حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

شقيقان راحلان وأم ثكلى تحرس روحيهما

دمشق - ابراهيم حاج عبدي

 

بكثير من الحذر والتأني، تحاول المخرجة الجزائرية جميلة صحراوي مناقشة ملف شائك ومعقّد في شريطها الروائي الطويل «يمّا». إنه ملف «التطرف» او «الإرهاب» الذي عانت منه الجزائر في عقد التسعينات من القرن الماضي، وحصد أرواح أبرياء كثيرين، تاركاً تداعيات على المشهد السياسي اللاحق في هذا البلد. ونعرف أن هذا الملف، الذي كاد يشكل ظاهرة في السنوات الأخيرة، قاربته الفنون من زوايا مختلفة وعبر معالجات شتى تباينت تبعاً لتباين الملف ذاته والتباسه، الذي يأخذ حيزاً واسعاً من التنظير والسجال، لكنه يظل موضوعاً إشكالياً.

فيلم «يمّا» يحمل عنواناً بسيطاً لكنه مفعم بتلك النبرة الحنونة التي تعبر عن صيغة النداء للأم في اللهجة الجزائرية المحكية، وهذه البساطة لا تقتصر على العنوان، بل تمتد لتصوغ أجواء ومناخات هذا الفيلم الذي يعدّ من الأفلام القليلة التي تعالج موضوعة «التطرف والتعصب» بأقل قدر من المبالغة والتهويل. فالمخرجة التي درست في «المعهد العالي للدراسات السينمائية» في باريس، والتي كتبت سيناريو فيلمها هذا بنفسها، لا تتورط في أن تكون طرفاً في النزاع، ناهيك عن أنها لا تناصر طرفاً ضد آخر. هي تسعى الى رصد مرارة النزاع في النفوس، والإصغاء إلى صوت الأرواح الجريحة التي قاست المحنة والشقاء. لذا نراها تنأى بنفسها وبفيلمها عن الوعظ والدروس والتلقين، لتروي أصداء الألم القابع في ضمائر الشخصيات، ولتركز على النتائج والنهايات لا على الأسباب والبدايات. وبالتالي فإن فيلمها متخفف من الأدلجة ومن الشعارات ومن كل ما يعوق رشاقة السرد.

الهدوء المخاتل

يبدأ الفيلم بمشهد بانورامي واسع يُظهر هدوء وجمال الطبيعة في الريف الجزائري. لكن هذا الهدوء المخاتل سرعان ما يكشف أنه يخفي غضباً وحزناً هائلين تعيشه الأم وردية (تجسد دورها المخرجة ذاتها) المفجوعة للتو بموت ابنها الضابط طارق، وها هي بمفردها في ذلك العراء الأخضر تقوم بدفن الابن القتيل في طقس جنائزي ثقيل الوطأة، يكشف عن حجم العذاب الذي تعيشه هذه الأم الثكلى. سنعلم لاحقاً أن الابن قضى في اشتباكات مع «جماعات متطرفة»، غير أن التراجيديا تبلغ مداها الأقصى عندما نعلم أن الابن الآخر للمرأة المكلومة، واسمه علي (علي زريف)، ينتمي إلى جماعة الخصم، أي إلى تلك الجماعات الإسلامية المتطرفة. إنها إذاً معركة الإخوة الأعداء، وهو حقاً توصيف بليغ لتلك المعارك العبثية التي عاشتها الجزائر، إذ أوصلت الابن الأول إلى حتفه، فيما الثاني يظهر، قبل أن يلقى بدوره المصير ذاته، جريحاً بعدما خطف زوجة أخيه القتيل، مدّعياً بأنه كان الأحقّ بها، إلا أن أخاه القتيل هو الذي تزوجها. ينادي الجريح أمه في نبرة موجعة: «يمّا» كي تداوي له الجرح، وأي كائن يمكن أن يكون بلسماً للجراح غير الأم؟ لكن في سنوات الضياع والجنون والموت المجاني، تتبدل حتى المشاعر الفطرية لدى البشر، تماماً مثل حال هذه الأم الحائرة بين الاستجابة لهذا النداء الموجع، وبين الوفاء لذكرى ابنها الآخر الذي يرقد تحت التراب. في غصون ذلك، يظهر وليد جديد أنجبته الزوجة من دون أن يُعلم أيّ من الشقيقين هو والده الحقيقي! والواقع أن هذا الالتباس لم يكن مطلوباً ولا موفقاً لولا أن نهاية الفيلم قدمت تبريراً، فهذا الحفيد الذي ينهي الفيلم بصرخته، ظهر ليرمز إلى الأمل والتفاؤل، وربما إلى التصالح بين الذات والآخر.

لا يروي الفيلم حكاية ذات حبكة واضحة، فالوقائع بطيئة إلى درجة أنه لا يكاد يحدث شيء على مدى نحو ساعة ونصف الساعة. كما أن الحوار يكاد يكون غائباً، باستثناء جمل قليلة. على المخرجة اذاً أن تجتهد في بناء عالم بصري تروي من خلاله محنة شخصياتها، القليلة على أي حال، بحثاً عن الألم القابع في أعماقها، وعن صراعاتها وأزماتها الخفية. تقول المخرجة: «تعمّدنا التحدّث بالصور في الفيلم، لأنها أحسن تعبيراً عمّا كنا نأمل إيصاله الى المشاهد. أنا شخصياً أعتبر الحوار يليق بالأعمال التلفزيونية أكثر مما يليق بالأعمال السينمائية».

نبرة الأسى الطاغية

بهذا الفهم تمضي صحرواي في استثمار حركة الكاميرا التي تدور في مكان واحد. لقطات ومشاهد تظهر خضرة الطبيعة الخلابة في الريف الجزائري، والهدوء المخيّم على الجبال، والصمت الذي يلف الأجواء، باستثناء حفيف الشجر وأصوات الرياح وكائنات الطبيعة. هنا في هذا المكان المعزول المنسي تتحرك الأم الوحيدة برفقة شاب مقطوع اليد يراقبها أو يحرسها بناء على رغبة الابن «المتطرف». هذه الأجواء الساحرة لا تنجح في إخفاء نبرة الأسى، وكأننا إزاء تراجيديا إغريقية تنتهي دائماً بالموت، فيما الأحياء يقاسون مرارة الفقد والغياب، كما هي الحال بالنسبة للأم التي فقدت ولدَيها، وعليها أن تختبر هذه التجربة التي تحطم القلب. أم ممزقة بين ابنين لم يتركا لها سوى «لوعة الغياب» وقبرين قرب حديقة منزلها، سيكونان شاهدين أبداً على مقدار الخراب والخيبات، فلا تجد الأم ما تفعله سوى أن تحرس روحيهما، وتعتني بأرضها وحديقتها الصغيرة، في إشارة رمزية تحمل معنى التجدد والعطاء.

