حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

على جثتى

كمال رمزي

الأربعاء 30 يناير 2013

 

رجل أعمال ناجح، أصلا هو مهندس ديكور، صاحب معرض أثاث فاخر، متعدد الأدوار، شركته عامرة بموظفين وموظفات، يسكن فيللا أنيقة، له زوجة جميلة، وطفل رقيق، وديع.. إلا أن الرجل المحظوظ، سيئ الطباع، شرس، شديد السطوة، متجهم دائما.. يتعرض لحادث أليم يجعله، لفترة، بين الحياة والموت، راقدا على فراش بغرفة عناية مركزة بأحد المستشفيات، فماذا يرى فى غيبوبته؟.. هذه هى فكرة الفيلم، ذات الطابع الفانتازى، الذى يطلق آفاق الخيال، إلى أوسع مدى. وربما تجسدت «الفكرة» فى الكثير من الأفلام، أجنبية ومصرية، والمؤكد، أنها لا تزال بحيويتها، ومرونتها، قادرة على أن تظل تكأة، تنهض عليها، عشرات الأعمال السينمائية. والعبرة، فى النهاية، ليست فى الفكرة، بحد ذاتها، لكن بكيفية تقديمها فى عالم الأطياف.

يبدأ «على جثتى» بداية فاترة: «رءوف، بطل الفيلم، بشارب عريض فوق فم أحمد حلمى، يدخل مؤسسته ويجلس على مقعد مكتبه، ومن خلال دائرة تليفزيونية داخلية، يصدر أوامره إلى العاملين، ويوبخهم، على نحو يشعرنا أنه ليس قاسيا بقدر ما يتظاهر بالسطوة.. فى البيت يوبخ طفله ويعاقبه بمنعه من استكمال قراءة ديوان «البحترى»، وينتقد زوجته «غادة عادل»، بخمول، ويهديها فستانا جديدا! إنه شخصية تكاد تكون مطموسة الأبعاد، وهذه مسئولية كاتب السيناريو، تامر إبراهيم، الذى امتد إهماله المزمن إلى بقية شخصيات الفيلم، حيث بدت، إجمالا، أقرب لقطع الإكسسوار التى يمكن استبدال الواحدة بدلا من الأخرى، بل الاستغناء تماما عن هذه أو تلك.

يستيقظ رءوف ــ ليلا، على صوت اطلاق رصاصة، يهرول للحديقة ويحمل كلبه النازف دما. يركب سيارته باحثا عن طبيب. تسقط العربة فى النيل ليبدأ الجزء الثانى، الفانتازى، حيث يلتقى بزميل، بين الحياة والموت. المستشار نوح، بأداء حسن حسنى، ويتجولان سويا، فى عالم رءوف، مما يؤدى إلى إهمال عالم رجل القانون والقضاء، وبالتالى يفوت الفيلم على نفسه فرصة أن يقول الكثير من خلال هذه الشخصية.

فى عالم «الفانتازيا»، الذى يتجلى فى المفاصل، بين الموت والحياة، ينطلق الخيال، فلا يمكن أن تكون الديكورات هى ذات الديكورات، والألوان كما كانت قبلا، والموسيقى المصاحبة هى نفسها، وإذا أنعشنا ذاكرتنا بأعمال من هذا النوع، سيبرز لنا ما فعله المخرج بوب فوسى فى «كل هذا الجاز» حين جعل بطله، مصمم الرقصات، يتخيل حتى شكل جنازته، وعند رأفت الميهى فى «سمك لبن تمر هندى» يقدم مستشفى غرائبية لا علاقة لها بالواقع وإن كانت تعبر عنه.. هنا فى «على جثتى»، يتخبط المخرج، محمد بكير، فى خيال كسيح، ما إن ينهض لينطلق حتى تشده قيود الواقع فلا يغادر مطرحه، فيتخبط ما بين ما يحدث فعلا، وما يتوهمه «رءوف»، وربما من الصعب الحديث عن الأداء التمثيلى الأقرب إلى تسميع قطع محفوظات بليدة، لا حياة فيها، الأمر الذى يدفع إلى القول إن «على جثتى» فيلم عظيم الفائدة، لو تعلمنا من أخطائه.

