حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

حرية الإبداع.. فى تانية اعدادى

بقلم : أسامة عبدالفتاح

 

لا أستطيع أن أفهم أو أستوعب كيف يمكن أن تمنع سلطة - أي سلطة - فيلما، أو أي عمل إبداعي، لا يسيء إلي أحد، ولا يهين أي رموز، ولا يتجاوز أي خطوط حمراء؟ كيف يجرؤ إنسان، أو مواطن، حتي لو كان مسئولا، علي أن يقمع مواطنا مثله - له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات - بحرمانه من أن يبدع، وأن يعبر عن رأيه، لمجرد أنه موظف في جهاز حكومي يسمي "الرقابة علي المصنفات الفنية"، فإذا به يتحول إلي "إله صغير" يمنع ويمنح، ويعطي ويحرم، ويهيل التراب - بجرة قلم - علي مجهود إبداعي بذله صاحبه علي مدي شهور أو سنوات؟ خلال الأسبوع الماضي، علي صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، أثار المخرج والسيناريست عمرو سلامة - مجددا - مشكلة فيلمه "لا مؤاخذة"، الذي أصبح اسمه "ثانية إعدادي"، والذي تصر الرقابة - أي الدولة - علي رفضه رغم فوزه في المسابقة التي أجرتها وزارة الثقافة - أي الدولة أيضا - لاختيار الأفلام التي تستحق الدعم المادي. بدأت الحكاية أوائل مارس 2012، حين أعلن مجدي أحمد علي ـ رئيس المركز القومي للسينما وقتها ـ نتائج مسابقة الدعم التي أقامتها وزارة الثقافة للأفلام السينمائية بكافة أنواعها: الروائية الطويلة والقصيرة والتسجيلية وأفلام التحريك، وفاز فيها 37 فيلمًا منها 12 فيلمًا روائيا طويلًا، و15 فيلما روائيا قصيرًا، و6 أفلام تسجيلية، و3 أفلام تحريك. الإعجاب الرسمي وكانت الأفلام الروائية الطويلة الفائزة بالدعم كالتالي: "بأي أرض تموت" لأحمد ماهر، "رسائل الحب" لداود عبد السيد، "فتاة المصنع" لوسام سليمان ومحمد خان، "69 ميدان المساحة" لآيتن أمين، "لحظات انتحارية" لإيمان النجار، "قبل الربيع" لأحمد عاطف، "سنة سعيدة" لمحمود سليمان، "لا مؤاخذة" لعمرو سلامة، "علي معزة" لإبراهيم البطوط، "هرج ومرج" لنديم خان، "ليلي والمجنون" لعمرو بيومي، و"ورد مسموم" لفوزي صالح. وأذكر أن مجدي قال إن الأفلام رُتبت حسب إعجاب لجنة الاختيار بها، مما يعني أن فيلم سلامة يحتل المركز الثامن في "الإعجاب الرسمي"، كما أشار إلي أن أرقام الدعم الموجهة لكل فيلم لن يتم الإعلان عنها، وأنها ستُحدد طبقاً لرؤية محلل فني مختص بوضع الأرقام، وعندها سيتم الإعلان عنها. وأوضح مجدي طريقة اختيار الأفلام الفائزة بالدعم بعد تقسيم عملية التصويت علي ثلاث مراحل، فقد تمت تصفية 95 سيناريو مقدما إلي 27 سيناريو، ثم 12 سيناريو فقط، مما يعني أن فيلم سلامة اختير عن جدارة واستحقاق. وأكد أن طريقة اختيار الأفلام في تلك المسابقة اختلفت عن الطرق التي كانت تجري فيما مضي، وأن أسماء المتقدمين للدعم من مخرجين ومؤلفين كانت معلنة منذ البداية للجنة التحكيم، وأوضح أن في هذا القرار تقديرا للمبدعين. ولم يكتف رئيس المركز القومي للسينما، التابع للدولة، بذلك، بل أكد أن العقود ستوقع في يوم 25 مارس (الماضي بالطبع) مع الفائزين، وأن هذه الأموال مقدمة بالأساس لدعم المبدعين المصريين ودعم الأعمال الفنية الجيدة في سبيل النهوض بالصناعة، كما تمني أن تُنجز هذه الأعمال خلال ستة أشهر من توقيع العقود، وأنهي حديثه بتمني تكرار الدعم مرة ثانية العام المقبل. اعتراض المخرجين شخصيا، لا أعرف إن كانت العقود قد وُقعت أم لا، لكن المؤكد أن صاحبي فيلمين من الأفلام الفائزة لم يوقعا أي عقود، والمؤكد أيضا أن فترة الشهور الستة التي حددها مجدي أحمد علي، في أوائل مارس الماضي، مرت من دون أن يحدث أي شيء، ومن دون أن يتحرك أي من المشروعات الفائزة، أو تُصور منها لقطة واحدة، والسبب الوحيد: الرقابة علي المصنفات الفنية. فقد اعترض بعض المخرجين علي تدخل جهاز الرقابة في حصولهم علي قيمة الدعم الذي خصصته وزارة الثقافة، وقالوا إن شرط عرض الأعمال علي الرقابة عند الحصول علي قيمة المنحة، لم يكن من ضمن شروط التقدم للحصول عليها. وجاء الاعتراض بعد رفض الرقابة فيلمي "لا مؤاخذة" للمخرج عمرو سلامة و"علي معزة" للمخرج إبراهيم البطوط، وظهور شرط جديد ظهر يلزم المخرجين بالحصول علي موافقة الرقابة من أجل استلام مبلغها، مما دفع البطوط لإعلان رفضه الحصول عليها اعتراضا علي ذلك. من ناحيته، قال سيد خطاب، رئيس الرقابة علي المصنفات الفنية، إن فيلم سلامة تم رفضه رقابياً منذ أكثر من عام ونصف العام "بسبب قسوة ما يحتويه السيناريو من مشاهد"، وبعد ذلك تقدم صناع الفيلم بشكوي إلي لجنة التظلمات بالمجلس الأعلي للثقافة التي تضم 4 أعضاء من بينهم نائب رئيس مجلس الدولة، وتم أيضا رفض السيناريو، مشيرا إلي أنها جهة قراراتها ملزمة. من مشكلة إلي لغز وتحوّل تصريحات خطاب مشكلة الفيلم إلي لغز، إذ كيف تقرر الدولة دعم فيلم كانت قد رفضته رقابيا؟ وكيف لا تجيزه بعد أن تبين لها تميزه وفقا لتقييم لجنة التحكيم التي اختارتها وكافأتها رسميا؟ وفشل خطاب في حل اللغز، أو تفسير حالة التخبط في منح تصاريح الرقابة للأعمال قبل أو بعد حصولها علي الدعم من وزارة الثقافة، ولعل تصريحاته زادت الأمر غموضا والتباسا، حيث قال: "في الأعوام الماضية، عند تقدم الأعمال الفنية للحصول علي المنحة، كان شرط التقدم الحصول مسبقا علي موافقة الرقابة علي السيناريو، لأنه شرط قانوني ولا تستطيع الدولة أو أي جهة حكومية ـ أي وزارة الثقافة ـ أن تنتج عملا بالمخالفة القانونية، ولكن لا أدري كيف طبق هذا الأمر علي الأعمال التي تقدمت للدعم هذا العام، ولا أدري كيف منح الدعم لعمل مرفوض رقابياً، ففي هذه الحالة لن تستكمل إجراءات حصوله علي الدعم، وسيحل العمل التالي له في التصويت مكانه". يدور السيناريو المرفوض حول طفل مسيحي من الطبقة العليا يحيا حياة مرفهة ويذهب لمدرسة أجنبية، وعندما يتوفي والده يضطر لدخول مدرسة حكومية أفقر من مدرسته الأولي، ويتهكم عليه الأطفال ويسخرون منه لأنه من طبقة أخري، فملابسه مختلفة وطريقة كلامه مختلفة، وحتي سندويتشاته مختلفة أيضا.. وفي حصة الدين يقرأ الأستاذ كل الأسماء ولا يلحظ أن البطل مسيحي بسبب اسمه المشابه لأسماء المسلمين، فيقول ببساطة: "الحمد لله كلنا مسلمين"، فيخاف البطل أن يفصح عن كونه مسيحيا و يتظاهر بأنه مسلم طوال السنة، و يبالغ في تدينه خوفا من كشف أمره. التمييز الصامت وتكتمل الأحداث في شكل كوميدي ساخر، مما يجعل البطل يكتشف العالم الآخر ويعلم ما يقوله المسلمون في الأحاديث الجانبية عن المسيحيين، وخصوصا أنهم أطفال بلا تربية أو تعليم علي مستوي جيد.. وعلي الصعيد الآخر، في حياته الأسرية، نسمع الكلام المستتر من المسيحيين المتشددين. وينتهي الفيلم - وفقا لما صرح به مؤلفه - بشكل يثبت أن التمييز الصامت، السلبي، والمستتر قد يكون أعنف وأخطر من الاضطهاد والعنف في بعض الأحيان، وأن الحل في المساواة العمياء والحب بدون إثبات تطابق العبادات، وبدون شعارات أو كلام قديم مبتذل. هذا هو الفيلم وتلك هي رسالته، فهل تراه يستحق المنع؟ الإجابة علي هذا السؤال ليست مهمة، المهم السؤال الأكبر الذي يتعلق بحاضر هذا الوطن ومستقبله، ويدور حول حرية التعبير والإبداع، ومصير الفن وأهله في ظل هيمنة تيار التأسلم السياسي.. الإجابة الحقيقية في رأيي عند الرئيس الدكتور محمد مرسي، الذي وعد - سواء في برنامجه الانتخابي أو في لقائه الأخير مع الفنانين - بحماية حريات الرأي والتعبير والإبداع، وآن الأوان لكي يفي بوعوده، ليس فقط فيما يتعلق بهذا الفيلم، ولكن في كل ما يتعلق بالثقافة والفنون.. فهل يفعل؟

