لا شك أن الاهتمام بالفيلم المصري "بعد الموقعة" في مهرجان كان
الأخير، ينبع من اهتمام فرنسي كبير بالثورة المصرية. ويعد فيلم يسري نصر
الله الفيلم الأول الذي يتناول هذه الثورة بشكل مباشر، في عمل روائي درامي.
كما أن الفيلم دون شك، يتمتع بطزاجة ورونق في الكثير من جوانبه، رغم وجود
ملاحظات سلبية هنا أو هناك. وقد تابع حشد الحاضرين الفيلم دون أن يغادر أي
منهم القاعة رغم أنه قد يبدو مرهقا للبعض بحواراته الطويلة، وكونه يتجاوز
الساعتين.
البحث عن الحقيقة
أراد يسري نصر الله العثور على حقيقة ما حدث في موقعة الجمل أي
الأحداث الدامية التي وقعت في الثاني من فبراير 2011. وقد أطلق على فيلمه
"بعد الموقعة" على أساس أن أحداثه تدور بعد أن انتهت تلك الوقائع وأصبح أحد
المشاركين فيها وهو "محمود" (او باسم سمرة) ملعونا في محيطه بسبب وقوعه في
أيدي الثوار يوم الموقعة، الذين أوسعوه ضربا، ومدانا في أوساط الثوار بسبب
مشاركته في جريمة الاعتداء على الثورة.
ما الذي حدث إذن، ولماذا تورط محمود في هذا العمل الشائن، وكيف كان
ممكنا أن يحدث ما يحدث، وما هو الثمن الذي يدفعه محمود وولداه وزوجته نتيجة
الحدث السياسي أو الفردي الذي تحول الى سياسي، وهل كان محمود يسعى بالفعل
مع رفاقه، الى "قتل الثورة"، وهل قبضوا أموالا من الممولين، أنصار بقاء
مبارك في الحكم؟
هل كان ضحية أم مجرما، وهل يمكن غفران ما حدث في مجتمع جديد يدعو إلى
التصالح أو في مجتمع ما بعد الثورة، أم أن الثورة أدت الى تقسيم المجتمع
بعد أن نجحت في توحيده في البداية؟
كل هذه التساؤلات تدور تحت جلد الصور والمشاهد المركبة التي تجمع
الذاتي بالموضوعي، الفردي بالاجتماعي، التناقضات الطبقية وهل من الممكن أن
تكون الثورة، كما يتردد في الفيلم، قد خففت منها وأزالتها، وهل يمكن أن
يوجد الحب بمعزل عن الظرف الاجتماعي، أم أنه- كما تقول سلوى محمد علي لمنة
شلبي (التي تقوم بدور ريم) في أحد المشاهد البديعة في هذا الفيلم- "ثقافة"،
أي أن التعبير عن الحب عادة ما يعكس ثقافة صاحبه ومستواه. وهي تروي لها كيف
أنها ارتبطت برجل في الماضي، تصورت أنه يحبها وعندما دعاها إلى الغداء ذات
يوم، فوجئت بأنه يطلب لها وجبة من العصافير.. وفي حين أنها ترى أن العصافير
لا يجب أن تؤكل بل تترك لتغرد، يقوم هو بحشر عصفور في فمها تعبيرا عن حبه
لها!
كثير من التساؤلات تطرح على نحو أو آخر في هذا الفيلم. ويسري يبدو
مهموما كما كان دائما، بفكرة العلاقة مع الآخر، أي مع الأدنى طبقيا، كونه
هو ابن الطبقة الأرستقراطية بتقاليدها المعروفة التي تمرد عليها منذ شبابه
الأول، وسعى الى الالتحام ولو بطريقته الخاصة، مع الطبقة العاملة أو تصور
أنه يمكنه التعبير عنها "ثقافيا وسياسيا" في إطار انتمائه اليساري القديم
المتجدد بالطبع.
هنا تسعى "ريم" الناشطة الاجتماعية والسياسية، التي تعمل في مشاريع
منظمات المجتمع المدني إلى منطقة نزلة السمان في الهرم، لتفقد أحوال
الخيالة هناك الذين توقفت أعمالهم، وأصبحوا عاجزين حتى عن تقديم الطعام
للخيول التي يعتمدون عليها في الحصول على قوت يومهم.
هناك تلتقي ريم بـ"محمود".. أحد المشاركين في موقعة الجمل، وتكتشف أنه
لم يذهب للمشاركة في الموقعة مدفوعا بأي قناعات سياسية أو نتيجة حصوله على
رشوة من أصحاب الشأن، بل لأنه قيل له، ولغيره، إن الجدار "العازل" الذي
شيدته الدولة وحجب حيهم عن منطقة الاهرامات المفتوحة، وأدى الى حرمانهم من
التعامل مع كثير من السياح، سيتم هدمه مكافأة لهم اذا ما اشتركوا في ضرب
الثوار في التحرير!
مناقشات كثيرة تدور في الفيلم بين النشطاء والثوار وغيرهم حول هذه
النقطة، أي ما اذا كان الذين اشتركوا في الهجوم على الثوار ضحايا على نحو
ما، أم مجرمين. لكن الشخصية التي اختارها يسري تميل الى التبرئة أي الى
اعتبار "محمود" ضحية لسياسات الدولة البوليسية الشمولية في عهد مبارك.
الطابع التسجيلي
يتمتع الفيلم بحس تسجيلي مثير، فهناك الكثير من المشاهد التسجيلية
التي جاءت من أرشيف الثورة، وهو يفتتح بمشهد موقعة الجمل في ميدان التحرير،
لكن المشهد- الذي يتكرر فيما بعد- لا نرى فيه جمالا بل خيول فقط، وهو خطأ
غريب من جانب يسري، الذي يشرح من خلال التعليق المكتوب على الفيلم لماذا
اطلق المصريون على تلك المعركة "موقعة الجمل" ولكنه يترك التفسير غامضا
أمام المشاهد الأجنبي الذي لا يعلم الكثير عن تلك الموقعة أو الذي لا يشاهد
مشاركة الجمال فيها!
في الوقت نفسه، يمزج يسري في الكثير من مشاهد المناقشات والمشاهد
المصورة في نزلة السمان، بين الممثلين المحترفين والشخصيات الحقيقية للرجال
والنساء وينجح في التعامل معهم جميعا واقتناص التلقائية الكامنة في أدائهم
بحيث يضفي الواقعية على الأحداث بل ويعتبر الفيلم في حد ذاته وثيقة مذهلة
عن ثورة يناير 2011
وفي مشهد آخر يقدم لقطات تسجيلية لما عرف بأحداث ماسبيرو التي وقعت
أمام مبنى التليفزيون أثناء مظاهرة لمجموعة من الأقباط، أطلق عليهم الرصاص،
ويمزجها مع لقطات مصنوعة بحيث يبدو بطله محمود وكأنه يشارك فيها ويصاب بطلق
ناري.
