عندما يتقدم العمر بالفنان المصري، فهو يتعرض لنوع من المهانة او
لأنواع منها كل حسب قيمته وقدره وتاريخه! ويصبح امامه احد خيارين أما أن
يجلس علي مقهي بعرة ، في منطقة نصف البلد، مع طائفة الكومبارس ومممثلي
الادوار الثانية والمجاميع، وإما لو كان من سعداء الحظ ، يدخل جراج
التليفزيون، ويلعب بطولة مسلسلات او يشارك في بعض الافلام التي يلعب بطوتها
أحد النجوم الشباب، ولكن أن يحلم اي نجم ممن تخطو الستين أن يقدم فيلما من
بطولته، فهذا درب من الجنون والعتة، لم يحدث في تاريخ صناعة السينما عندنا
الا في اضيق الظروف والاحوال! أما في السينما الأمريكية، وبقية سينما
العالم المتقدم، يمكن جدا ان تجد عشرات الافلام التي تدور موضوعاتها حول
رجل طاعن في السن، والاهم من أن تجد شركة منتجه لهذه النوعية من الافلام،
أن تجد ايضا جمهوراً، يقبل علي مشاهدتها ، أحدث أفلام النجم المخضرم روبرت
دي نيرو "79 سنة" هو " أن تكون فلين" أو
being flinn" "، ويشارك في البطولة الممثل الشاب بول دالوور وجوليان مور ، أما
المخرج وكاتب السيناريو فهو "بول ويتس" وقصة الفيلم مأخوذة عن رواية "لنايك
فلين"! وهي من روايات السيرة الذاتية، وتروي عن علاقة شاب علي مشارف
الانهيار والضياع ووالده العدمي، البوهيمي، الذي تخلي عنه هو والدته منذ ما
يقرب من عشرين عاماَ! الطريق إلي الجراج أحداث الفيلم تروي من وجهة نظر
الاب جوثان فلين ، او روبرت دي نيرو، ومقاطع منها تروي من وجة نظر الابن،
مع المشاهد الاولي، نتابع روبرت دي نيرو وهو يسير حاملا حقيبة علي كتفه،
متجهاً الي جراج، بينما صوته يعلق قائلا، في امريكي ثلاثه كتاب للرواية
الكلاسيكية، مارك توين ، وج .د . سلينجر ، وانا جوناثان فلين، كل ما أكتبه
تحف فنية، وقريباً جدا سوف تدركون موهبتي، وربما تحصل إحدي رواياتي علي
جائزة نوبل! يقول تلك الكلمات ثم يدخل الجراج ليستقل سيارته، ونكتشف إنها
سيارة اجرة، وإن جوناثان فلين، الذي يؤكد انه كاتب رواية بارع، ما هو إلا
سائق سيارة اجرة في مدينة بوسطن، ثم مع تقدم الاحداث نكتشف ايضا انه رجل فظ
الطباع، يعيش في حجرة حقيرة ، في منزل متواضع، ولكنه يبدو راضياً الي حد ما
بحالة، طالما وجد سقفاً يحتمي به، ووسيلة لكسب العيش، ونلحظ انه شديد الحرص
علي أن يعلق علي حوائط منزله صورة لزوجته الجميلة"جوليان مور" التي يعتبرها
اجمل امرأة وقعت عليها عيناه، وصوره لابنه الطفل "نايك" الذي لم يشاهده من
سنوات، وسرعان مايفقد جوناثان منزله الذي كان يحتمي به، بعد طرده منه
لاعتدائه علي أحد جيرانه. وتبدأ حياته في الانهيار بسرعة مطردة، فقد تحايل
علي حرمانه من منزله، بالنوم في سيارته ليلا، وقضاء حاجته في الحمامات
العامة، ولكن الحال لم يستقر معه، حيث يتم سحب سيارته ورخصه، بعد القبض
عليه وهو يقودها وهو مخمور، ولم يعد له مكاناً يأويه غير الارصفة، ورغم كل
ذلك، فهو لايكف عن الكتابة، وتسجيل كل ما يمر به من أحداث وتعليقه عليها،
ويعتبر ان كنزه الحقيقي ، هو ما يحمله في حقيبته التي يعلقها علي ظهره، ولا
يتركها مطلقها لأنها تضم عمله الأدبي الذي سوف يهز الدنيا! ويقيمها ولا
يقعدها إلا بعد أن تعترف بموهبته! طوابير طويلة وعلي الجانب الآخر يعيش
الابن الشاب" نايك" مع والدته، جوليان مور، التي عاشت سنوات شبابها في حالة
انتظار زوج، هجرها ولم يفكر في العودة اليها مرة اخري، وعندما ايقنت أنه لن
تراه مرة اخري، قررت الانتحار، لتترك لابنها مشاعر الوحدة والحسرة،
والإحساس الدائم بأن والده، هو سبب كل ازمات حياته، والغريب أن نايك الذي
لم يشاهد والده حتي وصل الي سن الشباب، قد ورث عنه، عشق الكتابة وتسجيل كل
مايمر علي حياته من أحداث في كشاكيل يحتفظ بها، دون أن يفكر او يخطط لأن
يصبح كاتباً، ويضطر نايك في العمل في بعض المهن، المتواضعة كي يجد قوت
يومه، حتي ينتهي به الامر للعمل في إحدي المؤسسات التي ترعي المشردين،
وتوفر لهم مكانا للنوم، وتناول وجبات مجانية، ويفاجأ نايك بوالده، ضمن
هؤلاء المشردين الذين يقفون في طوابير طويلة، للحصول علي فرصة للمبيت في
المؤسسة، ويكون اللقاء الاول بينهما باردا جافا، لايحمل حتي لوماً، او
عتاباً، ولاتبادل اشواق، ولايكف الاب البوهيمي، عن إرتكاب الحماقات التي
تزيد حياة ابنه شقاء، ولكنه يتحمله احياناً، ويضج منه احيانا اخري، حني
يقرر أن يقرأ أوراق والده الذي يدعي انها عملا ادبيا سوف يزلزل الحياة في
امريكا، ويفاجأ فعلا أنها قطعة ادبية شديدة البلاغة والجمال! يحقق جوثان
فلين ، درجة من الشهرة والثراء بعض طبع رواياته وتوزيعها، رغم أنه علي
مشارف الثمانينيات، اما ابنه نايك، فهو يكمل دراسته ويتخصص في تدريس فنون
الشعر، وينشر كتابا لاشعاره، ليحقق الأب والابن معا نجاحا ملحوظا في دنيا
الادب! تحت الكوبري يصور الفيلم دنيا العشوائيات وحياة المشردين في امريكا
لتكتشف أن تعدادهم يصل الي عدة ملايين، وأن هناك من ابناء العم سام، من يضر
للمبيت تحت الكباري وعلي الأرصفة، ولايجد سقفا يحميه من حرارة الجو صيفا،
ومن أمطار الشتاء وصقيعه! وتتعجب ان بلاد الاحلام واقوي دول العالم تضم هذا
الكم من المواطنين التعساء، ومن المناطق العشوائية، التي يقرف اللمبي
واقرانه من الحياة فيها! وطبعا لم يظهر بين الامريكيين من يدعي ان فيلم" أن
تكون فلين" يشوه المجتمع الامريكي، او يعطي صورة سئية عنه! روبرت دي نيرو،
ممثل عظيم كالعادة، وهو هنا يعطي دروسا في الاداء التمثيلي لكل من يفكر في
احتراف مهنة التمثيل، ويجعلك تعشق شخصية "جوناثان فلين" بكل ما فيها من نزق
وتهور وفجور، أما علاقته بابنه الوحيد، فهي من أجمل ماقدمته السينما
الأمريكية في السنوات الأخيرة!
