حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«تيتا رهيبة»..

ومسخرة الكوميديا الاجتماعية

بقلم : د. وليد سيف

 

كثير من نجوم الكوميديا خرجوا من رحم فن المونولوج والإسكتش اشهرهم في مصر الراحل اسماعيل يس وأشهرهم في امريكا إيدي ميرفي. وعلي الرغم من أن محمد هنيدي لم يمارس هذا الفن علي الإطلاق إلا أن إخلاصه لهذا النوع يبدو الأشد في جميع أعماله. لم يكن هنيدي يفعل في أدواره القصيرة في بداياته بالمسرح والسينما أكثر من إلقاء النكت والدخول في حوار ارتجالي مع زملائه يوظف فيه خفة دمه وحضور بديهيته وقدرته العالية علي السخرية وصنع الإفيه. كان بإمكان هذا الفنان الشاب في ذلك الحين أن يصنع الروح ويضفي حالة من الحيوية والبهجة علي أي لقطة سينمائية أو أي مشهد مسرحي يظهر فيه فيكسر حالة الركود الي تصنعها النصوص الضعيفة محدودة الأحداث أو الإخراج الرديء بإيقاعه الفاتر وخياله المحدد. ومن الصفوف الخلفية وبنفس الأدوات صعد هنيدي إلي عرش النجومية في مفاجأة أذهلت الجميع. وبعد نجاحه الساحق في فيلم اسماعيلية رايح جاي كشريك متميز جدا في البطولة إنتقل مباشرة إلي البطولة المطلقة في صعيدي في الجامعة الأمريكية، محققا إيرادات غير مسبوقة في تاريخ السينما وقائدا لأغرب انقلاب سلمي في بورصة النجوم أزاح جيلا بأكمله ليحل محلهم وجوه شابة معظمهم من فناني الكوميديا الذين سارو علي درب قائدهم ولونوا السينما غالبا بلون الكوميديا الفارس علي غراره. ولم تستفق السينما وتعود الي تنوعها الا بعد سنوات طويلة من انفراد وطغيان وسيطرة نجوم الكوميديا. وفي ظل حركة التغيير تراجعت اسهم هنيدي ومن بعده محمد سعد اهم رموزي تلك المرحلة. طغاة بلا نهاية وكأي طغاة لا يستسلمون بسهولة ويسعون دائما لاسترداد عروشهم سعي هنيدي للعودة بقوة وأمكنه بعد فترات قصيرة من الغياب والكمون أن يحقق نجاحات من حين لآخر وأن يسترد عافيته ويتألق من جديد مستغلا موهبته الكبيرة في الاضحاك وقدرته علي تحقيق قدر من التجديد والتطوير في أعماله عبر التعاون مع فنانين متميزين في مجالات الإخراج والتأليف وغيرها من فروع العمل السينمائي .. وهو ما تحقق بشكل واضح علي وجه التحديد مع فيلمه الأسبق رمضان مبروك ابو العلمين. وهو الفيلم الذي حقق نجاحا جماهيريا كبيرا وانتصارا جديدا لكوميديا الفارس او التهريج والمبالغات علي الرغم من أن طبيعة الموضوع كانت أقرب لاتجاه آخر. فقد أوحت بداياته بكوميديا سياسية تتعلق بفساد التعليم والمسئولين وأبنائهم في بلدنا التي أصبحت بلدهم وحدهم. ولكن الموضوع يأخذ منحي في غاية الهزلية ويطيح باللمحات الساخرة من واقعنا السياسي والاجتماعي الرديء عندما يكتشف الأستاذ رمضان أن سبب فساد الأولاد ينحصر فقط في تعلقهم بالمطربة المشهورة نجلاء وجدي فيحاول إبعادهم عنها حتي يسقط في غرامها بعد سلسلة من المواقف المليئة بالتهريج والتي لا تهدف الا لإثارة الضحك علي غرار اللون الغالب لكوميديا هنيدي الذي لم يحد عنه إلا في تجارب نادرة ربما يأتي من أهمها جاءنا البيان التالي وهمام في أمستردام حيث امتزجت الكوميديا ببعض ملامح النقد الاجتماعي والسياسي بمقادير محسوبة ووعي فني. اختفاء سامح المدخل الجاد والموحي بطبيعة مختلفة يتكرر من مبروك ابو العلمين الي فيلمهما السابق وائل احسان مع فيلم امير البحار الذي كان فرصة رائعة لمشروع كبير عن فكرة رائعة وبالغة الدلالة عن اختطاف البحارة المصريين من قراصنة هواة مرتزقة يثيرون الشفقة اكثر مما يثيرون الخوف ويستحقون العطف اكثر من الكراهية ولكنهم في الحقيقة كانوا يثيرون عطفنا وشفقتنا اكثرعلي انفسنا وبلدنا التي هانت علي حكامنا. يعود مجددا هنيدي في فيلمه الجديد تيتا رهيبة مع نفس المؤلف يوسف معاطي وإن كان المخرج هنا هو سامح عبد العزيز في أول تعاون مع الثنائي وبديلا عن وائل احسان الذي شاركهما الفيلمان السابقان. ولكنك لن تجد بكل اسف اي وجود لسامح عبد العزيز الذي رأيناه يتألق في كباريه ثم الفرح لأنه يتحول هنا إلي منفذ مخلص لرؤية النجم التي صاغها المؤلف بنفس أسلوب الفيلم السابق. في بداية تيتا رهيبة نعتقد اننا سوف نتابع عملا من الترجيكوميك او مزيجا بين الكوميديا والتراجيدية تفرضه الطبيعة السيكولوجية للموضوع عن شاب معقد ربته جدته بأسلوب صارم وحازم وتحكمت فيه وفي حياته الخاصة وأنشأته علي مفاهيم وعادات وتقاليد عتيقة مما كاد يؤدي إلي إضراب الشاب عن الزواج. وتتوالي محاولاته في الإفلات من سيطرة الجدة وتحكماتها ولكنها تبوء بالفشل. ولكن هذا الشاب يجد فرصته في استرداد حريته والزواج بالفتاة التي يحبها - ايمي سمير غانم- حين تسافر الجدة لألمانيا. ولكنه يصطدم بطاغية جديد وهو شقيق الفتاة البلطجي- باسم السمرة- هذه هي فقط الخطوط التي يمكن أن