أنا لا أستطيع أن أنسى تلك اللحظات، كيف حدث كل هذا أمامي)؟ كان صادق يخفي خبر موت ابنه على أمه وقد أوحى لنا على مدار الفلم أنه التحق بالحزب الشيوعي المعارض وضاع أثره في شمال الوطن، لكن الرسالة الأخيرة تقطع الشك باليقين بأنه قد فارق الحياة بطريقة بشعة تقشعر لها الأبدان. لنكمل بقية الرسالة التي يقول فيها: ( عندما جلبوكَ أنا كنت خلف الكاميرا، كنت أصوِّرك، أصوِّر موتك، لقد صورت قطع رأسك! كم أتمنى الموت وكم أتمنى أن أموت بجوارك)! لا أظن أن هناك مشهداً أبشع من هذا المشهد القاسي في الوجود، ولا أظن أن أباً يستطيع أن يصوِّر مشهد قطع رأس ابنه الوحيد اللهم إلا إذا كان جسده خالياً من الدماء بحيث لا يستطيع أن ينتفض أو يثور على هذه اللحظة المفجعة التي ينزل فيها السيف الحاد على رقبة فلذة كبده. لقد مات الأب موتاً افتراضياً حينما أرداه رجل الأمن الذي كان يتعّقبه في لحظة مكهربة تزامنت مع اعدام ابنه بالسيف وهي إشارة إلى أن هذا الرجل يحمل خطيئته معه أينما ذهب. إنها حقاً محنة الثلاثة معاً في آنٍ واحد. فإذا كان الابن قد أُعدم بطريقة بشعة ولاقى حتفه على أيدي الجلادين القتلة، فإن الأب يموت يومياً وهو يتذكر سلسلة من مشاهد التعذيب والقتل والاعدامات المتواترة التي لا تفارق مخيلته وهو ينتقل من بيت مهجور إلى آخر يعاني الخيبة والوحشة والإفلاس، أما الأم فقد خسرت الاثنين معاً، الأب الجاني والابن المجني عليه، كما خسرت نفسها أيضاً لأنها كانت تمعن في إيذاء زوجها ولا تمد له يد المساعدة في أحلك الظروف التي كان يمرّ بها بينما كانت هي تعيش في فراغ موحش لا يتخيله إلا الذين يعيشون الإحساس المفجع بالفقد والخسارة. ومثلما بدأ الفلم بالاستهلال المفجع للتمهيد الغنائي الحزين انتهى به لنصل إلى الإهداء الذي كرّسه الجنابي لذكرى والده وإلى كل ضحايا السنوات المظلمة في العراق الجريح

لابد من الإشادة في خاتمة المقال بالدور المُتقن الذي جسّده صادق العطّار بشكل عفوي صادق يخلو من أي شكل من أشكال الافتعال، إذ نجح في نقل شخصية الرجل المأزوم والمُطارَد من قبل عناصر الأمن العراقي إلى الشاشة بشكل مقنع جداً يتناسب مع طبيعة السياق التراجيدي الذي كانت تعيشه هذه الشخصية القلقة والمُحاصرة التي تدور في مناخ خانق يقطّع الأنفاس.

الجزيرة الوثائقية في

17/06/2013

عن سينمائي متوحش اسمه كوينتين تارانتينو !

أسامة صفار

لا يوجد سبب منطقي واحد لحدث كبير , ثمة أسباب كثيرة تستطيع أن تساهم في تفسير ظاهرة ما ويبقي الأمر اجتهادا أيضا لذلك ليس من المؤكد تماما أن هتلر انتحر حين علم بسقوط ألمانيا علي يد قوات الحلفاء لتنتهي بذلك الحرب العالمية الثانية عام 1945وليس من المؤكد أيضا أنه قد تم اغتياله في احدي دور العرض الفرنسية مع وزير دعايته الدكتور جوبلز وعدد كبير من قيادات الجيش الألماني كما حكي الأمريكي من أصل ايطالي كوينتين تارانتينو...القصتان اذن غير مؤكدتان لكن ملايين القصص الأخري أيضا تظل غير مؤكدة بما فيها الحياة التي نعيشها فثمة احتمالات – طبقا لقوانين الفيزياء – أن هذه الحياة لم تحدث أو حدثت وانتهت أو أنها مجرد حلم !.

