حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

شعبان حسين

كمال رمزي

الثلاثاء 28 مايو 2013 - 9:20 ص

 

الإنسان، الفرد، فى مسيرة حياته، مثل الجيش فى تقدمه، يترك حميات قوية، يرتد إليها، بالضرورة حين يتعرض لخطر داهم.. وفى «سواق الأتوبيس» لعاطف الطيب 1983، يجد بطل الفيلم، حسن ــ بأداء نور الشريف ــ نفسه فى مأزق وعر» ورشة الخشب المنتجة، التى أقامها والده، فى طريقها للبيع، الغربان، فى العائلة، أزواج شقيقاته، التجار، ومن لا ضمير لهم، ممن لمستهم قيم الانفتاح المروعة، بجنون الرغبة فى الثراء، حتى لو كان الثمن هو التخلى عن إنقاذ مؤسسة صناعية تعمل بها عشرات الأيدى.. يغدو لزاما على «حسن» أن يبحث عن مخرج من هذه الورطة.. وحين يبحث عن إحدى محطات الصمود، والقوة والأمل فى حياته، تنهض حرب أكتوبر فى ذاكرته. يستعيدها، تحت سفح الهرم، مع بقايا زملاء الأيام الخوالى، «شلة القروانة» التى استشهد منها البعض، ولا يزال البعض يعالج من إصاباته.. وها هم من تبقى من الفرسان، ومن بينهم «رزق»، الذى أدى دوره، بشفافية، شعبان حسين، ساعده فى ذلك طريقة بناء شخصيته، التى رسمها كاتب السيناريو المتفهم، بشير الديك.

«رزق»، زميل حسن أيام الحرب، والإنسان الوفى فى الأيام الصعبة. هو زوج إحدى شقيقات حسن.

لا نعلم كيف ومتى تزوج. المهم، أنه عائد من الخليج بمبلغ مالى، يطمح إلى دفعه فى شقة، وبلا تردد، يقدم ما اقتصده لحسن، مساهمة فى المبلغ المطلوب لحساب الضرائب، «رزق»، لا يقدم النقود بنفسه، ولكن يجعل زوجته، هى التى تعرضه وتقدمه لشقيقها.. وعلى وجهه، ترتسم معالم الرضاء. راحة نفسية تتجلى فى ابتسامة عذبة، وهو، فى أداء مدهش، يكاد يتوارى، كنسيم عابر، لأنه لا يريد إثبات بطولة.

شعبان حسين، برغم أنه لم يقم بأدوار البطولة، لكنه أدرك أن الدور الثانوى، أو حتى الهامشى، شديد الأهمية، حتى وإن جاء متواضعا، فمن يستطيع القول إن الإصبع الصغير فى الكف لا ضرورة له؟.. قد يكون غير ظاهر للعيان، إلا أن غيابه يجعل الجسم ناقصا.

أتذكر شعبان حسين، أيام الدراسة فى معهد الفنون المسرحية. لا أراه إلا ضاحكا، مبتهجا، محبوبا من الجميع.. وحين عمل فى المسرح، اتبع طريقة بدت غريبة، ذلك أنه دأب على الذهاب للبروفات من دون النص أو الأوراق المتعلقة بدوره، ويتبين الجميع أن فناننا حفظ المسرحية كلها، وما حضوره إلا لمعرفة طبيعة الأخذ والعطاء بينه وبقية الممثلين.. قدم عشرات الأدوار، فى السينما، والمسلسلات، وربما جاء دور «ثروت» فى «عائلة ونيس»، من أجمل الشخصيات التى قدمها. إنه «الطبل الأجوف»، الثرى المتعاظم، التافه فى ذات الوقت، الجعجاع، والواضح أن طريقة أدائه لهذه الشخصية، ذات الطابع الكاريكاتورى المرح، لمست وترا مستحبا عند المشاهدين، فأصبحت عبارة التفاخر «عندى منها تلاتة»، تتردد على الألسنة.

الجميع، فى مسلسل «شيخ العرب همام» وصلوا إلى درجة رفيعة من التمكن، بفضل كتابة عبدالرحيم كمال، وإخراج حسنى صالح.. شعبان حسين، هنا، يجسد شخصية لها وشائج ما مع شخصية «رزق» فى «سواق الأتوبيس»، فبرغم بعد الشقة، زمنيا، بين أحداث الفيلم التى تدور فى الثمانينيات، ووقائع «شيخ العرب همام» التى تندلع أيام المماليك، فإن شعبان حسين، بحضور روحى أثير، يأتى ليس كمجرد نسيم رقيق، ولكن كصخرة يستند عليها «همام»، آخر ملوك الصعيد، بأداء بارع من يحيى الفخرانى.. شعبان حسين، أو «بولس» حسب اسمه فى المسلسل، يتولى، بنزاهة، حسابات «المملكة» ويصوغ قرارات همام. إنه شديد الإخلاص، متماسك، لا يهتز أمام الخطوب، قليل الكلام، لا يفعل إلا ما يراه صحيحا، لذا فإن عيون يحيى الفخرانى تلتمع بالمحبة والتقدير حين يتحدث معه.. أما «بولس» المخلص فإنه يطل واقفا، راسخا، بجانب همام، حتى اللحظات الأخيرة.. رحم الله فناننا الوديع. 

جاتسى.. مشبوهـًا

كمال رمزي

الأحد 26 مايو 2013 - 8:00 ص

اختلف الأفيش هذه المرة. ابتعد عن دقة الرومانسية التى غلفت إعلان «جاتسى العظيم» السابق 1974، متضمنا بطلى الفيلم: ميا فارو، بوجه نحيل، أضناه الحب، وعيون بادية الحيرة، وثمة قبعة تخفى جبهتها.. وخلفها، يقف روبرت ردفورد، الواثق من نفسه، يكاد يلتصق بها. الاثنان، يرتديان الملابس البيضاء، مما يوحى بامتزاج روحيهما.