جريدة القاهرة في

10/10/2012

 

لمـاذا اختفي كبار كتّاب السينما؟

بقلم : سمير الجمل 

في التسعينات كان أحد كبار مؤلفي السينما يصف الكتابة للتليفزيون بأنها تسلية يفعلها في وقت فراغه.. لأن السينما اشبه بالكتب التي تعيش العمر كله.. بينما المسلسل التليفزيوني مثل الجريدة عمرها يوم واحد فقط.. ثم تتحول إلي الاستخدامات المنزلية العديدة.. والآن وبعد انتشار القنوات الدرامية المتخصصة وبعد أن تجاوز أجر هذا الكاتب المليون جنيه نراه قد تفرغ تماماً للتسلية.. ونسي السينما تماما لا ندري إن كان هذا الأمر يتم بمزاجه أو رغم أنفه؟.. وهذا هو محور سؤالنا هنا.. والحقيقة أن سببه ظهور اسم الكاتب الكبير بشير الديك علي سيناريو فيلم «الكبار» مع مخرج يظهر لأول مرة وهو محمد العدل وثلاثة من شباب التمثيل المشهود لهم بالتميز «خالد الصاوي ومحمود عبدالمغني وعمرو سعد» والذين يأخذون عملية التشخيص علي محمل الجد.. لا يتبغون من وراءها الترويج للبطاطس المحمرة وعمل البرامج التليفزيونية التي تسأل عن اسم ميدان كبير في القاهرة أول حرف من اسمه «التحرير». فن شبابي في المقابل هناك مقولة يتبناها الفنان الكبير محمود ياسين بأن السينما هي فن شبابي في المقام الأول.. وقد ينطبق القول علي الأبطال في أغلب الأحيان.. لكن بالتأكيد لا يتحقق مع المؤلفين لأن السينما في الوقت الحالي وإن تقدمت في المستوي الصناعي، من حيث الصوت والصورة وفخامة دار العرض.. لكنها تراجعت علي مستوي التأليف بدليل أن أغلب الأعمال مقتبسة بغباء.. والهدف منها اعطاء مساحة لشخص بعينه يقال له «البطل المطلق الذي يتصدر الأفيش في وضعية تصوير معينة وحوله باقي الجوقة والمصيبة أنهم يتركون الأفيش دون أسماء وأنت قد تعرف وجه أحدهم لكن بقية الوجوه هي ألغاز عليك حلها.. وقد تتسامح مع فيلم تجد فيه شيئاً من الابتكار ونحتفي بمن فيه حتي لو كانوا يقفون أمام الكاميرا للمرة الأولي لقد منح جهد كبار النجوم مذاقا محترما وبراقا للأفلام التي أخذت فرصتها كاملة للتهريج بجميع أنواعه.. وكانت النتيجة الفشل الذريع.. لأن التعالي علي السيناريو وإحساس الممثل بأن طلته الشخصية تكفي لنجاح الفيلم بصرف النظر عن موضوعه مسألة فيها الكثير من الجهل والوعي الغائب وإن كان الأفيش يحمل صورته وحده وبعد اختفاء كبار كتاب السيناريو من شاشة السينما: مصطفي محرم ومحمود أبوزيد وماهر عواد وأحمد صالح وفايز غالي وماجدة خير الله ورفيق الصبان وفاروق صبري وفيصل ندا وعصام الشماع ومحمد الباسوسي وغيرهم.. هل نجح شباب التأليف في تقديم ما يعوض غياب الكبار؟ وهل الأعمال المكتوبة للسينما في الأونة الأخيرة يمكن أن يكون خلفها ذلك المؤلف الواعي الفاهم.. باستثناء بعض أعمال يوسف معاطي الذي يكاد يكون في الوقت الحالي أشطر كاتب من الكبار.. لقد فجرت عودة بشير الديك هذا السؤال.. والعجيب أن جهاز السينما عند تأسيسه اتجه إلي الكبار وتعاقد مع أغلبهم علي أفلام سرعان ما تجاهلها في أدراجه، وانتج غيرها.. ويعرضها لمؤلفين شبان ونجحت بالفعل.. علي المستوي النقدي ولكنها لم تحقق الجماهيرية.. باستثناء فيلم «واحد صفر» الذي جمع بين الإيراد الجيد إلي حد ما.. والجوائز التي حصل عليها من هنا وهناك وهو لمؤلفة جديدة هي مريم ناعوم وليس معني سؤالي عن الكبار أنني اتجاهل نجاحات بعض الشبان ومواهبهم.. لكني اتحدث عن ظاهرة ثبت أنها كاذبة تماماً وهي أن الفيلم يباع وينجح باسم بطل أو بطلة وقد كسر وحيد حامد كمؤلف هذه القاعدة واثبت أن نجومية الكاتب هي العنصر الأول في نجاح الفيلم السينمائي بسلسلة أعماله التي أثارت الكثير من الجدل.. ويمتلك وحيد حامد الفرصة أكثر من غيره.. لأنه يستطيع أن يشارك في إنتاج بعض أفلام من خلال شركته وهي ميزة قد لا تتوفر لغالبية الكتاب.. ومع ذلك يجسد لنا «وحيد» قيمة النص وأهمية الكاتب الكبير في استعادة الوجه الحقيقي للسينما حتي وإن اختلفت معه في بعض وجهات نظره.. لكن أعماله تثير الأسئلة وتطرح الأفكار التي تستفز العقول للنقاش.. وتلك هي القيمة التي نبحث عنها في ظل إنتاج سينمائي «هش» و«سطحي». ولهذا احتفلنا وهللنا للمخرج «مجدي أحمد علي».. عندما عاد إلي الأدب وقدم لنا رواية الأديب الكبير إبراهيم أصلان «عصافير النيل» بل واقنعه بكتابة الحوار وهي سنة كانت شهيرة في السينما المصرية في الخمسينات والستينات عندما لجأت إلي أهل الأدب من كبار كتاب الرواية والقصة الذين اسهموا إلي حد كبير في إثراء الشاشة ليس فقط بما كتبوا - قصص سينمائية أو أدبية ولكن بالمساهمة في كتابة السيناريو والحوار فعلها نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف جوهر وعبدالحميد جودة السمار وإحسان عبدالقدوس ولطفي الخولي وعبدالرحمن الشرقاوي وعشرات غيرهم. عامل السن وأعود فاكرر أن عامل السن والشعر الأبيض مسألة وان كانت تدل علي الخبرة وربما علي المكانةالإدارية في الوظائف الحكومية لكنها في الفن تتواري وتتراجع أمام الموهبة التي تفسح الطريق لنفسها رغم جميع الصعوبات والمعاناة والمحاور والشلل التي تسيطر علي دكاكين الإنتاج السينمائي.. ونظرية النجم في الاستعانة بمؤلف يملي علي ما يريد وليس ليسمع منه ما يكتب.. ومن هنا تتكرر موضوعات الأفلام وتتداخل وتتشابك وها هو أحمد مكي في فيلمه «لا تراجع ولا استسلام» لا يجد فكرة فاذا به يأخذ حفنة من أفكار مستهلكة جدا في الأفلام ويعترف بذلك داخل العمل نفسه ثم يراهن من خلالها علي الضحك فقط.. وحقا يضحك الجمهور.. وقد يضحك الناقد الفاهم لأن مكي بصنعة لطافة أراد أن يضحك عليه ويفوت فرصة أن يشير بأصابع الاتهام إلي اقتباس كل شيء في الفيلم حتي عنوانه الأمريكاني ولكنه يفعل فعلته تلك من أجل الضحك.. فلا تملك إلا أن تضحك معه وهو يحاول أن يضحك علي الكل.. خاصة أن مشاهد عديدة بالفيلم تسخر وبشكل مباشر من مشاهد شهيرة في أفلام سابقة تأتي في سياق الأحداث. الكاتب الكبير إذا أردنا إصلاح السينما بحق «فعلينا أن نعود إلي الكاتب الكبير بحق» وإن صغر سنه.. الكاتب الذي يعرف أهمية السينما في التسلية والترفيه والوعي.. لكن كيف أطالب أغلبية تعمل بالحقل السينمائي حاليا وهي أبعد ما تكون عن التثقافة.. أن تبحث عن الابتكار.. والإبداع.. وتقديم الجديد وأغلبهم في سباق اهوج نحو المال إن لم يكن بالفيلم فعن طريق البرنامج والإعلان إلي جانب البزنس.. فأصبحت الوجوه مستهلكة إلي جانب الأفكار سابقة التجهيز والتي نجدها متناثرة في الأفلام بتنويعات مختلفة وكأن مؤلفها واحد. ويا أهل السينما ابحثوا عن المؤلف الحقيقي قبل فوات الأوان.. ووقتها سيخسر الجميع مهما كسبوا من فيلم!