«يمّا» هو من الأفلام التي تولّد الاسئلة في ذهن المشاهد عند تيترات النهاية، خصوصاً أن الفيلم لا يوضح ولا يقدم استفسارات عن كيفــــية مقتل الابن، ولا يوضح أين هو الأب، ولا يوضح كذلك حكاية الشاب ذي الذراع الواحدة (سمير يحيى) الذي يرعى الماعز ويهتم بالأم في استسلام وخضوع. وحتى نهاية الفيلم جـــاءت غامضة، فهذا الحارس «الأكتع» يقود الابـــن «المتطرف»، الذي بات يعامل امه بفظاظــــة، إلى الجبال لنسمع رشقات من صوت رشاش أولاً، ثم صوت طلقة واحدة، في إشارة إلى أنه قتل الابن، ثم أقدم على الانتحار.

خلال هذه الوقائع القليلة التي تسير وفق ايقاع بطيء، سنصل إلى قناعة تتمثل في أن التطرف والتعصب والإقصاء يقود الجميع إلى الهلاك، والحال سواء بالنسبة لمن رحل، أو لمـــن بقي على قيد الحياة. بل إن من نجا يقاسي الألم مضاعفاً، كهذه الأم التي ستعيش في حداد لن ينتهي. والحقيقة أن ما يُسجّل للفيلم هو أنه كرس هذه الفكرة من دون أن يذهب إلى جبهات القتال، أو يظهر جوانب من المعارك التي كانت تدور في الجبال حيث الدماء والأشلاء والجثث... بيد أن نتائج مثل هذه المعارك العبثية وتأثيراتها تتجلى في النفوس، وفي المشاهد الحذرة التي بدت كمرثية للراحلين، سواء من هذا الطرف أو ذاك.

ولدت جميلة صحراوي عام 1950 في تزمالت الجزائرية. وهي تعيش في فرنسا منذ عام 1975. درست الإخراج وكتابة السيناريو في «المعهد العالي للدراسات السينمائية» في باريس. وفاز فيلمها الروائي الطويل الأول «بركات» بجائزة المهر العربي عام 2006 في مهرجان دبي السينمائي، أخرجت العديد من الأفلام الوثائقية القصيرة، مثل «أن تبلغ الألفي عام في جبال أوراس» 1990، و «اسمي ماريان» 1992، إضافة لوثائقيات طويلة، مثل «في نصف سماء الله» 1995، و «الأشجار تنمو أيضا في بلاد القبائل».

الحياة اللندنية في

08/02/2013

«ميراث» ... ثقيل

باريس - ندى الأزهري

مسلمون ومسيحيون ويهود وأجواء حرب وحب مستحيل وتراث ثقيل... هذه الخلطة كلها اجتمعت في الفيلم الأول الذي أخرجته الممثلة الفلسطينية هيام عباس، وقد شاءت أن تتحول إلى الإخراج بعد نجاحات كبيرة وعالمية في التمثيل.

إذاً، الممثلة المتميزة التي أثبتت نفسها في عديد من الأفلام ومع مخرجين من مختلف الجنسيات، قررت أخيراً الانتقال إلى وراء الكاميرا، وها هي قد حققت فيلمها الأول «ميراث»، الذي دار على عدة مهرجانات ونال بعضاً من جوائزها ويعرض حالياً في دور العرض الفرنسية. العنوان الذي ترجم عن الفرنسية بـ «ميراث» و «تراث» و «إرث» وربما «تركة»، وكلها معان تفيد غرض الفيلم، يثير دائماً السؤال نفسه عن اسباب «تملص» بعض المخرجين ذوي الأصول العربية من وضع عنوان عربي ملحق بالأجنبي لأفلامهم المصوّرة في بلد عربي وباللغة العربية! بتملصهم هذا، يضيع الفيلم بين عناوين مختلفة، فكلٌّ يفسر على هواه ويترجم حسب مقدرته، التي قد تكون محدودة أحياناً!

هيام عباس التي تقيم في فرنسا، مثلت أدوارها العديدة، والمميزة في غالبيتها حتى الآن، بحساسية متفردة، ومنها على وجه الخصوص دورها كامرأة فلسطينية متمسكة بأرضها وحقلها في فيلم «أشجار الليمون» للمخرج الإسرائيلي عيران ريكليس. وهي عملت مع مخرجين عرب (ميشيل خليفي، يسري نصر الله، هاني أبو أسعد..) وعالميين (جارموش، جوليان شنابل... وطبعاً سبيلبرغ في «ميونيخ»)، وكانت في بعض ما شاركت فيه من أفلام تحمل جزءاً ليس باليسير من عبء الفيلم على كاهلها، بل تنقذه أحياناً، كما فعلت في «ساتان أحمر» للتونسية رجاء عماري. فهل يكون»وصولها» إلى القمة على صعيد التمثيل هو ما دفعها إلى الانتقال نحو مرحلة جديدة في العمل السينمائي؟

سيرة ذاتية؟

يدور «ميراث»، الذي قد يكون سيرة ذاتية لصاحبته، في شمال الجليل، حيث يسعى لرسم حياة عائلة فلسطينية برجوازية. لكن السيناريو يحفل بحقائق وتفصيلات عن العائلة يضيع في متاهتها خيط الفيلم ويفلت من يد المخرجة. ثمة تحضيرات للاحتفال بزواج الحفيدة، فيما الحرب تشتعل في مكان ما، لعله جنوب لبنان، فلا تاريخ أو زمن للفيلم. والحرب لا نراها ولكن نسمعها، فالطائرات الحربية لا تكف عن عبور السماء، وأزيزها يتردد كأنه موسيقى تصويرية. لم ترغب المخرجة عباس الانحراف عن مسيرة الفيلم «الاجتماعية»، ولم تُعن بمسببات الحرب، ما يهمها كان الإرث والتقاليد والروابط الاجتماعية والعائلية والعلاقات مع الإسرائيليين...

في «ميراث» مجموعة شخصيات تنكشف عبرها الأكاذيب والخفايا التي تحكم العلاقات العائلية والاجتماعية، من رب العائلة الذي يموت ويتنازع الأولاد من بعده، مروراً بالابن الطموح سياسياً والمتعامل مع إسرائيل، وصولا إلى الفتاة المتمردة في بحثها عن الحب المستحيل. الشخصية الرئيسة «هاجر» تدرس في حيفا بعيداً من عائلتها، وتعمل في مقهى، وتستمتع بالتالي بحرية مدهشة لاسيما في علاقة الحب التي تربطها بشاب إنكليزي. هي لا تود التضحية بهواها وإطاعة والدها للزواج بمن اختاره لها، أي صـــديقها وقريبــــها علي. وهي على الرغم من حبها وارتباطها بشقيقتها الكبرى (علا طبري)، ترفض أن تكون خاضعة مثلها، وتثور على رفض عائلتها زواجها من حبيبها. في المجتمع الأبوي الذي ترسمه عباس، تبدو المرأة -كما الواقع- حافظة للتقاليد وناقلة لها.