فى الفيلم الجديد، وزعت شركات الإنتاج أفيشا مبدئيا، قامت بتغييره عقب الانتهاء من صناعة الفيلم، فالواضح أن الشركة أدركت بعد المسافة بين ايحاءات الإعلان من  ناحية، والعمل السينمائى من ناحية ثانية، ذلك أن وجه النجمة التى تقوم بدور ديزى «كارى موليجان» يحتل المساحة كلها، فيما عدا شريحة من قفا ليوناردو دى كابريو. اختفى وجهه تماما، يلامس وجهها ولا يظهر منه سوى شحمة إحدى أذنيه.. الأفيش، بهذا التكوين، يعنى أن ديزى هى محركة الأحداث. مركز الثقل فى الحكاية المهيمنة على الأمور، بينما جاتسى، أو كابريو، مجرد نكرة، بلا ملامح، الأمر الذى لا يعبر عن توجهات المخرج باز لورمان.. جاء الأفيش الأخير، المعتمد، مغايرا ان لم يكن مناقضا: هبط بكارى موليجان إلى قعر الإعلان، ضئيلة، باهتة، تنظر باستسلام نحو الخارج.. فى صدارة الأفيش يقف دى كابريو شامخا، قويا، راسخا، أنيقا. وأبعد ما يكون عن الرومانسية. وجهه يكتسى بالصرامة. إلى جانبيه يقف رجلان أقصر منه قامة وأقل حضورا. فى كل من الهامشين تقف امرأة عابثة، وثمة خطوط حادة، متقاطعة، فى خلفية الإعلان.

هذا الأفيش يعبر، ببلاغة، عن روح الفيلم، المختلفة تماما عن الأعمال السابقة، المعتمدة على رواية فيتز جيرالد الشهيرة، والتى تدور حول «جاتسى» الغامض، العائد بعد سنوات من الغياب، وقد غدا بالغ الثراء. يشترى قصرا منيفا قبالة قصر حبيبته القديمة، ديزى، الكائن فى الناحية المقابلة من الخليج. يقيم الحفلات الصاخبة، يحضرها حتى من لا يعرفه. تسيل فيها المشروبات. تنطلق موسيقى الجاز بلا  هوادة، وتندلع الرقصات المجنونة.. يلتقى الحبيبة التى لم يقترن بها، بسبب فقره. لكن الآن، يريدها أن تنفصل عن زوجها كى تصبح له وحده. يدور صراع، ساكن ومتصاعد، بينه والزوج، الأرستقراطى أصلا.. وتنتهى الرواية برصاصة غادرة، يطلقها رجل يظن ــ مخطئا ــ أن جاتسى كان على علاقة بزوجته، وأنه صدمها بسيارته وفارقت الحياة.

«جاتسى»، فيما قبل، بدا كطاووس زاهى الألوان، يطل من النافذة العلوية على الآخرين. هو محاط بالألغاز، جذاب، لا أحد يعرف عنه الكثير.. لكن الفيلم، هذه المرة، ينتف ريش «جاتسى»، ويفضح سره، ويعريه، بلا رحمة، هو ومجتمعه، فإذا كانت الأفلام السابقة، لم تبين مصدر ثروة الرجل الكريم، العاشق، فإن بازلورمان، هذه المرة، يبين بوضوح أنه فى مستوى الشبهات، من خلال المكالمات التليفونية الغامضة التى تأتيه بين الحين والحين، وتتأكد علاقته بعصابات العشرينيات حين يجلس، بحميمية، مع ماير ولفشون، زعيم أكبر أسر المافيا، بأداء النجم الهندى اميتاب باتشان، فى أول إطلالة هوليوودية موفقة، فهو، فى مشهد واحد، يوحى أنه، برغم ضحكاته، على درجة كبيرة من الخطورة.

الحكاية، يسردها لنا الراوى، نك كاراوى، جار جاتسى وقريب ديزى، المشارك ثانويا فى الأحداث، لعل أهمها حين تدخل لإيقاف معركة جسدية اندلعت بين العاشق وزوج الحبيبة. ورغم علاقته الوطيدة بجاتسى، يقول جملة واحدة، حادة وكاشفة وباترة «رأيت فى عينى جاتسى أننى أمام رجل قاتل».. بالتأكيد، دى كابريو، الموهوب، المتفهم بعمق للشخصية التى يؤديها، أدرك ما ينطوى عليه ماضيها من جرائم، لذا فإن نظرات الرومانسية المعهودة عند كل من قام بدور جاتسى، تختفى أو تكاد فى هذه المرة، بل تكاد تتحول إلى ما يشبه جنون الملكية والاستحواذ. ديزى هنا، أقرب إلى الحلية الثمينة، طفلة، لكن خالية من البراءة، لا تحب جاتسى بقدر ما تحب شغفه بها، وهى نزقة، بلا إرادة، حتى إنها، مثل الآخرين، لم تحضر جنازة جاتسى، لذا، كان من المناسب أن يهبط بها الأفيش إلى القاع.

فى تقييم الفيلم الذى أزعج الكثير من النقاد، بسبب صخب الألوان والموسيقى والرقصات، بالإضافة لحركة الكاميرا العنيفة، السريعة أحيانا، والمتسكعة عند أزياء النساء المزينة بالخيوط المسدلة والترتر يمكن القول أن بازلومان، وضع عروقا ذهبية وسط هذا الركام، وربما جاء تفسيره لجاتسى، أفضل هذه العروق، ذلك أنه نتاج نظام يقدس الثروة والأثرياء، حتى لو كان الوجيه الأمثل، على غرار بطلنا، أقرب إلى زعماء المافيا، كما يؤكد الأفيش. 