 

وحيد سيف

كمال رمزي

الخميس 24 يناير 2013

هو نسيج وحده فى الكوميديا المصرية، صاحب بصمة خاصة لا تخطئها الذاكرة. صحيح، على الشاشة الفضية لم يحظ بالبطولة.. وفى الكثير من الأفلام، لا يظهر سوى فى مشهدين أو ثلاثة. ولكنه يبدو أقرب للنقط فوق حروف الكلمات، لا يستقيم معناها إلا بوجودها. المقصود بالمعنى هنا هو البعد الاجتماعى والأخلاقى الذى يعبر عنه وحيد سيف، ويبلوره، بأسلوبه المتمتع بنوع فريد من الحيوية النفسية، تتجلى فى قدرته الإيحائية على تجسيد جوهر الشخصية وراء قناع من وجه يخفى ما يتناقض مع مظهره.. على سبيل المثال، فى «سواق الأتوبيس» لعاطف الطيب 1983، يذهب «حسن» ــ نور الشريف ــ إلى بورسعيد، مستنجدا بزوج شقيقته، وحيد سيف، كى يقرضه مالا لإنقاذ ورشة والده.. وهناك، بينما ينتظر «حسن»، فى شقة الرجل المليئة بالبضائع، يأتى المنقذ المأمول محدثا ضجة عالية، لا يكاد يتوقف عن إصدار أوامر مشفوعة بالرجاء، للرجال الذين يحملون كراتين الثلاجات والمراوح، بضرورة التعامل معها برفق، خوفا عليها من التلف.. وحين يفاتحه «حسن» فى مسألة القرض، يبدى منتهى التعاطف والتأثر، وبلا تردد، يزعم أن كل أمواله فى السوق، وأنه لن يستطيع المساعدة.. وحيد سيف، فى لهجته السريعة، ونغمة الحسم الناعمة، وطريقة التهامه للطعام، يعبر عن أخلاقيات الانفتاح، وما أصاب البعض، داخل الأسرة المصرية، من مرض الشراهة الذى يجعل المرء يتنكر، حتى لمن قدم له يد العون، فى الأيام المرة.

شارك وحيد سيف فى أكثر من مائة فيلم، منحها مذاقا حريفا، فما إن يظهر، بحضوره الساخن، فى المشاهد القليلة، حتى تتوهج الشاشة، منذرة بأحداث ستقع حتما، قد نراها وربما لن نراها فى «أريد حلا» لسعيد مرزوق 1975، يطالعنا مرتين فى المحكمة. اسمه «عباس الحلوانى»، طلق زوجته «ثنية» ـ بأداء رجاء حسين ـ التى ترفع عليه قضية نفقة، وأمام القاضى يبدو منكسرا، مفلسا، مستسلما، ومع طليقته، فى الأروقة، يتكشف جانبه المتسم بطابع وحشى.. وفى الجلسة التالية، تظهر «ثنية» بملابس خليعة تشى بالمهنة التى انخرطت فيها.. الوغد «عباس الحلوانى»، لا يتنازل عن رعاية أولاده وحسب، بل يسير خلفها، مناديا عليها، بصوت حنون مخاتل، يعطى إحساسا بأنه على استعداد للعمل معها، فى مهنتها.

عادة، لا يكترث كتاب سيناريوهات الأفلام المصرية بأهمية الشخصيات الثانوية والهامشية، وبالتالى يصبح على الممثل منح تلك الشخصيات المهملة قدرا من الحضور والفاعلية، الأمر الذى درج وحيد سيف على توفيره بسخاء، وذلك بسبب ما يتمتع به من ثقافة وخبرة فى الحياة، تظهر بوضوح فى حواراته ببرمج التلفاز، وتنطلق على الشاشة فى عشرات الأعمال.. فى «المتسول» لأحمد السبعاوى 1983 يؤدى دور المسئول عن عمل العاهات للشحاذين، وبرغم حقارة المهنة، يتكلم ويتصرف كما لو أنه أحد كبار الأطباء.. إنه يدرك فن المفارقات، ويصل به إلى مستوى رفيع فى «محامى خلع» لمحمد ياسين 2002، حين يداهم مكتبه رجل أعمال، قوى البنية، مع رجال حراسته.. وخلال دقائق يتحول وحيد سيف، من صاحب مكتب محاماة محترم، إلى شخص منزعج لم يفقد وقاره بعد، ثم إلى فأر مذعور.

الشاشة الكبيرة بخلت على وحيد سيف. لم تمنحه سوى مناطق قليلة، شأنها شأن الشاشة الصغيرة وخشبات المسارح، لكن فناننا، استطاع أن يضىء تلك المساحات الصغيرة.