تلتقطها أو تسردها في قصة طغت عليها العشوائية وتجمدت احداثها في كل مشهد ومرحلة درامية لتطلق العنان لهنيدي لإطلاق إفيهاته التي كان يضحك عليها اطفال وصبية العيد متواصلين كجيل سبقهم مع هذا الفنان القادر علي صنع الافيه بجدة وطرافة ومعتمدا علي موهبته وحضوره وحدهما بعد أن عجز نص يوسف معاطي عن رسم اي مواقف كوميدية أو صياغة حوار يصنع حالة من السخونة والتصاعد وهي المهام التي تكفلت بها مونولوجات هنيدي وصولاته وجولاته وحركته الدائبة القادرة علي إضفاء حيالة وروح علي أي كادر ساكن . النجم الأوحد في فيلم تيتا رهيبة لم يزاحم هنيدي في الكوميديا أي نجم ولم يجرؤ أي أحد أن يكشف عن وجوده ولو للحظة في حضرة الأستاذ البطل. وفي هذا السياق لا فرق بين باسم السمرة وايمي سمير غانم فكلاهما في حالة من النمطية والاداء الروتيني بل إن إيمي خسرت كثيرا بمبالغتها في مشهد الولادة بلا أي داع ولا ضرورة. وربما لم يفلت من هذه المذبحة سوي الوجه الصاعد الواعد محمد فراج الذي يستطيع ان يصنع لنفسه وجودا مهما تقلصت المساحات او ضعفت الفرص. فهو ممثل من طراز فريد يشكل الشخصية بدأب وبحرص علي منحها ملامح بارزة وواضحة عبر تفاصيل صغيرة وبسيطة. الغريب أن الفيلم يسخر من طغيان الجدة مع أنه في شكله وأسلوب بنائه وتنفيذه يتيح لبطله أن يلجأ إلي أساليب الطغاة.. الجديد في الأمر هو الأسلوب العصري الشيك للطغاة الذي يعتمده اهل السياسة والفن منهم فالمظهر الديمقراطي بل والاشتراكي مهم جدا. فأفيش الفيلم يزدحم بصور مجموعة من الممثلين يحيطون بهنيدي الذي لا تكاد تلمحه من بينهم. وتتبدي العناصر الشكلية أيضا في اللوك الذي يظهر به هنيدي الذي يبدو غريبا وإن كان معبرا جدا عن صورة لشاب معقد. ولكن هذا المظهر الشكلي في الاشتراك في بطولة الفيلم لن تجد له أي أثر علي الشاشة فهنيدي هو وحده صاحب الوجه الذي سيطالعك من أول لقطة لآخر لقطة..أما اللوك الخارجي للشخصية فلا ينعكس ابدا علي مظهرها او سلوكها او طريقتها في الالقاء او التفكير او التعامل مع الآخرين. وفي سياق الاهتمام بالشكل سوف تجد أن الصورة في الفيلم من افضل عناصره وخاصة في مشاهد الليل التي تمت السيطرة فيها علي الأضواء والظلال بدرجة احترافية عالية. وبصرف النظر عن غياب الدراما التي تصنع للصورة قيمتها ودلالتها وتمنحها الفرصة للكشف عن مناطق تعبيرية أو تأثيرية في المواقف والشخصيات إلا أن الصورة ومن منظور جمالي وتقني بحت تبدو في أفضل حالاتها. ويتضافر مع الصورة عنصر المونتاج الذي يبررها ويظهر جمالياتها عبر انتقالات بارعة لا أعرف كيف أمكن تحقيقها رغم ترهل الدراما وثرثرة الحوار ولكني أعود لأتذكر أن سامح عبد العزيز في الأصل مونتير. الهزلية لن تغيب يعتقد البعض أن إثارة الضحك هو غاية المراد في الفيلم الكوميدي . . ويعتقد آخرون أنه مادام الضحك بلا ابتذال، فالفيلم أصبح بذلك ينتمي للكوميديا الراقية . وأنا لا أنكر أن كل هذه الأمور مهمة في هذا النوع من الفن، لكن قبل كل هذا لا بد أن يكون هناك فن أصلا وأن تكون هناك دراما أساسا. أي ببساطة لابد أن يكون هناك بناء متسق وكيان له ملامح ومعني وصراع محدد واضح، بالإضافة إلي تفاصيل تخدم المضمون والشكل العام، وإلا أصبح الفيلم مجرد شريط معبأ بالنكت . استسلم المؤلف تماما لشروط النجم وواصل خضوعه لأسلوبية الممثل التي تعتمد علي قدرة هنيدي البارعة علي مسخرة كل شيء والتي لا تعبأ بدراما الموضوع بأي قدر. فكوميديا تيتا رهيبة هي كوميديا من المفترض أن تكون اجتماعية بالدرجة الأولي لأنها تتناول العلاقات داخل أسرة وتركز بشكل محدد علي علاقة حفيد بجدته. وهي في بعد آخر لا يقل أهمية من المفترض أن تكون ذات جانب نفسي نتيجة للحالة المرضية التي أدت إليها علاقة القهر بين الجدة والحفيد . لكن من الواضح أن هنيدي أرادها هزلية خالصة كعادته. وهي الآفة التي سيطرت علي الفيلم المصري لسنوات طوال بعد نجاح فيلم (إسماعيلية رايح جاي) وهو إحدي علامات هنيدي التي لا تنمحي. وهو الذي حدد الدرب الوحيد الذي يفضله هنيدي سبيلا للنجاح. وكأنه لا يدرك أن هناك واقعا متغيرا وجمهورا يتغير وفنا في حاجة حقيقية للتغيير. ولكن هذا التغيير لا يمكن أن يتحقق علي أيدي طغاة الفن الذين اعتادوا علي أن تخضع السينما لهم بكل آلاتها وأدواتها وعتادها ورجالها وكأنها خلقت فقط لإبقائهم علي عرش نجوميتهم التي في سبيلها يسقط كل شيء. في اعتقادي ان هنيدي وغيره من النجوم في حاجة حقيقية للتخلي عن ديكتاتوريتهم وطغيانهم علي الشاشة تماما كما يطغي اهل السياسة علي الساحة. وعلي الرغم من أن هنيدي أضحكني وأضحك جمهوره وحقق أعلي الإيرادات في العيد بجدارة إلا أني أعود واقولها في المقال الثاني علي التوالي " يسقط يسقط حكم النجوم علي السينما المصرية".