دور تقوم به زوجة الأخ الطامع (هيام عباس)، فهي من أشد الرافضين لعلاقة هاجر. علاقة الحب المستنكر هذه، تفجّر الخلافات في العائلة وتظهر تناقضاتها، فالأخ الطموح سياسياً (أشرف برهوم) يخون زوجته (ووطنه) مع يهودية، ويتعامل مع الإسرائيليين. ومروان الطبيب (علي سليمان، الذي لم يكن لافتاً كما عوَّدنا) متزوج من مسيحية... كل شخصية هي نبع من المشاكل التي لا تنتهي، و كل قصة تصلح لوحدها موضوعاً لفيلم. لهذا لم ينجح العمل في رسم شخصياته وإظهار عمق كل منها، كما وشتّتت كثرة التفاصيل والشخصيات الفيلمَ وأفقدته وحدته، ووضعت المُشاهد كل مرة في دوامة جديدة، فما إن يركز هذا مع إحدى الشخصيات ومصائبها ويبدأ بالتفاعل معها حتى تصحبه المخرجة نحو شخصية أخرى ومصيبة أخرى. لم يُسمح للشخصيات إذاً بالذهاب بعيدا في التعبير عن نفسها، وبالتالي للمشاهد بالتفاعل معها، كما بدت كل شخصية في معزل عن الأخرى، ولم يتسن لها التفاعل في ما بينها.

أما البطلة «هاجر»، فلم تقنعنا بكونها فتاة فلسطينية، لا بسلوكها ولا بلهجتها (الممثلة الفرنسية المغربية الأصل حفصية حرزي التي تتحدث هنا العربية بلكنة أجنبية)، وهي لم تبد بسبب أفكارها وسلوكها كغريبة في محيطها، فمن الطبيعي أن يكون البعض غرباء في مجتمعاتهم، بل بدت كأجنبية. كما جعلتها تكشيرتها غير المبررة في كل المواقف، بعيدة عن الوصول إلى المشاهد، وهذا ما يؤسف له، فهذه الممثلة جد موهوبة لكنها في هذا الفيلم لم تصل إلى أمجادها السابقة.

شبّه أحدهم الفيلم تشبيهاً طريفاً، فكتب أنه كمسلسل «دالاس» إنما في الشرق الأوسط! قد يكون هذا صحيحاً جزئياً، وقد لا يكون، ولكن من البديهيّ أن حشر واقع أسرة بشخصياتها الكثيرة ومواضيعها الكبيرة في أقل من ساعة ونصف الساعة هو ما أدى إلى الحصول على فيلم كان يمكنه أن يكون بسيطاً، لكنه أتى مبسطاً وعاجزاً بالتالي عن أن يمثل الواقع الفلسطيني المعقد بأي شكل من الأشكال. 

الحياة اللندنية في

08/02/2013

«بييتا».. قصة مؤلمة وغامضة عن الغوص المضطرب في أحشاء المجتمع

شريف حتاتة 

اسمه كانغ دو. شاب من كوريا الجنوبية، ممشوق القوام، وسيم الملامح، وكان يُمكن ملامحه أن تبدو جميلة وجذابة، لولا أنها تحولت إلى قناع من الحجر قاس، وبارد لأنه وُلد، مثلما يُولد أطفال الشوارع، دون أن يعرف له أم، ولا أب، فعاش منذ أن وقف على قدميه، وصار جزءاً من عالم الجريمة.

وكانغ دو كما هي الحال عادة في هذا العالم، منضمّ إلى عصابة لها رئيس يُديرها، وتتجمع لديه ثمار نشاطها. مهمته تحصيل أقساط المبالغ المالية التي اقترضها أصحاب الورش الصغيرة في حي شونجيتشون الذي يقع في مدينة سيول، عاصمة كوريا الجنوبية. وهذا الحي يتميز بفقر المقيمين فيه، وبأنه يضمحل، ويتدهور بالتدريج. فهذه الورش الميكانيكية الصغيرة التي تقوم بتصـــنيع قطع غيار مختلفة، أو مواسير، أو أدوات معدنية عاجزة عن المنافسة في مجتمع يُحاصر فيه الكبار صغار المنتجين، ويقضون عليهم.

يدور الفيلم في هذا الجو المظلم الكئيب، المزدحم بالآلات، بالمنتجات والمواسير المعدنية، وبأكوام لا حصر لها من المخلفات الحديدية، بالأسقف المجلفة، والأبنية المتداعية، بالحارات القذرة، والبرك الآسنة، بينها يتحرك كانغ دو وحيداً، من ورشة إلى ورشة ليُحصّل أقساط الديون من البائسين، ممّن أصبحت أجسامهم، وأيديهم، ووجوههم، وعيونهم جزءاً من الخراب المعدني الميحط بهم، أصبحت قطعاً من اللحم تلتهمها الآلات عندما يُقطع منهم إصبع أو يد أو ذراع أو قدم، بل وأحياناً ساق بأكملها.

الفقر عارياً

لقد اختار المخرج كيم كي دوك أن تدور أحداث فيلمه في هذا الجو بحس الفنان السينمائي الذي يُدرك أن الخلفية جزء مهم من حياة الشخصيات التي ستظهر على الشاشة. اختار الفقر العاري الذي يُحوّل الإنسان إلى كائن من جلد وعظم، اختار كتل الحديد ومخلفاتها المتراكمة بقبحها وقسوتها، اختار البشر والأشياء التي لا حاجة إليها لأنها لم تعد ذات نفع لأصحاب المال. اختار هذا الحي مكاناً مناسباً لحياة كانغ دو الذي لا يرحم ضحاياه. فعندما يعجز أحد هؤلاء البؤساء عن تسديد المبالغ التي اقترضها يُجبره على وضع يد، أو قدم تحت المكبس لتتهشم، ثم يتقاضى التأمينات التي قاموا بالتوقيع على عقودها. اختار هذا الحي فجعل المشاهد جزءاً منه عن طريق اللقطات البارعة التي تعاون المصور معه في تحديد زواياها، ومدتها ومداها، ثم أكمل هذه الخلفية بتفاصيل عن حياة كانغ دو القاحلة، وأسكنه في شقة خالية من أي وسائل للراحة، من أي لمسة جمال حتى عارضة، شقة يعود إليها وهو يحمل دجاجة يقوم بذبحها ويُلقي بأحشائها على أرض الحمام، ثم ينام على سرير ويُمارس العادة السرية ليُشبع جوعه الجنسي.