مأزق العلاقة العاطفية بين ريم ومحمود، رغم التناقض الطبقي الكبير
بينهما، يتم حله بعد أن تتجه ريم إلى الاهتمام بفاطمة زوجة محمود وولديه،
ولكن الفيلم هنا تحديدا ينحرف عن مساره الطبيعي لكي يدخلنا في متاهة الحديث
عن التعليم ومشكلة هروب التلاميذ من التعليم الابتدائي وتدني مستوى العلاقة
بين التلاميذ والمعلمين، وما قد يتعرض له التلميذ من اعتداءات من جانب
زملائه في الفصل دون رادع.. وكثير من القضايا الفرعية الأخرى.
ولعل مما ينقذ هذا الجزء من الفيلم تحديدا، الانتقال الى وصف آخر
للعلاقة "الاقطاعية" بين أبناء نزلة السمان وبين من يعتبرونهم "كبارهم" أو
"الكبار" من رجال الأعمال الذين يتولون حمايتهم تماما على طريقة الأب
الروحي في المافيا، وهنا تبرز كثيرا براعة الممثل صلاح عبد الله في دور
"الحاج عبد الله" الذي يسخر البؤساء من الخيالة وغيرهم من أبناء المنطقة في
خدمته وخدمة أعماله غير المشروعة.
وكعادته دائما في أفلامه، يبدو اهتمام يسري واضحا بما يعرف
بالميزانسين، أي بناء اللقطة اعتمادا على التكوين وحركة الكاميرا والحركة
داخل الصورة عموما.. ففي المشهد الذي نرى فيه الحاج عبد الله وهو يذهب
للحديث الى محمود، مهددا اياه، يطلب منه ابعاد ريم عن المنطقة وقطع علاقته
بها تماما، نراه يركب سيارة فارهة، يطلب من سائقها أن يسير بتمهل ويفتح
نافذتها ثم يتطلع الى محمود الذي يظل يجري على قدميه في الخارج لكي يلحق
بالسيارة حتى يتابع محدثه وسيده وهو يأمره بما يأمره به.،
وكأنه كلب يتقافز في رحاب سيده!
ويستخدم يسري كثيرا حركة الكاميرا، في بناء علاقة وثيقة بين الشخصيات
والمكان، ويبرز في الكثير من المشاهد طبيعة المنطقة، ويركز على علاقة
سكانها بالخيول، كيف يحتفلون بها على نغمات راقصة، بل وكيف ينشأ أطفالهم
أيضا وهم يتعلمون ترويض الخيول وكيفية التعامل معها.. كما يستغل منطقة
الأهرامات التي لها سحر خاص لدى العين الأجنبية، لكي يجسد التناقض بين كنوز
الآثار ومظاهر الفقر والتدهور الاجتماعي الملحوظة في حياة تلك الطبقة
الشعبية التي تقطن المنطقة.
وينتقل يسري نصر الله من اللقطات القريبة الى المتوسطة والعامة، ومن
الداخل الى الخارج، وينجح بمساهمة المصور الكبير سمير بهزان، في اقتناص
لقطات تنبض بالحياة بألوانها الصاخبة، صخب فوران الغضب والثورة.
استطرادات
لكن الفيلم يعاني من الاستطرادات التي كان ينبغي استبعادها من الفيلم،
وأيضا من بعض التكرار والدوران حول الفكرة، خاصة في الجزء الأخير.. الذي
ينتهي بانضمام محمود الى الثوار الغاضبين بعد أن ينمو وعيه الاجتماعي
والسياسي تدريجيا في ضوء تطور الأحداث من حوله.
وفي مشهد النهاية يجعله يسري يقوم بما عجز عن القيام به طيلة عمره، أي
يصعد أعلى الهرم الأكبر وكأنه يهزم الخوف والقهر والتقاعس في داخله، ويتحرر
أو ربما يعبر عن تطلع المصريين جميعا للصعود بعد عقود من الجمود.
استقبال الفيلم في "كان" يعتبر استقبالا إيجابيا بشكل عام، فهو الدرس
السينمائي الأول عن "الثورة". والفيلم الاحترافي الكبير الأول الذي يدور
حول أهم حدث سياسي مصري في القرن الحادي والعشرين.. حتى الآن على الأقل!
عين على السينما في
22/09/2012
"بعد الموقعة":
نظرة أعمق ومشكلات فنية مزعجة
محمود عبد الشكور
لايدافعُ عن الأفلام اشتراكها فى المهرجانات الدولية الكبرى، ولا
فوزها بأكبر الجوائز، أهم ما يدافع عن الفيلم هو الفيلم نفسه بكل عناصره،
هذه قاعدة عامة تستحق التنويه، وربما تصلح كمدخل لفيلم "بعد الموقعة" الذى
نافس على جوائز المسابقة الرسمية لمهرجان كان فى دورته الأخيرة.
فيلم "يسرى نصر الله" عن الثورة المصرية، كما شاهدناه عند عرضه مؤخراً
فى عدد محدود من الصالات المصرية، عملٌ هامٌ ومختلف عن كل ماشاهدته من
أفلام روائية طويلة عن ثورة يناير، تستطيع أن تقول ببساطة أنه أكثر هذه
الأفلام عمقاً، لم يعالج موضوعه من السطح، ولكنها "حاول" أن ينظر الى معنى
الثورة نفسه، والى الأطراف التى ارتبطت بها، و"حاول" أيضاً ان ينتقل من
الخاص الى العام، وأن يعتبر التغيير بالثورة بداية وليست نهاية.
كل ذلك جديد ومختلف على مستوى الطرح، كما أن لدينا ايضاً "محاولة"
لمزج الروائى بالتسجيلى فى بعض المناطق، والإعتماد على الإرتجال والإمساك
بلحظات أدائية طازجة سواء من ممثلين محترفين او غير محترفين، هنا كذلك رغبة
فى تقديم تجربة مختلفة، مادتها الواقع الذى الذى لم تبرد ناره بعد.
ولكن مزايا "بعد الموقعة" الذى كتبه "عمر شامة" مع "يسرى نصر الله"
تصطدم بمشكلات فنية واضحة جداً جعلت الفيلم مترهلاً، أشبه ما يكون بالجمل
الذى يستدعى موقعته، ينوء الفيلم بأحمال من المناظرات والمناقشات الصاخبة،
وتتجاور فيه المشاهد الناضجة والذكية، جنباً الى جنب مع المشاهد الساذجة
والمباشرة، يسير الفيلم مثل الجمل المتحرك لا مثل الحصان المنطلق، يعلو
الجمل ويهبط، فلا يستقر راكبه على حال، وعندما ينزل يشعر بالدوار، ذلك أن
الرحلة شاقة ولا تخلو من منغصات، رغم انها طريفة ومختلفة وتستحق مغامرة
الرؤية والإكتشاف.