جريدة القاهرة في

10/10/2012

 

«بعد الموقعة» حصان طروادة و موقعة الجمل

بقلم : د. رفيق الصبان 

يكتب > منذ فيلمه الأول «سرقات صيفية» أكد «نصرالله» أنه قادر تماما علي الإمساك بزمام الفيلم مهما كانت صعوبته > باسم سمرة يبدو متكلفا دائم الصراخ والتشنج > منة شلبي وصلت إلي أقصي درجات النمطية في الأداء لا أنكر أني من عشاق سينما يسري نصر الله بل من أشد المتحمسين لهذا المخرج الشاب الذي انطلق من عباءة يوسف شاهين مبكرا ليكون لنفسه مقاما سينمائيا خاصا به.. مقاما يختلف تماما عن بقية المخرجين من جيله ويضعه دون شك علي رأس قائمة من المبدعين السينمائيين الذين نفخر بهم علي المستوي المحلي والعالمي معا. منذ فيلمه الأول «سرقات صيفية» الذي اعتبره حتي الآن إلي جانب «حديقة الأسماك» أروع ما قدم لنا وأكثر أفلامه تأثيرا وإبداعا وشاعرية. في «سرقات صيفية» أكد المخرج الشاب يسري نصر الله أنه قادر تماما علي الإمساك بزمام الفيلم مهما كانت صعوبته ودقته وجرأته واقتحامه وهو في فيلمه الأول المصبوغ بكثير من ألوان ذكرياته نجح في رسم جو مدهش لمصر في الأربعينات وعلي مشارف الخمسينات من خلال أسرة تقيم في قصرها الريفي. شيء يشبه عالم «تشنجوف» الروسي ممزوجا بعالم تنسي ويليامز الحسي وفيه لمحات من شاعرية ثاركوفسكي وكيرنس ماليك. في هذا الفيلم الملييء بالعطر والنغم والشجن والحب والاحساس الجنسي المرهف الحار اثبت يسري نصرالله قدرته علي تحريك الممثلين واستخلاص أجود ما لديهم وما يختزنون من ذكريات وآمال وأحلام وإحباطات وأمان. رسم المخرج الشاب آنذاك جوا لم يرسمه أي مخرج سينمائي قبله «باستثناء شاهين في إسكندرية ليه» وحرر ممثلين مبتدئين من قيود وهمية كانت تكبلهم فانطلقوا مدهشين عباقرة كما عرف كيف يحرك كاميراه وكيف يوجد أجواء الظل والضوء في ريف مصري بدا لنا وكأننا نراه أو نكتشفه لأول مرة. السينما التسجيلية وتابع يسري مسيرته السينمائية المليئة بالمفاجآت فدخل فورا في أفق السينما التسجيلية المختلطة بالكثير من الدراما والرؤي الشخصية في «صبيان وبنات» وانطلق مدهشا بعوالم أخري تتجاوز بكثير الريف المصري وشخوصه في «المدينة» الذي تدور أحداثه بين فرنسا ومصر ولا يمكننا ولا يمكن لأي مؤرخ للسينما المصرية أن يعيش مشهد السياحة في النيل، من مجموعة الشباب المحبط الحائر الذي يفتش عن نفسه ومصيره والذي يذكرنا بأجمل صفحات سينما «تروفو» الفرنسي في «مرسيدس» واجه يسري نصرالله لأول مرة نجمة عملاقة هي يسرا استطاع بسهولة أن يخضعها لعالمه عوضا عن أن تخضعه لعالمها، كما فعلت مع كثير من المخرجين سواه. وقدم رؤية فانتازية سابقة لعصره بفيلم فيه الكثير والكثير جدا من المزايا وبعض عيوب بسيطة لم تضر السياق العام للسرد الخاص الذي يميز دائما أفلام يسري نصرالله ويعطيها نكهتها المميزة وطابعها الأثير. وجاء «باب الشمس» ليقدم رؤيا سياسيا ناضجة للقضية الفلسطينية من خلال قصة رائعة عرف يسري كيف يحولها إلي فيلم نابض بالسينما بعيدا عن كل ميزاتها الآدمية الكثيرة التي استبدلها يسري بنضج وفهم وذكاء بميزات سينمائية مميزة . هذا الفيلم ذو الطابع السياسي المباشر والمؤثر قاد يسري إلي معالجة خاصة به لرؤية سياسية واجتماعية مرهفة وحادة في فيلم أعتقد أنه واحد من أهم وأكثر الأعمال السينمائية أهمية في العشرين عاما الأخيرة وهو «حديقة الأسماك» الذي لم ينل حقه الحقيقي ومكانته التي يستحقها في أرشيف السينما المصرية المعاصرة. الأسماك تكسب في حديقة الأسماك ذهب يسري نصرالله بعيدا جدا فيما يريد أن يقول وكيف يقوله وتلألأت ميزاته كلها دفعة واحدة لتضيء كالجوهر.. سلاسة في السرد .. إمكانية رائعة في اعطاء أجواء استثنائية تتناغم بشدة رغم اختلافها الجذري.. إدارة ممثليه بعبقرية واستقلال كامل لجميع العناصر السينمائية المتاحة أمامه. لقد حقق يسري بـ«حديقة الأسماك» مستوي للسينما المصرية يندر أن رأينا قبلا له إلا في أفلام شاهين أو أفلام صلاح أبوسيف الأولي .. أو حسين كمال في «بوسطجية» بعد هذا الانتصار السينمائي المبهر بكل المقاييس كان لابد ليسري أن يعطي نفسه استراحة اعتدنا أن نطلق عليها اسم «استراحة المحارب» فترك نفسه لسيناريو وحيد حامد الذي يختلف عنه جذريا بكل شيء ليقدم لنا فيلمه المثير «احكي ياشهرزاد» والذي نجح فيه في إعطاء لمسة «يسرية» إلي عالم وحيد حامد المتكامل الذي لا ينفذ منه الماء. اختلفت الآراء حول احكي ياشهرزاد.. وهل هو حقا فيلم ليسري نصرالله؟ أم أنه ممزوج بالماء الثقيل لوحيد حامد؟ لكن مهما كانت طبيعة الخلاف يظل الفيلم شهادة قوية لذكاء مخرج عرف كيف يتعامل مع عوالم متناقضة تماما لعالمه وكيف يهجنها ويطوعها لرؤيته السينمائية رغم بعض الثقوب التي تسربت منها المياه. وأخيرا جاءت الموقعة وما بعدها... أراد يسري بسينماه أن يكون شاهدا علي حدث سياسي مهم غير من حياة مصر والمصريين وقاد البلاد كلها إلي منعطف لا ندري إلي أين سيصل بنا. وتوقف يسري أمام حدث جليل هو «موقعة الجمل» التي تعتبر حصان طروادة في ثورة يناير الشبابية الكبري. انعطف علي قائد جمل من نزلة السمان ثورة في هجوم أومر به دون أن يدرك مداه ونال عقابا صارما من الجماهير عاد بعده مثخنا بالجراح إلي حيه الشعبي الذي يعيش كامل سكانه علي موارد السياحة التي انقطعت تماما بعد اندلاع ثورة الشباب. عالم النزلة وتثير كآبة هذا الشاب مخيلة محققة صحفية تحاول أن تفهم سر اشتراكه وسبب أزمته، وتكتشف لأول مرة عالم نزلة السمان ومشاكله وهمومه وآماله واحباطاته.. انها باختصار قصة فرد عادي يجد نفسه في معترك ظروف غير عادية أحاطت به كالسوار في المعصم هو يدفع ثمنها مرغما.. ولكنها في المقابل الفرصة المدهشة التي ستدفعه إلي مواجهة نفسه ومصيره وموقعه في هذا العالم. العمود الفقاري للسرد شديد الإثارة ويمكن أن يصنع فيلما مدهشا تري منه كل ما تعودنا أن نراه في أفلام يسري نصرالله وأن نعيش متناقضاته ومتناقضات عصره.. وأن نقف وقفة الحائر قبل أن نطلق حكما جائرا أو شهادة وفاء. فما الذي حدث فعلا حتي خرج الفيلم عن هدفه وحتي اضاع يسري نصرالله عالمه .. سيناريو مفكك بعيد عن الإقناع شخصيات تدور حول نفسها وتتصرف دون منطق حقيقي مزايدة في الشعارات المباشرة مزج بين العام والخاص يعوزه الخيال الحقيقي وقصة حب «مفبركة» لا تقنع أحدا. وأكثر المصائب إثارة للدهشة هي إهمال يسري نصرالله في الميزة الكبري التي طبعت أفلامه كلها وهي إدارة الممثلين باسم سمرة.. يبدو متكلفا دائم الصراخ والتشنج والانفعال.. ومنة شلبي التي اعتدت دائما أن أطلق عليها فاتن حمامة القرن الحادي والعشرين تصل في نمطية أدائها إلي أقصي الحدود.. وحدها ناهد السباعي استطاعت أن تذكرنا بموهبة يسري نصرالله في إدارة الممثلين وخرجت من الفيلم ناصعة كالجواهر مضيئة كالألماس في دور التصق بكيانها كله.. واستطاعت رغم نمطيته «الزوجة المخدوعة» أن تعطيه بعداً إنسانيا جارفا. إنها الاكتشاف الحقيقي والمبهر في هذه الموقعة التي دخلها يسري نصرالله حاملا راياته وسيوفه ولكنه خرج منها خالي الوفاض. وتركنا كلنا نتساءل بحيرة وماذا فعلا بعد هذه الموقعة وإلي أي اتجاه سيتجه مخرجنا الكبير الذي نعقد عليه وعلي رؤيته السينمائية ونضجه الفكري والفني أكثر الآمال وأكبرها؟