جريدة القاهرة في
17/07/2012
وحيد حامد .. جائزة النيل تختار من
يحملها
بقلم : د. ياقوت الديب
لاتقاس قيمة الانسان الاجتماعية وقامته الثقافية بكم مايحققه من
اعترافات بتميزه أو شهادات تقدير لأعماله أو دروع تكريم تحتفي به، بقدر
ماتقاس بمدي عطائه لمجتمعه وللناس من قيم التنوير ومفاتيح الرؤية ومشاعل
البحث عن الحقيقة وسط دروب الثقافة ودهاليز الفن وخبايا الأدب.. وفي هذه
الرحلة الفكرية الشاقة التي تستنزف صاحبها الوقت والعرق والجهد والدم في
بعض الأحيان وتعرضه لضغوطات من كل حدب وصوب، وتصويب سهام الحقد والكراهية
للنيل منه، نجد فارس الرحلة وربان سفينتها يتعرض لكل أنواع الأذي والبلاء
ويقع في مواجهة شرسة مع حفنة من المتنطعين ومأجوري الفكر الرجعي المتخلف،
الداعين لتجريم حرية الرأي وتحريم الابداع، ظنا منهم بأنهم الأوصياء علي
مقدرات العباد وحامين حمي البلاد، وهم بالتأكيد واهمون ومخادعون لأنفسهم
قبل أن يخدعوا الآخرين. وهذه حقيقة الصدام بين تيارات الوعي ودعوات التخلف،
في وقت أحوج مانكون فيه لأعمال العقل وتغليب المنطق والتحلي بالحكمة، فعالم
اليوم ينطلق من تكنولوجيا "الفيمتو ثاتية"، وغزو الفضاء، وعصر الربوت،
وعلوم الحاسب الآلي وتطبيقاتها، وتكنولوجيا الاتصالات والـ "بلاك بيري"،
والمفاعلات النووية، والزراعة بالأنسجة، وقهر السرطان بذرات الذهب، وتحلية
مياه البحر المالحة.. أين نحن من كل هذه الانجازات البشرية التي تخلفنا
عنها تماما ووقفنا عند حد الاستهلاك أو الفرجة، مما ينذر بخطر يتهدد كياننا
كأمة تضرب بجذورها تاريخا هو الأعظم وحضارة هي الأشهر وشعبا هو الأقدر. دور
الفكر من هنا نشعر بقيمة الكلمة ودور الفكر وعظمة الابداع، اذ بدون هذه أو
ذاك أو تلك، لن تقوم لنا قائمة وسط عالم يلهث وراء مسايرة قرن جديد يحدوه
الأمل في تحقيق المزيد من التقدم والازدهار والرقي، والذي لن يتحقق بأي حال
دون ارساء قواعد "حرية الرأي والفكر والابداع".. . هذا هو الأساس الذي
لايقبل التشكيك أو التأويل في صحته وفق المنطق وطبيعة الناموس البشري،
والذي يتطلب لتحقيقه رجالا قادرين علي مواجهة التحديات والصعاب وفرض كلمة
سواء ومناصرة رأي وترسيخ مباديء الحق والخير والجمال. الكاتب الكبير "وحيد
حامد" لاتحتاج فطنة أي منا دليلا لأقرار حقه في أن نرفع له القبعة علي
المستوي الانساني، ونقف له احتراما علي المستوي الابداعي، ونعترف تبجيلا
وتعظيما لدوره التنويري الفعال في مجال الفن والأدب.. هو المناضل بالكلمة
والمحارب الشريف والانسان الغيور علي وطنه وتاريخه وحضارته، الذي لم ولن
تروعه التهديدات أو تخيفه الدعاوي القضائية أو ترهبه تحديات حفنة المرتزقة
وضاربي الدفوف وحملة االمباخر في أفراح وليالي ملاح لمن فرضتهم علينا
الأيام الخوالي وقفزوا علي كل القمم وطمعوا في كل شيء. الكاتب الكبير "وحيد
حامد" واحد من المهمومين بقضايا المجتمع والناس لاجدال ولامبالغة ولاتملق
منا، وليس معني حصوله علي أرفع جائزة ثقافية في مصر ـ جائزة النيل في
الفنون ـ هو التثمين الحقيقي لوزن هذا الرجل.. . ربما يكون هذا اعتراف رسمي
بمجهوداته وعطاءاته علي مر مايقرب من نصف قرن من الزمان، الا أن التتويج
الحقيقي الذي يبحث هو عنه يتمثل في وصول رسالته التثقيفية التنويرية الي كل
الغيورين علي تراب هذه الأرض المصرية التي حفظت عليها حضارات وشهدت ممالك
وامبراطوريات وتعلق في جذورها تاريخا بشريا من نوع خاص وشكل مختلف. مواهب
متعددة والمتأمل لانجازات "وحيد حامد" يتعجب من امكانات هذا الرجل وتعدد
مواهبه وثقافته الموسوعية العريضة، هذه الامكانات وتلك الموهبة خرجت علينا
في شكل أعمال فنية جديرة بالدراسة والاحتفاء والوقوف أمامها طويلا لفهم
أبعادها ومابين سطورها، سواء تمثلت في: أفلام سينمائية أو مسلسلات
تليفزيونية أو مسرحيات أو مسلسلات اذاعية.. في كل منها يحرص "وحيد حامد"
علي توحيد فحوي رسالته والهدف منها، لالمجرد تنويع وسيلة التوصيل بقدر ماهو
اثبات مقدرة وتفوق في الألمام بخبايا كل وسيلة علي حدة، وكيفية الاستفادة
من امكاناتها الفنية في التوصيل والتفاعل مع الناس، ومن هنا يحاول "وحيد
حامد" الوصول لأنسب وسيلة للتوصيل وقد نجح لحد بعيد، فما كتبه للسينما هو
مايصل للناس بسلام عن طريق السينما وما كتبه للمسرح من الضروري أن يشخص
ويقال علي خشبته وما كتبه للدراما التليفزيونية فقد وجد أن التلفزيون
بامكاناته هو وسيلة التوصيل المناسبة لهذه الدراما.. معني الكلام أن "وحيد
حامد" يمتلك الخبرة الواسعة بالعناصر الفنية التي تمتلكها السينما أو
التليفزيون أو المسرح أو الاذاعة، مما يسهل مهمة باقي طاقم العمل سواء
فنيين أو فنانين، وساعده علي تحقيق هذا التميز دراسته لعلم الاجتماع الذي
مكنه من رسم شخوص أعماله وأبعادها المتكاملة من دم ولحم مصري وانساني خالص.
قدم صاحب جائزة "النيل" للسينما (مؤلفا وكاتبا للسيناريو والحوار) عشرات
الأفلام منذ عام 1977، حيث قدم أول أفلامه "طائر الليل الحزين" اخراج "يحيي
العلمي" بطولة "عادل أدهم" و"شويكار" حول مراكز القوي في مصر. وكان آخر
أفلامه "أحكي ياشهر زاد" اخراج "يسري نصر الله" عام 2009 أي منذ ثلاث
سنوات، إلا أن دراما التليفزيون كانت قد أخذته عن السينما منذ هذا التاريخ.