هكذا يتعامل المخرج الأمريكي المثير للجدل كوينتين تارانتينو مع الحدث التاريخي في فيلمه " أوغاد سفلة " Inglourious Basterds 2009 وهو يدرك – فيما يبدو – أن التاريخ خدعة كبيرة يكتبها المنتصرون كما يريدون لذا قرر تارانتينو أن يخدع الجميع في كل أفلامه فقد أوهمنا أنه يصنع فيلما عن الحرب العالمية الثانية في ذلك الفيلم بينما كان يصنع فيلما وفقط وهو ما فعله في فيلمه الأخير " جانجو بلا قيود " Django Unchained حيث قدم أجواء مرحلة تاريخية أمريكية مرتبطة بوجود العبيد في أمريكا ليخطف المشاهد والناقد معا الي المعني المرتبط بتحرير العبيد والي تلك المرحلة بينما كان يصنع فيلما لا علاقة له بوقائع تاريخية محددة فالعالم كما يبدو لتارانتينو في أفلامه بتاريخه وجغرافيته واضاءته وبشره ليس الا مادة لصنع أفلام ممتعة ولكنها عنيفة ومتأملة كثيرا .

وتدفع أفلام تارانتينو الأخيرة الي تأمل قصته الأولي ذلك أن الرجل الذي يكتب أغلب أفلامه بنفسه اقتحم عالم الشهرة والنجاح بفيلم ملتبس مستقل بتكلفة لم تتجاوز مليون ومائتي ألف دولار وهو رقم متواضع بالنسبة للانتاج الأمريكي وجاء موضوع الفيلم عن جريمة لم نشاهدها وقدم حوارا متواصلا بين الأبطال عن أحداث لم نر سوي القليل منها ليطعن السينما في مقتل وهي الفن البصري بلا منازع وفن الحكي بالصورة من الأساس ومع ذلك لا يمكن لمشاهد فيلم " مستودع الكلاب " Reservoir Dogs1992 أن يشعر بالملل ولو لحظة واحدة وكما لفت الأنظار بكثرة الدماء وشدة العنف في فيلمه الأول لم يتخل تارانتينو عن هذه الدماء بل زادت حتي وصلت الي درجة قصوي في فيلم " جانجو بلا قيود " .. ولكن من أين يأتي العنف في أفلام تارانتينو ؟

للاجابة عن هذا السؤال علينا أن نعود الي ذلك الشخص ذي الأصل الايطالي والذي ولد في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1963وما ان يبلغ سبعة عشر عاما فقط حتي يترك الدراسة ويبدأ في العمل بمحل لتأجير أفلام الفيديو طمعا في مشاهدة تلك الأفلام وهو ما حدث بالفعل , وبجرأة غريبة يقتحم عالم السينما كممثل مبتديء دون أن يدرس مفضلا أن يحتفظ بتلك الذهنية التي تشكلت عبر شوارع مدينته وعبر الأفلام التي شاهدها وكأن الدراسة الأكاديمية للسينما تصنع قوالب في رأس دارسها فلا يخرج عن المألوف الا نادرا بعدها لذا ينطلق تارانتينو لكسر كل القواعد التي تعارف عليها السينمائيون ويقدم عنفا بلا حدود ويقدم عبثا يحمل في داخله منطق ويقدم ما لا يمكن أن يبعث علي الملل لكنه يبعث علي التأمل طارحا في فيلمه " منتهي الخيال " Pulp Fiction 1994 نموذج لشخصية تبدو كما لو كانت مفتاحا اخر من مفاتيح ادراك تارانتينو للعالم انه رجل العصابات الزنجي الذي يقتل بعد أن يقرأ نصوصا من الانجيل ومن ثم قبل نهاية الفيلم بقليل يطرح علي نفسه المعني المقصود من النص ليقرر التوقف عن القتل ويبدأ حياة جديدة وهو ما يعني ببساطة أن المقولات العظيمة والحكيمة صالحة تماما للاستخدام في القتل وصالحة أيضا للاستخدام في حياة صالحة ونافعة للبشرية ..ببساطة لا توجد ثوابت لدي تارانتينو ولا توجد قواعد حاكمة ثمة عبثية شبه مطلقة في الحياة والأمر كله يخضع لارادة الانسان في فعل القتل أو فعل الحب