جريدة القاهرة في

10/10/2012

 

«ريتشارد جير».. الـتألق في سن الستين

بقلم : ماجدة خيرالله 

يندر أن يصل النجم إلي الستين وهو لايزال محتفظاً بدرجة كبيرة بتألقه وتوهجه الفني، عادة ماتخذل السنون شعبية النجوم في مرحلة ما بعد الخمسين، فمابالك بالستين؟ طبعا هناك نجوم استثناء لهذه القاعدة، فلم يكن شون بين أو روبرت دي نيرو، وآل باتشينو، وجاك نيكسلون يوما من النجوم الذين يعتمدون علي وسامتهملذلك فإن التقدم في السن لم يكن بأية حال مشكلة لأي منهم، ولكن ريتشارد جير كان يوما من النجوم الذين اشتهروا بالوسامة، وملامح الرجولة، وكان الرهان عليه ان يقدم أدوارا رومانسية تخلق منه نموذجا او استنساخا من روبرت ريد فورد او مارلون براندو، خاصة ان افلامه الاولي كانت تسير في هذا الاتجاه "الجوجولو الامريكي"، ضابط وجنتلمان، لكنه لاسباب غير واضحة، قرر ان يغير مساره، ويتجه الي نوعية مختلفة من الأدوار لاتعتمد علي الوسامة، ويتمرد علي الصورة الذهنية للنجم الوسيم، وربما يكون هذا أحد اسباب تعثره، في فترة ما من حياته! لكن لان الانسان في أي مهنة أو مكانة هو نتاج لاختياراته، فقد انتظر طويلا، حتي جاءته الفرصة ليعود مرة أخري وبقوة الي بؤرة الضوء بعدما قدم فيلم امرأة جميلة مع جوليا روبرتس، وثم العروس الهاربة، و"سامرباي" مع جودي فوستر، ثم قدم شخصية سير لانسلوت في فيلم الفارس الاول، أمام كل من شون كونريوجولياأرماند، لكنه عاد مرة اخري الي صفوف متأخرة من بين نجوم هوليوود، نظرا لصعود جيل ثان من النجوم منهم توم كروز وبراد بيت، وظل ريتشارد جيل يقدم افلاما متوسطة القيمة، لم تنطلق باسمه أبعد مما كان عليه، ولسبب غير مفهوم أيضاً، ظل قانعاً بتلك المكانة! لم يصارع كثيرا حتي يتخطاها، إنه ينتظر فرصة ما تنطلق به مرة اخري الي الصف الاول، أو تجعله باقياً في حلبة السباق. امرأة جميلة وفي زيارته القصيرة للقاهرة العام قبل الماضي، عندما كان ضيفا علي مهرجانها السينمائي، حضرت الندوة الصحفية التي اقيمت له، وأدراتها الممثلة داليا البحيري، ولم تكن تعرف للرجل سوي فيلمه "امرأة جميلة"، كنت معنية بسؤاله عن كيفية اختياره لافلامه، خاصة اثنان منهما لم يظهر في الاول " سيمفونية اغسطس "للمخرج الياباني سوي في ثلاثة مشاهد فقط، بينما استغرق دوره الثلث الاول من احداث"هاتشي ..قصة كلب " وكانت البطولة في للكلب! وكان رده في منتهي الظرف والبساطة، في الفيلم الاول كان المخرج الياباني العظيم يحتاج لاسم ممثل امريكي ليضمن توزيع فيلمه في الولايات المتحدة، ولم امانع ان أكون هذا الممثل لمساندة تجربة مخرج كبير في حجم كيروساوا، وفي الفيلم الثاني أعجبتني قصة الكلب باتشي وهي قصة حقيقية حدثت في اليابان لكلب وفي اعتاد ان ينتظر صاحبه عند عودته من عمله علي محطة القطار، ليصاحبه للمنزل، وبعد وفاة صاحبه ظل الكلب ينتظر كل يوم في نفس الموعد لمدة عشرين عاما، ولم ييأس قط أو يمل الانتظار حتي اصابته الشيخوخة وتوفي، واقام له الاهالي الذين يعرفون قصته تمثالا وضعوه علي المحطة، كنت اعلم ان الكثير من نجوم هوليوود ربما يتحفظون في قبول الدور، ولكني لم اتردد في قبوله، لأني أعجبت بالسيناريو وبالحكاية! كان هذا تفسيرا مقنعاً بما فيه الكفاية، يبرر لماذا تراجع اسم ريتشارد جير عن الصف الاول، إنه من يلعب الادوار التي تروقه فقط، بصرف النظر عن كونها ضمن افلام مضمونة النجاح أم لا! عيد ميلاد سعيد وفي أحدث افلامه ARBITRGE وترجمته الحرفية الموازنة، او المحاسبة، يسترد ريتشارد جير عافيته الفنية، بل يقدم واحدا من أهم أدواره السينمائية، إن لم يكن اهمها علي الإطلاق! إخراج نيكولاس جاريكي، وبطولة سوزان ساراندون، تيم روث، وبريت مايرلينج، وقد عرض الفيلم مؤخراً ضمن مهرجان سانداس، وتم اختياره ليكون فيلم افتتاح مهرجان ابوظبي الذي يقام من الفترة ما بين 11 - 20 من أكتوبر الحالي. تبدأ احداث الفيلم بليلة عائلية في قصر الملياردير روبرت ميللر "ريتشارد جير" للاحتفال بعيد ميلاده الستين، ويبدو الرجل هادئا سعيدا وهو يلقي كلمة يشكر فيها عائلته الصغيرة المكونة من زوجته"سوزان ساراندون" وابنائه واحفاده، لكنه بمجرد اطفاء الشموع يهرع للقاء عشيقته الفنانة التكشيلية الشابة، التي كانت تنتظره ليشاركها افتتاح معرضها الفني، وفي نفس الوقت، كان علي موعد لمناقشة شروط بيع شركاته التي كانت تواجه أزمة اقتصادية طاحنة تهدده بالافلاس، وسط كل هذا كان يتصرف برباطة جأش وهدوء حتي لاتفلت الامور من بين يديه، فهو يؤمن ان الانهيار الحقيقي لايحدث إلا لو تصرف الانسان وكأن لديه مشكلة ما، وعليه ان يبدو دائما وكأنه يسيطر علي الامور ويعرف كيف يوجهها، لقد كان حريصا كل الحرص أن يبعد افراد عائلته عن مشاكله، وازماته، رغم ان ابنته تعمل معه في محاسبة في شركاته، إلا أنها لم تعرف أن الشركة تعاني أزمة، وأن والدها علي شفا الافلاس! ولكن ..الأمور ترتبك ويقفز الفيلم الي نقطة ذروة، عندما يقع حادث سيارة، تذهب ضحيته عشيقته الشابة، وينجو هو بمعجزه، ويحاول ان يبعد اسمه عن موقع الحادث حتي لايتسبب ذلك في فضيحة، تؤدي الي تعثر عملية بيع شركاته! لكن محاولته هذه يكاد يفسدها محقق لحوح، يكتشف العلاقة بين روبرت ميللر والفتاة التي راحت ضحية الحادث، ويدخل سيناريو الفيلم في دهاليز قضائية ومحاولات من المحقق لاصطياد روبرت ميللر، ومحاولات الأخير الافلات باقل قدر من الخسائر، وتكاد الامور تفلت من بين يديه، عندما تكتشف ابنته أن حسابات الشركة بها بعض التزوير في ارقام الارباح، وعندما تخبر والدها بما اكتشفته، تتأكد أنه وراء هذا التزوير حتي لاتبدو أن الشركات تعاني خسارة، وبالتالي تتعقد عمليات البيع، وتعاني الفتاة من أزمة ضمير بين ولائها لوالدها وبين قناعتها بانه ارتكب كارثة اقتصادية يضلل بها البنك الذي اعتزم الشراء، وتهدد بفضح الامور، حتي لتعرض سمعتها للانهيار !وتدخل الزوجة سوزان ساراندون طرفا في الصراع، بعد ان تتأكد ان زوجها كان متورطا في قصة عاطفية، وانه كان سببا في الحادث الذي أودي بحياة الفتاة، وتساومه الزوجة أن تشهد لصالحه بشرط ان تتنازل عن الشركات لصالح ابنائها، لكنه يرفض المساومة! ويقرر ان يستخدم كل مهاراته للخروج من ازمته بأقل قدر من الخسائر! بركان الغضب وينجح روبرت ميللر باستخدام كل الوسائل المشروعة، وغير المشروعة لحماية اسم عائلته، وحماية موقفه الاقتصادي، وكما بدأ الفيلم بخطبة قصيرة يشكر فيها عائلته ينتهي الفيلم بحفل ضخم، يقام تكريم له للمساهمة في احد المشاريع الخيرية الضخمة، بعد ان افلت من كل الكمائن التي كانت الواحدة منها تكفي لسقوطه! حافظ ريتشارد جير علي كل دقائق الشخصية، وعلي ردود فعلها التي تخفي بركانا من الغضب، بحيث يبدو من علي السطح في حالة هدوء وثقة بالنفس، انه النضج الفني لنجم يـتألق ثانية وهو علي أعتاب الستين من عمره، في فيلم ربما يقفز به مرة اخري للصفوف الاولي !