 

«البؤساء»

كمال رمزي

السبت 19 يناير 2013

تتدفق الألحان، فى «البؤساء»، منذ اللقطة الافتتاحية، حتى ما بعد النهاية، وهى لا تغلف المشاهد، أو تعبر عن موقف، أو تكثف المشاعر، أو تمهد لظهور شخصية.. دورها، أكبر من هذا بكثير.. إنها رؤية، جزء جوهرى من بنية الفيلم، فمثلا، حين تضطر «فانتين» ــ بأداء آن هاثواى ــ لبيع شعرها وأسنانها، كى توفر ثمن طعام طفلتها، ثم تنخرط فى حى الدعارة، حيث تنادى كل واحدة على زبائنها، بالغناء طبعا، وتندلع بينهن مشاجرات، وتمتزج الأصوات البشرية بالموسيقى، متنافرة، متصادمة، بينما ثمة لحن يتصاعد، موحدا بين الجميع، مع أغنية ذات معنى احتجاجى، صادم ونبيل، تقول للرواد «إنكم تنامون مع جثث ميتة».. ولا يفوت المخرج البريطانى، توم هوبر، أن يصبغ المشهد بلون أحمر قاتم، بينما جسد البطلة ممدا، بهزاله، وبوجه نحيل، يخلو من الانفعال، وقد أغلقت عينيها نصف إغلاقة، كعيون من فارقت الحياة، شأن بقية من قست عليه وحشية نظام مستبد، لا يقيم وزنا لمتطلبات البشر.

على هذا النحو تتوالى مشاهد البؤساء، بوقائعها المعروفة سلفا، فالرواية، فى العالم صدرت فى عشرات الطبعات، وتحولت إلى عروض أوبرا ودراما وباليه وأفلام سينمائية، لذا فإن معايشة العمل المأخوذ عنها، الآن، ليس بهدف الاطلاع على ما تتضمنه الرواية، ولكن لمعرفة كيف تحكى الحكاية.. فى هذه المرة، يتمرد العمل «البؤساء» عن التصنيفات المعهودة، ويكاد يصبح مفردة مستقلة، تتضافر فيها عناصر الرؤية، مع حاسة السمع، لتغدو وحدة واحدة، قوية وعميقة التأثير، فالأداء التمثيلى المتمكن، يزداد إبداعا بالماكياج المتوائم مع كل شخصية، ويتطور مع تطورها، فمثلا، مع المشاهد الأولى، يطالعنا «جان فلجان» ــ بأداء هيو جاكمان ــ السجين المزمن، الذى قضى ما يقرب من العقدين وراء القضبان، بوجه حفرت التجاعيد القاسية خطوطا طويلة بين حاجبيه، وبينما بدت لحيته مشعثة، ثمة غطاء من البثور فوق شفته السفلية.. ذات الوجه، نراه لاحقا حين تستقر أحواله، ويطمئن من غدر الزمان والآخرين، يغدو وجهه سمح الملامح، رقيقا، من دون لحية، وشعر رأسه ناعما.. الماكياج، فى الفيلم، يلعب دورا لا غنى عنه، شأن بقية عناصر اللغة الفيلمية.

«البؤساء»، فيلم ممتع، أخاذ وآسر، لكن يثير التفكير والتأمل، خاصة بالنسبة لنا، شعوب الربيع العربى، وبالأخص، الجزء المتعلق بالثورة الفرنسية التى لم يكتب لها النجاح، عام 1832، ضد الملك لويس فيليب.. ولا أعلم إذا كان صناع الفيلم التفتوا إلى ما جرى فى بلادنا أم أن المسألة مجرد تشابه، قد يصل لحد التطابق، بين أسباب وآليات ونتائج الثورات. وهنا، تتحول الثورة إلى لحم ودم وصدام وشهداء، والحق أن هذا الجزء من الرواية، كتبه فيكتور هوجو ببراعة، وقدم فيه شخصيات خالدة، مثل الصبى «جافروش»، الذى انضم للثوار، بدافع من إحساسه العفوى بأنهم على حق ــ كتب محمد مندور فصلا ممتعا عن «جافروش» فى كتابه «نماذج بشرية» ــ لكن الأهم أن شعارات الثورة لاتخرج عن هتافات المصريين المطالبة بالعيش والحرية والعدالة.. وبخبرة لا يستهان بها، يشير هوجو إلى دور الضابط «جافييز» مخلب السلطة، المتظاهر بالانضمام للثوار، والذى يهدف لتضليلهم.. لكن أحسب أن استشهاد الصبى «جافروش»، بفعل رصاصات الغدر، لمس قلوب المصريين، الذين يدركون تماما مدى احتياج الثوار للدعم، مطلقون صيحتهم التى ندركها تماما «يا أهالينا.. انضموا لينا».. إنه فيلم كبير.