محمود سعد

كمال رمزي

الثلاثاء 21 مايو 2013 - 8:00 ص

«شهر زاد الزمن الجميل».. هذا عنوان الكتاب، صغير الحجم، كبير القيمة، الذى كتبه محمود سعد، عن الفنانة زوزو نبيل، بمناسبة تكريمها فى المهرجان القومى للسينما المصرية عام 1996.. لغة الكتاب رشيقة، رقيقة، ناعمة، موجزة وسريعة، يمتزج فيها العام بالخاص، فى حياة «زوزو نبيل»، تجربتها الشخصية فى الحياة، ومشوارها الإبداعى، فى الإذاعة، وفوق خشبة المسرح، وعلى الشاشتين، الكبيرة والصغيرة، وهى سمات مدرسة «صباح الخير»، المجلة ذات الطابع الشاب، الدافقة بالحيوية التى اكتسب منها محمود سعد الكثير، منذ عمل فى رحابها، وانتقل بملامحها، إلى صحف أسند له رئاسة تحريرها، وحملها معه، إلى برامجه التليفزيونية.

ذائقة محمود سعد، قادته إلى الافتتان بالجملة التى تلقيها زوزو نبيل، بطريقة خلابة، تفتح آفاقا مليئة بالوعود، أمام المستمع والمشاهد، والتى تقول «بلغنى أيها الملك السعيد».. الواضح أن محمود سعد تشبع بهذه المقدمة، المثيرة للاهتمام، وبأسلوب إلقائها الدافئ، برغم مظهرها المحايد، ذلك أنه يفتتح برامجه عادة بما يعنى «بلغنى أيها المواطن الكريم» أو «علمت أيها المشاهد العزيز».. ثم يلقى بحصيلة حصاده، بحلوه القليل، ومره الكثير، فى «آخر النهار».. يحاول، بقدر طاقته، الابتعاد عن صخب الانفعالات، معتمدا على ثقة عميقة متبادلة، بينه والمشاهد، حققها، خلال مشوار طويل من الصدق، مع الذات، ومع الوقائع التى يتحدث عنها، معلنا، بوضوح، عن رأيه، ومشاعره، منتقدا، بعمق، وبدون تجنى، ممارسات خاطئة من أصحاب النفوذ.. وفى ذات الوقت، لا يتردد عن انتقاد نفسه، نقدا مصحوبا بالندم والاعتذار، حسب ما فعل، أكثر من مرة، بسبب اختياره الخاطئ للدكتور محمد مرسى، رئيسا.

محمود سعد، يتمتع بوجه شديد الصفاء، بعيون حانية النظرات، متصالحة مع الحياة حتى لو كان صاحبها غاضبا، فضلا عن ابتسامة طبيعية، توحى أنه ولد بها، لذا، حين تتلاشى، يدرك المتابع أن مذيعه يعانى مما يستحق الكدر، وهو كثير.. مع الممارسة، اكتسب محمود المزيد من مهارات الأداء، لعل فى مقدمتها، إدراك قيمة الصمت، للحظات، وما يمكن أن يؤديه الصمت من معان. تارة يعبر به عن الحيرة، وتارة عن درجة ما من اليأس، خاصة إذا كان يسبقه أو يلحقه بآهة. أحيانا يأتى الصمت بمثابة نقاط تحل مكان ألفاظ جارحة لا يريد استخدامها، مثل «احنا رضينا بالـ.. والـ.. مارضاش بينا».. وأحيانا يستخدم الصمت لإتاحة فرصة التفكير للمتابع، فمذيعنا لا يزعم أبدا أنه العارف ببواطن الأمور، وعلى المشاهد أن يتلمس الجزء الغاطس، الخفى، أسفل رأس جبل الجليد العائم.

مثل معظم هذا الجيل من المذيعين، أصحاب الرأى، ينحاز محمود سعد لقضايا المواطنين والوطن، وبالضرورة، يصطدم بالمهيمنين على مقدرات الأمور، من الناحية الرسمية.. يندلع السجال، إن لم يكن التراشق، بينهما عاقلا، هادئا مرة، عاصفا، عنيفا، معظم المرات. قد لا ينتهى بنصر أو هزيمة، ولكن، بالتأكيد، يحقق قدرا من التنوير، ويزيد من شعبية المذيع المثقف، الذى استوعب درس نجيب محفوظ: عاقبة الجبن أوخم من عاقبة الشجاعة.. وبالتالى.. اختار أن يظل شجاعا. 