مشكلتان
هناك مشكلتان واضحتان فى السيناريو، ربما يستعصى إصلاحهما فى
المونتاج، ولكن كان يمكن الى حد ما التخفيف منهما ببعض الحذف الجرئ،
المشكلة الأولى هى أن الشخصية التى تحرك الدرما وتقود أحداث الفليم هى أضعف
شخصياته، وأكثرها تشوشاً وجفافاً، "ريم" التى تلعبها "منّة شلبى" هى التى
ستاخذنا لاكتشاف الثورة فى المستوى الأعمق، ولكن "ريم" هذه تتحول مع نصف
الفيلم الثانى الى بوق أو جهاز للراديو، يقدم توعية مباشرة وفجة لمعنى
الثورة للمبتدئين، والمبتدئون هنا هم الغلابة الجهلاء الذين كادوا يجهضون
ثورة قامت للدفاع عن حقهم فى العيش بكرامة!
أما المشكلة الثانية الواضحة فهى فى عدم قدرة السيناريو على اقناعنا
بتغيّر شخصياته فى الإتجاه الثورى المطلوب والمقترح، والذى يشترط كما سنوضح
حالاً ثلاث خطوات (1) الوعى (2) الخروج من سور العزلة نفسياً ومكانياً (3)
الحركة من الخاص الى العام باعتبار أن الاثنين شئ واحد.
ظلت الفكرة أقوى بكثير من شخصياتها، كان صوت يسرى نصر الله أعلى من
الدراما فى مشاهد كثيرة، ظلت لحظة التحول والقفز فوق السور (الذى يبدو
رمزاً واضحاً) أكبر بكثير من قدرة الشخصيات الثلاث التى عشنا معها، ربما لم
يكن الفيلم مطالباً أصلاً بأن تفعل الشخصيات ذلك، كلن يكفيه رسم ملامح
وتشريح ثلاثة نماذج إنسانية حية ونابضة، ولكن طموح الفكرة لم يسانده البناء
"الجملى" المرتجل.
سأشرح لك بالتفصيل ما أعنيه، ولكنى لابد أن أبدأ أولا بالزاوية الذكية
التى اختارها يسرى نصر الله للحديث عن الثورة، والتى كانت كفيلة بصناعة
تحفة سينمائية، لو أتيح لها سيناريو أكثر احترافاً وإتقاناً.
فى الثانى من فبراير، وفى اليوم التالى لخطاب مؤثر أحدث إنقساماً بين
المصريين للديكتاتور "حسنى مبارك"، فوجئ المعتصمون فى ميدان التحرير بهجوم
من رجال يمتطون الجمال والخيول قدموا من منطقة نزلة السمان السياحية
بالهرم، جاءوا لطرد المعتصمين ولكنهم انهاروا، ضُربوا وأهينوا، أخذ الثوار
منهم بهائمهم، سلّموا بعضهم للجيش، عرفت الموقعة التى نقلتها الفضائيات على
الهواء باسم موقعة الجمل.
الفيلم سيبدأ بعد انتهاء الموقعة، بل بعد سقوط مبارك مباشرة، تلك
الأيام العصيبة الملتبسة، المجلس العسكرى يستكمل الفوضى، كل الأطراف التى
كانت فى الميدان "إيد واحدة" عادت الى دائرتها الضيقة، غزاة نزلة السمان
عادوا الى أطراف الهامش الذى جاءوا منه، ونشطاء المجتمع المدنى الذين بدأوا
الثورة عادوا الى ندواتهم التى تتحول الى تظاهرات متجددة، ذوبان الطبقات فى
الميدان تحول بعد موقعة الثورة الى انفصال من جديد، حتى أولويات شعار
الثورة الثلاثى : "عيش .. حرية.. عدالة إجتماعية"، أخذ ترتيبا مختلفا حسب
الرؤية ووجهة النظر.
انتهت الموقعة الحقيقية بانتصار مرحلى للثورة، ذهب الديكتاتور، قرر
"يسرى نصر الله" أن يصنع "موقعة" أخرى مجازية بين طرفي الموقعة الأولى يمكن
أن تفسّرها، واختار أن يكون التقسيم متبايناً بحدة إقتصاديا وتعليمياً
وثقافياً ، ذكاء الفكرة فى أن فيلم "بعد الموقعة"ليس فى حقيقته إلا الموقعة
ذاتها وقد أعيد بناؤها مع تحليل الشخصيات التى شاركت فيها، ما رأيناه فى
موقعة الميدان ليس فى الواقع إلا حصاد التباين بين طرفين كانا موجودين قبل
الثورة، واستمرا بعدها، طرف يتحدث عن "العيش"، وطرف آخر يتحدث باسلوب بليغ
عن "الحرية والكرامة".
أسئلة صعبة
على ضوء هذا الإستدعاء الذكى، سيطرح "نصر الله" كل الاسئلة الصعبة
بداية من معنى الثورة وانتهاء باعتبارها بداية وليست نهاية: هل الثورة أن
تخلع حاكماً أم ان تقفز فوق السور الداخلى والخارجى؟ كيف يمكن ان نكسر حلقة
الإستبداد الكلاسيكية (الفقر يعلم الذل والذل يزيد الفقر) كيف يمكن ان تثور
من أجل أناس ثم تكتشف أنك لا تعرفهم جيداً؟ كيف تعبر عن الآخر وأنت لا تفهم
ظروفه؟ كيف تعالج الأفكار الكبرى الهموم الصغيرة لكى تنجح الثورة؟
ستجد طرحا لهذه الأسئلة وبعض إجاباتها فى الفيلم، ولكن المشكلة فى أن
الأفكار الأكثر عمقاً تطفو بشكل ذكى أحيانا ، وبطريقة خطابية ومباشرة
وساذجة فى أحيان كثيرة، تنقلها تفصيلات إنسانية عذبة أحياناً، ونسمعها على
شريط الصوت ضمن مناظرات أقرب الى المحاكمات المتبادلة فى أجزاء طويلة من
الفيلم.
بالتأكيد نحن أمام قضايا خلافية، وموقعة الجمل التى يقدمها الفليم من
زاويتين مازالت مثارا للأخذ والرد حتى اليوم، تفاصيلها غامضة، وحكاية
القناصة وتورط رجال الحزب الوطنى قيد المحاكمة الملتبسة، ولكن كل ذلك لا
يبرر المشاهد الحوارية الطويلة، وخصوصا أن "نصر الله"قدم مواقف أخرى جيدة
وموحية ومؤثرة بدون خطب أو شعارات.
ربما يستحق الفيلم اسمه القديم الأكثر تعبيرا عنه، كان الاسم الأصلى
هو "ريم ومحمود وفاطمة"، هؤلاء هم مثلث الحكاية، النافذة التى سنفحص من
خلالها فكرة الثورة وحاضرها ومستقبلها: ريم (منة شلبى) ناشطة فى إحدى
جمعيات حقوق المرأة، من تلك الطبقة المرتاحة اقتصاديا التى شاركت فى
الثورة، سيارة فاخرة ومنزل أنيق ولكنه خاو، فى انتظار الطلاق من زوجها
تيمور، الذى شارك أيضاً فى الثورة.