 

هوجو.. مصريًا

كمال رمزي

الخميس 17 يناير 2013

فيكتور هوجو «1802 ــ 1885»، تجاوز أسوار الزمان والمكان. لا يزال حاضرا، حتى يومنا هذا.. كتاباته، بطاقتها الروحية الهائلة، وهى ترنو للعدل والحرية والرحمة، لمست أفئدة الناس، جيلا بعد جيل، داخل وخارج فرنسا.. فى مصر، إلى جانب ترجماته المتوالية، كتب عنه كبار نقادنا، صفحات مشرقة من التقدير الرفيع، وكما أمدت أعماله مسارح وشاشات العالم، برؤى تفيض بالضياء، كان لمصر نصيب منها، فمنذ جسَّد يوسف وهبى «أحدب نوتردام»، فى الثلاثينيات، لم يتوقف المسرح المصرى، عن إعادة تقديمها. وإذا كانت «أحدب نوتردام» لم تجد لها مكانا مباشرا على شاشة السينما المصرية، فإن بطلها المعذب «كوزايمودو»، بما جبل عليه من جمال إنسانى يتناقض مع مظهره الخارجى الدميم، تسلل إلى أكثر من عمل: فيلم «الأحدب» لحسن حلمى 1946، الذى كتبه وقام ببطولته محمود إسماعيل، نقل «كوازيمودو» إلى بيئة مصرية.. إنه هنا «فؤاد» ــ خذ بالك من معنى اسمه ــ الأديب الذى يبشر بالمثل العليا، والذى اعتزل الحياة وابتعد عن الناس بسبب هيئته المشوهة. يخفق قلبه بالحب تجاه «وداد» ــ سامية جمال ــ نظيرة الغجرية الفاتنة، الطيبة «أزميرالدا» فى الرواية. هى تشفق عليه، بينما عواطفها تتجه نحو شقيقه «جميل» ــ محسن سرحان ــ «الأحدب»، بإحساسه اليقظ، يدرك أن أميرته تحنو عليه فقط، فينسحب، بنبل، إلى عالمه، تاركا السعادة إلى الآخرين.

على نحو ما، استوحى صلاح منصور فى «مع الذكريات» لسعد عرفة 1961، شيئا من «كوزايمودو»، سواء فى مشيته الوئيدة، أو دمامة الوجه، أو ظهره المحدودب، فضلا عن قلبه المفعم بالمحبة تجاه النجم السينمائى الذى يعطف عليه «شريف» ــ أحمد مظهر ــ والذى لا ينزعج من منظره الوحشى.. صلاح منصور، فى دوره الثانوى، كعامل غلبان فى الاستوديو، كما الحال بالنسبة لـ«كوازيمودو»، الخادمم فى كاتدرائية نوتردام، محل استهجان الجميع، وبالتالى يندفع فى تقديره لمن يبتسم فى وجهه، إلى الإقدام على ما يشبه الجريمة، بهدف حماية «شريف» من الاقتران بامرأة خائنة.

على طريقة الفاتنة مورين أوهارا، فى أقوى مشاهد «أحدب نوتردام» لوليم ديتريل 1939، حين قدمت الماء للمضطهد «كوازيمودو» ــ تشارلز لوتون» ــ المكبل اليدين، فى باحة نوتردام. تعبر نعيمة عاكف فى «مدرسة البنات» لكامل التلمسانى 1955، عن هذا الموقف، فى واحد من أجمل استعراضاتها وأعمقها تأثيرا. أما «البؤساء»، إحدى إبداعات القرن التاسع عشر، فإنها ستظل نابضة بالحياة، تنهض دائما، وتتجدد دائما، طالما فى عالمنا من يدهسه الظلم، ويعانى من جوع الفقر وقسوة المرض وبؤس الجهل.. هذه الرواية الملحمية العظيمة، حققتها السينما المصرية مرتين. الأولى من إخراج رائد الواقعية، كمال سليم 1943، والثانية من إخراج المتمتع بنزعة رقيقة، عاطف سالم 1978.. الفيلمان، على قدر كبير من الجودة، يتسمان بطابعهما المصرى فضلا عن قبس من روح هوجو المتأججة بالغضب ضد الإجحاف ــ وما أشده فى بلادنا ــ كما كان الحال فى فرنسا إبان كتابة الرواية.. وإذا كان عباس فارس، الذى جسد شخصية «جان فالجان»، فى نسخته المصرية، بدا طبيعيا تماما شأن فريد شوقى، فى ذات الدور لاحقا، حيث ابتعد عن المبالغات، فإن اللافت فى الفيلمين، تلك البراعة التى توافرت فى أداء المعادل المصرى لدور الضابط «جافيز»، غريم جان فالجان، سواء بالنسبة لسراج منير فى الفيلم الأول، وعادل أدهم فى الفيلم الثانى.