للسراويل أجنحة

كمال رمزي

السبت 18 مايو 2013 - 8:00 ص

عقب عرض مجموعة من الأفلام القصيرة، جلسنا كالعادة فى الكافيتريا الملحقة بدار العرض، دارت الأحاديث عن مشروعات المستقبل. باغتنا شاب أيرلندى الأصل بأنه على وشك الانتهاء من عمل فيلم عن موضوع غريب، لم أسمع عنه من قبل. «سروال الملكة فيكتوريا». ظننت فى البداية أن الشاب المهزار، بفمه الضاحك، يلقى بدعابة.. لكن حين أخذ يشرح فكرته أدركت أنه جاد تماما، يتمتع بعين لاقطة، تنتبه للمفارقات الكامنة وراء ما قد يبدو عابرا ومألوفا.. قال الشاب النابه إن فيلمه سينطلق من المزاد الذى أقيم فى مدينة «دربى» بإنجلترا، وحضره من يطلق عليهم علية القوم، أثرياء الدنيا، مجانين اقتناء ما يتعلق بممتلكات السادة القدامى، حتى وإن لم يكن لها قيمة أو فائدة.. فتح الشاب حقيبته، وأخرج مظروفا أبيض، سحب من داخله عدة صور فوتوغرافية للسروال ــ بطل الفيلم ــ وأخذ يسرد معلومات عنه: محيطه «132» سنتيمترا، عرضه «76» سنتيمترا، وترجع ضخامته، واتساعه إلى بدانة الملكة فى سنوات حكمها الأخير، وهو منسوج باليد، من القطن النعام، الوارد من مصر على الأغلب.. يشبه سراويل أهالينا الصعايدة، ولكن يصل للركبتين فقط.. وبرغم دمامته اشتراه أمريكى بمبلغ سبعة آلاف وخمسمائة جنيه استرلينى، متجاوزا ضعف الثمن المتوقع له.. ما أريد إبرازه فى الفيلم ــ والكلام للشاب ــ نقطتين. واحدة تتعلق بالملكة فيكتوريا «1837 ــ 1901»، ملكة بريطانيا العظمى وأيرلندا وإمبراطورة الهند، والتى أطلق على سنواتها «العصر الفيكتورى»، ووصلت فيها الإمبراطورية الاستعمارية إلى أقصى حدودها.. أما النقطة الثانية التى سيثيرها الفيلم فتبرز شغف العم سام بالاستحواذ على ميراث الإمبراطورية، بعد غياب شمسها، بما فى ذلك سروال الملكة الذى طار فى الزمان، أكثر من قرن، كما طار، فى المكان، من قارة لقارة.

حديث السينمائى الايرلندى فتح آفاق الأحاديث عن السراويل، فى الأدب، والتاريخ.. أشار أحدهم إلى رواية «سروال القس» للكاتب الساخر ثورن سميث، التى تدور حول الحظ العاثر الذى ألقى بمجموعة بشرية إلى جزيرة عراة، وبينما توافق الجميع مع تقاليد سكان الجزيرة، ظل القس محتفظا، بكل قواه، بسرواله، كما لو أنه خط دفاعه الوحيد.. لفت أحد الجالسين النظر إلى ما فعله «سعيد أبوالنحس» بطل «المتشائل» لإميل حبيبى، حين وقعت الضفة الغربية فى قبضة القوات الإسرائيلية التى أمرت برفع الأعلام البيضاء فوق أسطح المنازل، ولأنه لا يريد إعلان استسلامه، وفى ذات الوقت، يخشى بطش العدو، نشر سرواله الأبيض، فوق حبل غسيل، إرضاء لضميره، وتجنبا، بقدر المستطاع، للأذى.

من تاريخنا، جاءت عشرات السراويل، خاصة فى أعقاب انسحاب الحملة الفرنسية، أثناء الثأر من عشيقات الجنرالات، حيث الهجوم على التعيسات تخطف سراويلهن المرصعة بالحلى الثمينة وحبوب العطارة ذات الرائحة الطيبة.. قبلها، بعدة قرون، قامت زوجة عز الدين أيبك بقتل شجرة الدر «١٢٥٧ م»، وألقت بجثتها من فوق سور القلعة، وليس عليها إلا سروال وقميص، ويقول مؤرخ تلك الحقبة، تغرى بردى إن «بعض أراذل العامة أخذ تكة سروالها المزينة بالجواهر الثمينة».

من قلب الحاضر، تنهض السراويل على نحو لا يتأتى إلا فى مصر، ذلك أن ذهن شباب «6 أبريل» تفتق عما يمكن أن تسميه «حرب السراويل»، ذلك أن مجموعات منهم، توجهوا فى مظاهرة، نحو مسكن وزير الداخلية، رافعين عصيا خشبية عليها ملابس داخلية، حريمى ورجالى، مرددين هتافات تعنى أن الداخلية تنام على سرير كل سلطة.. وكالعادة، أخذت قوات الأمن تلقى قنابل الغاز.. رد الشباب بقذف السراويل فى اتجاه العساكر والضباط.. طبعا، السراويل الطائرة لم تؤد إلى قتلى أو جرحى، ولكن خلفت ندوبا نفسية لا شك فيها، وإن كان المشهد كله، لا يخلو من كوميديا، تنتظر لمن يجسدها على الشاشة، تسجيليا أو روائيا، خاصة أن الصحف تتحدث، بعد القبض على النشطاء، أن أحراز القضية عبارة عن كرتونة، بداخلها «27» قطعة ملابس داخلية، حريمى ورجالى، فهل، فى أثناء المحاكمة، ستوضع السراويل أمام منصة القضاء؟ 