محمود البيطار (باسم سمرة) الخيّال السابق، اشترك فى موقعة الجمل،
أخذوا منه فرسه وأهانوه وضربوه فى شريط فيديو مصور، لا نعرف بالضبط كيف هرب
منهم، يعيش بعد سقوط مبارك فى نزلة السمان، منطقة تعيش على خدمة السياح،
يحاصرها سور أقيم لكى يمنع زحف النزلة على حرم الآثار، لا يجد "محمود" عملا
لتوقف السياحة، حصانه "جامايكا" لا يجد علفا سوى ما تجود به إحدى جمعيات
الرفق بالحيوان التى تديرها دينا (فرح)، صديقة ريم، طفلا "محمود" يعانيان
من المهانة لأن زملاء المدرسة يصفون والدهم بأنه ليس رجلاً، ذهب الى
التحرير لطرد الثوار، فعاد مضروباً ومهاناً وبدون فرسه الذى ذهب به.
فاطمة (ناهد السباعى) زوجة "محمود"، وتنويعة أخرى على نغمة الفقر
والجهل، هى أفضل حالا لأنها حصلت على دبلوم، "محمود" لا يقرأ ولا يكتب، كل
أحلامها تنحصر فى الحفاظ على زوجها، وتعليم ولديها، تعمل خادمة فى البيوت
لإعالة أسرتها، تبدو شخصيتها قوية، تستطيع المواجهة بعنف عند اللزوم،
ولكنها لاتمانع فى أن يتزوج "محمود" من "ريم" إذا كان يعجبها، هى يضا جزء
من تقاليد مكان مغلق يحاصره سور، وترمح فيه خيول لا تجد العلف.
بديل موقعة الجمل هو موقعة النزلة، ماذا يحدث عندما تدخل الثائرة
الثرية حياة المكان الذى خرجت منه قوافل الثورة المضادة؟ تحاول ريم أن تعبر
الفجوة المعرفية بأن تفهم لماذا فعل "محمود" ما فعله، الفيلم لايبرر الهجوم
الذى يقدمه فى الإفتتاحية بأصوات قادمة مباشرة من الغابة، ويعرضه أصدقاء
"ريم" عليها مصحوباً بأناشيد عبدة الأصنام فى الجاهلية، ولكنه يحاول أن
يفسر هذا الهجوم، ويحلل دوافعه، وأهمية ذلك خطيرة حقاً لأن فيه الإجابة عن
سؤال حيّر الكثيرين قبل وبعد تنحى "مبارك" وهو: كيف تخرج الثورة المضادة من
بين الذين قامت الثورة دفاعا عنهم؟
تتقاطع خطوط "ريم" و"محمود" و"فاطمة"، ولكن ليس بصورة متوازنة
ومتماسكة، تظهر الثغرة الأولى فى غموض العلاقة بين "ريم" و"محمود" التى
تتطور بسرعة الى قبلة شهوانية فى الظلام على هامش احتفال لترويض الخيل، ولن
تعرف طوال الفيلم لماذا فعلت "ريم" ذلك، ولا كيف تطورت العلاقة الى ما يشبه
علاقة المعلمة الثورية فى الأفلام الصينية والروسية بتلاميذها، ولا كيف
عادت "ريم" الى زوجها "تيمور"، هناك خلل واضح فى رسم شخصية "ريم" المحورية
أثر بقوة على الدراما كلها، بدت المسكينة "منة شلبى" حائرة فى الإمساك
بالشخصية، فظلت تصرخ أحياناً، وتبحلق بعيونها الجاحظة فى أحيان أخرى.
تبدو المسافة بين "ريم" من ناحية، و"محمود" و"فاطمة" معرفية وطبقية فى
نفس الوقت، تذكرنا رحلة "ريم" لمعرفة الآخر، مع الفارق بالطبع، برحلة
مماثلة قامت بها المرأة الأرستقراطية (سناء جميل) فى فيلم "فجر يوم جديد"
لـ"يوسف شاهين"، تحليلات نصر الله الطبقية موجودة دائما من أول افلامه
"سرقات صيفية"، تبدو الثورة عند "ريم" وسيلة لملء فراغ حياتها أكثر مما هى
وسيلة للتغير وللمعرفة، ولكن المشكلة هنا فى أن "ريم" لا ولن تتوقف عن
الثرثرة والتعليم والحوار حتى أصابتنا نحن و"محمود" و"فاطمة" بالصداع
النصفى.
جفاف الشخصية
جفاف الشخصية التى تنطق بصوت المخرج مباشرة يقابله حيوية مدهشة عن
"محمود" و"فاطمة": ألعابهما الساذجة مع ولديهما "مؤمن" و"عبد الله"، لمسة
يد "فاطمة" على ظهر "محمود" العارى بعد الاستحمام، الصورة المرسومة للهرم
على السور الذى يحيط بالنزلة وكأنه بديل للمشهد الأصلى للهرم، سباق الخيل
مع الأصدقاء للرهان على علبة مارلبورو، تناول الطعام على طبلية صغيرة،
اللهجة الحرة المنطلقة، نظرة عين "فاطمة" التى تفضح غيرتها، علاقة "محمود"
مع حصانه الحالى، وحنينه لفرسته التى أسرت فى معركة الجمل.
ريم تائهة لا تعرف بالضبط هل تريد "محمود" أم حصانه أم خدمة زوجته
وأولاده، هناك إسهاب مزعج فى نظرة زملائها لأهالى نزلة السمان، المعنى الذى
تقوله دينا ستقوله ناشطة أخرى (سلوى محمد على)، وسيقوله الشاب الذى يحضر
العلف للحصان برفقة ريم، وسيكرره تيمور عندما يزور ريم، لا يثق نصر الله
أننا فهمنا بأن الموقف من النزلة طبقى بالأساس، ولكنه يتخفى وراء قناع أن
النزلة هى مكان الثورة المضادة.
الإسهاب والثرثرة الحوارية ستجدها فيما بعد فى حكايات كان يمكن
اختزالها فى لقطات قليلة بدلا من اللت والعجن، حكاية رغبة "عبد الله"، ابن
"محمود"، فى ترك المدرسة بسبب معايرة الأطفال له، تأخذ حيزاً واسعاً،
وتتطور الى حكاية مدرّسته التى تدخن السيجارة على سطوح المدرسة، وطبعاً لن
ترحمها "ريم" من الحوار والجدل.
حتى شخصية الحاج "عبد الله" التى لعبها "صلاح عبد الله"، تغيب طويلا
منذ ظهورها الأول فى حفل ترويض الخيل، ثم تتكدس مشاهدها المتتالية قرب
النهاية عندما يذهب إليه "محمود" طالباً أن يحصل على سلاح، وأن يكون من
رجال الحاج فى الإنتخابات بعد أن اصبح خيّالاً معتزلاً.