جريدة القاهرة في

04/09/2012

 

«تيتا رهيبة»..

فيلم صغير ورهيب

بقلم : د. رفيق الصبان 

ما يعجبني في محمد هنيدي رغم أني لست شديد الحماس لأسلوبه الكوميدي هو قدرته علي التنوع وعدم اكتفائه بنموذج واحد نمطي نجح في جذب الجماهير إليه كما فعل مثلا محمد سعد أو هاني رمزي. فهنيدي يقدم نفسه في كل فيلم جديد يمثله فهو تارة جندي فاشل وأخري مغني شعبي وثالثة طباخ في الصين ومرة قبطان بحري، وهلم جرا.. في كل فيلم يبتدع هنيدي شخصية ما يلبس إطارها ويغير من معالمه كي يتقمصها حتي عندما لعب أكثر من مرة دور المرأة كان يبتدع أسلوبا خاصا في كل فيلم وهذا ما جعل الكثيرين يقبلونه رغم أن أسلوبه الكوميدي في كل الشخصيات التي جسدها .. لم يختلف كثيرا ولم يتطور. الجدات الرهيبات وهاهو الآن في فيلمه الأخير يلجأ إلي ممثلة مسرحية كبيرة لتقاسمه بطولة هذا الفيلم الذي كتبه له يوسف معاطي وأخرجه سامح عبدالعزيز تحت اسم «تيتا الرهيبة». أعترف قبل مشاهدتي للفيلم أني اعتقدت أنه إعداد مصري حر لفيلم فرنسي صور لنا إحدي الجدات الرهيبات وما تفعله من مقالب في أسرتها الصغيرة ولكن بعد رؤيتي للفيلم وجدت أنه ابتعد تماما عن الفيلم الفرنسي «وياليته لم يبتعد». تيتا الرهيبة هي جدة الطفل رؤوف الذي فقد أبويه وهو مازال طفلا فتعهدته جدته القاسية التي عاملته معاملة لا إنسانية أو طبقت عليه مبادئ صارمة واطلقت عليه اسم «الحيوان» ولم تكف عن إهانته وضربه بحجة تقويمه ولكن بعد طلاقها تسافر «تيتا» إلي ألمانيا تاركة رؤوف يعيش مع جده عاشق الموسيقي الذي يكاد لا يفارق بيته. ونحن في الجزء الأول من الفيلم الذي يستغرق الثلث تقريبا لا نري الجدة أبدا وإنما نري رؤوف وقد وصل إلي سن الأربعين .. ويعمل في أحد المولات الكبيرة ويحب إحدي زميلاته ويعيش مع جده وليس له إلا صديق واحد يبثه أحلامه وهمومه. وحين تأتي إحدي صديقات هذا الرفيق إلي مصر.. ويستقبلها رؤوف وصديقه والجد في المطار.. تقع اللبنانية الحسناء في غرام الجد وتراوده عن نفسه ثم تتركه وقد انتعشت حواسه كلها فيقرر العودة إلي الحياة ويذهب ليأكل في أحد المطاعم الشعبية ويحتسي الخمر ثم يقوم برحلة نيلية.. يسقط بعدها في البحر ويغرق ويموت.. ولكن بعد أن يكون قد كتب لحفيده نصف البيت الكبير الذي كانا يعيشان به بينما النصف الثاني يعود لتيتا المسافرة .. التي تقرر العودة إلي مصر. في اثناء ذلك يقوم رؤوف بخطبة زميلته في العمل ويتعرف علي أخيها الفتوة البلطجي الذي تهابه الحارة الشعبية التي يقطن بها والذي يوافق علي زواج أخته من رؤوف عندما يعلم أن رؤوف يملك شقة واسعة في مصر الجديدة، وهناك يحول هذا البلطجي الشقي إلي جارسونيرة يأتي بعشيقاته إليها دون أن يملك رؤوف الضعيف الإرادة تجاه ذلك شيئا. كل هذه الأحداث والتفاصيل والتي أخذت حيزا لا بأس به من الفيلم تتوالي أمام أعيننا دون أن تظهر الشخصية الرئيسية وهي «تيتا». وعندما تظهر يختلف إيقاع الفيلم وأحداثه وتتطور شخصياته بشكل غير معتاد، الجدة تصل بزيها الأوروبي وقبعاتها الغريبة وكلبي وولف كبيرين يرافقانها فتفاجأ أول ما تصل إلي البيت بإبراهيم شقيق الخطيبة هو وعشيقاته فتقرر اللجوء إلي البوليس وتبدأ مغامرات تيتا مع رؤوف الذي تحاول تزويجه من ابنة إحدي صديقاتها فيضطر للاعتراف لها بأنه قد ارتبط بالخطوبة مع زميلته فتوافق علي مضض.. خصوصا بعد أن اكتشفت وضاعة الأسرة والحي.. ويتم حفل الزفاف الذي ينقلب إلي كارثة «ليلة الدخلة» بطريقة الفارس التي عودنا عليها يوسف معاطي في كثير من أعماله. لا أريد أن أخوض أكثر من ذلك في تفاصيل هذا الفيلم الذي يكاد يكون اسكتشات متفرقة لا يجمعها رابط درامي متماسك، مليئة بمواقف لا يقصد منها سوي الإضحاك والاعتماد علي مهارة الممثلين الذين يؤدونها. معالم الشخصية والشيء المؤسف حقا أن يوسف معاطي قد نجح في رسم معالم الشخصية التي تدور حولها الأحداث ولكنه فشل في رسم المواقف التي تمر بها الشخصيات وعجز عن أن يطورها دراميا وفق إيقاع كوميدي متماسك. هناك شخصية ضابط البوليس مثلا ويؤديها بنجاح خالد سرحان وهي من أكثر الشخصيات قد بنت في رسمها وفي مواقفها وهناك شخصية الأخ البلطجي «إبراهيم» التي لم يعرف معاطي كيف يستغلها جيدا وزاد من نمطيتها أداء باسم سمرة المبالغ فيه. وشخصية صديق رؤوف الذي يحلم بأن يكون مذيعا وشخصية صاحب المول المتصابي الذي يعلن هواه لـ«تيتا» التي تجاوزت الخامسة والثمانين حسب اعترافها. وحتي شخصية تيتا رسمت بدقة مع الكثير من التفصيلات الجانبية «القبعات والكلاب والعنطزة والصوت العالي» ولكنها لم تستغل جيدا.. لأن أغلب المواقف التي تمر بها بدت لنا كالفقاقيع تعلو ثم تنفجر في الهواء ولولا أداء السيدة سميحة أيوب لسقطت الشخصية في القاع دون أي تأثير. الهنيدي هذه المرة بوجهه الطفولي وبباروكته المبتكرة وباللثغة في لسانه يحاول أن يرسم لنفسه بعدا كوميديا خاصا لكن المواقف التي كتبها المعاطي لم تعطه الفرصة لكي يحلق بالشخصية كما يريد. إذا نظرنا للفيلم كمجموعة من الاسكتشات الضاحكة لا يمكننا القبول به مع التمييز بين اسكتش وآخر.. هناك حفلة الزفاف ومهاجمة الكلاب للمدعوين أثر استياء التيتا من تصرفاتهم المبتذلة وهناك اسكتش ليلة الدخلة .. وتعاليم تيتا للعريس التي تستغرق وقتا طويلا بينما العروس في سريرها تنتظره. وهناك مشهد الولادة في الشارع والذي يختتم به الفيلم أحداثه والذي عجز سامح عبدالعزيز أن يجعله مؤثرا.. كما فعل زميله علي إدريس في مشهد مشابه في فيلم أحمد السقا (بابا) واسكتش عشيقات إبراهيم اللاتي يأتي بهن إلي منزل رؤوف مدعيا في كل مرة أنهن زوجاته!! لا يمكن أن ننكر أن هناك لمحات في حوار يوسف معاطي تملك النكهة الكوميدية وحس الإضحاك ولكن هذه اللمحات كانت قليلة نسبيا ولولا براعة الممثلين كخالد سرحان وعبدالرحمن أبوزهرة.. لبدا كثير من هذه اللمحات مفتعلا ولا تحتمل. الضوء الوحيد الناصع في الفيلم هو حضور سميحة أيوب وأداؤها الواعي لأبعاد الشخصية التي حاولت أكثر من مرة انقاذها من النمطية والمجانبة . مسرح الطليعة ولم أفهم سببا وجيها لمشهد الهزء من مسرح الطليعة الذي بدا لي مقحما تماما ويكشف دون قصد عن كراهية المؤلف لهذا النوع الجاد والمتطور من المسرح. التركيبة المدهشة التي خطرت في بال محمد الهنيدي بأن يمثل فيلما مع سميحة أيوب كان يمكن لها أن تنتج فيلما له رائحة خاصة مختلفة وكوميديا من نوع جديد لم نعهده بعد في السينما المصرية، ولكن جاء السيناريو مخيبا تماما للآمال رغم نجاح المؤلف في رسم ابعاد الشخصيات كما قلنا سابقا. ويبقي رغم كل شيء هذا الحضور المدهش لسيدة الأداء سميحة أيوب التي اشعرتنا كم ظلمت السينما نفسها عندما لم تستغل كما يجب هذه الموهبة الاستثنائية التي أنارت المسرح العربي عقودا طويلة والتي مازالت شامخة الأداء ، قوية الحضور ذات شخصية خارقة تأكل كل من حولها، انها عنصر الجذب الحقيقي في هذا الفيلم الصغير الذي كان يمكن إن يكون فيلما كبيرا ومدهشا لو أعطاه يوسف معاطي العناية التي يعطيها لأفلام عادل إمام ولو أحس بأنه كان يملك في هذا الثنائي «هنيدي وأيوب» مادة مفجرة للضحك السليم والكوميديا الحقة. تري هل ستكون تيتا رهيبة مفجرة سينمائية لنجمة مازال في آفاقها أن تقدم لنا الكثير والكثير جدا.. مما نحبه في السينما وما نأمله منها؟!

جريدة القاهرة في

04/09/2012

 

«الثعبان» ..