وبين هذين التارخين قدم "وحيد حامد" العديد من الأفلام مع أشهر مخرجي
السينما المصرية يأتي "سمير سيف" صاحب الرصيد الأكبر حيث قدما معا ثمانية
أفلام بدأت بفيلم "غريب في بيتي" عام 1982 بطولة "نور الشريف" و"سعاد حسني"
وانتهت بفيلم "ديل السمكة" عام 2003 . ومع المخرج "شريف عرفه" قدم "وحيد
حامد" ستة أفلام كان أولها "اللعب مع الكبيار" عام 1991 وآخرها فيلم "اضحك
الصورة تطلع حلوة" عام 1998 . ومع المخرج "عاطف الطيب" قدم "وحيد حامد"
خمسة أفلام أولها "التخشيبة" عام 1984 وأخر فيلم قدماه معا "كشف المستور"
عام 1994 . ومع المخرج "أحمد يحيي" قدم "وحيد حامد" أيضا خمسة أفلام كان
أولها "من الذي قتل هذا الحب" عام 1980 وآخرها فيلم "سمارة الأمير" عام
1992 وكان للمخرج "حسين كمال" مع "وحيد حامد" ثلاثة أفلام هي: "كل هذا
الحب" عام 1988 بطولة "نور الشريف" و"ليلي علوي"، "المساطيل" عام 1991، و
فيلم "نور العيون" قصة "نجيب محفوظ" عام 1991. كذلك للمخرج "محمد ياسين"
ثلاثة أفلام مع "وحيد حامد" هي: "محامي خلع" عام 2002، "دم الغزال" عام
2005، وفيلم "الوعد" عام 2008. أما المخرج "نادر جلال" فكان له مع "وحيد
حامد" فيلمين: "رجل لهذا الزمان" عام 1986، و"ملف سامية شعراوي" عام 1988
الي جانب العديد من مخرجينا الكبار ممن كان لهم حظا من كتابات "وحيد حامد"
السينمائية منهم: خيري بشارة في فيلم "رغبة متوحشة" عام 1992، "علي عبد
الخالق" في فيلم "بنات إبليس" عام 1984، "سعيد مرزوق" ـ شفاه الله ـ في
فيلم "قصاقيص العشاق" عام 2003، "مروان حامد" في أولي تجاربه فيلم "عمارة
يعقوبيان" قصة "علاء الأسواني"، وعدد آخر من المخرجين والمخرجات لايتسع
المجال لذكرهم. أما مايلفت النظر في هذا الكم المتميز من الأفلام التي
قدمها الكاتب الكبير "وحيد حامد" فيتمثل في أن النجم الزعيم "عادل امام"
كان له نصيب الأسد من القيام ببطولتها والتي بلغت تسعة أفلام، ظني أنها علي
الرغم من طابعها أو قالبها الكوميدي الا أنها تتناول قضايا اجتماعية
وسياسية ساخنة تحتاج الانتباه وتتطلب الوقوف عندها، بعد أن رصدت معاناة
وآلام المساكين والمهمشين في مصر، وكل فيلم منها يدق ناقوس الخطر الداهم،
تنذر وتحذر من وقوع كارثة محدقة وغضب ينتظر لحظة الانفجار. بدأ هذا الثنائي
المتميز بين: "حامد" و"الزعيم" بفيلم "انتخبوا الدكتور سليمان عبد الباسط"
اخراج "محمد عبد العزيز"عام 1981، أما أخر هذه الثنائية فقد كان فيلم
"عمارة يعقوبيان" اخراج "مروان حامد" عام 2006. وفي هذا الصدد لابد لنا من
الوقوف أمام نماذج من أفلام ثنائية "وحيد و عادل" المتميزة علي المستويين:
الجماهيري والنقدي ومنها: "اللعب مع الكبار"، "الأرهاب والكباب"، "طيور
الظلام"، "النوم في العسل".. هذه الأفلام التي تناولت قضايا اجتماعية
وسياسية شائكة في وقت كانت مصر فيه تحت حكم استبدادي بوليسي ديكتاتوري
يسيطر علي البلاد والعباد بقبضة حديدية كان يظن أنه لافكاك منها ولاخلاص.
مجالات أخري لم يقف عطاء "وحيد حامد" الكاتب الكبير قامة ومقاما عند
السينما، بل تعدي لمجالات ابداع فنية أخري، فقد كانت للدراما التليفزيونية
من موهبته بعض من نصيب حيث قدم العديد من المسلسلات التي تشكل إحدي علامات
التميز في هذا النوع من الدراما . لعل أبرزها: "أحلام الفتي الطائر" اخراج
"محمد فاضل" عام 1978 بطولة الزعيم "عادل امام"، "البشاير" اخراج "سمير
سيف" عام 1987، "العائلة" اخراج "اسماعيل عبد الحافظ" عام 1994، "آوان
الورد" اخراج "سمير سيف" عام 2000، "الدم والنار" اخراج "سمير سيف" أيضا
عام 2004، أما أخر مسلسل قدمه "وحيد حامد" ـ ربما في جزأه الأول ـ
فهو"الجماعة" عام 2010 اخراج "محمد ياسين".. هذا المسلسل الذي يتناول
السيرة الذاتية لمؤسس جماعة مايسمي الاخوان المسلمين والذي أقام علي مؤلفه
الدنيا ولم يقعدها الي الآن من قبل أنصار تلك الجماعة التي تقوم علي غير
سند قانوني معترف به كما هو الحال لجميع الحمعيات الأهلية في مصر والتي
تخضع لقوانين الدولة في المراقبة المالية والرعاية الرسمية. لم يقف عطاء
الكاتب الكبير "وحيد حامد" عند السينما والتليفزيون، بل امتد ليشمل فن
المسرح، حيث قدم له بضع مسرحيات، كان أولها "جحا يحكم المدينة" عام 1971
اخراج "شاكر خضير" بطولة "سمير غانم " و"اسعاد يونس"، والمسرحية
الاستعراضية "كباريه" عام 1974 اخراج "جلال الشرقاوي" بطولة "نيللي" و"عمر
خورشيد". وقد أثبت "وحيد حامد" في كل منهما أنه قادر علي الكتابة للمسرح
بتمكن واقتدار ألا أنه للأسف لم يكرر التجربة. وبنفس النهج قدم "وحيد حامد"
للاذاعة مسلسلي: "لو كنت منافقا"، و"الدنيا علي جناح يمامة"، وبالمثل لثبت
لنا ولنفسه مقدرته علي التعامل مع هذا الوسيط الاعلامي المهم، وللأسف أيضا
لم يعاود التجربة وهولاشك قادر. بقي أن نشير الي أن الكاتب الكبير "وحيد
حامد" أمام هذا الكم من العطاء الفني المتميز لم ينل مايستحقه من الدولة من
التكريم والتقدير، الا أن حصوله علي جائزة "النيل" للفنون هذا العام ربما
يثلج جزءا من صدورنا، فهو لاشك يستحق الأكبر والأرقي من الجوائز وشهادات
التقدير، ويكفيه أنه استطاع "اللعب مع الكبار" وواجه بشجاعة فكر "الجماعة"
فربما في يوم ما يفيق "المساطيل".. هل من أمل؟
جريدة القاهرة في
17/07/2012
«التائب»
نجوم متلألئة في طريق
مسدود
بقلم : د.رفيق الصبان
مرة أخري يسجل المخرج الجزائري الكبير نقطة فاصلة لصالحه اطلقها في
فيلمه الأخير الذي أطلق عليه اسم «التائب» وعرض في مهرجان «كان» الأخير حيث
حظي بالتفات النقاد واجماعهم وشكل عرضه مناسبة مهمة لإحياء معالم الفن
السينمائي العربي في ربوع الأقطار الأوروبية والمتمثلة بقوة في مهرجان
«كان» السينمائي. «التائب» يتعرض لمشكلة حارقة مازالت الجزائر تعانيها حتي
الآن، وهي مشكلة الثوار الإسلاميين الذين فجروا الإرهاب الدموي في ربوع
بلادهم، قبل أن يستسلموا صاغرين وبعد أن فتكوا بألوف الضحايا الأبرياء نساء
ورجالا وأطفالا. قهر ودماء وقد شنت الحكومة الجزائرية بعد القضاء علي
«ثورتهم» هذه .. قانونا تتسامح فيه الدولة عن كل من أعلن قوميته وقدم سلاحه
للسلطات المعنية وذلك حرصا منها علي خلق جو من التفاهم والسلام الذي تبتغيه
للبلاد بعد سنوات طويلة من القهر والقتل والدماء . ليست هذه هي المرة
الأولي التي يلتفت فيها هذا المخرج الكبير إلي قضايا بلاده الحارقة.. فهو
منذ بداياته ومنذ فيلمه الأول الشهير «عمر قتلته» ينظر بعمق إلي ما يؤرق
مواطنيه ويضع يده علي الجرح الدامي الذي ينزف قطرات وقطرات دون توقف. في
فيلمه قبل الأخير «الحراقة» وهو اسم يطلق علي هؤلاء الحالمين بالهجرة إلي
البلاد الأوروبية والذي يخوض البحار خلسة وعلي قوارب قديمة مهترئة لكي
يصلوا إلي بلاد الأحلام إما جثثا طافية علي السطح أو فريسة بوليس قاس يتمكن
من القبض عليهم ما إن يصلوا إلي ما يعتقدونه «بر الأمان». الفيلم كان قاسيا
مدهشا يصرخ بلغة سينمائية عالية وتكنيك مرتفع ورؤية نابعة من القلب لمشاكل
البلد وهموم شبابها وأحلام صباياها. في «التائب» نحن أيضا أمام مشكلة
مماثلة ولكنها هذه المرة تدور علي الأرض اليابسة وليس في الماء والمالح،
إنها قصة «رشيد» الذي أعلن قوميته وقرر العودة إلي قريته الصغيرة التي
غادرها في يوم ما ليلتحق بركب الثوار المسلمين. إننا نراه في مطلع الفيلم
يجري علي قدميه في سهاب واسعة خالية من البشر والنبات ليطل علي قريته
الصغيرة ذات البيوت اللبنية المتواضعة ويطرق باب بيته لتفتح له أمه غير
مصدقة عينيها أن اللقاء بين أم حرمت من ابنها واعتقدت طويلا أنها لن تراه
ثانية قبل أن تموت وبين شاب يعتقد أنه قد ولد من جديد. انفجار ثورة أثر هذا
اللقاء الحار الذي يقدمه المخرج دون مبالغة أو تهويل عاطفي بتؤدة وشجن لا
يخفيان، لينتقل الخبر إلي أرجاء القرية حيث وصل خبر مجيء «التائب» إلي
سكانها البسطاء .. وتنفجر الثورة كالنار كيف يمكن لهؤلاء الذين فقدوا
أولادهم وأسرهم وأحرقت حقولهم واغتصبت نساؤهم أن يقبلوا مجيء «فرد» من
هؤلاء القتلة بينهم حتي لو أعلن قوميته وطلب غفرانهم. الدم المراق لا يعرف
الغفران.. وعيون الضحايا المماثلة في الذاكرة لا ينطفئ الاتهام الصادر
عنها. ولا يعرف «رشيد» كيف يواجه هذا السيل الغاضب الذي يطلب طرده من
القرية أو قتله وتصفيته أسوة بما فعل بهم هو وأقرانه إبان أيام الغضب.