لكن بعد بداية الفيلم بقليل تظهر امرأة متوسطة العمر، في وجهها بقايا الجمال الذي كان يُطل منها في أيام مضت، امرأة تُطارده أينما ذهب، تقتحم حياته مُدّعية أنها أمه، وأنها جاءت لتكفّر عن ذنوبها. تحكي له أنها بعد أن ولدته تخلت عنه، وتركته يتشرد. يطردها ويرفض أن يستجيب توسّلاتها الصامتة، لنظرات عينيها تطلب منه الصفح، لكنها تشرع في العناية به كما تفعل الأم عادة. تُنظف شقته، وتُرتّب محتوياتها القليلة رغم القسوة التي يُعاملها بها عندما يقطع قدم أرنب، ويُرغمها على ابتلاعها مُوهماً إياها أنها جزء من لحمه. أو يعتدي عليها جنسياً، ويسعى إلى تكرار اعتدائه، لكنه، خطوة بعد خطوة، يلين، يبدأ في التعاطف معها ويُغير سلوكه إزاء أصحاب الورش، فيتوقف عما كان يفعله معهم رحمة بهم.

وهكذا بدا هنا وكأن الفيلم سيسير على منوال الحكايات التقليدية، حكاية الطفل الذي يُولد دون أن يعرف أمه فتتكون عنده عقدة فقد الأمومة ويُصبح مجرماً لا رحمة في قلبه، ثم عندما يلتقي بها ويتعاطف معها تنمو فيه الدوافع الإنسانية التي كانت مدفونة تحت السطح.

لكن المخرج كيم كي دوك لم يسر بنا في هذا الطريق. ففي الجزء الأخير تهرب الأم، وتختفي في ورشة خالية كان يتردد عليها كانغ دو ثم تغادر الورشة تاركة رسالة من ابن لها يُفهم منها أنه كان أحد ضحايا كانغ دو. ترسل له صورة على تليفونه المحمول يُصوّر المكان الذي ستذهب إليه، لنراها واقفة في أحدى طبقات مبنى خرب تُطل من أعلاه ونسمعها وهي تقول مخاطبة ابنها الميت: أن المال سبب كل الشرور، يدفع الناس إلى كراهية بعضهم بعضاً، إلى الحقد والطمع، إلى الغدر والانتقام، أنها جاءت لتنتقم له، مع ذلك فهـــي حزينة رغم أنها ستحقق ما جاءت من أجله.

يلحق بها كانغ دو، بعد أن صار يعدو من مكان إلى مكان كالمجنون. يلمحها وهي واقفة على طرف المبنى فيشعر أنها ستُلقي بنفسها منه. يبرك ويبكي متوسلاً إليها حتى لا تفعل، لكنها في لحظة من اللحظات تُلقي بنفسها من أعلاه وتسقط على الأرض مُنهية حياتها تاركة كانغ دو دون أن تفصح له أنها ليست أمه لتُحقق بهذا الانتقام الذي سعت إليه.

النجاح بعد الفشل

جاء فيلم «بييتا» بعد أن أخرج كيم كي دوك ثمانية عشر عملاً تراوحت ما بين أفلام تسجيلية روائية قصيرة وطويلة دون أن يُحقق النجاح الذي وصل إليه بإخراجه فيلم «بييتا» والذي حصل بفضله على جائزة الأسد الذهبي في الدورة الأخيرة لمهرجان البندقية. والفيلم في اختصار عمل قاس يغوص بنا في أحشاء النظام الرأسمالي، في حياة أناسه البؤساء، في أفواهه الآلية المفتوحة تلتهم اللحم البشري لتجني الأرباح، في عالم الجريمة البشع وأثر المال في النفوس يأكل فيها كالسرطان، في الكراهية والانتقام اللذين يتولدان عنه. وهو نجح في تصوير كل هذا، في تسليط الأضواء القوية على علل المجتمع المعاصر الذي يتحكم فيه رأس المال، وفي الحفاظ على توتر الفيلم بأن جعلنا لا نعرف حقيقة المرأة، هل هي أم كانغ دو حقاً أم لا؟، وإن لم تكن فما الذي تهدف إليه بهذا الإقبال المستمر عليه والتعاطف معه؟ هل رغم أنها لم تكن أمه نمت عواطف الأمومة في قلبها عندما عاشت معه وقامت برعايته؟ هل تحمّلت كل بشاعته في التعامل معها لأن دوافع الأمومة تحركت فيها فجعلتها صابرة تتحمل كل ما فعله بها؟، ومن أين جاءتها القوة التي غرست فيها هذه القدرة الخارقة على احتمال مالا يمكن أن يتحمله إنسان؟.

أجاد الثنائي الذي قام بدور الابن ودور الأم. كان تمثيلهما رائعاً يُحسّ ويُرى في خلجات الملامح، ورعشة عضلاتها وسط السكون الثقيل البارد على الأخص عندما واجه كل منهما الآخر. اسم الممثلة مينسو غو واسم الممثل لي غونغ جين. كذلك كان تمثيل الشخصيات الثانوية أصحاب الورش وأمهاتهم مقنعاً لا افتعال فيه فجعلنا نعيش ما كانوا يُعانونه.

الحياة اللندنية في

08/02/2013

في فضاءات السينما المطلوبة...

الدار البيضاء –مبارك حسني 

يصعب وضع فيلم محمد عبدالرحمن التازي الجديد «البايرة» في خانة فنية ما، محددة في رقعة السينما المغربية الحالية، كما يشُقّ إيجاد مكان له في الفيلموغرافيا المعروفة لهذا المخرج، بعد خمسين سنة مرت من عمر هذه السينما، وبعد أن شاهدنا له أفلاماً معروفة، جميلة ومُبدعة مثل «ابن السبيل» و «باديس»، وحتى وبعد أن حقّق فيلماً جماهيرياً منقطع النجاح إبان خروجه في منتصف التسعينات وهو «البحث عن زوج امرأتي». وهذا الأخير نجد بعضاً من مذاقه وأجوائه ونوعيته وطابع الإضحاك الذي يميزه في هذا الفيلم الذي نحن بصدد قراءته، «البايرة». فهو فيلم يُضحك لا غير. ويضحك بالشكل المعروف عامة، من خلال القفشات والمواقف الممتعة في لحظتها وليس لما قد تحمله من سخرية مطلوبة. لكنه لا يضيف جديداً وتنقصه حساسية إبداعية إضافية. هو بعيد من الفيلم التعبيري الذي ذكرنا نماذج له في البداية.