دراما تشكيلية وقضية سينمائية

بقلم : أحمد شوقي 

لا يمكن لمتابع ألا يلاحظ هذه الطفرة الهائلة التي تعيشها السينما التركية، ليس فقط علي صعيد الإنتاج الضخم الذي تزيد شعبيته تدريجيا في دول الشرق الأوسط والعالم، ولا حتي علي صعيد النجاحات المتتالية في أكبر المهرجانات العالمية لمخرجين مثل نوري بيلجي سيلان وسميح قبلان أوغلو اللذان حصدا جائزة تحكيم مهرجان «كان» و«دب برلين الذهبي» في عامين متتالين، ولكن الأهم من كل ذلك هو ذلك الفهم الواضح لطبيعة الوسيط السينمائي الذي أصبح من المعتاد أن تلحظه في غالبية الأفلام التركية حتي المتوسط المستوي منها. فالحقيقة التي يغفلها الجميع هي أن معيار الحكم الحقيقي علي ارتفاع مستوي الصناعة السينمائية في مجتمع هو تواجد أعمال يمكن نعتها بالسينمائية قبل أي وصف آخر، أعمال يدرك أصحابها أن السينما هي وسيط بصري بالأساس، وأن صانع الأفلام قبل أن يبحث عن الفكرة المدهشة أو الإنتاج الضخم أو القضية الشائكة، عليه في البداية أن يعلم أن دوره يختلف كثيرا عما يقوم به كاتب المقال أو الروائي، فحتي لو أراد أن يطرح قضية تهمه فعليه أن يبحث عن كيفية التعبير عنها بمفردات من المعجم البصري بدلا من الحكايات العجائبية والوعظات اللفظية. دراما تشكيلية هذه الروح السينمائية ستجدها بوضوح في فيلم «الثعبان» للمخرج كانير إرزينكان، والذي يمثل تركيا في المسابقة الرسمية لمهرجان الإسكندرية الثامن والعشرين. وفيه يقدم المخرج في أول أعماله الروائية الطويلة صورة أخري من النوعية التي يمكن تسميتها "الدراما التشكيلية" التي أصبحت علامة مميزة للسينما التركية خاصة أعمال المخرجين الكبيرين سيلان وأوغلو. ويعتمد هذا الشكل من الدراما علي الإعلاء الكامل لقيمة اللقطة السينمائية كوحدة ناقلة لدراما مبسطة تطرح الأسئلة بقدر أكبر بكثير من وضعها للإجابات، مع التوظيف الواعي لعناصر تكوين الكادر والمنظورين الخطي واللوني وتقسيم مستويات عمق الصورة من أجل الوصول للاستفادة القصوي من إمكانيات الكاميرا كأداة سينمائية وحيدة لنقل المشاعر الإنسانية. الحكاية دائما ما تكون بسيطة جدا ومستلهمة من الواقع الحياتي، وهي هنا لأسرة تعيش في قرية علي الحدود الشرقية لتركيا القريبة من إيران. الأسرة مكونة من ثلاثة ذكور أكبرهم الأب الذي فقد ساقه قديما خلال عملية تهريب عبر الحدود، والثاني هو الابن الأكبر الذي يعمل في صيد الثعابين وبيعها لشركات الأدوية، أما الثالث فهو الابن الأصغر الذي يجمع القواقع ليبيعها هو الآخر مقابل ليرات قليلة. الشخصيات الثلاث تعيش معا في منزل ريفي شديد الضيق يظن من يراه للمرة الأولي أنه لابد وأن يجعلهم مندمجين تماما بحكم تقاربهم الجسدي، ولكن متابعة حياتهم تجعلنا نتوصل للقدر الهائل من العزلة التي يعيشها كل منهم ممتلكا أهدافه وهواجسه الخاصة التي تتفق أحيانا وتتعارض أحيانا مع رغبات رفيقي سكنه، لكنه لا يدرك أبعاد هذا التقارب والتناقض ربما لعدم رغبته في الإدراك من الأساس. الأب العجوز يشعر بالملل واقتراب أيامه من الانتهاء فيحلم بالزواج مجددا من امرأة إيرانية، وسر الاختيار هو انخفاض تكلفة الزواج من الإيرانيات مقارنة بالتركيات، ولكنه في المقابل يخشي المخاطرة وعبور الحدود بسبب هاجس الحادث القديم الذي أفقده ساقه. يخطط الأب لتحقيق هدفه بعيدا عن علم ابنه الأكبر المنشغل بحب من طرف واحد عابر لحواجز المدنية والطبقية يشعر به تجاه الطبيبة التي تعالج أسنانه في المدينة، بينما تتناقض رغبته باستمرار الجفاف الذي تكثر فيه الثعابين مصد المعني الحقيقي رزقه مع رغبة شقيقه الأصغر في هطول الأمطار لتظهر القواقع التي يجمعها ويبيعها. لا يمكننا بحال أن نعتبر رغبة كل شخص من الثلاثة حلما بالمعني الحقيقي للكلمة، ولا تفتيشا عن الكمال والاتزان النفسي كما قد تبدو الأمور لوهلة، ولكنها في الحقيقة محض محاولات لرتق الثوب المليئ بالثقوب، وحيل دفاعية يستخدمها كل منهم ليثبت لذاته أنه لايزال متمتعا بالحد الأدني من الإنسانية في عالم قاس يقوم بالكامل علي فكرة محبطة اسمها البحث من أجل الرزق. فعندما تصبح الوسيلة المتاحة لكسب الرزق هي البحث الزواحف التي قد تجدها أو لا تجدها فتعود خالي الوفاض، فإن قيما كالعمل والحب والاستقرار والتحقق تصبح مجرد خيالات يصعب تصورها إلا في حلم يفيق الإنسان منه سريعا، تماما كما أفاق الابن الأكبر علي مشهد الطبيبة الجميلة وهي تقبل حبيبها الذي لابد وأن يكون ابن مستواها المادي والعلمي والاجتماعي. لاحظ هنا أن الفيلم ليس خاليا من طرح القضايا السياسية والاجتماعية الشائكة، بل إنه علي العكس تماما يحمل انتقادا شديد الذكاء للنظام الرأسمالي بأكمله. ولكنه لا يقدمه بتلك الصورة الصاخبة التي اعتدنا مشاهدتها ممن يحاولون أدلجة السينما وتحويلها إلي منشورات تحمل أفكارهم السياسية، بل عبر تضمينات هامسة قد لا يلحظ المشاهد وجودها من الأساس ولكنه لابد وأن يصله تأثيرها. وفي هذا تحديدا يكمن جوهر ما قلته عن الأسلوبية الأمثل لطرح "القضية السينمائية" التي ينبغي أن تختلف عن أسلوب مناقشة نفس الأمور علي صفحات الجرائد. فمهنة البحث عن الثعابين والقواقع هي مجاز سينمائي ذكي لفكرة المجتمع محدود الموارد، والذي يتكالب أفراده رغما عن إرادتهم وكل منهم يحاول الوصول للرزق قبل غيره، ليس لأنه يكرهه أو يتمني له الشر ولكنه لأنه يعلم جيدا أن عدد القواقع محدود، وأن عودة صديقه في نهاية النهار بأكبر قدر ممكن منها لن تساوي إلا عودته هو بقدر ضئيل لا يكفيه لكسب قوته. هذه الحالة من اقتصاد الندرة تقود الإنسان تدريجيا لتفهم موقف من يسيء إليه سعيا للرزق، لذلك فستجد الأطفال جامعي القواقع يغضبون من صديقهم الذي يسرق كل قواقعم ويهرب بها بشكل لحظي، ولكنهم ينسون ما حدث في الصباح التالي ويواصلون صداقتهم بشكل طبيعي، فما حدث كان مجرد سقطة يمكن تفهمها في مثل ظروفهم. ممارسات وطقوس الطريف في الأمر هو فهم سكان القرية الخاطئ لكيفية حل أزمتهم، فيلجأون لممارسات وطقوس شبه وثنية يحرقون فيها ثعبانا كوسيلة لمطالبة السماء بالأمطار التي ستجلب لهم القواقع حتي لو أضرت بجامعي الثعابين ـ أخلاقيات الندرة مجددا ـ دون أن يفكروا للحظة في أن عدوهم الحقيقي هم هؤلاء التجار المستغلين، الذي يأخذون منهم ما جمعوه مقابل مبالغ ضئيلة جدا يدفعونها علي دفعات بعدما يكاد صاحبها أن يتسول حقه ومقابل تعبه. هؤلاء التجار السماسرة هم صورة واضحة لتسلط رأس المال، والذي لابد وأن يدعم نفسه بالقوة التي تحميه وتحافظ علي هيبته داخل المجتمع المحدود، تماما كما قام رجال تاجر الثعابين المتسلط بالاعتداء علي بطلنا عندما أراد الحصول علي أموال الثعابين التي جمعها دون أن يلحق طلبه بقدر الذل الكافي لرضا التاجر الرأسمالي. مظاهر الرأسمالية وآثارها علي الأفراد تلمحها أيضا في الطريقة التي أراد الابن الأكبر أن يعبر بها للطبيبة عن حبه، فبينما نرصد جميعا قدرة الطبيبة علي التقارب الإنساني منع عبر حديث دار بينهما في عيادتها، فإن النظرة الدونية التي يصنف فيها الرجل نفسه بسبب وضعه المالي والمهني تجعله لا يجد وسيلة أفضل للتعبير عن حبه من شراء حقيبة باهظة الثمن يقدمها لحبيبته باعتباره أداة يؤكد لنفسه من خلالها قبل أن يؤكد للطبيبة قدرته علي عبور الحاجز الطبقي ولو لحظيا، حتي لو كان هذا العبور بأموال انتزعها من تاجر الثعابين تحت تهديد السلاح. ولاحظ هنا المفارقة: فالأموال هي بالأساس حقه ونتاج عمله الذي يرفض التاجر منحها إياه بالصورة الطبيعية، ولكنه يعيش معانيا طوال عمره لا يفكر في اتخاذ فعل ثوري لانتزاع حقه بالقوة خوفا من رد الفعل، ولا يقدم علي مثل هذا الفعل إلا عندما يكون هدفه من الحصول علي المال هو الشعور بالارتقاء الطبقي عبر استهلاك سلعة باهظة، حتي لو تم شراؤها بمبلغ طائل يكفي لتلبية رغبات أسرته لفترة من الزمن. ألا يحمل هذا التفسير للحكاية جميع عناصر المجتمع الرأسمالي من استغلال للفقراء ووضعهم في دوامة مع توجيههم إلي أن السبيل الأوحد للإشباع والشعور بالذات هو الاستهلاك؟ هذا التفسير هو مجرد طرح قد يتفق أو يختلف مع رؤية أي شخص آخر لنفس الفيلم، فلب الدراما التشكيلية هي هذه المساحة من التساؤلات التي يصنعها العمل الفني ويتركها لكل مشاهد ليملأها بهواجسه وتفسيراته الخاصة، في محاولة شعرية للتطهير نجح فيها المخرج كانير إرزينكان في فيلم يعد اختياره للمشاركة في المهرجان مكسبا للدورة بكل المقاييس.