فيكتور هوجو، المتعاطف مع الثورة، الشاعر، رجل السلطة أىضا، رسم شخصية «جافيز» بخبرة ودقة، يمتزج عنده القانون بالثأر الشخصى، شديد الإخلاص لمهنته، لا يدرك أن القانون ليس بالضرورة هو العدالة، فهنا، يساق اللص «جام فالجان» إلى السجن لأنه سرق رغيفا، وتتضاعف عقوبته بدافع من إحساس بالغبن.. وحتى بعد إطلاق سراحه، عليه الخضوع للرقابة، ويصبح على «جافيز» مطاردة المتمرد على الرقابة. سراج منير، ببنيانه الضخم وصوته القوى الحازم، ونظراته النافذة، يجسد سطوة قانون لا يعرف الرحمة.. وعادل أدهم، النمر، بهدوئه الذى يخفى وحشية قد تنطلق فى أى لحظة.. وبينما تحاشى كمال سليم عام 1943 التعرض للثورة أو لمظاهرات ضد النظام، كما ورد فى الرواية التى تتحدث عن الثورة الفرنسية الفاشلة ضد الملك لويس فيليب عام 1832، فإن كاتب سيناريو فيلم عاطف سالم، رفيق الصبان، أنجز حلا موفقا حين أشار إلى انتفاضة الطلبة والعمال ضد النظام والاحتلال البريطانى فى الأربعينيات، الأمر الذى أتاح فرصة استكمال شخصية ضابط الشرطة، عادل أدهم، كمخلب شرس للسلطة.

صرخة الاحتجاج التى أطلقها هوجو منذ أواسط القرن التاسع عشر، تردد صداها، عندنا، وفى كل ربوع الدنيا، ولا يزال قويا، صادقا، مؤثرا، يأتينا أخيرا، برونق إبداعى شامخ، من السينما الأمريكية، فى أحدث أفلامها.

 

حفلة منتصف الليل

كمال رمزي

السبت 12 يناير 2013

أعجبت بصناع هذا الفيلم ومنتجه، ليس بسبب جرأته الفكرية أو أسلوبه الفنى، ولكن لأنهم وافقوا على عرضه فى ظروف قاسية، فالمصريون، الآن، يتابعون، على نحو محموم، ما يدور فى الواقع من أحداث ساخنة، مقلقة، تؤثر فى حياتهم، بطريقة مباشرة. وإذا أضفت ظروف امتحانات نصف العام إلى المناخ الشديد البرودة، المحمل بأمطار ضاعفت أوحال الشوارع، سيتأكد مدى شجاعة نزول الفيلم إلى دور السينما.. هذه الأسباب، فضلا عما صرح به منيب شافعى بشأن الإيرادات الهزيلة للفيلم، دفعتنى، كأحد عشاق السينما المصرية، إلى مشاهدته، مقررا كتابة عمود إيجابى، لعل وعسى ينجح فى إغراء البعض ممن ضاقوا ذرعا بطوفان كلام «التوك شو» إلى إغلاق الشاشة الصغيرة، والذهاب إلى الشاشة الكبيرة، مساهمة فى دفع عجلة إنتاج عالم الأطياف.

بجاكتة مبلولة، وشاب تسربت له مياه البرك على الأرصفة، وقفت أمام شباك التذاكر وحيدا. ابتسم الموظف ولم يتسلم ورقة الخمسين جنيها، وطلب منى، بأدب وود أن أنتظر «الفرج»، متمثلا فى زبون آخر، قد يأتى، وحينها ستبدأ الحفلة، وأخطرنى أن الحد الأدنى للجمهور لا يمكن أن يقل عن فردين.. أصبحت أمام خيارين، إما أن أقف فى الصقيع مترقبا القادم المجهول، أو أن أدفع ثمن تذكرة ثانية. فضلت الاختيار الأخير، خاصة أنى لو عدت للبيت من دون المشاهدة، قد أواجه بتأنيب زوجتى التى حاولت إثنائى عن الخروج تحت المطر.