وينصح الآن الحكيم ابنه الشاب بمغادرة القرية ومحاولة الهجرة عن البلاد بأي
شكل من الأشكال.. فالنار مازالت لاهبة .. والنفوس لم تعرف الهدوء رغم توقف
اطلاق الرصاص . ويغادر الشاب قريته الصغيرة متوجها إلي وهران هناك حيث يقدم
سلاحه لضابط الأمن المختص وفي حوار مدهش يدور بينهما يقول «رشيد» للضابط
وهو يقدم له مسدسه «سامحني يا أخي» فيرفض الضابط التسمية والنداء ويخبره
بأنه مجرد مواطن ينفذ أوامر عليا ولكنه لا يقبل أبدا أن يكون «أخا» له لذلك
فإنه يطلب منه مناداته باسمه دون أي صفة أخري. بل إنه ومن خلال فكرة عابرة
يقرر أن يساعده علي إيجاد عمل في مقهي يعرف صاحبه شريطة أن يكون «عينا» له
ينفذ أوامره حين تدعو الحاجة لذلك. وفي هذا المقهي يواجه «رشيد» التائب نفس
الجمهور والأرض الذي واجهه مع ضابط الأمن صاحب المقهي مضطر لأن يوظفه لكن
لا يسمح له بأية بارقة من تفاهم أو تسامح أو قبول. ويعتكف «رشيد» في غرفة
صغيرة ضيقة ومتسخة لا كهرباء بها ولا ماء منتظرا مصيرا أفضل. هذا المصير
يأتيه عند رؤيته لصاحب صيدلية كان قد ساهم مع رفاق له في اختطاف ابنته
اثناء الثورة لذلك يفكر باستقلال هذه المعرفة وأن يساومه علي مصير ابنته
مقابل مبلغ كبير من المال سيساعده علي الهرب من البلاد وبناء مستقبل آخر له
مادامت الأبواب كلها في بلده قد اغلقت في وجهه. وهنا يتخذ فيلم مرزاق علواش
اتجاها آخر مختلفا عن الاتجاه الأول.. خطوات التهديد .. والاتصالات
الهاتفية المقلقة واللعب علي عواطف أب فقد ابنته ومازال يراوده أمل ضعيف في
أن يراها حية. ويتصل الأخضر وهو اسم صاحب الصيدلية بزوجته التي هجرته بعد
اختطاف الابنة لأنها اعتبرته مسئولا بشكل ما عن هذا الاختطاف لأنه لم يلب
بسرعة مطالب الثوار التي فرضوها عليه.. مما أدي إلي اختطاف الابنة. وتعود
الزوجة إلي وهران لتشجع زوجها علي دفع الاتاوة المطلوبة والعثور علي الابنة
الغائبة. وهنا تبدأ مراحل الفصل الثالث من الفيلم وهو هذه الرحلة الطويلة
في سيارة الأب المكلوم والأم الحزينة مع «رشيد» الذي يقودهما إلي المأمن
الذي يفترض أن الابنة موجودة فيه ولكنه يضطر للاعتراف لهما بعد أن تقاضي
المال الذي طلبه بأن الفتاة قد قتلت علي أيدي الثوار وأنه سيقودهما فقط إلي
حيث دفنت. في هذا الجزء من الفيلم يتألق علواش بحوار مدهش يدخل إلي صميم
القلب ويكشف مشاعر الأب والأم ومشاعر «رشيد» الذي يعيش الآن تناقضا جذريا
يجبره علي مراجعة حياته كلها. لقد اضطر إلي أن يفعل ما فعله لكي ينقذ نفسه
بعد أن عرف من ابويه أن صديقا له قد عاد إلي القرية محاولا اكتساب رضا
أهلها ولكنه قتل ذبحا أمام أولاده وزوجته إلي أن العودة إلي الديار أصبحت
مستحيلة علي «رشيد».. وعليه أن يفكر بمخرج لأزمته التي تزداد ضيقا. فهو لا
يرغب بأن يكون عينا للشرطة بعد أن كان واحدا من الثوار ولا يمكنه أن يعيش
في قريته وليس أمامه إلا حل واحد هو الذي ارتضاه لنفسه علي حساب عواطف أم
جرحت في أعماقها وأب يحاول أن يكفر عن خطيئته. وضع درامي النهاية الأليمة
التي يضعها مرزاق علواش للفيلم تقول الكثير وتسدل ستارا أسود علي وضع درامي
متأزم لا لون من التائبين الذين هبطوا من سمائهم العالية ولم يجدوا أرضا
تستقبلهم فظلوا معلقين في الفضاء فريسة للنسور تأكل أكبادهم. فيلم وضع فيه
مرزاق علواش كل حساسيته وكل نظرته للألوان التي تدور في بلده حاول أن يصل
إلي أغوار القلب البشري بكل متناقضاته وكل أسراره وكل ضعفه وهوانه حلق
عاليا بتكنيك سينمائي مرهف وبإدارة حازمة للممثلين جميعا حتي في الأدوار
الثانوية البسيطة ومن خلال كاميرا، ثم توقف عن لعب دور كبير يعادل في حركته
الحركة الدرامية لشخوص الفيلم. «التائب» طلقة أخري يطلقها المخرج الكبير في
سماء السينما العربية .. طلقة تنبعث منها نجوم كثيرة متلألئة واحساس مرهف
عن بلد يتمزق ويحاول أن يجد لنفسه طريقا نرجو ألا تكون كهذه الطريقة
المسدودة التي سار عليها تائبنا الحزين.