ولكن وسط طوفان الثرثرة والمناظرات، ستجد مناطق لامعة حقاً أبرزها أن
الثائرة المثقفة تنظر للحكاية من زاويتى (الحرية والكرامة)، بينما ينظر
أهالى النزلة الى الأمر من زاوية كلمة واحدة هى (العيش)، ولو تأملت قليلاً
لاكتشفت أن هذا اللقاء بين العالمين، هذا الاكتشاف المعرفى للطرفين، يحقق
تكاملا رمزياً بين شعار الثورة الذى انقسم وقفا للتحليل الطبقى الصارم.
يقول "محمود" فى أحد أفضل مشاهد الفيلم إنه خرج بالخيول لطرد متظاهرى
التحرير حتى تعود السياحة، وأنهم أخبروهم بأن "مبارك" سيهدم السور الذى
أقيم حول المنطقة، يقول أيضا انه لم يكن يحمل سلاحاً، وأن أحداً لم يتكلم
عن القنّاصة، يعود مرة أخرى الى فكرة العيش (أىّ عيش) عندما يتحدث عن ثورة/
تمرد الأمن المركزى الذى خرب بيوتهم بالقضاء على السياحة.
نشاهد "محمود" وهو يتذلّل للحاج "عبد الله"، يقبّل يده، ويسير بجانب
سيارته المتحركة، يصفه بأنه مثل الغزال، تبدو فكرة العيش مستقلة عنده عن كل
ما عداها، وهو أقل وعيا من أن يربط بين الحرية والعيش، وبين الخاص والعام،
مثلما فعل أهالى النزلة المتعلمين الذين ذهبوا الى الميدان تأييداً الثورة،
وليس هذا هو الحال عند "فاطمة" التى تسأل دوماً عن مصدر العيش وطريقته،
أفضل ما فعله نصر الله أنه يقدم حكايته من زاويتين أو أكثر فى نفس الوقت،
ولو كان هناك توازن وضبط للسيناريو لكانت النتيجة أعظم بكثير.
يتوقف التواصل الجسدى بين "ريم" و"محمود" عند قُبلة يستنكرها الجميع ،
"دينا" و"فاطمة"، ويتطور التواصل الإنسانى بين "ريم" و"فاطمة" الى إعادة
عبد الله الى الدراسة، والى حل خلافاتها مع "محمود"، لم يكن مطلوباً من
الفيلم أكثر من تشريح هذه العلاقة بين نماذج مصرية مختلفة الثقافة والمستوى
الإجتماعى والإقتصادى، ولكن يسرى نصر الله أراد لريم المشوشة أصلاً، أن
تغيّر محمود وفاطمة، أراد أن يسترد "محمود" كرامته أمام ابنه، وأن تقفز
"فاطمة" السور لتنضم الى ثوار التحرير، وان يقفز "محمود" السور لينضم الى
ثوار ماسبيرو!!
ظل هذا التغير بعيداً عن الإقناع بالنظر الى أن الشخصيات نفسها مسحوقة
من الداخل، كما أن "ريم" لا يمكن إلا أن تصدعك فقط بالكلام الجاف، يضاف الى
ذلك أن التحول يتم عادة بصورة بطيئة، ارتبكت الخطوط تماماً، وتراجع "محمود"
عن قراره بأن يكون حارسا للحاج لمجرد انه شاهد ابنه وهو يركب الحصان، قررت
"ريم" أن تعود لزوجها، وان تكتفى من الطبقة الفقيرة بقُبلة عابرة، على أن
تعوضهم بالدعوة الى نقابة للخيالة، وببعض العلف للخيول.
هنا سذاجة مزعجة لا تليق بالرؤية المختلفة التى قدمها الفيلم، لم يكن
يضير الفيلم أبداً أن يظل محمود فارساً مهزوماً أنجب فارسا قوياً واعداً هو
"عبد الله" الذى يتصدر بمفرده بعض أفيشات الفليم باعتباره المستقبل، على أن
يبقى مشهد النهاية البديع كما هو، ذلك أن "محمود" سيصاب فى مذبحة ماسبيرو،
لن نعرف مصيره، ولكن سنرى من وجهة نظره تحقيق حلمه فى صعود الهرم كما كان
يفعل قديماً، ينهج أثناء الصعود الشاق، تتركه الكاميرا وهو فى بداية الهرم،
وتصعد وحدها الى القمة.
ربما ينقص صعود الهرم (على المستوى الرمزى) وجود "عبد الله" مع
"محمود"، ولكن معنى المشهد، وهو معنى الفيلم كله، وصل بوضوح كامل: الثورة
صعود مستمر وشاق، ليست مجرد عزل حاكم، الثورة معرفة ووعى، معرفة بالذات
وبالآخر، لا يحق لك أن تقول "الشعب يريد" دون أن تفهم الشعب، لاحل إلا
بامتزاج العيش مع الحرية، دور المثقف لا يُغنى عن دور الناس الغلابة، الكل
يجب أن يعود من جديد "إيد واحدة"، مع نزول التترات نسمع مزيجاً من شعار
الثورة: "عيش.. حرية ..عدالة إجتماعية" ، وأغنية "يامصر قومى وشدى الحيل"،
وهتاف :"ما تعبناش .. ما تعبناش .. الحرية مش ببلاش".
قرأتُ أن "نصر الله" دخل تصوير الفيلم ومعه وريقات قليلة تحدد خطوطاً
عامة للقصة، وأن كثيراً من المشاهد تم ارتجاله لإعطاء طزاجة وإحساسا
بالواقعية، الحقيقة أن هذه المشاهد كانت ضعيفة، وخصوصاً مع الإعتماد على
شخصيات عادية من نزلة السمان لم تحصل على الحد الأدنى من التدريب، ظل
الفيلم حتى نهايته يجمع بين مناظرات مملة أقرب الى مشاهد المسلسلات
التليفزيونية، وأخرى مدهشة فى ذكائها وإتقان تنفيذها أبرزها مشهد النهاية،
ومشهد صعود "محمود" و"ريم" الى السور: تلتف الكاميرا حولهما وتصعد فوقهم
وفوق السور ليظهر عرض الصوت والضوء بألوانه واصواته الضخمة، المشهد رمزى
أيضاً، وهو يلخص أحد معانى الفيلم العميقة، الثورة قفزة فوق السور مادياً
ومعنوياً، وعلى كل المستويات، فردياً وجماعياً.
عناصر كثيرة كانت مميزة للغاية: صورة "سمير بهزان"، وموسيقى "تامر
كروان"، مجرد جمل موسيقية قليلة ولكن مؤثرة، ملابس ناهد نصر الله ، ولكن
العنصر الأبرز بالتأكيد هو أداء "باسم سمرة" و"ناهد السباعى" ثم "صلاح عبد
الله"، "باسم" قدّم أفضل أدواره على الإطلاق، هو ابن نزله السمان، يعرفها،
ويعرف أهلها، ولهجتها، دفاعه عن وجهة نظرهم كان قوياً ومؤثراً، الشخصية
رقيقة من الداخل، إنسان مصرى بسيط لم يتعلم، علاقته مع حصانه وأسرته، قُدمت
بشفافية وصدق آسر، أما "ناهد السباعى" فقد أكدت موهبتها بأداء شخصية صعبة،
استخدمت وجهها وعينيها بصورة مدهشة للتعبير عن مشاعر معقدة كانت تنتقل
بينها بمنتهى السلاسة، ربما أفلت منها التعبير فى مشهد واحد صاخب ولكننا
أمام موهبة رائعة تستحق أدواراً وافلاماً أكثر (هى حفيدة فريد شوقى وهدى
سلطان).