دخلت قاعة العرض الخاوية، أمامى الكشاف ببطاريته المضاءة.. وكما لو أنه يقدم منحة، قال مبتسما فى خجل: يمكنك أن تجلس حيث تشاء.. بدأ عرض «حفلة منتصف الليل»: فيللا أنيقة، حولها لافتات دعاية لمرشح الحزب الوطنى. عربات فارهة تصل تباعا، ينزل منها نساء بملابس السهرة. صواريخ الزينة تنطلق.. فى الداخل حفلة تقيمها «شهد» ــ رانيا يوسف ــ التى تهبط، متبخترة، على السلالم لتعلن أنها دعت كل المقربين لها. فجأة تغلق أبواب القصر. يقف داخل البهو رجال، من الصعيد، يحملون بنادق ورشاشات، مما يثير حفيظة الضيوف.. ينزلق الفيلم فى حوارات طويلة، أقرب للثرثرة، وبدلا من أن يجسد المخرج، محمود كامل، أجواء الإرعاب، تجد كل ضيفة، تقول «أنا خائفة»، من دون انفعال صادق.. يحاول بعض الضيوف المغادرة، لكن الحراس الأشداد يمنعونهم.. تختفى «شهد» لفترة، ثم تهبط ومعها عريسها حسن ــ بأداء رامى وحيد ــ وسريعا تطفأ الأنوار، ويعم التوتر، ويشاهد الجميع شذرة من تسجيل، بالصورة والصوت، للعريس بجانب امرأة مغطأة تماما. وتصبح القضية هى: من هذه المرأة، الموجودة فعلا بين الضيوف.. وهى قضية لا أهمية لها، ولا يثير التعاطف مع طرف ضد آخر، فالمسألة كلها لا تستحق أن يبنى عليها فيلما. وفيما يبدو أن كاتب السيناريو المبتدئ أدرك هذا، فحاول إضافة حوارات مترهلة عن الأموال الضخمة التى تكتنزها «شهد» على حساب الفلاحين، مع سرد حكاية بليدة تدور حول مقتل حبيب إحدى الصديقات، ويصل الأداء التمثيلى، عند الجميع، إلى درجة لا تصدق من الرداءة والركاكة.. يزيدها بؤسا ارتباك تحريك الممثلين، خاصة فى النهايات، حين ينقسم الحراس، ومعهم الضيوف، إلى فريقين، يطلق كل منهما وابلا من الرصاص تجاه الآخر.. وها هى إحدى المتوفيات، تسحب ملاءة على وجهها!.. خرجت من دار العرض لأواجه صقيعا أدفأ من الفيلم.

 

مدكور ثابت

كمال رمزي

الأربعاء 9 يناير 2013

الوحيد، بين كل زملاء جيله، الذى لم تفارق الضحكة وجهه، حتى لو اختفت أو تشاجر أو غضب، وحين التقينا، فى بداية الستينيات، مع دخوله معهد السينما، بدا بشوشا، متفائلا، ذكيا ونهما للثقافة والمعرفة، يبهرنا بتحليلة للأفلام، خاصة تلك التى يعرضها نادى سينما القاهرة، برئاسة الرجل الدءوب، المخلص، أحمد الحضرى، الذى عرفنا على أعمال فللينى وبرجمان وغيرهما من رواد الحداثة، الأمر الذى جعلها تثير، عندنا، دهشة ممتزجة بالإعجاب، وتدفعنا، عقب مشاهدتها فى سينما أوبرا بالعتبة، إلى الجلوس فى أحد مقاهى وسط البلد، أو الوقوف عدة ساعات، حول عربة حمص الشام، نتدفأ بمشربه الساخن، فى ليالى الشتاء الباردة، أيام كانت صحتنا تتحمل الصقيع وتمكننا من السهر طوال الليل، وجرت العادة أن يغدو مدكور ثابت، مرجعية تفسير وتحليل تلك الأفلام البديعة، التى لا تخلو من غموض، والتى تدفعنا إلى الثورة ضد السينما المصرية، بأنماطها المتكررة.. ومن جوف هذه الثورة، تبلورت «جماعة السينما الجديدة» و«جمعية نقاد السينما المصريين» و«جماعة السينمائيين التسجيليين المصريين» وطبعا، أصبح لمدكور حضور فعال، إيجابى، فى هذه التجمعات.