تارانتينو بأفلامه الثمانية هو الابن المخلص للثقافة الأمريكية والتي تتجلي صورتها في هوليوود انتاجات هوليوود المختلفة كما تتجلي في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وغيره من مناطق العالم اذ تعيد هذه الثقافة صياغة العالم جغرافيا وتاريخ وفقا لما تريد بالعنف تارة وبالحوار تارة وكما تمنح الثقافة الأمريكية نفسها حق اعادة صياغة الواقع ورسم المستقبل فانها تعيد كتابة التاريخ كما تريد ووفقا لأهدافها وهكذا ينصب تارانتينو كصاحب ارادة مطلقة يعيد تشكيل القيم والمعاني السينمائية والانسانية ليكون بذلك صورة كربونية من الثقافة الأمريكية بوحشيتها وتجاوزها وانطلاقها بأنانية تامة كأنه لا يوجد في العالم سواها .

تارانتينو المؤلف والمخرج والمنتج والممثل هو الولايات المتحدة ذاتها فقد ورثت تلك الدولة ثقافتها وبشرها وقيمها من القارة العجوز أوروبا وقامت بتطوير كل ذلك وصبغته بصبغة أمريكية خاصة وهو ما فعله المخرج الأمريكي اذ ورث مواطنه الايطالي ورائد تطوير أفلام الكاوبوي " سرجيوني " ليقدم نمطا مختلفا تماما في " جانجو بلا قيود " كما ورث من النمسا وألمانيا ممثله المفضل الذي ظهر معه كضابط ألماني في " أوغاد سفلة " وحصل علي الأوسكار من هذا الدور بينما لم يكن قبل تارانتينو يتمتع سوي بشهرة محدودة ليقدم معه مرة أخري شخصية الألماني الذي لا يؤمن باستعباد الانسان للانسان ويتبني البطل الأسمر ويعلمه القتل ويساعده علي تحرير زوجته وفي الحالتين " أوغاد سفلة " و" جانجو بلا قيود " يموت الأوروبي بينما يفوز الأمريكي بالحبيبة والحياة .

والذي لا شك فيه أن تارانتينو شخص مهووس تماما بالسينما ولهذه السينما ملامح تبدو وكأنها قادمة من خبراته الشخصية ولعل من أهمها عشقه لظهورالمرأة الفاتنة الغامضة في أغلب أفلامه وقد جعل من كل شخصية مثلت هذا الدور رمزا ذي خصوصية فكانت أوما ثورمان في pulp fiction( منتهي الخيال) , لوسي ليو في kill bill( اقتل بيل ) , ميلاني لوران في inglourious basterds( أوغاد سفلة )  أما حبه الكبير فهوالقاتل المختل الذي يتلذذ بعذابات البشر مثل مايكل مادسن في ( مستودع الكلاب )reservoir dogs , فينج راميس في ( منتهي الخيال )pulp fiction و براد بيت في ( أوغاد سفلة)inglourious basterds .

ومن الطبيعي بعد ذلك ألا نجد أهتماما بالزمن أو ترتيب المشاهد, فكل أفلامه تقريباً تسير بخطوط غير مرتبة زمنياً ومشاهد متداخلة ويتسق تماما مع رجل لا يري في الحياة أي ثوابت سوي السينما .