تتح

كمال رمزي

الثلاثاء 14 مايو 2013 - 8:00 ص

منذ اللمبى، عثر محمد سعد على شخصية ذات أبعاد تتوافق مع قطاعات واسعة من شبابنا: المواطن العشوائى، بلا حضور اجتماعى محترم، ولا مستوى اقتصادى مستور، ولا عمل منتظم، ولا مستقبل مأمول.. ومع هذا، يعيش الحياة، يواجهها من دون احتجاج أو تزمر، وربما، بدرجة ما من السخرية والتهريج.. ومن الناحية الشكلية، تعمد العشوائى الابتعاد عن التأنق، فهو يرتدى الملابس القديمة، المهترئة، المتنافرة، بوجه يكاد يخلو من الجمال: حواجب كثيفة فوق عينين غائرتين. أنف غليظ. فم واسع. شعر الرأس خفيف. إنه ليس نجما بالمعنى المألوف، ولكن يعد نمطا خاصا، يتوالى ظهوره، فيلما بعد آخر. وهذا لا يعد عيبا فى حد ذاته، فتاريخ السينما يذكر العديد من الأنماط التى حافظت على ألقها برغم أنها لم تتغير صورتها على الشاشة.. ولعل شارلى شابلن أن يكون النموذج الكلاسيكى للفنان الذى قدم، بنجاح، عشرات الأعمال، يطالعنا فيها بشخصية الشريد جسم ضئيل، بنطال واسع، قبعة قديمة فوق رأس صغير، حذاء واسع.. هو صعلوك، فقير، لكن بالغ الثراء، إنسانيا، فبرغم عوزه، يتبنى «الصبى» اليتيم، وعندما يحب، فإنه يحب بائعة الورد الضريرة.. أفلامه، التى كتب سيناريوهاتها بنفسه، تتسم بوعى سياسى عميق، تصب جام غضبها على نظام يقسم أناسه إلى جوعى ومتخمين، ويغدو فيه رجل الشرطة الغليظ مخلبا للسادة. مجتمع مصاب بسعار البحث عن الذهب والثروة إلى حد الجنون.. وهذا ما جعل لشابلن قيمة رفيعة، لا تخفت عند الأجيال المتعاقبة.

لم يستوعب محمد سعد درس شارلى شابلن، خاصة فى المعنى والهدف والرؤية، فاكتفى بالشكل دون المضمون، وظن أن التطور ــ أو التدهور ــ الشكلى من الممكن أن يصنع كوميديا، ووصل به الأمر، فى «تتح»، إلى الظهور بجاكتة بيجامة من دون بنطالها، وترك شعر ذقنه نابتة، لا هى محلوقة ولا هى لحية، فقط توحى بإهمال النظافة. زاد الحول فى عينيه، وتهشمت الكلمات الخارجة من فمه، وأخذ يسير بقدمين متداخلتين. أى أنه بدلا من أن يعبر عن العشوائية، أصبح هو نفسه، بأدائه عشوائيا.

«تتح»، فيلم لا سيناريو له، برغم كتابة اسمى محمد نبوى، وسامح سر الختم.. ولكن به مشاهد متراكمة، يمكنك حذف بعضها، أو إضافة لها، فالعمل بلا بناء، برغم أن بطله المطلق، يقوم بتربية ورعاية ابن شقيقه، الشحط، بأداء عمرو مصطفى متولى، يسكن فى بيت قديم، من جيرانه فتاة لعوب، بأداء سخيف من ممثلة نسيت اسمها، ومدرس نبيل ومريب فى آن، يؤدى دوره سامى مغاورى، له حدوتة لم يستوعبها أى متابع للفيلم، تتعلق بثروة تركها مليونير له كى يسلمها لابنته التى يطاردها أشرار.. يقوم «تتح» بالبحث عن الابنة، فيلتقى مرة، بالنجم سمير غانم، ويقدمان سويا فاصلا يدخل فى باب الفارص ثم يذهب لقرية حيث يحضر زفافا لطفلة من رجل عجوز، وهناك يشارك «بوسى» فى أغنية «السلك لمس»، ينقلها المخرج سامى عبدالعزيز، ببلادة، من خشبة المسرح الريفى إلى الشاشة.. بلا خيال، ومن دون اجتهاد.. ويدخل الفيلم فى متاهة صراع مفتعل فى ممرات «مول»، منتقلا من عبث إلى عبث، ومن افتعال إلى إفلاس.

محمد سعد ــ وصناع فيلمه ــ لم يستوعبوا أهمية أن يكون للعمل رؤية وهدف، وإلا سيكون السقوط حليفه، وسيجعلنا نخسر رهاننا على كوميديا لا شك فى قدراته، لكن إهماله أدى به إلى نوع ممجوج من «التناحة». 

جابر القرموطى

كمال رمزي

السبت 11 مايو 2013 - 8:00 ص

فيما قبل، كان على المذيع، خاصة قارئ الصحف، أن يكون محايدا، وألا يبدى رأيا، أو انفعالا، ومعيار نجاحه يتوقف على جمال نبرة الصوت، وإجادة النطق باللغة العربية. والابتعاد عن التكلف. وأناقة الملبس.. لكن المذيعين الجدد، ومن بينهم جابر القرموطى، اللامع، نجحوا فى تحطيم الصورة التقليدية للمذيع، واستبدالها بمواصفات أخرى، لاقت ترحيبا واسعا من الجمهور، فالواضح أن هذه المواصفات لبت احتياجا ملحا عند المصريين، استجاب لها المذيعون، أو توافقوا معها، كل منهم بطريقته، وبأسلوبه الخاص.. جابر القرموطى، وبرنامجه «مانشيت»، أصبحا من المعالم المهمة، على الخريطة التليفزيونية، ذات ملامح مصرية خالصة.. الرجل، مبدئيا، يعطى إحساسا بأنه فلاح، حمل الفأس طويلا وعزق الأرض كثيرا. تعلم، وقادته الظروف، مع جديته، إلى خلع جلبابه وارتدى بذة داكنة، تحتها قميص أبيض بطرفى ياقة متخاصمتين، بينما عقدة رابطة العنق رفيعة، متجهة نحو اليمين غالبا.. وأنه استبدل الطاقية بفازلين، ينيم الشعر ويلمعه.

 

القرموطى، بابتعاده المتعمد، أو العفوى، عن التأنق، جعله قريبا من المشاهد، يعايشه بألفة، أكثر مما يعجب بشياكته. لقد تحول من فلاح إلى ابن بلد عصرى.