قاهرة الستينيات، بفرص العمل بها، وبجامعاتها، ومعاهدها، كانت تفتح ذراعيها للجميع، بمن فى هذا أبناء الطبقات المتواضعة ــ مثلنا ــ فها هو مدكور، القادم من الفيوم، الناجح فى اختبارات القبول بمعهد السينما، يجد، مع زملائه، مساكن متوافرة، ينتقل بينها، حاملا معه ثلاثة أشياء: حقيبة صغيرة بها ملابس قليلة، وكمية ضخمة من الكتب، يربطها بدوبارة، ومقص كبير يضعه فوق صف الكتب.. وبعد إلحاح منا لمعرفة سر هذا المقص الذى يحتفظ به كما لو أنه جوهرة ثمينة، أخبرنا، بوجهه البشوش، أنه يجسد عنده أغلى الذكريات وأعزها، ذلك أنه مقص والده، يعيد له صورة والده فى عنفوانه، أيام كان يجرى به، بمهارة، على قطع القماش، فيحولها إلى جلابيب شديدة الأناقة.. وظل المقص، طوال نصف قرن، مصدرا للبهجة، وذكرى طيبة، دائمة التجدد.

تعلم مدكور، من الحياة، ومن السينما، أن الحديد من الممكن أن ينطق، وأن يعبر، لذا حقق أول فيلم تسجيلى له، بعد تخرجه بامتياز، بعنوان «ثورة المكن»، الذى قام ببطولته تروس ومحابس ومضخات ماكينات المصانع!.. الفيلم جاء عقب هزيمة 67، بمثابة تعليق عليها. يبدأ برصد حركة الآلات الناعمة، البطيئة، ثم، مع صوت انفجارات، تعبر عن الحرب تتحول الحركة إلى ما يشبه المارش العسكرى: سريعة، قوية، منتظمة، واثقة، كأنها تشير إلى طريق تجاوز النكسة.. اعتبر الفيلم حدثا ثقافيا، ونال تقديرا رفيعا فى المهرجانات الدولية، وفاز بالجائزة الأولى فى مهرجان الإسكندرية 1969.. فيما بعد، سيخرج المزيد من الأفلام التسجيلية: «على أرض سيناء» 1975، «الشمندورة والتمساح» 1980، «السماكين فى قطر» 1985..

حركة السينمائيين الشبان، فى ضغطها المتوالى من أجل الدخول عالم الفيلم الروائى، نجحت فى انتزاع فرصة لثلاثة مخرجين، كى يقدموا ثلاثة أفلام قصيرة، بعنوان «صور ممنوعة» 1972، يعرضوا فى شريط واحد. وبينما اتجه محمد عبدالعزيز، وأشرف فهمى، فى فيلميهما «ممنوع» و«كان»، اتجاها واقعيا وتقليديا، تعهد مدكور ثابت أن يقدم عملا موغلا فى تجريبيته، بعنوان «قصة الأصل والصورة فى قصة نجيب محفوظ المسماة الصورة».. وربما لو شاهدنا الفيلم الآن، بعد أربعة عقود من ظهوره، سيبدو لنا جريئا، لكن مفهوما، ينهض على فكرة البحث عن قاتل صاحبة الصورة المغدورة، وخلال التحقيق تتجه الإدانة إلى أطراف اجتماعية وأخلاقية فاسدة فى مصر، حينذاك.. وفى «الأصل والصورة».. يظهر المخرج، مذكور ثابت، بنفسه، عقب الربع الأول من الفيلم، ليعتذر لجمهور الصالة، عن ضرورة إعادة سرد ما سبق، ويطلب، فى النهاية، أن يستنتج المتفرج ويحدد شخصية القاتل.. أسلوب مدكور ثابت، المتأثر بتعاليم برتولد بريخت، وآخرين من الحداثيين، لم يكن مستساغا فى سبعينيات القرن الماضى، وبالتالى لم ينجح الفيلم فى حد ذاته، ولكن فتح باب التجريب والخيال الجامح، لسينما رأفت الميهى ومحمد شبل.