حكاية عائلة

يروي الفيلم حكاية امرأتين ضرّتين توفي زوجهما تاركاً بنتاً وولداً في سن الشباب، وخادمة وفية لا تزال بدورها في ريعان الفتوة. ويجد أخ للراحل، كهل وعازب، فجأة نفسه على رأس العائلة متكفلاً بتلبية حاجاتها ورعاية مصالح نسائها وذريتها، وتنفيذ وصايا الأخ المتوفى. تعيش العائلة في مدينة فاس العتيقة بدروبها الضيقة الملتوية الحجرية، وزخم ونشاط أهلها المزدحمين، وكل ما يميزها من قدم وعمارة ولغة وعادات وتقاليد خاصة. انها حياة غرائبية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، في زمن خارج الزمن العصري الحاضر، جواً ولباساً وسلوكاً. إذ ينشغل الشريط في جزئه الأول الأكبر في تعداد صوري لديكورات المنازل الداخلية، ووصفات الأكل التقليدية، وعرض الألبسة العتيقة للشخوص، واللسان العربي الدارج الفاسي، وكل ما يدخل في نطاق العرف المتوارث. في اختصار: عائلة فاسية بورجوازية متخمة من تلك التي تعجب العين الغربية الغريبة، وهي في الوقت ذاته تنقل المشاهد المغربي المحلي من مظاهر المدينة والحضر التي أغرقته فيها الأفلام المغربية الأخيرة في لوني السواد والرمادي، وحالات الحزن والقرف والتشاؤم، ولو للحظات.

ولأننا إزاء فيلم يحمل حكاية، نرى العم الكهل مجبراً على تنفيذ وصية أخيه وهي الحرص على تزويج الابنة وإنقاذها من العنوسة. لكن هذه الأخيرة فتاة متحضرة تعمل مضيفة طيران، ولا تفكر في الاقتران، وترفض كل الخُطاب الذين توافدوا على منزل العائلة الكبير، والذين يتم اختيارهم في ريبرتوار «الشخصيات» النمطية المضحكة لضمان الفرجة: جزار جاهل بدين جداً، تاجر غني، ملتحٍ لا يكف عن الشخير... كلهم رجال من دون جاذبية. ويظل الجاذب أكثر هو العم (الممثل القدير صلاح الدين بنموسى) الذي لا يكف عن تلقي الضربات تلو الأخرى على أم رأسه. هو الساذج الغرّ والطيّب في آن واحد.

ويدوم ذلك أكثر من نصف الفيلم قبل أن يقرر المخرج (أو مُحَدِدات السيناريو) إلى التذكّر أن الأمور ليست كلها تقليد في تقليد ونوستالجيا هوياتية أو طفولية، ولو أردنا ذلك، وأن العالم يدور حتماً وبالضرورة حول في ما اصطلح عليه بالحداثة وإن مظهراً وشكلاً. وهكذا يتغير مجال الشريط، بعد كل هذا المنحى الذي يخلو من ايّ ألق، فينتقل فجأة نحو أجواء مغاير ة تماماً. ينقل وقائعه كلها إلى مدينة أخرى هي طنجة، وبالطبع يعود هنا الى توظيف كل المواضيع «السينمائية» التي أختارتها أفلام مغربية حديثاً كعلامات مميزة لهذه الحاضرة الشمالية الشهيرة، من قبيل الهجرة السرية أو «الحريك»، التهريب... إلخ. والكل يُنقل إليها، عائلة وهدفاً وإضحاكاً. وقد تم ذلك لمرافقة الجانب «الحضري» الحدثي للابن والبنت مع توفير عدد جديد من الشخصيات المرافقة. وعلى الخصوص عازف موسيقى شاب أسود البشرة من إفريقيا جنوب الصحراء (لمحة ذكية نحو جذور وسينما أخرى أو غمزة لافتة) والذي ستربطه بالبنت علاقة حب متبادلة، وهو ما سيقضي تماماً على العم الذي لم يكن ينتظر خطيباً شبيهاً به. والشيء الذي يسترعي الانتباه هنا هو التأكيد على مشاهد اللقاء والافتراق ما بين العم والشخصيات المقدمة تباعاً كما في مرحلة مدينة فاس ما يعطي مواقف مختلفة في كل مشهد لكن بذات السمة والصفة، وهو ما يجعل العمل يتيه في سلسلة متتالية من الأحداث تشكو من فقدان الانسجام والحد الأدنى من المنطق الحكائي السينمائي. هنا نجد الثانوي يطغى على الرئيسي من جديد، وهو مما يميز المنتوج الدرامي المغربي مؤخراً والذي يبدو أن الشريط، عن وعي أو بدونه، اتبعه ووظف حضوره المسيطر على الذائقة الجماهيرية العامة.

المتعة للمتعة

الفيلم من هذه الوجهة عائلي، خفيف الوقع، يدور حول مشاكل أسرية معروفة ومتداولة في الواقع وفي الدراما يتوخى المتعة وفق المطلوب. والفيلم تبعاً لذلك لا يروم بعث رسائل ولا التعبير الفني الخالص واختيار سينما مؤلف أو سينما قضية أو افكار أو اجتهاد صوري أو حميمية كما تعودنا على ذلك في أفلام التازي الأولى... يوم كانت سينماه سينما أخرى لزمن آخر تسائلنا كثيراً... فهل بعد كل الثقافة السينمائية الكبيرة المتراكمة لعقود خلت والتي كان المخرج محمد عبدالرحمن التازي أحد روادها والمدافعين عنها وعن اختياراتها الجمالية والموضوعاتية، نجد أنفسنا مكتفين اليوم، ومع فيلمه الجديد هذا باللهو ومراعاة السائد؟

الحياة اللندنية في

08/02/2013

 

في سباق الممثلين «الرجّالة»:

التقنيات المختلفة تسيطر على حظوظ أصحابها

لوس أنجليس: محمد رُضا

معظم التوقعات بخصوص الممثل الذي سيخطف الأوسكار هذا العام تصب في خانة دانيال - داي لويس عن دوره في «لينكولن»، وهكذا كان الحال عندما فاز بأوسكاريه السابقين، واحد مبكر عن دوره في «قدمي اليسرى» (1989) وآخر لاحقا عن دوره في «سيكون هناك دم» (2007). وكان مرشّحا قويّا في مناسبتين أخريين: سنة 1993 عندما مثّل «باسم الأب» وحينها نال توم هانكس الأوسكار عوضا عنه عن الدراما المعنونة بـ«فيلادلفيا»، وسنة 2002 عندما قام ببطولة «عصابات نيويورك»، وهي السنة التي خطف الجائزة أدريان برودي عن دوره في فيلم رومان بولانسكي «عازف البيانو».

هذا العام نراه يواجه عددا من الممثلين اللافتين: برادلي كوبر عن «سيلفر لاينينغز بلايبوك» وهيو جاكمن عن «البائسون» وواكين فينكس عن «السيد» ودنزل واشنطن عن «طيران».