جريدة القاهرة في
17/07/2012
نقاد وكتاب السينما يتحدون ضد هجوم
الفنانين
بقلم : نسرين السعداوي
ردا من النقاد علي الفنانين في تحقيق النقد في أزمة وآراء وتصريحات
بعض الفنانين عن النقاد آثارت حالة من الجدل لدي النقاد بسبب عدم فهم بعض
الفنانين الفرق ما بين الصحفي الفني والناقد الفني والخلط بينهما يؤدي إلي
سوء الفهم وظلم للنقاد الحقيقيين: < فيقول الناقد د.أحمد يوسف: بعض
الصحفيين يعملون بالصحافة الفنية ومطلوب منهم تغطية الصفحات الفنية وليس
لديهم أي علاقة بالنقد السينمائي وغير متخصصين لأن النقد دراسة والسبب كثرة
عدد الجرائد والصحف التي وصل عددها إلي 300 جريدة وهذا لا يسمي نقداً بل
يسمي «رفيو» ويعني مراجعة صحفية ولا يسمي نقداً وهذا موجود بكل صحف العالم
ولكن هنا في مصر يحدث خلط ما بين الصحافة الفنية التي تقدم خدمة للقارئ
والنقد، فالناقد لابد بالفعل أن يكون دارسا لكل أنواع الفنون ابتداء من
الفنون التشكيلية وإضاءة وديكور مروراً بدراسة علم الموسيقي والغناء
والتمثيل والكتابة وختاما بالإضاءة وفن الديكور والإخراج، يعني الناقد يجب
أن يكون موسوعة ثقافية لانه يتحمل علي عاتقه مسئولية العمل الفني وحاكما
عادلاً للأعمال الفنية وللأسف كثيرون من رؤساء التحرير يعتبرون صحفيين الفن
مثل قزقزة لب لتسلية وترفيه القارئ والتعامل معهم ليس بجدية رغم أن مقياس
الجريدة الجيدة هو صفحتا الفن والرياضة واللتان يقبل عليهما القارئ ورغم أن
لدينا هذا العدد الهائل من المطبوعات لا توجد عندنا مطبوعة نقدية موضوعية
واحدة باستثناء بعض المجلات الفنية التي كان بها نقد موضوعي واختفت كمجلة
«الفن السابع» و«أبيض وأسود» لكنها لا تصل للقارئ ومجلة «Good news for you»
جود نيوز فور يو لعمادالدين أديب. وللخروج من هذه الأزمة لابد أن تعود
المطبوعة الشهرية التي كانت تصدر كنشرة عن جمعية نقاد السينما المصرية وكان
يكتب بها نخبة نجوم الكتابة أمثال: سمير فريد، علي أبوشادي، كمال رمزي،
أبوالعلا السلاموني، وآخرين وكنا نكتب بها مجانا رغم أنها كانت طباعتها
قديمة ولكننا كنا نسعي بذاتنا جميعا لأنها كانت بمثابة ورشة حقيقية لتدريب
النقاد والشباب برعاية نجوم النقد وكانت تقدم النقد الصادق الموضوعي للقارئ
البسيط العادي، وأيضا لابد من عودة نادي السينما لتدريب جيل جديد من الشباب
علي النقد. ونجاح فيلم رديء ماديا كان ينبغي ويستحق وقفة لدراسة وتحليل هذه
الظاهرة الغريبة حتي لا تتكرر هذه المأساة وتساعد علي انتشار وتفشي القبح
الفني وللأسف هذا لم يحدث بسبب عدم وجود جريدة نقد موضوعية مما ساعد علي
تدهور الفن والنقد معاً. يؤكد الناقد الفني نادر عدلي عدم وجود ناقد واحد
يعمل لدي أي فنان ويجب أن يفهم الناس وتفرق بين الصحفي الفني والناقد الفني
وحتي الصحفيين ليسوا متساويين فالصحفي المتميز لا يعمل مستشاراً لدي أي
فنان والصحفيون الذين يعملون مستشارين هؤلاء المرتزقة الذين لا يحترمون
المهنة وأتحدي أي أحد يقول علي اسم أي ناقد واحد يعمل مستشارا لدي أي فنان.
والنقاد عددهم مابين ستة أو سبعة نقاد فقط ودائما عدد النقاد قليل جدا حتي
في دول العالم والباقي صحفيون فنيون والناقد لا يحصل علي هذا اللقب إلا إذا
كان دارسا بالفعل لأنه الفاصل في لجان التحكيم والأفلام المعروضة في أي
مكان وزمان وثاني مهرجان دولي، ومَنْ هذا الفنان من عالم السينما حتي يحكم
علي نقاد مصرو يبدي رأيه فيهم بأنهم غير دارسين؟ وإذا استمعنا إلي آرائه
هذا يعني أن دنيا النقد والفن صارت في عالم الخراب والدمار، فليس كل من
يقول فتوي نسمعه! يري الناقد د. رفيق الصبان النقد والنقاد بخير وتمام وكل
شيء علي مايرام ولكن السينما هي التي صارت رديئة جد لدرجة أن النقاد لم
يجدوا المادة الفنية التي تستحق النقد والمجادلة فالسينما هي التي في أزمة
منذ فترة وليس النقد، ابحثوا عن الأيديولوجية السينمائية أولاً. يشير
الناقد والكاتب بهاء طاهر إلي حالة اليأس التي أدت إلي الملل الذي ينتج عنه
الجمود ويعني الموت بالحياة فالموت بالحياة يعني موت الإحساس والضمير
والتذوق نتيجة القهر وعدم وجود عدالة اجتماعية والوساطة والمحسوبية في كل
شيء حولنا حتي أن الشباب المصري كان يموت منتحرا علي شواطئ أوروبا والفن
بطبيعته يعكس الواقع كمرآة شفافة للمجتمع فكانت الأفلام الرديئة التي يقبل
عليها الجماهير نتيجة موت الإحساس بالجمال بداخلهم ومن الطبيعي أن يفقد
النقد تأثيره علي الجماهير والفنان الذي يعنيه فقط الإيرادات التي تعتبر
المؤشر لنجاحه أو فشله وعودة العدل والحرية والخير والنور هي السبيل الوحيد
لاستعادة الجماهير وعيها وذوقها وبالتالي سيعود للنقد دوره المؤثر عند
الجماهير والفنان. < تعليق الناقدة إيريس نظمي علي الحديث بقولها: النقد
علم قائم بذاته والمفروض يدرس بمعاهد وكليات وأكاديميات لدراسته جزئيا
وكليا وبكل اتجاهاته وألوانه وفي دول العالم حتي الصحفيين الفنيين لابد من
دراستهم للنقد بشكل بديهي حتي يستطيعوا التحليل والتعبير والكتابة الفنية
الموضوعية عن فهم ودراسة وللأسف هنا كل من كتب بالفن يتوهم نفسه ناقداً وكل
من أبدي رأيه البسيط في عمل فني ما يعتبره البعض ناقداً وهذا ظلم للناقد
الحقيقي والنقد الفني كسيف الجلاد العادل من أجل سمو ورقي وتطوير العملية
الفنية التي ينعكس تأثيرها علي المجتمع وكان من المفروض افراز جيل جديد من
النقاد يكفي لكل هذه الأعداد الهائلة من المطبوعات ولذا اختلط الحابل
بالنابل وحتي أن بعض الفنانين والجماهير لم يستطيعوا أن يفرقوا ما بين
الصحفي الذي يبدي رأيه لمواطن عادي والناقد الفني. < تتساءل الناقدة: خيرية
البشلاوي بسخرية: وأين الإنتاج السينمائي الذي يستحق النقد؟ فكل الأعمال
السينمائية في الآونة الأخيرة كسندويتشات الحواوشي وصناع السينما الآن من
الفئة التجارية الذين لايهتمون بالثقافة أوالفن وطبيعي انهم لا يهتمون
بالنقد وكل همهم عمل فيلم من توليفة معينة للاستهلاك المحلي علي حساب
القيمة الأدبية والإنسانية والفنية للسينما، عمل بعض الصحفيين مستشارين لدي
الفنان فهذا نظام سائد منذ عصر أم كلثوم وحليم وفاتن حمامة حينما كانت
الثقافة هي المهيمنة وبالتالي الصحافة الفنية كانت في أبهي عصورها وقيمة
تألقها وتوهجها ولذاكان يستعين بها الفنانون لخدمتهم فنيا وجماهيريا وهذا
ليس عيبا بل بالعكس فهذا اعتراف وحرص من الفنانين علي أهمية النقد الفني
والثقافي لدي الجماهير التي كانت تمتلك وقتذاك الحس الفني والآن حدث العكس
نادراً ما نجد صحفياً فنياً يعمل مستشارا لدي فنان بسبب التجاهل
واللامبالاة بالثقافة والتي أهم ضلوعها النقد بالإضافة إلي الدراما
التليفزيونية التي سحبت البساط من السينما واتجه الجميع للكتابة الدرامية
والردة الثقافية لدي الجماهير الذين هم المؤشر لنجاح العمل الفني وراء رواج
السينما الرديئة وكل ذلك يرجع إلي المنظومة الحياتية بالكامل لأن الكل
مرتبط ارتباطاً عضويا ببعضه وهل يعقل أن توجد ثقافة وفن ونقد في بلد تغطيه
الزبالة من كل جانب؟ < تستطرد الحديث الكاتبة فتحية العسال بقولها: في
الآونة الأخيرة تدهورت المنظومة التعليمية بالكامل ونتيجة ذلك افراز جيل من
الجماهير رافضا للثقافة والفن اللذين هما أساس التذوق بالجمال وهو مظلوم
لأنه نشأ في مناخ ملوث ثقافيا وفنيا منذ نعومة أظافره وهؤلاء الشباب هم
المخرج والفنان والناقد والذين هم في الأصل أيضا جماهير وكانت أهدافهم
الشهرة وجمع المال فقط علي حساب أمية الشعب وهكذا انتشر التدهور الفني
والثقافي حتي صار القبح مباراة ومنافسة بين الفنانين وتبعتها موضة
اللامبالاة بالنقد وتفشي الفساد من حولنا ومن كل جانب، ولكن الأمل موجود في
صفوة شباب مصر المخلصين أبناء الثورة من الأدباء والفنانين الذين سوف
يعيدون بناء منظومة جديدة لاعادة الأوضاع إلي مسارها الطبيعي إن شاء الله.