فى قراءته للصحف، لا يسرد سطورها على نحو سلبى، ولكن يتفاعل معها، يحاول النفاذ إلى ما ورائها، ويرصد ما تخبئه الكلمات.. والأهم أنه يحدد موقفه منها، وهى مواقف نابعة من طبيعته الأصيلة كفلاح، يعرف العيب، ويدرك معنى الظلم.. وأيضا، كابن بلد، تأخذه الحمية ضد الطغاة، والأفاقين، أيا كانت قوتهم أو اتساع نفوذهم، وبالتالى، هو لا يقرأ الجرائد بقلب بارد، من دون إحساس، ولكن يطلع عليها، بعقل ساخن، يفور بالانفعالات، تأتى متنوعة، حسب الأخبار والوقائع، يعبر عنها صادقا، بملامح وجهه، والتفاته، يمينا ويسارا، وحركة يديه، بكفيه، وأصابعه الطويلة، القوية، كأثر من آثار استخدام الفأس طويلا.. فضلا عن صوته المميز، الذى لا يخلو من خشونة، يكاد ينشرخ من حدة الانفعال، خاصة حين يتعلق الأمر بما يمس الوطن أو الكرامة أو الإجحاف الذى يتعرض له واحد أو مجموعة من أبناء مصر.

ميزة جابر القرموطى تتبدى واضحة فى شجاعة الإعلان عما يؤمن به أو ما يراه جديرا أن يقوله، وهو فى هذا لا يتردد أن يضع يده فى عش الدبابير، وأحيانا، لا يتوانى عن الدخول برأسه، إلى جحر الثعابين، المرة تلو المرة، وهو فى هذا، يفتح بلا تردد ملفات خطرة، مسكوت عنها، ويكفيه تعقبه لقضية الضباط المختطفين فى سيناء، حيث انتقل من تحليل وسبر غور المانشيتات، إلى دعوة السيدة المصرية العظيمة، الصلبة، الجديرة بالاحترام، دعاء رشاد، زوجة رائد الشرطة المختطف محمد الجوهرى، وهى فى وفائها، وقوة عزيمتها، تذكرنا بـ«بنيلوب»، زوجة البطل أوديسيوس فى ملحمة «الأوديسة»، ولكن بينما «بنيلوب» لم تجد من يقف بجانبها، وجدت «دعاء»، الفلاح الأصيل، ابن البلد الشهم، القرموطى، الذى تبنى علنا، قضيتها، وبطريقته ذات الطابع الشعبى الأصيل، جعلها جزءا جريحا فى قلوب المصريين.. إنه دور يتجاوز الدور التقليدى للمذيع، فيما قبل. 

سمير أبوالنيل

كمال رمزي

الثلاثاء 7 مايو 2013 - 8:00 ص

غيرت عنوان المقيلة، وشاهدت الفيلم مرتين.. فبعد أن كتبت العنوان الذى اخترته، والذى هو «سمير أبوالنيلة»، شعرت أنه من غير المستساغ السخرية من عمل ينتج فى زمن عز فيه الإنتاج، جيده ورديئه، بالإضافة إلى حالة الانفلات الأمنى، الفنى، حيث جرى السطو على الفيلم، وتركه مباحا على مواقع الشبكة العنكبوتية، وهى جريمة لا تقل عن جريمة سرقة سيارة، والعبث بها، وتركها فى الشارع، كى يلهو بها من يشاء. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يتمتع صناع الفيلم، عندى، بقدر كبير من الإعزاز؛ أحمد مكى، الدءوب، بحيويته، وحضوره المحبب، وتنوع قدراته، من تمثيل إلى تأليف إلى غناء.. وثمة المخرج الواعد، عمرو عرفة، الذى لمازلنا نعقد عليه الآمال.. وطبعا، السبكية، الذين لم يتوقفوا عن الإنتاج، برغم الظروف الصعبة، المعروفة.

أما عن إعادة مشاهدة «سمير..» فليس من باب الإعجاب، ولكن لأنى، ما إن خرجت من دار العرض، حتى بهت الفيلم تماما فى ذاكرتى، وعبثا أحاول استحضار الشخصيات، أو الأحداث، أو العلاقات، وبالتالى، كان لابد من حضور عرض الفيلم مرة ثانية، مع مزيد من التركيز، لعل وعسى.

«سمير أبوالنيل»، بأداء أحمد مكى، شاب مفلس، بخيل، لا عمل له، يعيش عالة على آخرين، يتهربون منه، وتتراكم المشاهد التى تعبر عن ذات الموقف، جاره يتحاشى مقابلته، البقال يريد أن يصرفه بأى طريقة، بائع الفول يتضرر من طلباته. «اسكتشات»، زائدة على الحاجة، تؤكد ما قد أصبح معروفا عن طباع «سمير»، النزق، الذى يقوده حظه العاثر إلى قسم شرطة، استولى عليه بعض المشبوهين..