جريدة القاهرة في

04/09/2012

 

«ألمودوفار»..

حين «تحدث إليها» الموت يعني انقطاع التواصل

بقلم : أسامة صفار 

يطرح الاسباني بيدرو ألمودوفار في أفلامه من الأسئلة ما يفوق الاجابات بعشرات المرات ويخلق من الحيرة أضعاف ما يمنحه لمشاهد أفلامه من الاشباع البصري والفكري فالرجل الذي يشرح العالم من خلال المرأة يقدم في فيلمه " تحدث اليها " رجلين باعتبارهما بطلي العمل ليظل المشاهد مخدوعا بمظهرها طوال الفيلم ويكتشف في نهايته أن الرجلين ما هما الا روحين لامرأتين غابتا عن الوعي فماتت احداهما واعيدت الأخري الي الحياة عبر منحة عاشق وهبها ما بقي له من العمر ومات. الصمت الحزين والموت عند المودوفار يختلف عن غيره من البشر اذ ينتهي النقاش عن الموت وكيفية التعامل معه بالنسبة للميت عند موته لكن الآخرين - أولئك الأحياء المساكين - ينقسمون بين صامت بحزنه وصارخ بألم الفراق ..ألمودوفار نفسه قدم بطله "بينينو" الرجل الا قليلا .. متحدثا دائما مع حبيبته الميتة الا قليلا طوال العمل .. يقدم العمل الموت باعتباره فقط ذلك النسيان الرحيم أو الكريه عند البعض .. أما الحضور الذي لا يشترط جسدا فهو الموت الجميل وهي سنوات عمر البطل "الأكثر اكتمالا " اذ عاش متحدثا مع حبيبته الغائبة عن الوعي يرعاها تماما بكل تفاصيلها ويفعل من أجلها ما كان ينبغي أن تفعله لو كانت واعية بما فيها مشاهدة الأفلام القديمة وعروض الباليه ثم يعود ليحكي لها كل شيء .. وعلي العكس من صديقه الذي فشل في التحدث الي حبيبته الغائبة عن الوعي أيضا ..ليـتأكد "بينينو" أن شيئا في علاقة صديقه ماركو بحبيبته مصارعة الثيران غير صحيح رجل في امرأتين والبطل الأول "نينو" هو شاب شاءت أقداره أن ينشأ مع أم عاجزة تماما عن الحركة وأب هرب من أسرته ومن التزاماته ليواجه الطفل قدره فيبدأ في العناية بوالدته ويتعلم من أجلها العناية بالبشرة والماكياج ويدرس التمريض ويقضي صباه وجزءا كبيرا من شبابه في هذا الأمر الي أن ترحل .. ليقع في غرام راقصة باليه تتدرب بالقرب من مكان اقامته ويقضي وقته في مشاهدتها تتدرب مع معلمتها في صالة الرقص الي أن تأتيه الفرصة ليتحدث اليها لكنها تصاب في حادث وتدخل في حالة غيبوبة عميقة ويتم اختياره مع احدي الممرضات للعناية بها ويقضي أربعة أعوام وخلال تلك الفترة يتعرف علي صديقه " ماركو " الصحفي الذي يرافق حبيبته "ليديا " مصارعة الثيران المصابة بغيبوبة ويشكو له ماركو من سوء حال حبيبته فيطلب منه بينينو أن يتحدث اليها ويندهش ماركو مؤكدا أن خلايا مخ ليديا قد ماتت لكن بينينو يؤكد له أن عقل المرأة لا يستطيع أحد أن يدركه وأن خبرته بالمرأة عبر عشرين عاما مع والدته وأ ربعة أعوام مع حبيبته تجعله يؤمن بذلك . "ماركو" يلتقي مع "ليديا " في لحظة أزمة تعيشها مصارعة الثيران التي تتجاهل هويتها في العلن بينما تعيش كل ضعفها الأنثوي ومخاوفها ورقتها في حياتها الشخصية ..تخلي عنها حبيبها فسقطت بين أحضان "ماركو" تدفن فيها حزنها لكنها تصارع بكل ضعفها فتهزم .. ولا يستطيع ماركو أن يتحدث اليها فيشخص "بينينو" الأمر علي أن ثمة خطأ في العلاقة وبالفعل تتضح الحقيقة حين يظهر الحبيب السابق وهو يتحدث الي "ليديا "بينما هي غارقة في غيبوبتها ويخبر ماركو أنها تحدثت اليه قبل الحادث بساعات لتخبره برغبتها في العودة اليه. وكانت"اليسيا " الحبيبة الغائبة وراقصة الباليه تحب أفلام السينما الصامتة لذلك يخرج "بينينو" من المستشفي الي مكتبات الأفلام القديمة ليشاهد ثم يعود ليحكي لحبيبته ما شاهد لكنه هذه المرة يتوحد مع بطل فيلم صامت قديم قرر أن يهب نفسه لحبيبته فيقرر "بينينو" أن يفعل ذلك علي طريقته وبطريقة ميلودرامية حيث يغتصب فتاته ليكتشف الأطباء انقطاع الدورة الشهرية عنها بعد شهرين فيسجن بينما تلد حبيبته طفلا ميتا وتستعيد وعيها أثناء الولادة ويعود ماركو من سفر طويل ليكتشف أن صديقه في السجن بتهمة اغتصاب "اليسيا" ويلتقي الصديقان وبينهما حاجز زجاجي يعكس صورة كل منهما علي الاخر في مشهد ملهم يشير الي توحد بين الصديقين أو الي كونهما متماثلين ويحاول ماركو مساعدة صديقه في الخروج من الأزمة من خلال اختيار محام جديد للدفاع عنه بينما تلد "أليسيا " ويعود وعيها ويضطر لعدم اخباره ويقرر نينو الانتحار تاركا خطابا لصديقه يطلب منه فيه أن يزوره ويخبره بالجديد دائما عن حبيبته التواصل يعيد ألمودوفار في الفيلم صياغة مفاهيم الحب والصداقة عبر خلق دوائر متداخلة من المعاني والعلاقات بمشاهد بديعة وملهمة في الوقت ذاته ولا يكتفي فقط بتأكيد فكرة التواصل مع الحبيبة الغارقة في غيبوبة باعتبارها سبيلها للعودة للحياة ولكنه يتجاوز بجرأة مدهشة الي صنع مشهد له معني خاص اذ يأتي الصديقان " نينو وماركو " بحبيبتيهما " اليسيا و ليديا " ويجلسانهما علي مقعدين متجاورين وبينما تميل رأس كل منهما نحو الأخري وترتديان نظارات شمسية تخفي عيونا يفترض أنها مغلقة فان "بينينو " يشير اليها قائلا : تبدوان وكأنهما تتحدثان عنا .. ليخلق المودوفار تواصلا بين غائبتين في خيال عاشق ذهب به العشق حد جنون لا يعترف بكونه منتهي الحكمة سوي مخرج العمل الذي استخدم رموزا شديدة الثراء والدقة في ان واحد ولعل الموقف الذي كان شرارة بدء العلاقة بين "ماركو " وحبيبته " ليديا " المصارعة الشرسة في منزلها يؤكد علي عبقرية المخرج في استخدام الرمز الواحد للاشارة الي أكثر من معني فضلا عن تحول في ادراك الشخصية بالنسبة للمشاهد اذ تصل ليديا الي منزلها وتترجل من سيارة ماركو لتدخل بيتها ولكنها تطلق صرخة مرتعدة وتركض للاحتماء به من ثعبان في منزلها .. وهنا يفتح المودوفار خزينة أسرار امرأة نراها تصارع الثيران بمنتهي القوة بينما تحوي في وجدانها هشاشة ورعب الأنثي من ثعبان واضح للعيان واخر يسكنها اسمه الهجران وبينما يقضي ماركو علي الثعبان الحقيقي فان ثعبان الهجران يقضي عليها حين تتحدي حبيبها الذي هجرها - وهو مصارع ثيران أيضا - باعلانها المشاركة في مباراة ضد ستة ثيران ولكنها تهزم ويقضي عليها في نهاية الفيلم يذهب ماركو لمشاهدة عرض باليه وتدمع عيناه اذ يشاهد العرض ويفاجأ أن الجالس بالقرب منه هي "اليسيا " حبيبة صديقة الراحل ويخرج الجميع في استراحة لتسأله "اليسيا " التي لا تعرفه فعليا عن حاله فيجيبها انه لا يعاني من شيء وتلمح معلمتها للرقص ماركو واليسيا وتخاف من اخباره لها بما حدث وتنفرد به لتحذره ولكنه يخبرها انه لم يقل شيئا ويضيف أنه يمكن لها فيما بعد أن تعرف بسهولة لكنها تجيبه : أنا معلمة رقص وأعرف أن لاشيء سهل أبدا .. وهي رؤية أقرب الي المودوفار نفسه الذي استطاع أن يعيد صياغة المعاني وأن يصنع من تلك الدوائر الانسانية والمجتمعية داخل العمل زهورا جميلة وخادعة ومدهشة لكنها دائرية حيث تنتهي الي ما بدأت به دائما