الجزيرة الوثائقية في

17/06/2013

مهرجان الأفلام القصيرة في "سين سان دوني"

صلاح سرميني ـ باريس 

تتلاحق المهرجانات السينمائية في باريس (وفرنسا عموماً)، ما أن ينتهي أحدها حتى يبدأ آخرٌ، وآخرٌ مع فارق بعض الأيام بينها، أو تتداخل أحياناً، ولا أحد من الفرنسيين يعترض، أو يتحدث عن منافساتٍ غير موجودة أصلاً، حيث يعكس هذا الزخم، والتنوّع مظاهر عافية للمناخ الثقافيّ العامّ.

وفي هذه الحالة الإيجابية تماماً، يتحتمّ على المُحترفين، والجمهور على السواء الإختيار بين المهرجان الأقرب إلى إهتماماتهم.

خلال الفترة من 5 وحتى 15 يونيو 2013 شهدت "سين ـ سان ـ دوني" الدورة الثانية والعشرين لمهرجان الأفلام القصيرة، وخلال الفترة من 12 وحتى 18 يونيو، وفي الطرف الآخر من باريس، إنطلقت الدورة الثانية لمهرجان الشانزإيليزيه السينمائي (أو مهرجان السينما في الشانزإيليزيه). 

يعود تاريخ الأول إلى 22 عاماً مضت، وبدأ يعاني من أزماتٍ تمويلية، ويحتفي الثاني بعامه الثاني بإبتهاج مريح.

وبينما ينعقد الأول في الضواحي الشمالية/الشرقية المُحاذية تماماً للعاصمة باريس، تتمركز عروض الثاني في شارع واحد (8 صالات)، وعلى حين إختار الأول خطةً برمجيةً تناسب جمهوراً معيناً، إعتمد الثاني على أفلامٍ أكثر جماهيريةً

بالنسبة لناقدٍ سينمائيّ يتابع الأفلام القصيرة بكثافة، ويميل إلى الإتجاهات الطليعية، التجريبية، والمُختلفة، سوف يختار حتماً المهرجان الأول، حيث لن يتسنى مشاهدة أفلامه إلاّ في هذه المناسبة بالتحديد، بينما سوف تُعرض الأفلام الروائية الطويلة للمهرجان الثاني واحداً بعد الآخر في الصالات التجارية.

هذه قراءةٌ عامةٌ حول المهرجانيّن(أبدأها بمهرجان الأفلام القصيرة في "سين ـ سان ـ دوني")، وهي لا تدّعي بأنها تتوّغل في تفاصيلهما، بإنتظار واحدةً أخرى، سوف تثير الفضول حتماً.

***

 (Seine-Saint-Denis) ليست مدينة، هي منطقةٌ إدارية، تُشكلّ الضواحي المُحاذية للعاصمة باريس من جهة الشمال/الشرقيّ، ومنذ 22 عاماً ينعقد فيها أحد المهرجانات الرئيسية المُتخصصة بالأفلام القصيرة (وضمنياً المُتوسطة الطول) بإدارة الخبير السينمائيّ "جاكي إيفرار"، وتتمركز كلّ نشاطاته، وعروضه في قاعة (Ciné 104) في مدينة "بانتان"، وتتوزّع بعضها في الصالات البلدية للمُدن المُجاورة التي تتكوّن منها هذه المنطقة الإدارية.  