أداء "صلاح عبد الله" أيضا كان رصيناً وواثقاً، شخصية تعشق النفوذ
والقوة، تحب أن تقود الآخرين، تقف مع الكسبان، لا يكره الحاج عبد الله أهله
ولكنه يريد أن يستفيد منهم، الوحيدة التى كانت خارج الصورة هى "منة شلبى"،
لم تسعفها الشخصية الغامضة والجافة، ولم ينجح المخرج فى إصلاح ما أفسده
السيناريو.
"بعد الموقعة" هو أكثر افلام الثورة الروائية الطويلة أهمية وعمقاً،
ولكنه له يفلت من عيوب هذه الأفلام كالمباشرة والثرثرة وبعض السذاجة، أراه
فيلماً عن الإنسان المصرى الذى يحاصره الذل سواء بسبب البطالة، أو نتيجة
تحرش البعض بالنساء فى مظاهرة فى يوم المرأة العالمى، أو بسبب إرهاق العمل
فى مدرسة حكومية فقيرة، أو نتيجة عدم الوعى، والتمركز حول الذات.
هذا فيلم ينطلق من موقعة محدودة، ليفتح الباب أمام عشرات المواقع
القادمة، حروب صعبة ضد الفقر والجهل والأفكار النمطية عن الآخر، ربما تكون
مهمتنا أصعب بكثير، وأكثر خطورة، من صعود "محمود" اللاهث الذى لم يكتمل
للهرم الضخم، بعد فترة قليلة من نجاحه فى عبور السور.
عين على السينما في
22/09/2012
حول فيلم "إمرأة بمليون دولار": ليلة الموتى الأحياء
بقلم: أحمد مجدي رجب
(إهداء إلى أحمد جمال سعد الدين ... أبو جمال)
وقائع المباراة رقم 109
حول مائدة "الكولوزيوم" تتجاور قلوب السادة والرعاع في ساديّة. قد أتى
الجميع من أجل مرأى الدم. الإمبراطور محفوفٌ برجال دولته، والجماهير أتت
لتشاهد الأبطال يصرعون السباع والنمور، أو تصرعهم السباع والنمور أو يصرعون
بعضهم البعض. يقف البطل -بشريّاً كان أو وحشًا- وقد اقتنص الشرف، وترك
ضحيته جثة فقدت حياتها قبل أن تغادرها الروْح؛ قد فقدت الاحترام والدماء.
قوانين الحلبة لم تتغير منذ العهد الأول، فالهزيمة هي النهاية
الحتميّة للجميع. فوق "الكولوزيوم" تُنسج سحائب الهزيمة بيدِ القدر. وتنزل
قبضته الرماديّة فتظفر ببطل أنفق سنينًا يصرع الوحوش، ويصرع الذين كانوا
أبطالاً من قبله. فلكلٍ مرة أخيرة لا يكون فيها بطلاً، ويغدو جثة مضرجة في
دمائها. وقد غادرتها أعين الناس إلى بطلٍ جديد أو قل جثة جديدة، في دائرة
باقية مادامت الأرضُ.
في طرفٍ مظلم على حافة المائدة، يقف كهلٌ بوجهه الخشبي الخالي من أي
تعبر. يدرك ذلك الذي يراه. يرى عقبان الموت في السماء، والدماء في الرمال.
يدرك أن الهزيمة هي منتهى الأبطال. وهذه هي سُنة الدنيا، وهذه هي الحقيقة.
وقف الكهلُ أمام بطلِه مكسورِ الوجه، قد انفتحت جروحه وسالت الدماء
منها، وبدأت الخسارة. لقد كنتُ أرى وأدركُ كلَّ شيء، فلماذا لم أوقف ذلك
العبث الدائر!؟ لو كانت معي المنشفة البيضاء، لوضعتها على خيط الحلبة،
وانتهى الأمر! هل كنتُ لأفعل ذلك!؟ ها هو الشرف يسقط، ويزوي المجد، وها هي
ندبة تخلفت في قلب الكهل، لم تبرحه ولم يشف.
عن ماكوشلا
في تلك الليلة سقطت "الدب الأزرق"، وانتصبت قامة "ماريان" فوق الحلبة.
شعرت بأن اللحظات قد توقفت، واستطالت إلى أبدٍ تملؤه صيحات"ماكوشلا. لقد
صرعت "الدب الأزرق"، ولم تعد تلك التي أتت يومًا من "ميزوري" الفتاة عديمة
القيمة، التي تأكل بقايا قطع اللحم التي تقدمها للزبائن، وتضع القطع
المعدنيّة في وعاءٍ زجاجيّ فوق منضدة متهالكة، تلك الفتاة تشعر الآن -كما
يقول الأمريكان- بأنها أصبحت ميليون دولار!
في تلك اللحظات ومضت صورٌ ضبابيّة من ماضٍ بعيد، صورٌ من الألم تتكون
باهتة أمامها لتلك الطفلة ذات الثلاثة عشر عامًا تقدِّم الطعام للزبائن في
أحد المطاعم البالية، ووجه أبيها الميّت. تلك المرأة البدينة التي اعتادت
أن تناديها بـ "أمي"، وتلك النظرة الساخرة على وجهها يوم أتت لها الفتاة
بطلةً!! كيس الملاكمة الذي كلما لكمته، طرحها إلى الوراء. الكلب المقتول!!
هل قتله أبوها كي يخفف آلامه؟ أم لأنه غدا بلا قيمة أو نفع؟ .. الأخ
المسجون، والأخت التي تربي طفلاً لتحصل على الإعانة الحكوميّة. سنوات من
الشعور بالدونيّة من الجميع. سنوات من الإيمان بالذات، لا تَصْدُقُه
تفاصيلُ الواقع. والشوق إلى نجاح مبهم، ودرب مجهول، وحلم لا طريق إليه.
لا قيمة لكل ذلك الآن وقد وطأت قدماها أرضَ المجد. تتقزم كلُ تلك
الآلام جميعًا أمام وجه "فرانكي" الذت تفتتت تقاسيمه الخشبيّة عن ابتسامة
منيرة. لم تعد النادلة ذات العقود الثلاثة التي أصبحت عجوزًا على تحقيق
حلمها. والمجلات تكتب عن بطلة العالم وحاملة اللقب "ماجي فيتزجيرالد".
وفجأة تتوقف اللحظات وسيلُ الصور، ويُظلم وجه "فرانكي" بنظرة هلع
تختفي أصوات "ماكوشلا"، ثم تكتنف الموجودات عتمة كاملة، وتنسحب "ماريان"
إلى داخلها.