الخلاصة - إعاة هيكلة المنظومة التعليمية لغرس الثقافة والفن منذ الطفولة
لافراز جيل من الجماهير لديه سعة أفق وصدر وحسن استقبال للثقافة والفن. -
إقامة ورش ومعاهد وأكاديميات لتدريس النقد بكل فروعه لافراز جيل جديد من
النقاد يوازي عدد المطبوعات. - لابد من ثورة داخلية وخارجية منظمة مشتعلة
بالعدل والخير مفعمة بالحب والجمال ليستعيد الجمهور وعيه وذوقه.
جريدة القاهرة في
17/07/2012
ســــــــينما ثـورة يوليو..
الأفــلام حاضـرة والثـــــــورة علي المعــاش
بقلم : محمود قاسم
سيبقي ما حدث لفيلم "الله معنا" لغزاً كبيراً، باعتبار أنه أول فيلم
متكامل، ومهم عن ثورة يوليو التي نحتفل هذه الأيام بعيد ميلادها الستين،
فهو الفيلم الأضخم، والأكثر مباشرة حول هذه الثورة، رغم أن أفلاماً كثيرة
تم انتاجها حول الموضوع نفسه، لكن لا شك أن أحمد بدرخان بتاريخه الوطني
والسينمائي، وأنه أحد الذين صبغوا الكثير من أفلامهم بالسمة الوطنية، خاصة
"الايمان" و"مصطفي كامل" ثم "سيد درويش" فيما بعد.. قد وضع كافة امكانات
ستوديو مصر لصناعة هذا الفيلم. رغم أن الكثيرين ممن شاركوا في الفيلم، قد
عاشوا سنوات الثورة وتحولاتها، فإن أحداً لم يتكلم عن السبب الذي جعل
الفيلم يوضع في العلب لمدة تقارب الأعوام الثلاثة، دون أن يعرض، خاصة أن
ثلاث من بطلات الفيلم لا يزلن علي قيد الحياة هن فاتن حمامة، وماجدة،
وسميحة أيوب، فإنه من المهم أن نسمع شهادتهن، أو احداهن علي الأقل، فيما
حدث للفيلم، وما هي الاضافات أو التغيرات الحادة التي طرأت عليه. ويبقي
اللغز ماثلاً، لو رجعنا إلي ما كتبه، أو ما قاله، صاحب الفيلم، وهو المؤلف
احسان عبدالقدوس، الذي بدا كأنه يعبر عن تجربته الخاصة، من خلال شخصية
الصحفي الذي جسده شكري سرحان، حيث بدا كلام المؤلف غامضاً، لا يتضمن أي
تفسير لما جري.. كما أنني لم أقرأ شهادة لأحد النقاد، أو الباحثين عما
حدث.. مجموعة من الأوراق المتناثرة، تجعل المرء يبحث، صورة منشورة في أحد
الكتب إلي جوار مقال حول زكي طليمات، حيث تبدو صورة الممثل في زي عسكري،
أقرب الشبه إلي محمد نجيب، وهو واقف إلي جوار فاتن حمامة، بطلة الفيلم، ابن
التاجر الثري الذي يتاجر في السلاح.. من الواضح أن الصورة التقطت خارج
أحداث الفيلم، لكن من الواضح أيضاً أن الرئيس محمد نجيب موجود في الأحداث
وباسمه.. وليس بأسماء مستعارة مثلما حدث لأغلب أبطال الفيلم، فنري ماذا كان
دور نجيب في الأحداث.. هل كان يحمل زكي طليمات اسم رئيس الجمهورية في تلك
الآونة، ولا شك أن اسناد الدور إلي ممثل في قامة طليمات، يعني ان دوره لا
يقل عن الشخصية التي جسدها حسين رياض الذي قام بدور زكور، أو محمود المليجي
الذي يقوم بدور تاجر السلاح الفاسد الذي تم توريده إلي الجيش في حرب فلسطين
عام 1948 . الغموض هذا الأسبوع فقط، وقعت بين يدي وثيقتان في مجلات، لن
يفسرا اللغز كله، ولكنهما سيحاولان القاء الضوء علي بعض الغموض، وربما أن
كلام المؤلف نفسه في كلام نشرته مجلة "صباح الخير" يزيد الأمر غموضا.
الورقة الأولي منشورة في مجلة "الكواكب" - 25 نوفمبر 1952 - أي بعد أربعة
أشهر فقط من قيام الثورة، أو حدوث الانقلاب حسب حماسك، وهي فترة قصيرة
للغاية لإعداد فيلم، لكن ما نشرته الكواكب يعطي الاحساس أن الفيلم كان قد
قطع شوطاً طيباً في الاعداد والانجاز، أي أنه تم تأليفه، وتجهيزه، وتصويره
كله أو بعضه في فترة قصيرة، ليساند الحدث الذي شهدته مصر في يوليو 1952.
هذه الوثيقة عبارة عن اعلان شهري منشور في صفحة من صفحات المجلة، تحت عنوان
"ستوديو مصر"، ثم "مجلة شهرية تصدر عن شركة مصر للتمثيل والسينما"، وقد ضمت
الصفحة صورتين، الأولي من أحد المشاهد المتقدمة من الفيلم لفاتن حمامة
"نادية" وعماد حمدي "الضابط" أما الصورة الثانية فهي لمحمود المليجي يحمل
مسدسا يوجهه في الظلام إلي شخص أمامه، هو ابن أخيه الضابط في الفيلم، وهناك
مادة تحريرية اعلانية تحت عنوان "الفن في خدمة الثورة"، أغلبها كلام دعائي
حول دور الفن وعلاقته بالثورة المباركة، أما الفقرة الثانية، فإننا ننقلها
بالكامل لأنها تكشف شيئاً ما عن الفيلم: "وقد كان استديو مصر أسبق الشركات
السينمائية إلي الاستجابة لرسالة العهد الجديد، بالسعي إلي تصوير مساوئ عهد
الطغيان، ونشر المبادئ التي قامت عليها الثورة المباركة وبيان أهدافها..
فأقدم الاستديو علي انتاج فيلم "الله معنا" الذي تتعرض قصته لمأساة الأسلحة
الفاسدة التي استشهد بسببها كثيرون من خيرة ضباط الجيش وجنوده، وكانت وصمة
لهؤلاء الطغاة المستهترين، وخيانة منهم في حق مصر.. وهكذا، وبمثل هذا
الفريق يجند ستوديو مصر الفن في خدمة الثورة المباركة، أي في خدمة مصر،
فيثب بالفن وثبة جديدة نحو النهضة والكمال.. السؤال هو إذا كان الفيلم قد
صار يوم 27 نوفمبر 1952، كياناً أقرب إلي الكمال، فمتي تمت كتابته، وكم من
الوقت استغرقت هذه الكتابة؟ وخاصة أنه في العمود التالي لهذه المادة
الدعائية خبران عن الفيلم الاول انه "وافق الرئيس محمد نجيب علي أن يمثل
الأستاذ زكي طليمات شخصيته في فيلم "الله معنا". أما الخبر الثاني فمفاده
أنه "أسندت مهمة ادارة الانتاج في استوديو مصر إلي اليوزباشي محمد حلمي
عبده ابراهيم"، للاشارة إلي عسكرة السينما، وخاصة أن هذا اليوزباشي سيكون
مسئولا في الاشراف علي انتاج الفيلم، وهو اسم لم نره قط في دفتر الفيلم من
ناحية، ولا علي عناوين الفيلم، حسبما نراه معروضا علي الشاشات. أنا
والسينما في مقال كتبه رشاد كامل في مجلة صباح الخير يوم 26 يناير 2010،
تحت عنوان احسان عبدالقدوس يتذكر: "أنا.. والسينما، وإلي جوار عناوين فرعية
من طراز: أنور السادات شاهد فيلم "الله معنا" في عرض خاص" و"الدسائس منعت
فيلمي الله معنا ثلاث سنوات وعبدالناصر أمر بعرضه.. تحدث احسان عبدالقدوس
يفسر ما حدث لهذا الفيلم بغموض أكبر، حيث يقول عبدالقدوس "كنا في العام
الاول من الثورة، وطلب مني أن أصور قصة الثورة في فيلم سينمائي، وكتبت
القصة.. قصة الضباط الأحرار والأسلحة الفاسدة والملك فاروق والأحزاب
القديمة، والصحافة والشعب.. وكنت مؤمناً أن الناس في حاجة إلي رؤية كل هذا
في قصة، وأن أسرع طريق وأقربه إلي الناس لتقديم هذه القصة هو العمل
السينمائي.. وسهرت ليال أكتب وأنا أحاول أن أكون سينمائياً.. وبذل ستوديو
مصر جهدا كبيرا حتي أصبحت القصة معدة للعرض السينمائي في مدة قصيرة، ولكن.