جريدة القاهرة في

04/09/2012

 

«جانجز»..

اختراق إمبراطورية «بولي وود» السينمائية

بقلم : د. وفاء كمالو 

تشهد السينما الهندية الحديثة ميلاد تيار جديد يتحدي بريق المثالية المدهشة لأفلام بولي وود - المنافس الأخطر لهوليوود - حيث يأتي هذا التيار ليخترق تابوهات الرؤية البصرية المألوفة لأفلام الهند، ويتجاوز حدود المفاهيم الناعمة للميلودراما والرقص والأغنيات لنصبح أمام اتجاه مغاير يتبني فلسفة ثائرة تبوح.. وتكشف وتمزق أقنعة الزيف لتروي عن الواقع السياسي والاجتماعي المهزوم بالعنف والفقر وبالجريمة والجنس والمخدرات. كان فيلم الافتتاح في مهرجان لندن للسينما الهندية الذي شهدته العاصمة الأنيقة في الأسبوع الماضي هو «جانجز واسسبور» وهو ملحمة سينمائية مكونة من جزأين، تدور حول مجموعة من الخارجين علي القانون الذين فرضوا سيطرتهم علي بلدة صغيرة يعمل سكانها بالمناجم، تقع في منطقة جركند، وهي منطقة عشوائية، غير شرعية لا يعرفها القانون ولا تعرفه، محكومة بسطوة البلطجة وتسلط الفقر وجموح الجنس واستبداد المخدرات. أما طبيعة التكوين الإنساني في ذلك المكان الوحشي العنيد فقد توافقت مع إيقاعات العذاب العبثي، فهم عبارة عن مجموعات من الشباب والشابات، الرجال والنساء الصغيرات يعيشون معا، ينامون معا، يقضون كل الوقت معا يمارسون الجنس والشذوذ، يسببون المتاعب ويرتكبون الجرائم بجنون. كان الفيلم شديد الوضوح والصراحة في تصوير ملامح وتفاصيل الواقع عبر ذلك الأسلوب الصادم، الذي لا يمكن ظهوره أبدا في أفلام «بولي وود» ذات الرؤي اليوتوبية الحالمة، والأفكار الزائفة عن حياة وحشية قاسية، يطرحها أباطرة مركز صناعة السينما الهندية في مومباي، بصورة براقة تضع العديد من الأقنعة لتمنح الواقع جمالا مراوغا، يخفي حقيقة البشاعة والظلم والفساد. وفي هذا السياق يبعث الفيلم حركة عارمة في اتجاه الكشف عن نفاق المجتمع الهندي الذي يشهد انتشارا واسعا للجريمة والفقر والبطالة والظلم. ويذكر أن هذه الحركة تتسلل إلي الواقع الثقافي والاجتماعي في الهند بهدوء وبشكل غير ملحوظ، فقد كان «جانج» هو الفيلم الهندي الرئيسي الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» هذا العام، حيث أثار ردود فعل عالية، وأشاد به النقاد الذين لم يستطيعوا إلا أن يعشقوا جمالياته ورؤاه الواقعية المبهرة. قطعة فنية في مهرجان لندن السينمائي عُرض أيضا فيلم «جاندو» الجزء الثاني من الملحمة وهو قطعة فنية لافتة تنتمي إلي أفلام الأكشن الموسيقية الغنائية، تميز بأسلوب الحركة العنيفة الوحشية القاسية وبموسيقي الميتال والراب، وهو يدور حول شاب صغير معذب بالهامشية والفقر والضياع، لكنه مشحون بإرادة نارية تفجر في أعماقه رغبات عارمة في الشهرة والجنس، ورغم أن الفيلم عُرض محليا في الهند، إلا أنه تحول بعد المشاركة في المهرجانات الدولية إلي واحد من أهم الأفلام التي تحدث عنها العالم، ولاشك أن هذه السينما الجديدة هي نتاج ورد فعل لنمو الهند بعد انفتاحها الاقتصادي علي العالم. لم يكن أبطال الفيلم من نجوم الشاشة المعروفين لكنهم كانوا شبابا من أصحاب البشرة السمراء، يتحدثون لغة خشنة، يعرفها سكان إقليم «بوجبوري» فقط، فهي لغة إقليمية تختلف تماما عن لغة الهند المألوفة، لذلك يعتبر «جانجز أوف واسسبور» فيلما استثنائيا يخرج عن إطار التيار العام للإنتاج السينمائي في الهند. وقد كانت هذه التجربة من إنتاج شركة «فياكوم» التي يرأسها فيكرام مالهوترا وهو طيار سابق ومثقف بارز يمتلك شخصية متميزة ومقدرة عارمة علي اتخاذ القرارات. أما مخرج الفيلم فهو «أنيوراج كاشياب» الذي يعمل في مجال الهندسة وتربطه صلة الصداقة بالمنتج، ويذكر أن كلا منهما يعمل بعيدا عن سياق مؤسسة «بولي وود» الضخمة. كان التعاون بين المنتج مالهوترا والمخرج أنيوراج كاشياب خصبا ومثمرا، حيث امتلكت تجربتهما السينمائية ثقة قوته خشنة في الذات، اخترقت المسارات لتعكس بوضوح إيقاعات الحياة وطبيعة الناس التقليديين، ونمط العلاقات الجنسية الحارة في الهند، وقد تمت صياغة هذه الحالة عبر تضافر الموسيقي الصاخبة مع أغنيات راقصة مسكونة بالإشارات والتلميحات الجنسية الفاضحة، وأتصور أنه لا يمكن كتابة ترجمتها لاستغراقها في تفاصيل شديدة الابتذال تخرج عن السياق المألوف للمجتمع العربي. كنت أريد بالتحديد أن أكون أمينا.. هذا ما يقوله المخرج كاشياب عن فيلمه الذي يعتبر من أكثر الأفلام الهندية تكلفة، رغم أنه ليس من أفلام النجوم.. ويضيف: إنه اتجه إلي قصة لفتت انتباهه برشاقتها وذكائها وعبقريتها الفكرية والإنسانية وأراد الوصول إلي أقصي درجات المصداقية معها، ومن المعروف أن المخرج أنيوراج كاشياب له تاريخ مضيء مع صناعة الأفلام المتميزة التي تثير ردود فعل عالية، ولعل أشهرها هو فيلم «الجمعة السوداء» الذي أنتج عام 2004، وكان يدور حول تفجيرات مومباي، ويتناول حقيقة الصراعات السياسية وطبيعة الانتماءات العقائدية، التي تؤمن بها بعض الجماعات المتطرفة في الهند، ويذكر أن الفيلم كان قطعة من الفن والوعي والجمال، أضاءت معني الانهيار