ينقد صديقه، أمين الشرطة، أشرف «محمد لطفى» الذى يصبح تابعه الأمين.. وبعد أكثر من ربع الفيلم، يظهر ابن عم سمير. حسين ــ حسين الإمام ــ الثرى، المريب، الدائم الضحك. يريد أن يغسل ثروته الطائلة. يزعم أنه مريض وحتما سيموت، وأنه يأتمن ابن عمه المتلاف على هذه الملايين، كى يسلمها لابنته التى لم تصل لسن الرشد.. يقرر «سمير» افتتاح قناة فضائية، يقدم فيها، بنفسه، كل برامجها. والفيلم فى هذا يصب فى طاحونة هجاء القنوات الخاصة، الأمر الذى يشوبه التجنى، فالكثير من هذه القنوات قام بدور إيجابى، من التعسف إنكاره، خاصة فى ظل إعلام رسمى فى مستوى الشبهات.. لكن مشكلة الفيلم ليست فى موقفه من القنوات الخاصة، أو حتى من أفكاره الغائمة، وإنما تكمن فى ذلك السيناريو المتخبط الذى كتبه أيمن بهجت قمر، والذى لم يفرق فيه بين الجوهرى والهامشى، ولم يضع فى ذهنه هدفا واضحا، يصل له عبر بناء منطقى متماسك وبالتالى بدا كما لو أنه يجرى، على غير هدى، ليمسك بعدة أرانب فى وقت واحد.. فأحيانا، يتابع علاقة بطله مع سيدة إدارة الأعمال، المسطحة الأبعاد، نيكول سابا. وأحيانا يتعرض للجانب الفاسد فى ابن العم، حسين، الذى يعود فجأة، ويستر ماله.. وفجأة، تظهر، خلال تليفونات، خطيبته القديمة، التى هجرته وسافرت، ثم تعود لترتبط به. إنه خيط لا يدخل فى بنية الفيلم، شأن العديد من خيوط نسيتها.. ثم تفاجأ أن شقيقه، علاء مرسى، الورع المزيف، أصبح صاحب قناة دينية.. وخلال إخراج عمرو عرفة الذى اعتمد نظرية «التمثيل مسئولية الممثل» استكمل الفيلم تصدعه وانهياره. وهذا سبب إحساس المشاهد أنه لم ير إلا ركام عنوانه «سمير...». 

حكم قراقوش

كمال رمزي

السبت 4 مايو 2013 - 8:00 ص

عمره، ستون عاما، حققه فطين عبدالوهاب، وعرض عقب ثورة يوليو 1952 بسنة واحدة لكن «قراقوش»، عاش فى الذاكرة المصرية طوال ثمانية قرون، منذ كتب أسعد بن مماتى «الفاشوش فى حكم قراقوش». وبصرف النظر عن مدى تجنى ابن مماتى على «قراقوش»، معاون صلاح الدين الأيوبى الأثير، الذى أشاد به الكثير من المؤرخين، فإن ما كتبه ابن مماتى، يتجاوز شخصية «قراقوش» التاريخية، ليغدو فى الضمير الشعبى، نموذجا معروفا ومجربا ومتكررا، من الحاكم الظالم الطاغية، المفتقر للكفاءة، المغرور، الشره للسلطة والمال، وبالتالى أصبح مادة للتندر، ومجالا مفتوحا للسخرية التى يبدعها المصريون. «قراقوش» شق طريقه ليقف على خشبة المسرح قبل ظهوره على شاشة السينما. قدمه الرائد يعقوب صنوع فى أواخر القرن التاسع عشر، وكان العرض من أسباب غضب الخديو إسماعيل على صنوع.. وبذات العنوان «حكم قراقوش»، قدم نجيب الريحانى عرضا يعتمد فيه على نص كتبه الموهوب الكبير بديع خيرى، عام 1936، وتسببت فى متاعب سياسية رقابية، للفرقة.. وتوالت المسرحيات المستوحاة من «قراقوش»، سواء فى مصر، حيث كتب سليم كتشنر «ضحكة الأراجوز» أو خارج البلاد، مثل سوريا، حين قدمها فنان اسمه شادى رشيد الحلاق بطريقة «خيال الظل» أو «ظل الخيال» إن شئت الدقة.. وفى لبنان، حققها منير كسروانى وفرقته الكوميدية. وربما فى أماكن أخرى، والمتوقع أن استدعاء «قراقوش»، فى دولنا العربية، سيستمر طالما بقى فيها حكام أرازل، على طريقته.

زكى رستم، بأسلوبه المتميز، الذى يوحى بالخطورة على الرغم من مظهره الهادئ، يجسد شخصية «قراقوش»، العشوائى القرارات، الدموى، اللئيم، الشهوانى، يحيط به مجموعة من المتملقين، الكاذبين، اللصوص، يؤدى أدوارهم ستيفان روستى، رياض القصبجى، محمد الديب، محمد شوقى، ولا يفوت الفيلم أن يقدمهم على نحو كوميدى ساخر، فمثلا «نطاسى الأنتكة طبيب المملكة»، يأتى مريضا، منهكا، أعرجا. يعلن عن إنجازاته، فبعد أن كانت الوفيات فى المملكة بالعشرات والمئات، أصبحت الآن، بالآلاف.. عندئذ، يقرر «قراقوش» فرض ضريبة على كل متوفى.. بل ويتمادى فى فرض ضرائب على كل شىء، بما فى ذلك الدواب.. حينما يتعمد المونتير، سعيد الشيخ، أن يفتتح المشهد التالى بوجه حمار، ينهق نهيقا يمتزج فيه البكاء بالاحتجاج.

فى المقابل، تناهض قراقوش عدة فصائل: ضباط من الجيش، واللافت، حسب الأسماء الواردة فى المقدمة، أن ضباطا شاركوا فى التمثيل: يوزباشى صلاح المصرى. يوزباشى أنيس دياب، بالإضافة للملازم ثان توفيق نور الدين.. والأهم، أن البطل الذى يؤجج الثورة، ويقودها، سراج منير، اسمه فى الفيلم «ناصر»، ففيما يبدو أن «أريحية» بديع خيرى وفطين عبدالوهاب، قادتهما نحو إدراك الدور الرئيسى لجمال فى ثورة يوليو، قبل توليه زمام الأمور بعدة شهور.