المقابل النسائي لهذا الفريق (الذي سنسبر غوره في مقال منفصل) تتصدّره جسيكا شاستين التي رشحت مرّة سابقة (في عام 2011) عن دورها المساند في «المساعدة» ولم تفز عنه. التوقّعات حاليا تصب في صالحها على نحو كبير تتقدم بسببه على باقي زميلاتها: جنيفر لورنس عن «سيلفر لاينينغز بلايبوك» وناوومي ووتس عن «المستحيل» وكويفنزاني ووليس عن «وحوش الحقول الجنوبية» والفرنسية إيمانويل ريفا عن دورها في «حب».

هناك أسباب وجيهة لتوقع فوز دانيال داي - لويس معظمها يلتئم تحت سقف التشخيص المثالي. لا يخفي هنا أن تقنيات التمثيل تختلف حسب الممثل. في شكل عام، هناك ممثلون يسحبون الشخصيات إليهم وممثلون يقومون بمهمة أصعب وهي دخول تلك الشخصيات. هذه الصعوبة على درجات أسهلها، نسبيا، الحفاظ في الوقت نفسه على «الأنا» الداخلة في «الآخر»، وأصعبها الذوبان داخل الشخصية الأخرى. دانيال داي - لويس هو من هذا الفريق الذي عليه قبل أن يقول المخرج «أكشن» أول مرّة أن يكون وضع كتابه الخاص حول كل ما يتعلق بالشخصية التي يقوم بتمثيلها سواء أكانت حقيقية («قدمي اليسرى»، «لينكولن») أو خيالية («سيكون هناك دم»، «عصابات نيويورك»).

وأعضاء الأوسكار، من ممثلين (يشكلون النسبة الأعلى من الـ5765 عضوا من مختلف المهن) يحبّون ذلك. لقد منحوا دانيال داي - لويس أوسكاره الأول بناء على ذلك. لكن الأهم، وما يرفع من احتمالات فوز الممثل البريطاني المولود قبل 55 سنة أنهم يحبّون أيضا الممثلون الذين يتقمّصون الشخصيات الحقيقية كما يستطيع المرء أن يدرك حالما يعود إلى تاريخ الأوسكار خصوصا في سنواته العشر الأخيرة:

2005: جايمي فوكس عن لعبه دور المغني راي تشارلز في «راي» 2006: فيليب سايمور هوفمن عن تمثيله شخصية الكاتب ترومان كابوتي في «كابوتي».

2007: فورست ويتيكر عن تقديمه شخصية عيدي أمين في «آخر ملك لاسكوتلندا».

2009: شون بن عن تشخيصه محافظ مدينة سان فرانسيسكو هارفي ميلك في «ميلك».

2011: البريطاني كولين فيرث يفوز بالأوسكار عن أدائه شخصية الملك جورج السادس في «خطاب الملك» - مع الانتباه إلى أن كولين هنا لم يضطر للبحث في تقنيات الشخصية ذاتها على غرار داي - لويس في «لينكولن».

والتقنيات الأدائية تختلف كثيرا من ممثل لآخر هذا العام.

في حين أن داي - لويس محص أبراهام لينكولن ودرس خطبه وحركاته والصور الفوتوغرافية المحدودة المتوفّرة عنه، لم يكن مطلوبا من باقي المرشّحين تمثيل شخصيات حقيقية. إذا نظرنا لأدوار واكين فينكس ودنزل واشنطن وهيو جاكمن وبرادلي كوبر، فإنها جميعا شخصيات خيالية. نعم ليست فانتازية لكنها ليست مستنسخة من حقائق. على ذلك الأداءات وفهم المطلوب لتحقيق الأداء الأفضل يختلف من ممثل لآخر.

برادلي كوبر عن دوره في «سيلفر لاينينغز بلايبوك» ينجز حضورا جيّدا بالفعل، لكن ليس من دون نقطة ضعف مهمّة ستتدخل حتما لإبعاده عن احتمال الفوز بأوسكار هذا العام: دوره كشخصية غير متوازنة لا يمكن لها أن تستند على دراسة حقيقية من دون أن تترك هذه الدراسة ثقلها على الأداء والفيلم بأسره. بديله كان ترك نفسه يتماوج حسب المشهد. هذا يعني فقدان خطة أفضل ومهما كانت الأعذار فإن ذلك ليس في صالحه.

دنزل واشنطن قريب من هذا المنهج، هو أيضا شخصية غير سويّة: قائد طائرة محنّ-ك ينقذ أرواح معظم ركّاب الطائرة في «طيران»، لكنه مدمن كحول (وأحيانا كوكايين) في الوقت ذاته. قبضته على التدرّجات الواقعة بين جانبي هذه الشخصية رائعة. تعبيره بالملامح عنها رتيب.

هيو جاكمن يعمد إلى خلفيّته المسرحية في «البائسون» لكن الرجل ليس مغنيا على الرغم من أنه يمارس الغناء هنا. عندما تكون ممثلا وعليك مزاولة الغناء، على نحو استعراضي وأوبرالي كما الحال هنا، فإن خلفيّتك هي التي تؤثر على نوعية أدائك الذي بات مزيجا من فنيّن غير متساويين. في «البائسون» يثقل على جاكمن هذا التنويع. يتركه أكثر عرضة للنقد منه للإعجاب.

هذا يترك واكين فينكس في «السيد»: ثاني أهم صاحب إنجاز في هذه الفئة بعد داي - لويس، والرد الأصعب على تقنية داي - لويس في الوقت ذاته.

مثل الآخرين ليس لدى واكين نموذجا يحتذي به، بل هو يشارك كوبر وواشنطن حقيقة أن شخصيته ليست متّزنة. لكن الرجل يبتكر من خلال ذلك ويصنع شخصية أكثر تكاملا في «عدم توازنها» من زميليه. في الوقت ذاته، يكشف عن أن دانيال داي - لويس مكبّل بشخصية لينكولن بعدما اختار، تبعا لمنواله في العمل، اقتباس حذافير تلك الشخصية. واكين فينكس، الذي رُشح مرّتين سابقتين، يخرج عن النمط لكنه يأتي بشخصية قابلة للتصديق وحقيقية. في ذلك، سواء أكانت هذه الشخصية خيالية أو حقيقية هي ذات وجود بعيد عنه وخاص به في الوقت ذاته.

هذا المنوال مارسه عندما لعب شخصية المغني جوني كاش سنة 2005. إنه العام الذي لعب فيه زميله فيليب سايمور هوفمن بطولة شخصية حقيقية أخرى هي الكاتب كابوتي وفاز بالأوسكار عنها. ومن الصدف بمكان أن هوفمن وفينكس يشتركان في بطولة «السيد» الذي تم ترشيح فينكس عنه لأوسكار أفضل ممثل (ترشيح فينكس الأول كان عن دور مساند في فيلم «غلادياتور» سنة 2001).