وحتى دورته في العام الماضي 2012، كان يمضي المهرجان بدون الحديث عن عقباتٍ مالية، ولكن، مع دورته الأخيرة، الثانية، والعشرين التي إنعقدت خلال الفترة من 5 وحتى 15 يونيو 2013، بدأت تظهر على السطح آثار العقبات التمويلية التي يتعرض لها، ويبدو بأنها وصلت إلى درجةٍ من القسوة بحيث أجبرت إدارة المهرجان على كشفها من خلال البيان الصحفي، والحديث عنها مباشرةً مع الجمهور من بعض ممثلي الجهات المحلية الداعمة، وتبريرها بالأزمة الإقتصادية العامة التي تجتاح فرنسا منذ سنوات، وبالآن ذاته، تشجيع إدارة المهرجان على ضرورة إمتصاص هذا النقص الحاصل في الميزانية عن طريق إيجاد مصادر تمويلية أخرى، ومنها ـ على سبيل المثال ـ مبيعات التذاكر، وإنفتاح الجمعية المُنظمّة على أعضاء من المُحترفين، والجمهور على حدٍّ سواء، والإعتماد على إشتراكاتهم السنوية، وحتى قبول التبرعات الصغيرة، والكبيرة من متابعي المهرجان، وعشاق السينما، وفاعلي الخير.

بدون ذلك البيان الصحفيّ، والكلمات المُقتضبة التي سمعناها في ليلة الإفتتاح ـ الخالية تماماً من أيّ مظاهر إحتفالية ـ ما كنا عرفنا أيّ شيئٍ عن هذه الأزمة التمويلية التي يمرّ بها المهرجان، ورُبما أيضاً ما كان أحدٌ منا لاحظ بأنّ "الدليل الرسمي" المُعتاد قد تحول إلى "نشرةٍ ورقية" تشبه تلك التي كانت تصلنا قبل أسابيع من إنعقاد المهرجان (وتمّ إستبدالها برسالةٍ إلكترونية توفيراً للنفقات).

هذه الخطابات المُشتكيّة التي بدأنا نتعوّد على سماعها في العروض الإفتتاحية، والختامية للكثير من المهرجانات الفرنسية (لا يوجد مظاهر إحتفالية أبداً)، رُبما ماعدا مهرجان كان الوحيد الذي لا يُعاني منها، أو لا يكشفها، وهو قادرٌ ـ بإعتقادي ـ على إيجاد مصادر تمويلية مُكمّلة من فرنسا، أو من خارج حدودها، بدون أن يُصاب أحدنا بالإحباط، وتنتابه أفكاراً هوسية بأنّ هذا المهرجان، أو ذاك سوف يتوقف عن نشاطاته، حيث، وعلى الرغم من كلّ هذه الصعوبات التي تعترض المهرجانات السينمائية (والمشهد الثقافي بشكلٍ عام)، نجدها مستمرةً، وصامدة، والمُثير للدهشة، تُفاجئنا فرنسا بمهرجاناتٍ جديدة تنطلق من هذه المدينة، أو تلك، مع أنّ ميزانياتها تعتمد بشكلٍ أساسيّ على نفس مصادر الدعم المحليّ، الإقليميّ، والوطنيّ، رُبما أصبحت آليات إقتصادية تمويلية جديدة تهدف إلى ترشيد النفقات، أيّ تقليص ميزانية مهرجانٍ ما كي يبدأ بالإعتماد على نفسه، ومنحها إلى واحدٍ آخر جديد.

ومع ذلك، خلال هذه المهرجانات التي تتقلصّ ميزانياتها، يصعب أن نلاحظ تأثيراتها، وعلى سبيل المثال، منذ سنواتٍ وإدارة المهرجان الدولي للأفلام القصيرة في "كليرمون فيران" تتحدث علناً عن أزمةٍ تمويلية، ولكن، من أخلص لهذا المهرجان منذ بداياته حتى اليوم، لن يلاحظ تغييرات واضحة في الجوانب الفنية، وهي، على العكس، تتطوّر سنةً بعد أخرى، ومازال المهرجان يتمتع بسمعةٍ فريدة كواحدٍ من أهمّ مهرجانات الأفلام القصيرة في العالم (كان الفيلم القصير كما يُقال عنه).