جريدة القاهرة في

10/10/2012

 

إسماعيل ياسين يقول للملك فاروق نكتة تبدأ بـ «مرة واحد مجنون زي جلالتك كده».. فأدخله الملك مستشفي الأمراض العقلية!

بقلم : د. محمد فتحي 

كان إسماعيل ياسين قد ضج من العطالة. وبينما يشرع في الانصراف يائسا من المقهي يوما، استوقفه شخص يتساءل وهو يعيده إلي الجلوس: الأستاذ إسماعيل ياسين؟ - أيوه يافندم أي خدمة؟ أنا متهيألي شفت حضرتك قبل كده. ضحك القادم وهو يجلس: جايز. أنا اسمي فؤاد الجزايرلي. - أيوه كده صح. أستاذ فؤاد المخرج السينمائي المشهور. - أيوه أيوه. اسمع يا أستاذ إسماعيل. أنا بعمل فيلم جديد، ومعي فنانين كثيرين: فوزي الجزايرلي وإحسان الجزايرلي وأنور وجدي وعباس فارس وتحية كاريوكا ومحمد عبدالمطلب وأدمون توما وآخرين، واسم الفيلم "خلف الحبايب". - اللي جابلك يخليلك يا فؤاد بيه. - ظريف. علشان كده أنا اخترتك معايا في الفيلم الكوميدي ده. - يا فرج الله، سيما حتة واحدة! - إيه رأيك يا بطل؟ - سيما وكمان بطل!! - لا لا. مش قوي كده. إنت هتعمل دور صغير، بس هايل، وبكره يا سيدي الصغير يكبر. كان ياسين أول الواصلين إلي ستوديو مصر، في انتظار بقية فريق عمل "خلف الحبايب". الأجواء هادئة في مكان فسيح يشبه ساحة انتظار السيارات التي عمل مناديا بها في السويس، عُلّقت فيه أعمدة للإضاءة. وصل الفنيون وعمال الديكور وليتحوّل المكان الفسيح الخالي إلي شقق وممرات وحجرات نوم وصالونات و.. ما إن دارت كاميرا المخرج فؤاد الجزايرلي حتي أصابت الدهشة ياسين مجدداً، ما هذا السحر؟ ما هذا الأسلوب الذي يعملون به؟ يقف الفنانون كل في المكان المخصص له، ويصيح المخرج "أكشن"، ليبدأ الجميع في تنفيذ حركات مرسومة، والتحدث بكلام محفوظ. كل واحد يعرف دوره وموعد دخوله وخروجه، من دون تأخير أو تقديم... . عندما وقف ياسين أمام الكاميرا نسي بعضاً مما كان يحفظ من دوره، وقبل أن يتوه أو يتوقف عن الكلام أنقذته خبرته المسرحية، وكان ذهنه حاضراً، فاستخدم كلمات بديلة وأضاف حركات تناسبها، وعندما همّ مساعد المخرج بإعطاء الإشارة للتوقف، فوجئ بالمخرج يطلب منه الاستمرار، حيث أدهشه حضور إسماعيل، حتي أن الإضافات التي قدمها كانت أفضل كثيراً من النص المكتوب! ولعل الأهم أن الفنان فوزي الجزايرلي، وقف بعد انتهاء التصوير معبرا عن إعجابه بأداء ياسين، وقال للمشاركين في الفيلم، كاشفا عن بصيرة نافذة: "عليكم أن تخافوا هذا الفنان، فالمستقبل له". العودة إلي السينما مر الدور السينمائي الصغير مرور الكرام، فراح إسماعيل يتنقل بين الفرق حيث صادفه النجاح، وصارت إعلانات الصحف والمجلات تسبق اسمه بـ "المنولوجست المحبوب". وحقق مع "فرقة حسين المليجي" نجاحاً كبيراً استقطب جمهوراً واسعاً، استشعره علي الكسار صاحب الفرقة المجاورة. كان الكسار اسماً كبيراً يشعر بحساسية لأي نجاح يطل برأسه ليهدده، مما جعله يتردد خلسة علي كازينو حسين المليجي، يشاهد ياسين الذي أصبح اسمه علي كل لسان. وفي الوقت نفسه كان إسماعيل يزور مسرح الكسار كثيراً، لمشاهدة ما تقدمه فرقته، خصوصاً عندما علم أن ثمة منولوجست جديد يصول ويجول في تلك الفرقة. وراح يبدي إعجابه بمحمود شكوكو، ويتوقع له مستقبلاً باهراً، وأصبحا من أحب وأقرب الأصدقاء، فأوكل الكسار لشكوكو مهمة إقناع ياسين بالانتقال إلي فرقته، حيث وافق بعد إلحاح طويل. تسلل إلي ياسين شعور بأن السينما نسيته وأن تجربة الجزايرلي مرت دون أن يشعر بها أحد، إلي أن فوجئ يوما بالمخرج حسين فوزي يرسل في طلبه.. استقبله بترحاب، وكأن ثمة سابق معرفة كبيرة بينهما: - شوف يا سيدي أنا بعمل فيلم اسمه "أحب الغلط". - أهو ده اللي محبوش. ضحك فوزي: إن شاء الله مفيش غلط. لكن أنا عايزك تعمل دور في الفيلم. صحيح هو دور صغير بس.. وقبل أن يكمل جملته قاطعه إسماعيل: بكره الصغير يكبر و.. رحب ياسين بالدور الصغير، لأنه سيتيح له الوقوف أمام نجمين سينمائيين كبيرين هما تحية كاريوكا وحسين صدقي، بل ولأن النجاح فيه يمكن أن يعفيه من الاستمرار بالعمل في الملاهي! كان مخرجو تلك الأيام حريصين علي التنويع، ما بين الكوميدي والبدوي والمغامرات و...، الأمر الذي جعل الواحد منهم لا يستقر علي أبطال بعينهم. وهكذا غاب ياسين من جديد عن السينما. لكن عند تقديم نيازي مصطفي فيلمه الكوميدي "مصنع الزوجات" (1941)، تذكر الممثل المشهور بإلقاء المونولوجات، وقرر الاستعانة به في دور صغير، وفعلاً ظهر ياسين في دور لا يستغرق سوي ثلاث دقائق، جسد فيه شخصية "سكير"، لكنه استطاع من خلال هذه الدقائق أن يخلق مساحة جديدة تعلن عن وجوده علي شاشة السينما. إعادة اكتشاف وجعلت أدوار ياسين القصيرة المخرج توجو مزراحي يدرك عمق قدرات إسماعيل، وحسن تقبّل جمهور السينما له.. استشعر أنه مبعث الابتسام، بل والضحكات العالية، حتي إن كان الفيلم ميلودراما قاتمة تُبكي الجمهور. واكتشف أن ياسين دوما ما يكون أخف دماً ممّن حوله من عتاة الممثلين، فضلاً عن قدرته علي الحركة بتلقائية وخفة أمام الكاميرا. والأهم من ذلك كله أنه مهما كان دوره، فإن الجمهور يخرج من دار العرض متذكراً الممثل الكبير الفم، مبعث السعادة والبهجة في الفيلم. وجاءت الانعطافة الحقيقية في علاقة الرجلين عندما طلب علي الكسار من مزراحي أن يصاحبه إسماعيل في فيلمه الجديد "علي بابا والأربعين حرامي" (1942). رحّب مزراحي باقتراح الكسار، ولكنه راح يتمنع حين حضر إسماعيل، مؤكداً أن لديه شرطا كي يوافق: - أشرط يا أستاذ. أنا تحت أمرك. - لازم تشوفلك حل وتغير شويه من نفسك. - أغير من نفسي أزاي. أربي شنبي؟ - يا أخي لا. شوف لك حل في "بُقك" ده. - أعمله إيه؟ أقطع منه حتة؟! - معرفش. أصله بصراحة كبير قوي وممكن يملا الشاشة. - عموماً يا أستاذ أنا كان يشرفني إني اشتغل معك انت والأستاذ علي الكسار. لكن مفيش نصيب. وهنا تدخّل الكسار: الراجل يضحك معك. انت معانا في الفيلم بالتأكيد. شكره إسماعيل وسأل وهو يهم بالانصراف: ومتي يبدأ التصوير؟ - يا أستاذ إحنا بدأنا التصوير فعلا. جهز نفسك هتدخل الاستوديو حالا. روح للماكيير يعملك الماكياج. ارتجف إسماعيل فهذه أول فرصة للظهور في فيلم تاريخي، لا علاقة له بالكوميديا، وإذا حدث وفشل فلن يعرف طريقه إلي الاستوديوهات بعدئذ. استجمع شجاعته، وجلس بين يدي الماكيير وإلي جانبه مساعد المخرج، يحفظه دوره وتحركاته أمام الكاميرا والإشارات التي يجب أن يقوم بها مع الحوار. وما كاد مزراحي يشير إلي بدء التصوير حتي شعر إسماعيل ببرودة شديدة تسري في جسده، وبأن شيئاً ما في داخله يمنعه من النطق. أحس أنه يمثل للمرة الأولي، وأنه نسي كل شيء، لكن من حسن حظه أن مزراحي اكتشف خطأ في الديكور فأوقف التصوير، وراح يعنف المسئول، واستغرق إصلاح الخطأ بعض الوقت تغلّب إسماعيل خلاله علي خوفه، ونسي كل شيء إلا المشهد الذي سيمثله. اندمج فيه وغاب عن كل ما حوله، وأفاق علي صوت توجو مزراحي مهللاً: برافو يا سمعه برافو. كانت هذه الصيحة شهادة دخوله الجديد إلي عالم السينما، فقد تعاقد معه مزراحي في نفس اليوم علي فيلم جديد بأجر قدره 15 جنيهاً، بعد أن نفحه 12 جنيهاً علي مشاركته في "علي بابا والأربعين حرامي". وطفرت الدموع من عيني ياسين وهو يأخذ الشيك، إذ تذكر أيام أرصفة السويس، ويومها اشتري بدلة "سموكنج" من آخر طراز، حرص علي الاحتفاظ بها، حتي بعد أن بات يملك عشرات مثلها! كان "علي بابا والأربعين حرامي" بداية ظهور ياسين ظهورا حقيقيا وقويا علي شاشة السينما، فقد حرص مزراحي علي توظيف قدرات ياسين في الفيلم، لدرجة أنه كتب دوره بنفسه، وجعله يغني ويرقص ويؤدي حركات، أصبحت فيما بعد بين سمات أدائه، كذلك جعل كبر فمه مادة للسخرية، الأمر الذي صار من اللوازم، التي يحرص سمعه علي مبادرة الآخرين بذكرها، قبل أن يواجهونه بها. استغرق تصوير دور سمعه في "علي بابا والأربعين حرامي" أسبوعاً، لكنه ما كاد ينتهي حتي بدأ تصوير "تحيا الستات"، وشارك معه في الفيلم مديحة يسري وليلي فوزي وأنور وجدي وحسن فايق وبشارة واكيم. وانتقل منه مباشرة إلي التمثيل في "الطريق المستقيم" مع يوسف وهبي وفاطمة رشدي وأمينة رزق. صداقات العمر لاقي "علي بابا" نجاحاً منقطع النظير عند عرضه، وعاش ياسين نشوة غير عادية لنجاحه إلي جوار علي الكسار أحد أهم نجوم ذاك الزمان. كان تمثيل ياسين يعد شيئا ثانويا في الأفلام التي شارك فيها قبل "علي بابا والأربعين حرامي"، علي اعتبار أنه مؤد للمونولوج، واستطاع عبرها مواصلة نجاحه كمنولوجست، مما دعم مكانته وأضاف إلي رصيده في سوق "الصالات". لكن تقديم مزراحي له بصورة جديدة وجيدة لفت الأنظار إليه كممثل له حضوره القوي علي الشاشة، مما جعله مطلوباً أيضا في أكثر من مسرح وصالة وملهي ليلي. لكن الأهم بالنسبة لسمعه كان النجاح في إثبات وجوده السينمائي، علي نحو يمكن أن يغنيه عن "بهدلة" الصالات والكباريهات! وكان أهم ما خرج به ياسين من الفيلم، إضافة إلي النجاح، اقتناع مزراحي- أحد أهم مخرجي السينما آنذاك- به، بل ونشوء صداقة كبيرة بينهما، علاوة علي الصداقات التي كونها سمعة مع بقية الأبطال، مثل المطرب محمد عبدالمطلب، الذي كان ينافسه في الغناء بالفيلم، والفنانة ليلي فوزي وأنور وجدي و...، وربما كان الأهم إطلاقا ما اكتشفه من حب وموهبة حقيقية داخل فنان- سيرتبط به ارتباطا وثيقا- يبدو قاسي الملامح، لكنه طيب القلب، يدعي رياض القصبجي. وقد لفتت متابعة أفلام مزراحي نظر ياسين إلي المطربة ليلي مراد. واستوقفه طويلا أنها كانت تظهر في الأفلام باسم "ليلي"، وأن اسمها يظهر دائما في عنوان الفيلم! ولم يمر وقت طويل حتي طلبه مزراحي للعمل في فيلم جديد يجمع بينه وبين علي الكسار بعنوان "نور الدين والبحارة الثلاثة". وكانت المفاجأة التي أسعدت ياسين أنه وجد معه في الفيلم ذلك الفنان طيب القلب قاسي الملامح رياض القصبجي. شريك في فرقة الكسار لم يكن نجاح الفيلم في حد ذاته مفاجأة، لكن المفاجأة المدوية حدثت مع النجاح، إذ وجد سمعه علي الكسار يبادره: اسمع يا إسماعيل. أنا عايزك تشتغل معايا. - سلامتك يا أستاذ علي. أمال أنا بشتغل مع مين. مش برضه دي فرقة علي الكسار؟ - أنا عايزك تدخل شريك معايا في الفرقة. - بتقول إيه؟ - زي ما سمعت كده. تدخل معايا شريك في المسرحية دي. وأي شغل تعمله الفرقة. - أيوه، ده شرف كبير وثقة كبيرة منك. لكن أنا زي ما انت راسي "أل نيا با فلوس"! - يعني إيه؟ - بالعربي كده مفيش فلوس. - ما هو أنت هتدخل شريك بأجرك. - بس يا أستاذ. - قول موافق. راحت السينما تلتفت إلي إسماعيل، فاختاره المخرج هنري بركات ليشارك أنور وجدي والفنانة مني ابنة المنتجة آسيا في فيلم "القلب له واحد". وقبل أن ينتهي تصوير الفيلم اختاره المخرج كمال سليم ليشارك في فيلمه الجديد "ليلة الجمعة" مع أنور وجدي وإبراهيم حمودة وتحية كاريوكا وبشارة واكيم، واختاره المخرج. حتي أنه أنجز ما مجموعه ستة أفلام خلال عام 1945 . في هذه الأثناء شرع إسماعيل ياسين في الزواج مرة ثالثة- بعد زيجتين فاشلتين- وراح يفكر: مادامت السينما فتحت ذراعيها علي هذا النحو، لماذا لا يعتزل الصالات التي تنقص كثيراً من قدره، فهو ليس مطرباً مثل المطرب الكبير محمد عبدالوهاب، أو حتي المطرب الجديد فريد الأطرش.. إن فوزية التي يود الزواج منها من عائلة، ولا يليق أن يتقدم لخطبتها باعتباره منولوجست، فثمة فارق كبير إن تقدم باعتباره أحد نجوم السينما الذين يشير الناس إليهم بالبنان، ويهرولون وراءهم لمجرد السلام أو لتوقيعهم علي "أوتوجراف". وهكذا اعتزل إسماعيل العمل في الصالات والكباريهات والكازينوهات. في هذه الأثناء تنبه الفنان أنور وجدي إلي أن ليلي مراد وإسماعيل ياسين سيكونان الجوادان الرابحان في السينما المصرية، لهذا ما إن بدأ التفكير في الإنتاج ثم الإخراج- منتهزا فرصة رحيل المخرج كمال سليم 1945- حتي كان أول أفلامه مع ليلي مراد "ليلي بنت الفقراء"، الذي حقق نجاحاً لم يكن يتوقعه صناع السينما آنذاك.. لهذا عمل في العام التالي علي تقديم ليلي، التي صارت زوجته، في فيلم يحمل اسمها أيضاً بعنوان "ليلي بنت الأغنياء"، يستعين فيه بالجواد الرابح الثاني إسماعيل ياسين. ولم يغب سمعة بعد ذلك عن عقل الفنان والمخرج أنور وجدي، فتوطدت الصداقة بينهما، واستعان به في بطولة فيلم "قلبي دليلي" عام 1947، مع محمود شكوكو وإلياس مؤدب واستيفان روستي وبشارة واكيم، وخريج معهد التمثيل الجديد فريد شوقي، وبرع إسماعيل تمثيلاً وغناءً، ثم تبعه فيلم "عنبر" وفيلم ... . ولم يأت عام 1949 إلا وكان وجدي قد اسند لسمعة أول بطولة مطلقة في فيلم "الناصح"، أمام الوجه الجديد ماجدة، وما لبث أنور يرفض تصوير أي فيلم إلا إذا كان سمعه مشاركا فيه. فاكهة السينما ولم يكن هذا شأن أنور وجدي وحده. فقد اختاره محمد فوزي ليقدم معه أفلامه واستعراضاته ساعيا إلي النجاح كفنان فكاهي إلي جانب الاستعراض. وفي هذه المرحلة استطاع إسماعيل تثبيت قدميه، لدرجة أنه أصبح يشبه "طبق الفاكهة" الذي لابد منه في أي فيلم. لقد كان سمعه يملك الصفات التي جعلت منه أحد نجوم الإستعراض، فإلي جوار كونه مطرب ومنولوجست كان ممثلا يتميز بالتعامل مع السينما مباشرة، دون تاريخ مسرحي يعرقله. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية تضاعف عدد الأفلام المصرية من 16 فيلماً عام 1944 إلي 67 فيلماً عام 1946، تجاوز نصيب ياسين منها ستة أفلام، بل وتجاوز عدد أفلامه عام 1947 العشرة أفلام! وهكذا أصبح، بنجاحه المتواصل، "تميمة الحظ" لكثير من الفنانين، الذين بدأوا حياتهم الفنية خلال فترة ظهوره السينمائي الطاغي.. حدث هذا مع المخرج الكبير صلاح أبو سيف حين استعان به في أول أفلامه، وتكرر الأمر مع عدد كبير من المخرجين الذين حرصوا علي أن تكون بداياتهم من خلال العمل مع سمعة، بعد أن عمل بعضهم كمساعد مخرج في بعض أفلامه، جرياً وراء عدم المخاطرة، أو كسراً لرهبة التجربة الأولي، بالاعتماد علي نجم سبق التفاهم معه، ومن هؤلاء: حسن الصيفي وحسن حلمي وحمادة عبدالوهاب وفطين عبدالوهاب. وبسبب حضور ياسين وجاذبيته، وقدرته علي التعامل مع آلة التصوير، وصل عدد أفلامه عام 1949 إلي 19 فيلما. وفي عام 1950 دُعي ياسين لإلقاء بعض مونولوجاته في حفل خيري لصالح جمعية "مبرة محمد علي" في "ملهي الأوبرج". يومها أوعز الملك فاروق إلي أحد رجاله بدعوة إسماعيل إلي الاستراحة الملكية للتسرية عنهم. بادر الملك إسماعيل وهو يقف بين يديه متوترا: "يلا يا إسماعيل سمِّعنا نكتة جديدة". ومن فرط الارتباك بدأ إسماعيل النكتة قائلاً: مرة واحد مجنون زي جلالتك كده! فصرخ الملك: انت بتقول إيه؟ يا مجنون! أدرك إسماعيل الموقف فما كان منه إلا أن سقط متظاهراً بالإغماء، وغادر الملك غاضباً لمتابعة بقية الحفلة، وإن ظل بعض رجال الحرس حول إسماعيل، لينفذوا العقاب الذي سيأمر به جلالة الملك. لكن يوسف رشاد- طبيب الملك الخاص- قال لتمرير الموقف إن إسماعيل مريض، تصيبه حالات من ضعف الذاكرة وفقد الإدراك، وهو في حاجة لأن يقضي فترة تحت الرقابة الطبية لمعالجة هذه الحالة، فأمر الملك بإيداعه "مستشفي الأمراض العصبية والنفسية". وصدرت الصحف في اليوم التالي مشيدةً بالعطف الملكي الكريم علي إسماعيل ياسين، الذي عاوده مرض الصرع أثناء الحفل الخيري، فأمر الملك بعلاجه علي نفقته الخاصة. غادر إسماعيل المستشفي بعد عشرة أيام، وإن ظل يعيش محنته مع الملك بينه وبين نفسه، ولا يجرؤ أن يذكرها أمام أحد، لما انطوت عليه من ذكريات أليمة، ومن خشية معاودة التنكَّيل به. وظل الأمر علي هذا النحو حتي استيقظت مصر علي ما حدث في يوليو 1952 . حركة الجيش المباركة تلقي سمعة- مثله مثل بقية الناس- أنباء تحرك الجيش بفرحة غامرة، غير أنه شعر أيضا بأن القدر قد انتقم له. وفكر في طريقة يشارك بها الجيش والشعب الفرحة. كان قد انتهي للتو من تصوير فيلم "اللص الشريف"، الذي شاركته البطولة فيه شادية ولولا صدقي، فاتفق مع المخرج حمادة عبدالوهاب وكاتب السيناريو علي الزرقاني علي إرجاء عرض الفيلم، وإضافة مشهد يقدم فيه مونولوجاً، يعبر عن فرحة الشعب بالثورة وإعلان مساندته للجيش، وصوّر المونولوج وهو يغني في الشارع بين الناس، تعبيراً عن فرحة الشعب، وأكدت الكلمات التي كتبها الشاعر "ابن الليل" ذلك. هزّ مونولوج ياسين وجدان فئات الشعب المصري، بمن فيهم أعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو، وعلي رأسهم اللواء محمد نجيب والبكباشي جمال عبدالناصر، الذي كان أحد عشاق فن سمعه، وزاد حبه وعشقه له بعد أن شاهد المونولوج. غير أن إسماعيل لم يكتف بهذه التحية للوضع الجديد، فبعد حوالي شهر قدم "اسكتش الثورة" بمشاركة الفنانة شادية في فيلم "حظك هذا الأسبوع" الذي كان من