كل ما سبق هو خاص بحرفة التمثيل ومزاولتها وما يتبع ذلك من ميول لدى أعضاء أكاديمية العلوم والفنون السينمائية. لكن هناك عوامل أخرى تتدخل لتوجيه التوقعات و - بالتالي - النتائج.

من بين هذه العوامل أن أعضاء الأكاديمية غالبا ما سيجدون أنفسهم في حيرة بين ثلاثة هم داي - لويس ودنزل واشنطن وواكين فينكس وحينها سيتم إخراج واكين فينكس تلقائيا من المنافسة في مدارها الأمامي خصوصا أن فيلمه «السيّد» لم يحظ بالتأييد فلم يدخل سباق أفضل فيلم كما حال «لينكولن» و«البائسون» و«سيلفر لاينينغز بلايبوك». طبعا فيلم دنزل واشنطن «طيران» لم يحظ بدخول المسابقة، لكن كلاسيكية أداء واشنطن هنا ومفهوم دوره (رجل يقرر أن عليه أن يدفع ثمن آثامه) أقوى من أن تُلغى من الاعتبار.

العاطفة القومية سبب آخر يؤيد فوز دانيال داي - لويس كونه يتناول حياة رئيس جمهورية دفع بتشريع حقوق السود الأميركيين إلى النور في وقت نلحظ فيه أن «زيرو دارك ثيرتي» و«دجانغو طليقا» يرسمان هالات الشك حول المؤسسة الأميركية وهو أمر يضعف احتمال فوزهما بأفضل فيلم.

الممثلون الأكثر احتمالا للفوز (حتى الآن) 1 دانيال داي - لويس 2 دنزل واشنطن 3 واكين فينكس 4 هيو جاكمن 5 برادلي كوبر الممثلون الأكثر استحقاقا للفوز هذا العام 1 واكين فينكس 2 دانيال داي - لويس 3 دنزل واشنطن 4 برادلي كوبر 5 هيو جاكمن 1. Lincoln.jpg دانيال داي لويس كما يبدو في «لينكولن» 2. Denzel.jpg دنزل واشنطن: ثاني أقوى المرشّحين

جولة بين الأفلام الجديدة

أسبوع ذو صبغة نسائية

* في اليوم الذي عرض فيه المخرج - المنتج جورج لوكاس حصّته في استوديو ديزني للبيع بمبلغ يصل إلى ملياري دولار، كانت الشركة المعروفة مشغولة في اجتماعات إدارية متلاحقة لتحديد الخطوات التالية لإعلانها بأن سلسلة «ستار وورز» ستنطلق قريبا بحكايات جديدة تواصل سرد مستقبل أحداث الثلاثية الأولى عوض أن تعود إلى ما قبلها. والمسألة ليست بالطبع محض سينمائية أو مجرّد قرارات إنتاجية، بل لها علاقة ببورصة المؤسسة الضخمة التي ارتفعت أسهمها مباشرة بعد قيام لوكاس بعرض حصّته فيها للبيع.

* هل ينوي لوكاس فعلا التقاعد عن العمل وهل بيعه حصته ومن قبل ذلك حقوق «ستار وورز» (بأكثر من أربعة مليارات دولار) هو التمهيد لأن يعيش في جزيرة استوائية يشتريها ويشم فيها هواء منعشا، أم هو بالفعل، وكما أعلن، يريد أن يبحث عن مشاريع صغيرة من تلك التي لو استمر عليها في فترة ما قبل «ستار وورز» لما جنى ما حققه من شهرة وثروة؟ الأيام ستؤكد واحدا من هذين القرارين: هو إما سيكف عن الحلم ثريا أو سيفتح فصلا جديدا من حياته يختلف عن صفحات فصوله السابق.

* «ديزني» لم تكن الوحيدة التي كان لديها أسباب عاجلة للاجتماعات المغلقة، بل قامت شركة «صوني» طوال الأسبوع نفسه بعقد سلسلة من الاجتماعات بعضها له علاقة بفيلم كانت طلبت من المخرج ديفيد فينشر الاستعداد له ثم.. اختفت أخباره. الفيلم هو «الفتاة التي لعبت بالنار» والطبيعي جدّا أن تتقدم «صوني» من فينشر لتحقيق هذا الفيلم البوليسي إذ هو من حقق لها، وبنجاح جيّد، «الفتاة ذات الوشم التنين»، وكلاهما - بالمناسبة - منقولان عن فيلمين سويديين من كتابة الراحل ستيغ لارسن.

* مباشرة بعد نجاح فيلم فينشر وافقت صوني على معالجة جديدة للفيلم الآخر لكنها كبحت جماح رغباتها عندما قررت أن الفيلم السابق تكلّف 90 مليون دولار. ومع أنه أنجز دوليا نحو 233 مليون دولار، إلا أنها ترغب في تقليص حجم التكلفة بالنسبة للفيلم الثاني. أجر فينشر ليس المشكلة، لكن أجر بطل الفيلم دانيال كريغ هو المشكلة التي تتناقض مع قرار «صوني». ذلك أن جيمس بوند السينما الذي قبض 17 مليون دولار عن دوره في «سكايفول» يريد زيادة أجر وليس تخفيضا كما تريد الشركة.

* بالنسبة لديفيد فينشر فهو مثل من يدخل مكتبة ويحتار أي كتاب يريد أن يشتريه فيخرج من دون كتاب. عدد الأفلام والمشاريع التي له علاقة بها، على نحو أو آخر، يبلغ أحد عشر. ولحين كان «فتاة مختفية»، الذي لا علاقة له بالسلسلة الأخرى، قريب الاحتمال لكن الثابت أن السيناريو ليس حاضرا بعد لكي يتم الاتفاق عليه وسيتطلب ذلك بضعة أشهر. ما يعني أنه إذا ما سوّت «صوني» خلافها مع دانيال كريغ، فإن فينشر سيعيد وضع «الفتاة التي لعبت بالنار» في الأولوية.

* روني مارا، التي لعبت بطولة «الفتاة ذات الوشم التنين» لديها فيلم جديد تنطلق عروضه في أسبوع واحد بين برلين ومدن الولايات المتحدة. هو أحد أفلام المسابقة البرلينية المقامة حاليا، وفي الوقت ذاته مدرج للبدء بعروضه التجارية في الأسبوع المقبل. مخرجه ستيفن سودربيرغ ليس غريبا عن المهرجانات ولو أن اختياره المعتاد هو مهرجان «كان» وليس برلين (أو فينيسيا). الفيلم بعنوان «تأثيرات جانبية» وهو تشويق درامي تؤدي فيه مارا شخصية فتاة شابة تتناول دواء وصفه طبيب بسبب حالتها القلقة لكن الدواء يتسبب في حالات جانبية غير متوقّعة.