وهذا ما أدركناه أيضاً خلال متابعة مكثفة، ومفيدة لمهرجان الأفلام القصيرة في "سين ـ سان ـ دوني"، وبرامج الدورة الثانية، والعشرين تشهد على ذلك

منذ بداياته، تخيّر "جاكي إيفرار" أن يكون المهرجان مختلفاً عن كلّ المهرجانات الفرنسية المُتخصصة بالأفلام القصيرة (وحتى أكبرها، وأشهرها في "كليرمون فيران").

إنه مهرجانٌ فرنسيّ في مسابقاته، طليعيّ في توجهاته، وبرمجته، ينبش في تاريخ السينما الفرنسية(وأحياناً العالمية)، ويكشف عن حاضرها، يكفي بأن يقدم في عرض الإفتتاح أربعة أفلام من مقتنيات "السينماتك الفرنسية" لن يتسنى للمتفرج مشاهدتها بسهولةٍ إلاّ في مناسباتٍ عظيمة كهذه.
أربعة أفلام نادرة هي البدايات الأولى لمخرجيها الكبار

ـ "من أجل عيونك الجميلة"، فيلم بلجيكيّ صامت بمدة 8 دقائق، أبيض، وأسود، إنتاج عام 1929 وإخراج "هنري ستورك".

ـ "جنون دكتور توب"، فيلمٌ فرنسيّ قصير بمدة 12 دقيقة، أبيض، وأسود، صامت، من إنتاج عام 1915، وإخراج "آبل غانس".

ـ "لمبة"، فيلمٌ بولونيّ قصير بمدة أربع دقائق، و30 ثانية، من إنتاج عام 1959، وإخراج "رومان بولانسكي".

ـ "هاملت"، فيلم بولونيّ قصير بمدة أربع دقائق، و30 ثانية، من إنتاج عام 1960، وإخراج "يرزي سكوليموفسكي".

في الأيام التالية، كانت الأفلام المُدرجة في "البانوراما" لا تقلّ أهميةً عن أفلام المسابقتيّن(الروائية، والتجريبية)، ولهذا، كان "جاكي إيفرار" وفي كلّ مرة يقدم أحد برامجها، يُذكرنا بأنّ إدارة المهرجان تلقت حوالي 1500 فيلماً إختارت منها 25 لمُسابقة الأفلام الروائية، ومثيلها عدداً لمُسابقة الأفلام التجريبية (وأفلام التجربة، والفيديو آرت).

ونظراً لأهمية الكثير من الأفلام المُتقدمة، فقد إختار فريق المهرجان عدداً وافراً منها توزّعت في 13 برنامج، بمجموع حوالي 46 فيلماً جمعت أفلاماً قصيرة، ومتوسطة الطول من كلّ الأنواع : روائية، تسجيلية، تجريبية، وتحريكية.

وبالتوازي مع المُسابقتين، والبانوراما، نضح المهرجان ببرامج ثرية، تخيرتُ متابعتها حرصاً على مشاهدة دراسية منهجية.

هنا العناوين العامة لهذه البرامج، بإنتظار قراءة أكثر تفصيلاً، وتحليلاً :

ـ "لويّ غاريل" هاويّ.

ـ الأفلام الأخيرة للمخرج "جان لوك غودار".

ـ ثلاثة أفلام للفيلسوف الوضعي "غي ديبور"

ـ عروض إستعادية لأفلام المخرج "بيير كروتون".

ـ شاشاتٌ حرة : فيلم لكلّ من المخرجين : فيليب غراندريو، فيم فانديكيبوس، فريدريك دانوس.

ـ إضاءة على المخرج الفرنسي "جاك بيركونت".

ـ تكريم المخرج الفرنسي "مارسيل حنون".

ـ فنان ضيف : المخرجة الفرنسية "دانييل فاليه كلاينر".

ـ عروض للأطفال.

وبرامج أخرى برمجتها مؤسّسات مختلفة، وإستضافها المهرجان، والأهمّ، طاولة مستديرة بعنوان : السينما، فنٌّ معاصر.

الجزيرة الوثائقية في

17/06/2013

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)