بين مجموعة أفلام قدمها ياسين خلال عام 1953. كان إسماعيل يشارك في بداياته بأداء الدور الثاني أو السنيد لكثير من الأسماء مثل بشارة واكيم وحسن فايق وهند رستم وتحية كاريوكا ومحسن سرحان، ثم أصبح البطل الأول في أفلامه. ليس هذا فحسب، بل كان يحاط دائماً بكوكبة من كبار ممثلي الكوميديا مثل استيفان روستي وعبدالفتاح القصري وعبدالسلام النابلسي ومحمود شكوكو وسعاد مكاوي وثريا حلمي وياض القصبجي وحسن أتلة وماري منيب و... . لكن سرعان ما أصبح سمعة بعد الثورة النجم الأول والأغلي، الذي تتنافس علي الوقوف أمامه مجموعة كبيرة من نجمات السينما. ومن كثرة الأعمال التي كانت تعرض علي سمعه، كان يرفض نصفها تقريباً لضيق الوقت، حتي أنه بات لا ينام أكثر من ثلاث ساعات يومياً، حتي يستطيع الوفاء بالتزامات العقود التي يبرمها، وكان من نتيجة ذلك أنه قدّم في العام التالي للثورة 17 فيلماً، وزادت نجوميته عام 1954 ليقدّم 18 فيلماً، جميعها بطولات مطلقة؟! إسماعيل ياسين في.. لم تعد واجهة دار عرض تخلو من "أفيش" لفيلم يحمل اسم "إسماعيل يس". ومن هنا- مع حكاية ليلي مراد القديمة- نشأت عام 1954 ظاهرة (إسماعيل ياسين في...)، عندما أطلق المخرج يوسف معلوف علي فيلمه، استغلالاً لرواج الفنان، اسم "مغامرات إسماعيل يس"، علي الرغم من أن بطولة الفيلم كانت لكمال الشناوي "فتي الشاشة الأول"، وفق ما كان يطلق عليه آنذاك، ورغم أنه كان يقدم بطولات مطلقة. ولم يجد الشناوي، كما لم تجد شادية دلوعة السينما المصرية وبطلة الفيلم، غضاضة في أن يتصدر اسم ياسين "الأفيش". لاقي الفيلم صدي كبيراً وحقق نجاحاً باهرا، ولفت أنظار المنتجين والمخرجين، فقدم المخرج حسن الصيفي في العام نفسه فيلم "عفريتة إسماعيل يس"، وتوالت بعد ذلك سلسلة أفلام "إسماعيل ياسين في...". ليكون الممثل الأول، في تاريخ السينما العربية، الذي يقدم سلسلة أفلام تحمل اسمه الحقيقي وليس اسم البطل- أكثر من 17 فيلماًـ فضلاً عن الأفلام التي أعيد عرضها، ليتصدّر اسمه الأفيش قبل اسم الفيلم، مثل فيلم "بيت الأشباح" الذي أنتج عام 1951، وأعيد عرضه باسم "إسماعيل ياسين في بيت الأشباح". في عام 1955 وفي فورة الحماسة، شعر ياسين بوجوب المشاركة في تعزيز الإنجازات التي حققتها الثورة، ففكّر في تقديم فيلم عن الجيش.. كتب عبدالمنعم السباعي قصة وسيناريو وحوار فيلم "إسماعيل ياسين في الجيش" وأخرجه فطين عبدالوهاب، وهما في الأصل من ضباط الجيش المصري، ووجه ياسين الدعوة إلي عبدالناصر، الذي حضر العرض الأول للفيلم في رفقة أعضاء مجلس قيادة الثورة. وضحك ناصر كثيرا، كما استشعر رسالة الفيلم والأهداف التي يرمي إليها. ومما يقال أن ياسين قدم سلسلة أفلامه الشهيرة عن أسلحة الجيش المصري بتعليمات مباشرة من ناصر. المهم أن نجاح الفيلم أغري ياسين والمنتجين والمخرجين بتكرار التجربة، فاستعان إلي جوار المخرج فطين عبدالوهاب بتوأمه الفني أبو السعود الأبياري، لتظهر تباعاً سلسلة أفلام "إسماعيل ياسين في الطيران، البوليس، الأسطول، البوليس الحربي... . ولازمه في هذه الأفلام الممثل الذي أحبه رياض القصبجي، الشهير بالشاويش عطية، حيث باتت مشاهدهما محطة مهمة في تاريخ الكوميديا، يستمتع بها الجمهور حتي الآن، لما فيها من مفارقات عجيبة. ورويدا أصبح إسماعيل أحد أهم نجوم عصره وأغزرهم عطاءً وأغلاهم أجراً، إلي جوار إتاحته فرص عمل للفنانين والفنيين ولتشغيل الأستوديوهات والمعامل والعاملين فيها باستمرار، بل ولتشغيل دور العرض علي مدار سبع حفلات يومياً. تفكير في المسرح مثل إسماعيل ياسين كثير من الأفلام وحقق رقما قياسيا لم يحدث مع ممثل في تاريخ السينما العربية! وقد كتب أبوالسعود الأبياري غالبية هذه الأفلام، التي كان هدف صانعيها الأول تحقيق الربح واستغلال "فترة الرواج التجاري" لاسمه، الذي بات يسوق أي عمل إذ كان الاتفاق يتم علي اسمه! وذات مساء أقيم حفل في "حديقة الأندلس" قدم ياسين خلاله منولوجاته أمام مجلس قيادة الثورة وعلي رأسه محمد نجيب وجمال عبدالناصر، ولقي مونولوج "عشرين مليون وزيادة" نجاحاً كبيراً. فبادره أبو السعود الإبياري: عندك كل الشعبية دي وساكت؟! - مش فاهم. يعني أعمل إيه؟ ما أنا بغني أهه. - لقد بات لك اسما كبيرا، ليه ما يكونش عندك فرقة مسرحية، وأنا واثق من نجاحها. واختمر المشروع مع ظروف المناخ الثقافي والاجتماعي السائد، واستطاع وجيه أباظة، أحد الضباط الأحرار، تذليل المشكلة التي تقف في طريق الفرقة، بإقناع سولي بيانكو صاحب دار "سينما ميامي" بتحويلها إلي مسرح، لكن دور ياسين المسرحي موضوع آخر. وتبقي إشارة إلي أن ياسين قد يبدو، في النهاية، أقرب إلي المهرج، وتبدو أفلامه ضعيفة فنيا، لكن بعض التقارير ترصد أنه ما زال، النجم الكوميدي الأول الذي يقبل الجمهور العربي علي أعماله، ويطلبها حتي عبر الوسائل الجديدة مثل الدي في دي وشبكة الإنترنت. لقد كان بمقدور ياسين أن يعطي ما هو أقيم وأعمق وأكثر لو وجد من يجيد توظيف استعداداته الفطرية الهائلة، حيث نجد أنفسنا في نهاية المطاف أمام إمكانات عبقرية تستنزف في أعمال ساذجة دارجة، بينما كان بمقدوره الوفاء بما هو أكثر قيمة وعمقا- ولنا في شارلي شابلن أسوة حسنة- لو وجد الظروف التي توظف قدراته الهائلة، التي تعززت بالحضور والقبول والكاريزما الطاغية، وذلك في مضامين إنسانية رفيعة المستوي. ولعل "إنسان غلبان" (1954) المأخوذ عن "أضواء المدينة" لشابلن، دليل علي ذلك.

جريدة القاهرة في

10/10/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)