عن "فرانكي" صانع الموتى
في البدء خلق الله السماوات والأرض. وكانت الأرض خربة، وخالية، وعلى
وجه الغمر ظلمة. وروح الله يرف على وجه المياه. .... ما الذي حدث بعد ذلك؟
لا يعرف "فرانكي". واجهه السؤال أمام عين "سكراب" الضائعة، ولم يجد جوابًا.
في كل ليلة يستند على ركبتيه أمام تمثال "يسوع" المسيح، ولا يلاقي جوابًا.
في كل صباح في الكنيسة، ولا يصدق جوابًا.. وقال الله ليكن نور فكان نور ...
الآب والابن والكلمة.
من أجل البشر صُلِب المسيح، فحمل عنهم خطيتهم الأولى. ولكن فرانكي لم
يُسقِط عنه حِمله منذ تلك الليلة. أبقى على دفء جمرة الذنب المقدّسَة في
روحه تمزقها. طوبى لهؤلاء الذين يراكمون ذنوبهم، فيصنعون منها جحيمًا خاصًا
يمكثون فيه بإرادتهم الكاملة.
في تلك الليلة رآى "فرانكي" الموتَ يصطاد "سكراب". رآه وعرفه، ولم
يستطع أن يوقفه. ومنذ ذلك الحين، دلف العجوز إلى جحيمه الخاص. أبقى على
ضحيته) أمام عينيه، يراه كل يوم، كشوكة تنغرس في روحه، وتذكرها بذنبها
المزعوم. لم يترك الحلبة، انغمس فيها، ولم يبرحها. وكأنه عذراء تحرس نار
المعبد بعناية،لأن النار إن خبت جمرتها، فإن جسد الفتاة هو وقود النار
الجديدة. كذا كان "فرانكي" حريص على عذاب روحه ونفسه، في البداية ألصق
بنفسه ذنبًا لم يقترفه، وحرص على بقاء هذا الذنب حيًا بين عينيه لسنين
تالية!
الحلبة إلهٌ يبتلع أحد قربانين يتصارعان في أرضه. والهزيمة –كما قلنا-
هي النهاية الحتميّة. في ركن الحلبة يقف "فرانكي" محاولاً أن يؤخر النهاية
إلى أبعد أجلٍ ممكن. في كل مرة يتولى فيها بطلاً جديدًا، يشعر أنه أمام جثة
جديدة وهزيمة. ومن ثمّ صار شعاره هو:
Always Protect yourself
هذه هي القاعدة: قبل أن تسدد لكمتك، لابد أن تقي نفسك ردَّها. لا
مجازفة ولا شجاعة في غير موضعها.. لقد أردك "فرانكي" أنه يقود أبطاله إلى
حتفهم في هاوية حتميّة، فلا نهاية غير ذلك. وكلما زاد الطموح، قَرُبت
النهاية. وكلما زاد الحلم، سَرُع الركدُ تجاه هاوية المنتهى. ربما يدرك
البطولة، وتتعلق به الأبصار، ولكن ذلك لن يحميه عندما يحين موعد الهزيمة..
ربما يؤخرها، لكن وقوعها لن ينتفي.
في المرة التي شاهدها فيها "فرانكي" تكيل اللكمات إلى كيس الملاكمة
بغير إتقان، وقدميها ثابتتين إلى الأرض بغير حركة.. في تلك المرة عرف أنه
يواجه أحد أسوأ كوابيسه. عرف أن ماجي فيتزجيرالد من هؤلاء الذين مسّتهم
لعنة الطموح المقدّسَة، وأنها لن تقف قبل الهاوية. عندما أعرض عنها في
البداية، كان يدفع عن روحه ذنبًا جديدًا على وشك الولادة. ويرفض أن يقدِّم
للحلبة جثة جديدة تزدردها بغير اهتمام في الرحلة السرمديّة لالتهام
الأبطال.
_"أَرني رجلاً لا يمتك إلا قلبه، وسوف أُريك رجلاً يمكن هزيمته" هكذا
قال "فرانكي". كلما رآي الطموح، رآى معه الموت، وكلما شعر بهما، زاد خوفه.
كلما رآى الفتى النحيل "دانجر"، الممتلئ بالطموح، والذي لن يصمد لأكثر من
خمسة ثواني في قتال .. كلما رآه شعر بخوفه يتجسد أمامه وأعتلت وجهه ملامح
الغضب.
في اللحظة التي سقطت فيها "الدب الأزرق"، سقط عن كاهل فرانكي عشرون
عامًا ويزيد. ها هي اللحظات تقف وتطول إلى آبد ترتفع فيه أنف "ماجي"
بالانتصار. فقد خطي بها إلى أرض المجد سليمةَ من غير سوء. وأخذ بيدها إلى
البطولة، وأصبحا على بعد خطوة من التحرر النهائيّ. الذنب الذي مزقه طيلة
عقدين صار موته على بعد خطوة. وروحه على وشك التحرر. وجه "ماجي" المصمم
يضيء بالابتسام عهدًا جديدًا يعدُ "فرانكي" بنومٍ هادئ، ووتخفف من رحلات
الكنيسة اليوميّة بلا طائل من ورائها، وفرجة يرى منها نورًا رغم خطاباته
إلى ابنته التي تُرد دون أن تُفَض.
وفجأة تتوقف اللحظات، وينتهي سيل وعود العهد الجديد، وتكتنف الموجودات
عتمة كاملة، تردُ الكهل المُثقَل إلى الظلام. . سقطت "ماجي" وتحطم عنقها،
ومعه تضخم وجه "سكراب" ليملأ الوجود من حول "فرانكي". خطت الفتاة خطوتها
الأولى في أرض الانتصار، وخطوتها الثانية هوت بها إلى قاع الهاوية. ومعها
انفرط قلبي العجوز المنكود وتفجرت أزمته.. وبدلاً من أن يتحرر، ارتد إلى
ذنب أعنف من الأول أمام جثة الفتاة الهامدة لا حراك فيها، تطلب منه أن
يريحها من آلام الإهمال وانعدام القيمة كما أراحها منها من قبل، وإن اختلف
الطريق إلى ذلك. عاش "فرانكي" عشرين سنة بذنب "سكراب"، وها هو اليوم يموت
بذنب "ماجي". عجوز نادم ممزق الروح، يجلس في مطعم بعيد، ويأكل فطيرة
الليمون على روْح قتيلته.. "ماكوشلا".
عين على السينما في
22/09/2012
أطروحة درامية عن الكنيسة السيانتولوجية
فيلم «السيد» يرفض مبدأ السمع والطاعة العمياء
أهدى مهرجان ?ينسيا السينمائى في دورته الاخيرة السينما تحفة إبداعية
هي فيلم «السيد» الذى فاز عنة ثنائي الفيلم جواكين فينكس وفيليب سيمور
هوفمان بجائزة التمثيل الرجالي مناصفة، فيلم يقدم أطروحة درامية لمناقشة
الديانة التي يؤمن بها چون ترافولتا وتوم كروز والتي بدأت في الانتشار
عالميا وبذلك انت امام عمل فني يطرح فكرا وقضية مطروحة على الساحة، وهي
مهمة أساسية للفن الجاد في أحيان كثيرة.