والجهل، ووحشية الاندفاع إلي القتل والدم حين تنتفي القيم، وتغيب معاني الإنسانية وقدسية الحياة. ردود فعل بعث الفيلم الجديد «جانجز» ردود فعل عالمية مشحونة بالتقدير والإعجاب والطاقات الإيجابية، وقد أدي ذلك إلي سحب السجادة من تحت أقدام الاعتراضات التقليدية داخل الهند علي اختراق الفيلم للتابوهات وعلي أسلوبه في تناول الواقع الاجتماعي، وفي سياق متصل كان مهرجان «كان» مجالا ثريا للاحتفال بالفيلم، وكذلك لعبت الميديا الاجتماعية العالمية دورا في تكثيف الضوء حول المخرج والمنتج وفريق العمل في هذه التجربة الجديدة الثائرة، وكما يقول كاشياب، فإن النقاد المعروفين قد عبروا عن دهشتهم وإعجابهم بهذه التجربة، ولم تكن هناك فرصة أمام النقاد الأخلاقيين ليقولوا شيئا أو يطرحوا نوعا من الإدانة والاعتراضات، وهكذا أصبح الطريق ممهدا أمام استقبال حافل وميلاد جديد لفيلم «جانجز أوف واسسبور» داخل الهند. في الجزء الثاني من الملحمة السينمائية يأتي فيلم «جاندو» كابن شرعي لهذا الزمن الشرس في الهند وغيرها من بلاد العالم الثالث حيث التغيرات السياسية والاقتصادية التي دمرت الكثير من الرؤي والمفاهيم.. ويبدو أن حالة التخبط الاجتماعي التي تبعثها تناقضات المواجهة بين قيم وأخلاقيات الماضي، وبين قيم الواقع الجديد المنفتح بقوة علي العالم، يبدو أن هذه اللحظة العنيدة المتوترة قد امتلكها المخرج بدقة وصنع منها جماليات «جاندو» ونبضاته الساحرة فبطل الفيلم هو «جاندو» الذي يتطابق اسمه مع عنوان الفيلم، والذي نراه شابا مسكونا بمشاعر الحزن والقلق، حياته سفر متصل علي ظهر حصان ضعيف مدفوع بالرغبة العارمة في امتلاك المستحيل، أراد أن يتجاوز عذابات القاع ليقفز إلي القمة ويترك اسطح المنازل وعذابات شوارع كلكتا، ويصبح مطربا شهيراً. كان اختيار تصوير بعض اللقطات بالأبيض والأسود متضافرا مع فلسفة الفيلم متوافقا مع ملامح ضربات الكونغ فو القوية علي أكوام القش، وكاشفا عن طبيعة العلاقات الاجتماعية وعن إيقاعات التلسط والقهر التي تحكم آليات العمل عبر الاستلاب والاختزال، كذلك اتجه التصوير بالأبيض والأسود إلي اختراق دلالات الأقمشة الواسعة التي ترتديها النساء وعبر نفس الصيغة الضوئية واللونية جاءت المشاهد الجنسية بصراحتها الصادمة لتضعنا أمام وقائع حياة الحضيض ومفارقات الرغبة الإنسانية الجامحة في الاحتفال بالجسد والحياة وقد قامت صديقة المخرج بأداء هذه المشاهد الجنسية. سحر وغموض يشتبك هذا الفيلم مع سحر وغموض الرؤي السيريالية البنغالية ويأتي كمزيج من الدهشة والغرابة التي تميز «جيم جارامش» ومن جماليات العري الجسدي والتوظيف الفني للجنس الذي يميز «ناجيسا أوشيما» وهو في النهاية فيلم لم تر الهند مثيلا له من قبل. لقد كان المخرج يريد أن يتحدي مجتمعه الذي يصفه أنه أخلاقي جدا ولا يزال يتبني قيم العصر ما بعد الفيكتوري، وكان مساره لتحقيق هذا التحدي هو الثقة العارمة بأفكاره والرغبة القوية في الانطلاق نحو خشونة وشجاعة صناع الأفلام اليابانية والكورية مثل «تاكاشي مايك» وغيره.. هؤلاء الذين اتخذوا قرارات إبداعية بنقد مجتمعاتهم وكشف زيفها وتناقضاتها.. رغم أنهم قادمون من الشرق بكل ما فيه من تابوهات ومن أطر مرجعية جامدة. من المؤكد أن الهند واليابان من البلاد التي تشهد انفصالا حادا وفجوات واسعة بين السلوك الاجتماعي وخصوصية الهوية الفردية لذلك جاء الفيلم ليفجر هذه القضية ويثير حولها التساؤلات، وفي نفس السياق كانت التجربة ضربة قاضية لمؤسسة بولي وود السينمائية الضخمة التي لاتزال ترسم صورة الهند المعاصرة بنفس خطوط وألوان صورة أمريكا في السبعينات، عندما عاش الناس في أرجاء الدنيا أوهام الحلم الأمريكي، فتصوروها ثرية ساحرة جميلة محافظة مثالية وواعدة. كان فيلم «جاندو» مثيرا ومغريا لجمهور الانترنت، وتم تحميل مايزيد علي مليون نسخة منه، وفتح القراصنة سوقا غير شرعية للفيلم وباعوه علنا وبوضوح وقد حصل الفيلم الآن علي استثناء حكومي من دفع الضرائب، وسمح بعرضه في المهرجانات الهندية، كما أنه فتح المسارات أمام جدل خطير حول الرقابة وحرية الإبداع ويذكر أن النجمة الهندية «تانيشسا كاتيرجي» قد أعلنت ملاحظاتها حول موجات التحذير من الحرية الجنسية الجديدة، وقدمت نقدا تحليليا ساخراً للظلم الناتج عن النمو الاقتصادي للهند، كما أدانت الرؤية الذكورية التي تحكم المجتمع بشكل عام وصناعة السينما بشكل خاص حيث لايزال مخرجو «بولي وود» يؤمنون بضرورة تصوير الممثلات بالبكيني، مع تركيز عدسات الكاميرات علي صدورهن العارية، وتضيف أنه ليست هناك حرية حقيقية في الفن الذي يقدم المرأة باعتبارها رمزا جنسيا فقط، والسينما التي تضع النساء علي هامش الأحداث هي سينما ناقصة مضللة. تضيف «تانيشسا كاتيرجي» أن هناك انقساما مخيفا بين محتوي التليفزيون والسينما في الهند حيث يتجه الخطاب التليفزيوني بالكامل إلي جمهور النساء، لأنه يتبني فلسفة رجعية وفكراً ذكوريا يؤكد أن النساء الآن يجلسن في البيت لمشاهدة التليفزيون بينما يخرج الرجال ليشاهدوا أفلام البورنو. الجارديان ويكلي الكاتب ألفريد سيريل