عمل مدكور ثابت أستاذا فى معهد السينما، وأصبح له تلامذة موهوبون داخل وخارج مصر، وشاهدت مدى محبته، فى قلوب أبنائه، فى المهرجانات العربية، فالواضح أنه أثر فيهم، وفى كل من حوله، ثقافيًا.. وإنسانيًا

 

باسم يوسف

كمال رمزي

السبت 29 ديسمبر 2012

كل شىء غير هادئ فى بر مصر، فالجميع يتشاجرون مع بعضهم بعضا، فى مفترق الطرق، وفى الشوارع والميادين، وأمام المساجد، ومقار الأحزاب، وحول قصر الرئاسة، الأمر الذى يعبر عن حالة من القلق بسبب ريبة كل طرف فى نوايا الأطراف الأخرى.. ومنذ أيام انتقلت المعارك، برا، لتصبح جوا، بين باسم يوسف، صاحب برنامج «البرنامج»، وكتيبة ممن أصابهم «البرنامج» بنقده التهكمى، ففيما يبدو أن روح الفكاهة لم تغادر الشخصية المصرية، حتى وسط الأجواء الرمادية من الشك والعنف، بدليل نزعة السخرية التى تجلت فى الكاريكاتور، والرسوم والمتحركة، والأغانى، والنكات، والتعليقات المتوافرة على شبكات التواصل الاجتماعى.

«البرنامج»، منسوج على منوال برنامج «ذا دايلى شو»، السياسى الساخر، الذى يقدمه الممثل والكاتب جون ستيوارت، المتمتع بشعبية واسعة، أتاحت له فرصة استضافة المشاهير، ومن بينهم أوباما، وملك الأردن، عبدالله الثانى، والنجمة كاترين زيتا جونز، وآخرين.. باسم يوسف، قاده ذكاءه إلى الابتعاد عن الصوت العالى، والكلمات الحماسية الطنانة، وتحاشى الانفعالات الحادة، وتجنب الاتهامات والشتائم، والاكتفاء بتعليقات بسيطة، قليلة، يستكملها بملامح وجهه التى لا يكاد يغيب عنها ابتسامة متغيرة المعانى، مستخفة أحيانا.. محايدة، تترك فرصة الاستيعاب للمتلقى أحيانا أخرى.. وتارة تبدو الابتسامة مندهشة، يعقبها ضرب كف بكف، حين تكون الأكذوبة التى يكشفها بالغة الضخامة. وتارة تأتى كتواطؤ بينه وجمهوره، وفى معظم الأحوال، يستعين بشىء من الأداء التمثيلى، على نحو كاريكاتورى، وهو يعتمد على طاقم إعداد جيد، فى جعبته شرائط تسجيل كثيرة، تبين بوضوح مواطن الخلل التى تستحق السخرية.

جزء من نجاح باسم يوسف يرجع إلى ثقل ظل خصومه، أو من يتناول ممارساتهم بالنقد، فثمة من هو فى حالة احتقان دائم ومزاج سىء، ويبدو كما لو أنه سيدخل، فورا، فى معركة يدوية حامية الوطيس، وعلى الطريقة المصرية ــ أيام زمان ــ يسبق الخناقة جعجعة وشتائم وتهديدات ووعيد، حتى أن واحدا منهم مهدد بالسجن لمدة عام، بسبب زفارة لسانه.. وآخر، كان طيبا ووديعا وعاقلا، ولكنه انساق وراء رعونة الرجل سالف الذكر، وأخذ يزأر قائلا «هاتولى راجل.. عايز راجل».. وغدت هذه الكلمات الأربع، تميمة الكوميديا فى الشبكة العنكبوتية، وصيدا ثمينا فى برنامج «البرنامج».

لا يمكن إغفال دور غباء الآخرين، وزيف ادعاءاتهم، فى تهيئة الناس، نفسيا، إلى الترحيب بالتهكم على أقوالهم، ومواقفهم، وهى المهمة التى يؤديها باسم يوسف بمهارة.. وقد بلغت الحماقة بأحدهم، وهو صاحب لحية ناصعة البياض، إلى الانزلاق نحو باب «غزل المذكر»، فرأى ــ خيبه الله ــ أن باسم يوسف، «أحلى من ليلى علوى»، واضطر المخرج البائس، بناءً على طلب صاحب اللحية البيضاء، أن يضع صورة باسم بجوار صورة ليلى علوى، وبرغم الفارق الواضح بين الأنوثة والذكورة، فإن الرجل المريض أصر على ما يحمله وجه باسم من فتنة، وتمنى عليه أن يلبس النقاب.. عندئذ، أمسى صاحب اللحية البيضاء مجالا للتندر والهجاء والسخرية، عند الجميع.. قلت لك إن رزالة الآخرين، وحماقاتهم، من عوامل نجاح المتهكم الذكى، باسم يوسف.

الشروق المصرية في

29/12/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)