الفيلم بطولة جواكين فينكس- العائد للسينما بعد غياب دام اكثر من خمسة
اعوام - وفيليب سايمور هوفمان وإيمي آدامز وإخراج بول توماس أندرسون
وفي فيلم «السيد» نحن أمام أداء مميز لفينكس وسايمور. والفيلم يرى
البعض أنه أنتج لمهاجمة كنيسة «السيانتولوجي» الغامضة، تلك التي ينتمي
إليها توم كروز وچون ترافولتا. وتتلخص فكرتهم أو هدفهم في ان يصبح الإنسان
والعلاقات الإنسانية داخل منظومة وكأنهم ترس في ماكينة. ويطبق هذا على جميع
المستويات بدءاً بالفرد ونهاية عند الدول ذلك لأن الخصائص الإنسانية متغيرة
وغير قابلة للحساب أو التنبؤ به في المعاملات مما يؤدي إلى أخطاء فادحة عند
اتخاذ القرارات إلى حد اتخاذ قرارات غير منطقية؛ لذلك وجب إذن تخليص
الإنسان من هذه الخصائص الإنسانية التي يرونها أنها موطن ضعفه والرقي به
(حسب الساينتولوجي) إلى درجة إتقان عمل الماكنيات.
ويستدل أصحاب هذه الاتهامات على وجود العديد من القواعد والتمارين ضمن
الحركة هدفها محو الإرادة الشخصية وتطويع الفرد في خدمة المؤسسة (الساينتولوجية)
أو النظام عامة كضرب من ضروب الهندسة الاجتماعية كواجب الطاعة العمياء لمن
فوقك في هرم المؤسسة وعدم حق النقد وعدة تمارين تتعلق بمكننة الحياة
اليومية كتمارين على المشي والضحك والصراخ إلخ هدفها التخلص من التلقائية
والمشاعر. ولعل الجدير بالذكر عند هذه النقطة أن الفكر الساينتولوجي هو
امتداد للتيار الذي يرى أن علم الاجتماع والنفس يخضع أو يجب أن يخضع لنفس
مقاييس العلوم الهندسية. وهنا تنشأ تعارضات مع بعض تشريعات الدول
الديمقراطية التي ترى أن هذا التيار والفكرة أولا تسلب الفرد حريته وبذلك
تتعارض مع دستور الدولة وثانيا تجعل إمكانية قيام نظام دكتاتوري أكثر
احتمالا.
تتمثل هذه الفلسفة المعتمدة على فكرة السمع والطاعة رسميا عن طريق
كنيسة السينتولوجيا، التي تصف نفسها بأنها منظمة غير نفعية تسعى لإصلاح
وإعادة تأهيل الروح الإنسانية، وهي تطرح نفسها كبديل عن مدرسة التحليل
النفسي فهي تعتبر هذه المدرسة سلوكا بربريا متخلفا.
ويعد أجمل ما في الفيلم البرهان الذي يقدمه ضد تلك الأفكار وعدم قدرة
الإنسان على أن يكون كاملاً، فهو بعد كل التمارين والسيطرة على أفكاره يهرب
ويحلم بالعودة للمجتمع.
وجاكين فينيكس، فنان موسيقي مهتم بالراب، وفينيكس من عائلة فنية ضمت
أشقاءه ريفير فينيكس (1970-1993) الممثل الأمريكي الراحل والناشط في مجال
حقوق الحيوان، رين فينيكس ممثلة ومغنية، سمر فينيكس وهي عارضة أزياء
وممثلة. وهو يقوم بإخراج أغان مصورة إضافة إلى إنتاجه أفلاما وبرامج،
وتسجيل موسيقي منها الموسيقى التصويرية لفيلم «ووك ذا لاين». كما يعرف
بدوره في مجال حقوق الحيوان وحاز جائزة جرامي عن تسجيله للموسيقى التصويرية
لفيلم «ووك ذا لاين»، كما فاز بجائزة الجولدن جلوب عام 2006 كأفضل ممثل عن
نفس الفيلم. ويقدم مع المخرج سبايك جونز فيلم «Her» الذي تدور أحداثه حول روائي يعيش وحيداً، ويقع
في غرام صوت امرأة يرافق نظام تشغيل جهاز الكمبيوتر الخاص به. أما فيليب
سيمور هوفمان فحصل على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل 2005 عن دوره في فيلم
كابوت، كما حصل بنفس الدور على ثلاث جوائز أخرى، أفضل ممثل من الأكاديمية
البريطانية لفنون الفيلم والتلفزيون وأفضل ممثل من نقابة ممثلي الشاشة،
وجائزة الجولدن جلوب لأفضل ممثل، ظهر في عدة أفلام منها السيد ريبلي
الموهوب وبالكاد مشهور والساعة 25 وحرب تشارلي ويلسون وشارك في بطولة خمسة
من أفلام أندرسون السّتة.
ديمي لو آدمز بدأت حياتها على خشبة المسرح في مسارح العشاء قبل ظهورها
على الشاشة لاول مرة في سنة 1999 في الفيلم الكوميدي سقوط الميت الرائع.
بعد سلسلة من ظهورها كضيفة في التلفزيون وادوارها في أفلام ثانوية، قامت
بدور بريندا سترونج في عام 2002 في فيلم «أمسكني إن استطعت»، ولكن كانت
انطلاقتها في عام 2005 للفيلم المستقل جونبيج حيث تلعب دور آشلي جونستين،
التي نالت إشادة حاسمة والترشيح لجائزة الأكاديمية كأفضل ممثلة مساعدة.
لعبت آدمز لاحقا دور البطولة في فيلم المسحور في ديزني لعام 2007،
الذي كان حاسما وحقق نجاحا ماليا، وحصلت على الترشح للجائزة العالمية
الذهبية عن أدائها كجيزيل. وحصلت على ترشيحاتها لجائزة الأكاديمية والجائزة
العالمية الذهبية للمرة الثانية في السنة التالية لدور الشابة الراهبة
الأخت جيمس في الشك مع ظهورها في مجموعة من الأدوار الدرامية وكوميدي،
اكتسبت آدمز سمعة طيبة للعب شخصيات كوميدية ولعبت أيضا دور ايميليا ايرهارت
في فيلم ليلة في المتحف ومعركة سميثسونيان.
أما بول توماس اندرسون مخرج و منتج و كاتب أفلام أمريكي ورشح لجائزة
الأوسكار لخمس مرات و فاز بجائزة مهرجان «كان» السينمائي عن أفضل إخراج
لفيلمه
Punch-Drunk Love وفاز بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين
السينمائي عن فئة أفضل.
النهار الكويتية في
22/09/2012 |