المسافة واسعة بين طاقة الإبداع فى حوار بديع خيرى، وضعف الخيال فى السيناريو الذى كتبه محمود السباع، ووقع به فى مصيدة المسرح، إن لم يكن استوديو الإذاعة، فالمشاهد تتوالى طويلة، فى أماكن مغلقة غالبا، واللقطات لا تتنوع، كأن الكاميرا مربوطة بجنازير تمنعها من الحركة.. والواضح أن فطين عبدالوهاب، الأستاذ فيما بعد، لم يكن عوده قد اشتد، وبالتالى نفذ ما بين يديه من ورق، وبدا حائرا أمام أكوام الأغانى التى تشدو بها بطلة الفيلم، نور الهدى، التى تؤدى دور ابنة الغاضب، الثائر «ناصر».

«حكم قراقوش»، يبدأ بجلد أحد الفلاحين لأنه لم يدفع الضريبة الجديدة، وينتهى بنجاح الثورة ضد الطاغية، وما بين البداية والنهاية، ثمة لحظات إبداعية من الممثلين، العنصر الأفضل فى السينما المصرية، وبرغم أن الفيلم لم يحقق نجاحا كبيرا، ولم يغط تكاليف إنتاجه التى تحملها سراج منير، فإن العمل يكتسب قيمة فكرية، سياسية، بموقفه الهجائى، لكل النظم القراقوشية 

نور.. يتجلى

كمال رمزي

الأربعاء 1 مايو 2013 - 8:00 ص

منذ دخل عالم الأطياف، من بوابتى حسن الإمام ونجيب محفوظ، فى «قصر الشوق» 1967.. وعلى مدى ما يقرب من نصف القرن، وما يزيد على «170» فيلما، أصبح من التاريخ الثقافى، النابض بالحياة، للسينما المصرية.. نور الشريف، ولد وعاش فى الأحياء الشعبية. تشرب الجوانب الإيجابية من أخلاقيات أولاد البلد، وفى مقدمتها الجدية والشهامة، وراهن عليهما، وأثبتت الأيام أنهما من أهم القيم الرابحة.. نور، عمل بدأب وإخلاص، على إنماء وصقل موهبته. لم يتوقف يوما واحدا عن الدراسة والتحصيل، ليس فيما يتعلق بالأداء التمثيلى وحسب، من ناحية تحليل الانفعالات وكيفية التعبير عنها، مهما كانت شدة تركيبها وتعقيدها، بل فى مجالات أخرى، أقرب للينابيع الثرية، تصب فى قدرات الفنان: التاريخ، المجتمعات، السياسة، فضلا عن الأدب، خاصة عالم الرواية الرحب، حيث من الممكن ــ على سبيل المثال ــ أن يستعير «معطف» جوجول المهترئ، ليرتديه فى «مع سبق الإصرار» لأشرف فهمى 1979، ويحوله إلى جاكتة كالحة وقميص متآكل الياقة، تعبيرا عن شخصية مهزومة، ضائعة، ويضيف رفة عينيه التى تزداد كلما تدهورت أحواله، وانتقل من هزيمة لأخرى.

عادة، فى تاريخ السينما، يقوم المخرج باكتشاف النجم لكن فى هذه المرة، ينجح النجم فى اكتشاف المخرج. نور، من إنتاجه، أتاح الفرصة الأولى لمخرجين صاروا كبارا: سمير سيف «دائرة الانتقام» 1976. محمد خان «ضربة شمس» 1980. محمد النجار «زمن حاتم زهران» 1988.. طبعا، لا يمكن إغفال ذكاء نور فى اختياره لمن يتوسم فيهم القدرة على الإبداع فى مجال الإخراج، وفى ذات الوقت، من التعسف إنكار عنصر الشهامة، فى خوص غمار التجربة الأولى مع المخرجين الثلاثة.

مع مئات الساعات التى أنجزها نور فى المسلسلات، والخبرات التى اكتسبها على خشبة المسرح، غدا نور الشريف أستاذا فى فن الأداء، بالنظرة، واللفتة، وحركة اليدين، والأصابع، وطريقة إلقاء الجملة ودرجة علو انخفاض الصوت، وشحنه بالانفعال الواجب، وبدقة.. وتجلى كل هذا فى لقائه مع الإعلامية المرموقة منى الشاذلى، فى برنامجها «جملة مفيدة».. صحيح، برنامج تليفزيونى، لكن الضيف، بعفوية، حوّله إلى عمل فنى، ساعدته فى هذا، الشاذلى، التى أجادت الإصغاء ــ تلك العملة النادرة ــ وتجنبت الاسئلة التى كان من المحتمل أن تهبط بمستوى الحوار، كأن تطلب منه الرد على الأفسال، ذوى اللحى السمجة الذين يستنكرون، بشهوانية مكبوتة، قبلاته فى أفلامه. الأسئلة، اتخذت طابعا سياسيا، أجاب عنها نور، إجابات أخلاقية فى جوهرها، تجمع بين الذوق الرفيع، وشهامة أولاد البلد، فأيا كانت درجة خلافك مع مبارك ونظامه، لابد أن تشعر بالأسى حين ينبهنا الفنان إلى عدم لياقة كتابة خبر تجديد حبس مبارك أسفل شاشة التليفزيون، إبان الاحتفال بعودة سيناء، ولك أن تضرب كفا بكف، حين يتصدر قاتل السادات مقصورة الاحتفال بأكتوبر.. اللقاء، جاء بعد عدة شهور من حكم الإخوان الزرى، اللاهث وراء التسول من الخارج.. بجلبابه المصرى، وثقافته، ووعيه، قال نور الشريف، بصدق وشجاعة، ما يراه جديرا بالإعلان. إنه، من أجمل أدواره.

الشروق المصرية في

01/05/2013

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)