* كاد «تأثيرات جانبية» أن يكون الوحيد في سوق الأسبوع المتوجه لجمهور من الراشدين 60 في المائة منه نسائي (كما هو متوقع)، لكن «أغنية غير منجزة» هو فيلم منافس له ينطلق في الأسبوع ذاته ويحتوي على مضمون نسائي قوي متمثل بممثلة جديدة هي جيما أرترتون وأخرى مخضرمة هي فينيسا ردغراف. ويتعامل الفيلم مع المسرح والتمثيل كما يُعيد الممثل البريطاني ترنس ستامب إلى الواجهة في دور صغير.

بين الأفلام

أفلام من روتردام

* حين انتهى مهرجان روتردام السينمائي الدولي في الأسبوع الماضي، تم الإعلان عن ثلاثة أفلام فائزة بينها «قاتل كلبي». شاهدت هذا الفيلم وأضفت فوقه فيلمين آخرين من تلك التي عرضها المهرجان الهولندي.

* الفيلم الأول:

36 (2*) حط هذا الفيلم التايلاندي على شاشات روتردام مسبوقا ببعض الاهتمام فهو خرج بجائزة من قسم «تيارات جديدة» وأخرى من الفيبريسكي، اتحاد نقاد السينما الدوليين، إثر عرضه في مهرجان بوسان الكوري في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وهي الجائزة التي تُمنح للأفلام التي تتوخى القيمة الفنيّة فوق ما عداها. لكن ومن دون معرفة من هي الأفلام التي نافسته على هذه الجائزة، لا يمكن تحديد سبب فوزه. يملك الفيلم ناصية جميلة كبداية فهو عن فتاة تدمن التصوير وتربط لقطاتها بالحياة حولها. كل شيء تلتقطه أمامها له معانٍ وجدانية (يُراد له أن تكون عميقة) في حياتها. إنه كما لو كانت تسجّل من خلال لقطاتها الفوتوغرافية الثابتة الحياة التي تمر بها والأمكنة التي تشغلها. لكن الفيلم إذ لا يملك حبكة ولا قضية ويتعامل مع مفارقات متكررة (تعود المصوّرة إلى ذات الأمكنة وتتحدّث إلى ذات الأشخاص) لا يمكن أن يجد الكثير ليتحدّث عنه بعض ترسيخ أفكاره. فيلم مقبول الفكرة في أفضل حالاته، يريد أن ينتقل بها إلى مستوى جديد، لكن المخرج ناوابول تامرونغرتانريت يرفض مبدأ التخلي عن الانضباط المحدد لمعالجته.

Karaoke Girl (2*) فيلم تايلاندي آخر مختلف تماما باستثناء انتمائه، مع الفيلم السابق إلى فصيلة السينما المستقلة في بلاده. المخرجة أسمها فيسرا فيشيت - فاداكان وهي كانت ذات مرّة تنزل في فندق صغير عندما التقت بطلة فيلمها واستمتعت لقصّتها. القصّة أعجبتها وقررت تحقيق هذا الفيلم عنها راوية فيه كيف أن بطلتها الشابّة تركت عملها في أحد المصانع خارج بانكوك بعد ثلاث سنوات من الخدمة كان راتبها فيها لا يتجاوز الثلاثة دولارات يوميا. ليس أنها تبغي تحقيق ثروة طائلة، لكن لديها عائلة تريد إطعامها وهذا ما يودي بها للعمل كفتاة ليل. لسنا أمام ميلودراما من أي نوع بل متابعة تسجيلية المعالجة للمرأة التي عانت طويلا لكنها ترفض أن تعامل كضحية. الفيلم يحترم هذه الرغبة ولا يصنع دراما من مشكلتها، لكنه يقع في مشكلة أخرى تقنية وفنية.

My Dog Killer (3*) في المعالجة شبه التسجيلية ذاتها نجد فيلم المخرجة التشيكية ميرا فورمايوفا (سبق لها تحقيق فيلم رديء قبل ثلاثة أعوام بعنوان «ثعالب صغيرة») تنتقي بعناية قصّة شاب من ذوي شعر الرأس المحلوق («سكينهيدز») يحاول مساعدة أبيه إقناع والدته بالتوقيع على ورقة تجيز للأول بيع بعض العقارات لأجل الاحتفاظ بمنزله الخاص. المشكلة هي أن والدة بطل الفيلم (أدم ميهال) كانت تركت الزوج من دون طلاق وعاشت مع عشيق غجري وأنجبت منه صبيا قبل الاستقلال بنفسها عن الجميع. الآن على الشاب العنصري أن يتعامل مع اكتشاف العمر: شقيقه من أب آخر هو غجري. المادة مثيرة للاهتمام كذلك شغل المخرجة المتأني على العمل واعتمادها على ممثلين غير محترفين.

3. My Dog killer «

شباك التذاكر

على سياق «توايلايت ساغا» التي تمزج الحب بالرعب يتقدّم فيلم «أجسام دافئة» صوب الجمهور نفسه وينجح في اقتناص الأولى. الفيلم الجديد الثاني هو «رصاصة إلى الرأس» من بطولة سلفستر ستالون الذي نال مصير فيلم أرنولد شوارتزنيغر في الأسبوع الماضي.

1 (-) Warm Bodies: $20,020,500 (2*) 2 (1) Hansel & Gretel: Witch Hunters: $9,217,573 (1*) 3 (3) Silver Linings Yearbook: $8,113,466 (3) 4 (2) Mama: $6,730,042 (2*) 5 (4) Zero Dark Thirty: $5,818,019 (4*) 6 (-) Bullet to the Head: $4,501,225 (3*) 7 (5) Parker: $3,216,400 (2*) 8 (6) Django Unchained: $3,039,848 (4*) 9 (10) Les Miserables: $2,430,360 (3*) 10 (11) Lincoln: $2,412,800

سنوات السينما

1931 | أضواء تشابلن

* عام 1931 شهد فيلمين كوميديين أساسيين واحد فرنسي والآخر أميركي. الفرنسي رنيه كلير قدّم «الحريّة لنا»: حكاية صديقين هرب أحدهما من السجن بمساعدة الآخر وأصبح ثريا وصاحب مصنع كبير قبل أن يلتقي بصديقه السابق ويتأثر بمفهومه للحياة. تشارلي تشابلن من ناحيته قدّم «أضواء المدينة» حول صعلوكه تشارلو الذي يحب فتاة عمياء وحين يصيب الثراء لا ينساها. الفيلمان جيّدان وذوا خامة اجتماعية ناضجة.

بعد خمس سنوات قام تشابلن بتحقيق «أزمنة معاصرة» الذي نجد فيه مشاهد منقولة من «الحرية لنا»، شركته نفت. الشركة الفرنسية المنتجة رفعت دعوى. شركة تشابلن سوّت القضية خارج المحكمة.. وكل شيء جائز.

الشرق الأوسط في

08/02/2013

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)