جريدة القاهرة في

04/09/2012

 

أول فيلم وثائقي عن الثورة التونسية ينسبها لأصحابها ويدين «مختطفيها»

بقلم : أسامة عبدالفتاح 

شهدت الدورة السادسة والثلاثين من مهرجان مونتريال السينمائي الدولي، والتي اختتمت فجر اليوم الثلاثاء بتوقيت القاهرة، العرض العالمي الأول للفيلم التونسي "ارحل" أو "الشعب يريد"، بحضور مخرجه محمد الزرن، وهو أول فيلم تونسي تسجيلي طويل (96 ق) يوثق يوميات الثورة التونسية، التي اندلعت 17 ديسمبر 2010 علي خلفية إحراق البائع المتجول الشاب محمد البوعزيزي نفسه أما مقر ولاية "سيدي بوزيد" احتجاجا علي سوء معاملته وصفعه من قبل إحدي موظفات البلدية التونسية. وبينما يذهب البعض إلي إن الثورة نجحت في 14 يناير 2011 بهروب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي إلي السعودية، يؤكد الفيلم، مثل معظم التونسيين، أنها استمرت بعد ذلك - وبصورة أقوي - لإسقاط الرئيس المؤقت راشد الغنوشي وحكومته، وتواصلت حتي انتخاب الجمعية التأسيسية واختيار المنصف المرزوقي رئيسا، مرورا بتولي فؤاد المبزغ الرئاسة مؤقتا. كان الزرن قد شرع في تصوير الفيلم، وهو رابع أعماله السينمائية الطويلة، يوم 14 يناير 2011 نفسه، في ذروة المظاهرات، حيث تابع بالكاميرا غالبية المسيرات التي جابت شوارع العاصمة، كما سجل شهادات الشباب من مختلف أنحاء تونس، مثل "القصرين" و"قفصة"، بالإضافة إلي "سيدي بوزيد"، مهد "ثورة الكرامة والحرية" كما يسميها التونسيون. ووصف المخرج فيلمه بأنه "تحية إلي المناطق المهمشة" في تونس، وقال إنه واكب مختلف أحداث الثورة، ونقل بعدسته الأحداث التي عكست إرادة شعب تحدي الخوف حين قال "ارحل" لبن علي. ودعم الزرن فيلمه بشهادات عائلات الشهداء، خاصة عائلتي البوعزيزي وثاني شهداء الثورة حسين ناجي، بالإضافة إلي شهود عيان في عدة مناطق من تونس، ونقل صورة صادقة عن بعض الأحداث المأساوية والانفلات الأمني الذي ساد عقب تنحي الرئيس المخلوع عن السلطة. كما التقط مشاهد لمئات المتظاهرين الذين اعتصموا لعدة أيام في ساحة الحكومة في "القصبة" بوسط العاصمة قبل أن يتم إخلاؤها بالقوة. عرض في الشارع عرض الفيلم للمرة الأولي في ذكري استشهاد البوعزيزي يوم 17 ديسمبر الماضي، أمام مقر ولاية "سيدي بوزيد"، حيث أقدم علي إحراق نفسه، ثم في 14 يناير الماضي أمام وزارة الداخلية التونسية، في شارع الحبيب بورقيبة الرئيسي بالعاصمة احتفالا بالذكري الأولي للثورة التونسية. ولأن "فنون الشارع" جديدة إلي حد ما في تونس، فقد تجمع عدد كبير من أهالي "سيدي بوزيد" في فضول - يوم عرض الفيلم - أمام مقر الولاية وهم يتساءلون عم يحدث، بينما كان الزرن ومجموعة من شباب الولاية يجهزون شاشة عملاقة للعرض الذي حقق نجاحا كبيرا، وكان أفضل احتفال بالذكري الأولي للثورة. تميز الفيلم، وهو اختزال لستين ساعة تصوير بكاميرا الزرن، بشهادات حية لمجموعة كبيرة من التونسيين العاديين البسطاء، والباعة الجائلين، والشباب العاطلين عن العمل الذين تقتصر أحلامهم علي أن "يخدموا"، أو يحصلوا علي وظيفة باللهجة التونسية، وكلهم أصدقاء لشهداء ضحوا بأرواحهم لينعم الشعب التونسي بالحرية والديمقراطية. ومن هؤلاء، نساء ورجال عايشوا وعرفوا الشهيد محمد البوعزيزي، وقدموه في صورة شاب دمث الأخلاق كان يجاهد لتحصيل قوت يومه من تجواله في شوارع المدينة وسوقها دافعا أمامه عربة خضر يبيعها ليعود إلي منزله حاملا قروشا ينتظرها أب وأم وإخوة يعيلهم جميعا. وفي هذا الإطار، يعتبر الفيلم امتدادا لأفلام الزرن الروائية والوثائقية السابقة التي دارت كلها حول نضال البسطاء من أجل حياة كريمة.. ففي فيلمه الروائي الطويل "الأمير"، قدم قصة صراع بين الواقع والحلم من خلال مغامرة رومانسية غير متكافئة يتغلب في نهايتها الحلم علي محاولات الخروج من يوميات صعبة وعنيفة داخل مجتمع تلاشت فيه القيم الأخلاقية. وكان سرد في فيلمه "السيدة"، الذي فاز بجائزة العمل الأول في مهرجان أيام قرطاج السينمائية عام 1996، قصة حي "السيدة" الشعبي بالعاصمة التونسية، والذي يكتظ بخليط ممن نزحوا من الريف بحثا عن لقمة العيش وأحلام المدينة، وفقراء تلك المدينة نفسها. ويدور فيلمه الطويل "زرزيس.. العيش هنا" عن هموم الشرائح الدنيا من المجتمع التونسي. رؤية خاصة ولذلك يعتبر مخرجنا البسطاء الصناع الحقيقيين للفيلم.. "إنّها الثورة كما عايشتها وكما شاهدتها، لقد أردت أن أبرزها من خلال زاوية معينة، هي رؤيتي الخاصة للحدث، إذ اختلفت نظرة كل من صوّر هذه الثورة، وكل كانت له فكرته التي أراد أن يعبّر عنها. لكن ما مىّز الفيلم أنني نزلت بنفسي إلي الشارع والكاميرا علي كتفي لتصوير ذلك المشهد الثوري الذي أبدعه شعب تونس.. ورغم أنني كنت موجودا في أشد اللحظات حرجا، من غازات مسيلة للدموع وأعيرة نارية، إلا أنني لا أعتبر نفسي بطلا ولا حتي محررا لهذا الفيلم، بل أحسست بأنني مواطن تونسي بكل ما تحمل الكلمة من معان، والفارق بيني وبين من كان حاضرا في تلك الأماكن هو الكاميرا التي أعتبرها قلمي الخاص، هذا القلم الذي عانق شارع الحبيب بورقيبة والقصبة وسيدي بوزيد ليصوّر الأبطال الحقيقيين للفيلم، وكانوا متعاونين جدا معي رغم أن تلك الفترة عرفت عداء بين الشعب والكاميرا، حتي أنني عندما أٌغمي علي بسبب انفجار قنبلة غاز مسيل للدموع عند قدمي، لم أجد إلا المتظاهرين ليمدونني بالإسعافات الكاملة، ويحمونني". مثل السينمائيين وسائر المثقفين في مصر الآن، ينشغل الزرن وغيره من المثقفين التونسيين بمستقبل الإبداع في بلادهم، وله رؤية خاصة لتلك القضية يلخصها قائلا: "لقد قمنا بإسقاط ديكتاتور، وكان الإبداع في عهده يخضع للرقابة، ومن المفارقات أن الإبداع في تلك الفترة هو أن تتجاوز السلطة. واليوم، ننتقل إلي ديكتاتورية الفرد، حيث أصبح كل فرد من المجتمع قادراً علي أن يكون ديكتاتوراً، وهو ما يشكل خطرا علي الحرية. أما بالنسبة للمبدع فإنّ ذلك سيكون حافزا قويا للخلق والإبداع مع وجود الرقابة الذاتية، فالمبدع اليوم أصبح مهددا جسدياً ومادياً.. لا أعتبر أن الثورة بعد 14 يناير كانت ناجحة، كان لابد من إعطاء الأولوية لمسألتي الثقافة والوعي، بمعني فتح كل منابر الثقافة والفن حتي يستطيع كل مواطن أن يكتشف نفسه من جهة ويكتشف الآخر من جهة أخري، حتي يكون واعيا بما تخوضه البلاد وقادرا علي الإعداد للمرحلة الانتقالية.. لكن للأسف، بدلا من فتح هذه المنابر، تمّ تحويل المساجد من أماكن لذكر الله إلي منابر سياسية". أهم ما فيلم "ارحل"، أو "الشعب يريد" (يحتوي التتر علي العنوانين)، أنه ينسب الثورة التونسية إلي أصحابها الحقيقيين من الشباب المكافح الباحث عن لقمة عيش شريفة، والذي كان يعاني الظلم والتعنت تحت حكم بن علي ونظامه.. وفي الفيلم حكايات موجعة عن الباعة الجائلين من أمثال البوعزيزي الذين كانت البلدية تتعسف معهم وتستولي علي بضائعهم وأهم وأغلي ما في جعبتهم (الميزان) بحجة عدم حصولهم علي التراخيص اللازمة للبيع في الشارع، علما بأنهم كانوا يحصلون علي بضاعتهم بالأجل، ويستأجرون العربة، أي لم يكونوا - في الحقيقة - يمتلكون شيئا. ويدين الفيلم محترفي اختطاف وركوب الثورات من الساسة ومسئولي الأحزاب، الذين يمدون أياديهم لقطف ثمار الثورة من دون مراعاة حقوق من زرعوها ورووها بدمائهم.. وتتجلي الإدانة في صرخة تطلقها خالة الشهيد البوعزيزي قائلة: "لا نريد أن تقولوا (أم الشهيد راحت وأم الشهيد جاءت).. نريد حقوق هذا الشهيد وإخوانه".

جريدة القاهرة في

04/09/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)