"كانت الثورة أيامها تجتاز مرحلة التنظيم، والاستقرار الداخلي، وقد تعرضت
هذه المرحلة بكثير من الاشاعات والدسائس، وكل هذا شمل فيلم "الله معنا"،
واحاطه بالكثير من الاشاعات كدت أنا شخصياً أروح ضحيتها مما أدي إلي أن
يبقي الفيلم مختبئاً داخل العلب الصفيح حوالي ثلاث سنوات، ومما أدي إلي أن
الرئيس السادات تردد بنفسه عدة مرات علي ستوديو مصر ليشاهد الفيلم في عرض
خاصة ساعيا إلي اطلاق حريته وعرضه علي الجمهور إلي أن كنت يوماً مع المغفور
له الزعيم الخالد جمال عبدالناصر، وجاءت سيرة "الله معنا" خلال الحديث،
فقرر الزعيم أن يراه بنفسه، وتفضل ودعاني إلي مبني الاستراحة التي كان يقضي
فيها أيام راحته في القناطر الخيرية، وهناك عرض الفيلم علي الرئيس وأنا
معه.. ودهش رحمه الله بعد أن شاهد الفيلم من كذب الاسباب التي كانت تتردد
والتي أدت إلي وقف عرضه، وأمر بعرضه فعلا.. وتفضل تحية وتأييداً للجهد الذي
بذل في هذا الفيلم وحضر بنفسه عرض الفيلم في سينما ريفولي، وربما كان هذا
أول فيلم يحضره جمال عبدالناصر، وبصفته الرسمية، حفل افتتاح عرضه، وكانت
هذه أول قصة سينمائية أكتبها وتعرض علي الشاشة، وبعدها عدت مبتعداً عن
العمل السينمائي!". تم نقل كافة ما نقله رشاد كامل عن احسان عبدالقدوس حول
الفيلم، ولا شك أن ما كتبه المؤلف يزيد الأمر غموضاً، ويدعو إلي المزيد من
التساؤلات، فالمؤلف لم يذكر قط مسألة وجود شخصية الرئيس محمد نجيب في
السيناريو، ولا المشاهد التي صورت للرئيس في الفيلم، كما أن احسان اعترف أن
الأمور كلها كانت في عجلة من الزمن، حتي أصبح الفيلم معداً للعرض السينمائي
في مدة قصيرة، يمكن أن نقول حسب توقعات ستوديو مصر أشهر قليلة، مارس عام
1953 علي الأقل، وليس 14 مارس أي بعد عامين ونصف. كما أن الذاكرة بدت كأنها
خانت المؤلف، حين أشار أن عبدالناصر حضر عرض الفيلم في سينما ريفولي،
والوثائق التي بين يدينا تقول ان العرض تم في سينما ستوديو مصر، التي
يمتلكها الاستوديو، وهذا خبر أكثر تصديقا. نسخة السادات لماذا لم يشر
المؤلف إلي نقاط مهمة، وهي أي نسخة شاهدها السادات، وأي نسخة شاهدها
عبدالناصر في العرض الخاص، لا شك أن الفيلم عرض جماهيرياً بعد خمسة أشهر من
ابعاد محمد نجيب عن الرئاسة وتولي عبدالناصر مقاليد الحكم، كما ان احسان
عبدالقدوس لم يشر إلي ما تكلم عنه من اشاعات ودسائس، ومن كانوا أطرافها، أي
أننا كنا في حاجة إلي المزيد من التفسيرات علي لسان المؤلف، فمن الواضح أنه
هو الذي كتب السيناريو الذي تم تصوير الرئيس نجيب في الأحداث، كما أنه لم
يشر إلي التعديلات التي حدثت، ومن كان وراءها، ومن الذي كتب السيناريو
الجديد، خاصة أن النسخة المعروضة يستغرق عرضها مائة دقيقة وعشر.. وهذه كلها
أمور غامضة، ولم يتم الكشف عن تفاصيل حدوثها حتي الآن، في العيد الستيني
للثورة. ولاشك أن ما حدث لفيلم "الله معنا"، كان يمكن أن يحدث لفيلم آخر هو
"رد قلبي"، الذي عرض في نهاية عام 1957، عن رواية نشرها يوسف السباعي في
عام 1954، أي قبل أن تنتهي أزمة الصراع علي السلطة بين عبدالناصر ونجيب
لصالح الأول، وفي النص الأدبي المنشور للسباعي، وهو موجود حتي الآن في كل
الطبعات، لم يمسسه أحد، فإن يوسف السباعي، الضابط، وزميل السلاح للضباط
الأحرار، قد اعترف أن نجيب هو أول رئيس للثورة، وأنه موجود ضمن أحداث
الرواية، لكن الضابط الآخر عز الدين ذو الفقار، الذي كتب السيناريو لفيلم
"رد قلبي" قام بتغيير خط الرواية، و"كشط" وجود محمد نجيب تماما من الثورة،
من أجل ارضاء الحاكم الذي صار في سدة الحكم، وذلك عندما تم تحويل الرواية
إلي فيلم ضخم الانتاج أنتجته آسيا، ودبرت له ميزانية ضخمة، ربما أكبر من
الفيلم السابق، فهو مصور بالألوان - سكوب، ومدة عرضه علي الشاشة وصلت إلي
مائة وخمسين دقيقة. الفيلمان يتحدثان عن الضباط الأحرار، وعن الثورة، وايضا
عن قضية فلسطين، ومزدحمان بأفلام كبار متعددين، وهناك أسماء مشتركة ظهرت في
الفيلمين مثل شكري سرحان، حسين رياض، عدلي كاسب، أحمد علام، وشارك في بطولة
هذا الفيلم ضابطا من سلاح الفرسان هو أحمد مظهر. إذا كانت سينما ثورة يوليو
قد بدأت رحلتها، بطمس التاريخ الحقيقي، وعرض فيلم "الله معنا" الذي يحمل
وجهة نظر ورضاء الرئيس الجديد في تلك الآونة، فإن السينما طوال حياة
عبدالناصر ظلت تقدم الحقائق ناقصة حتي عام 1970، حين عرض فيلم "غروب
وشروق"، لكمال الشيخ في السادس عشر من مارس أي قبل رحيل عبدالناصر بستة
أشهر علي الأقل وسوف نري أن كمال الشيخ الذي أخرج "شيء في صدري"، وعرض في
30 أغسطس 1971 عن رواية حول الثورة لإحسان عبدالقدوس، وكتب لها السيناريو
رأفت الميهي، فإنه ، من جديد، تم كشط ما يخص الثورة في الفيلم، ودارت
الأحداث فقط في زمن ما قبل الثورة، أي أن السيناريو تم تفريغه تماماً من
السياسة. محمد نجيب الآن، يمكن أن نري هذه الافلام التي شاهدها الناس
باعجاب ملحوظ منذ الخمسينيات حتي فترة قريبة، بشكل مختلف، ففيما بعد، وبعد
ان انتهي عصري عبدالناصر، والسادات، صار يمكن علي السينما أن تعيد وضع محمد
نجيب في اطار الصورة المتكاملة للضباط الأحرار، وذلك في فيلمين من أفلام
السيرة الذاتية وهما "جمال عبدالناصر" الذي أخرجه السوري أنور قوادري في
مصر عام 1997، وفيه يظهر كافة الضباط الأحرار بمثابة شخصيات ثانوية إلي
جوار كل من عبدالناصر والسادات، أي أنها كانت أقرب إلي الديكور، وقد صاحب
الاهتمام بظهور عبدالناصر في أفلام عديدة مع النصف الثاني من التسعينيات،
اهتماماً تابعاً بالسادات، وانتقل هذا الاهتمام إلي التليفزيون من خلال
مسلسلات عديدة. في هذه الافلام، كان هناك تمجيد ملحوظ بأشخاص صنعوا الثورة،
لكننا لم نر ابعاد الخلاف الذي دب بين ناصر ونجيب دراميا، أي أن السينما
طوال ستين عاما وقفت تساند الثورة حتي وان انقذتها في مرحلة ما، لكن هذه
السينما ما لبثت أن نظرت إلي الماضي "الثورجي" علي أنه أفضل من حاضر عقدنا
فيه معاهدات سلمية مع اسرائيل، وتم انتهاك الأرض العربية بواسطة قوات
أجنبية غاشمة. كنا قد تحدثنا في مقال منشور في القاهرة عن أفلام الثورة
المألوفة، التي تم انتاجها لتناصر هذه المرحلة، ورجالها، وانجازاتها، في
يوليو الماضي، وحتي لا نكرر الحديث نفسه، فإننا اليوم نتكلم عن سينما الفعل
الثوري، بمعني أنه ما إن رسخت ثورة يوليو علي المستوي السياسي، والاجتماعي
حتي تولدت حالة من الثورة في موضوعات السينما، بمعني أن السينما لم تقم
بثورة علي نفسها فقط وطورت موضوعاتها، بل صار التمرد، والثورة بمثابة
"موضة"، أو "تقليعة" تفخر بها السينما في موضوعاتها، حتي وإن لم يكن الفيلم
عن الثورة. وقد كانت البداية، حين عرض فيلم "مصطفي كامل" لأحمد بدرخان في
14 ديسمبر 1952، والذي قيل انه قد منع عرضه قبل الثورة، وان كان هذا الكلام
في حاجة إلي أدلة حقيقية، فلم نعرف أن هناك فيلماً مصريا منع من العرض
كاملا حتي الآن، فهذا فيلم عن واحد من أبرز المتمردين في مصر في بداية
القرن الماضي، ثوري سياسي، عمل بشكل فردي، وقد مزج السيناريو بين نشاط
مصطفي كامل، وبين ثورة 1919، أي أنه فيلم عن ثورة، وثائر، رغم أن مصطفي
كامل لم يعش أحداث ثورة 1919 فإن الفيلم عمل مزيجاً من خلال الاستاذ الذي
يقوم بالتدريس لتلاميذه، ويري أن أحد التلاميذ صورة جديدة من تلميذه القديم
مصطفي كامل، ثم تعود الاحداث إلي الوراء، لنري مسيرة الزعيم الثوري. وفي
الفترة نفسها ايضا عرض فيلم "يسقط الاستعمار"، لحسين صدقي، وهو أيضا مكتوب،
وتم انجازه قبل الثورة، ومن يشاهد هذا الفيلم بسذاجته المتناهية، سوف يصاب
بالزهد في مسألة الأفلام الوطنية. حكم قراقوش إلا أنه مع بداية عام 1953،
بدأت السينما تتعامل مع الثورة بكافة أشكالها، وصار موضوع الثورة بارزاً في
عشرات الأفلام، حتي وإن لم تشر إلي يوليو، ولعل فيلم "حكم قراقوش" الذي عرض
في 30 أبريل من هذا العام دليلاً علي ما شهدته السينما من تحول للاهتمام
بالوقوف ضد الحاكم واسقاطه، فهذا الحاكم التاريخي المعروف بطغيانه، يمارس
سلطاته ضد الشعب، ويفرض قوته علي الناس ويدخل معارضيه السجون، كما أنه يسعي
إلي استمالة قلب فتاة من الشعب،تعترض علي الارتباط به، فهي تقف ضده كظالم،
وتحب شاباً آخر.. ويسعي الحاكم هنا إلي استمالة قلب الفتاة، فيقوم بتعيين
أبيها رئيساً للوزراء.. ورغم ذلك فإن الفتاة لا تغير موقفها، أما الأب فإنه
يستفيد من وظيفته فيقف إلي جوار الشعب، مما يجعل الناس يحبونه، ويوغل هذا
مشاعر الحقد في قلب قراقوش، ليقوم بسجن رئيس وزرائه، مع ابنته، وهنا يثور
الجيش ضد الطاغية، ويتم اخراج رئيس الوزراء من السجن، ويتولي الثائر مقاليد
الحكم بعد اسقاط قراقوش.. من يقرأ القصة الحقيقية لـ "قراقوش" سوف يري أن
فطين عبدالوهاب مخرج الفيلم، قد وجه التاريخ لمناصرة المرحلة الثورية
الجديدة التي ولدت مع يوليو 1952، أي أنه علي الشعب أن يثور ضد الحاكم
ويسقط مثلما فعل الضباط الأحرار. كما أن فيلم "أحمد البدوي" لبهاء الدين
شرف في نفس العام، هو ايضا فيلم عن ثائر ضد الظلم، حين يقف ضد فسق "بنت
بري" حاكمة العراق، فهو يذهب إليها قادما من المغرب، ويواجهها ويحطم
سلطانها، ويقمع حكمها.. فتترك الحكم.. وتصبح من اتباعه.. الثورة في هذين
الفيلمين اللذين انتجا عام 1953، تمت في اطار تاريخي، وقد سقط الحاكم في
الفيلمين، مثلما سقط فاروق في الواقع، اذن، فهذه الافلام كانت علي هوي
الثورة، في الوقت الذي ظهرت فيه افلام اخري تقدم وجبة وطنية تتفق مع أهداف
ورؤية الثورة، مثل موضوع هزيمة الجيوش العربية في فلسطين بسبب الأسلحة
الفاسدة، وذلك في فيلم "أرض الأبطال" لنيازي مصطفي عام 1953 ايضا، فالابن
الذي أصيب في الحرب هنا يكتشف أن أباه هو السبب في الاصابة، وأنه يتاجر في
الاسلحة الفاسدة، ويعظم الفيلم مسألة الاسلحة الفاسدة التي عرف عليها
الضباط الاحرار، وأكدوا أنها سبب هزيمتنا في فلسطين، وهو موضوع أثير فيما
بعد، وثبت أنه كان مبالغا فيه بشكل ملحوظ، وان الامر يتمثل في ايجاد "حجة"
لما أصاب الجيوش العربية من هزيمة. وفيما بعد بدأت السينما تنتج أفلاماً
لمناصرة منجزات الثورة، خاصة موضوع الاصلاح الزراعي، وتحديد الملكية
الزراعية وتوزيع الارض علي الفلاحين، حيث رأينا معالجة ساذجة في فيلم
"الأرض الطيبة" اخراج محمود ذو الفقار، عام 1954، وقد كتب السيناريو
والحوار يوسف جوهر المحامي، الذي قام بنفسه بانتاج وتأليف فيلم "أرضنا
الخضراء" اخراج أحمد ضياء الدين عام 1956، أي أن يوسف جوهر قد كرس نقوده
التي خسرها، وقلمه لمناصرة قضية الاصلاح الزراعي، ففي الفيلم الأول قامت
الفتاة الريفية بتوزيع جزء كبير من أرضها التي ورثتها علي الفلاحين، أسوة
بما فعل تولستوي في روسيا في بداية القرن العشرين، دون أن يذكر الفيلم ذلك
بالطبع، أما الفيلم الثاني فهو عن اقطاعي يحاول انتزاع الأرض من أهالي
العزبة، إلا أن أحد الفلاحين يقف ضده، وينقذ أرض الاهالي بأن يدفع له
المبلغ الذي كان قد ادخره لفك رهن فدادينه. اذن فنحن في احداث ضد الاقطاع،
واطماعه، ويبدو الاقطاعي هنا طامعا في الارض والنساء وانتزاع الملكيات
والاستعانة بالسلطة الغاشمة، متمثلة في الشرطة، ويقدس الفيلم ملكية الأرض،
وعدم التخلي عنها. صراع في الوادي وكم من افلام عزفت علي مسألة ان مالك
الارض الزراعية كائن شرير، يطمع في الأرض، ويمارس المؤامرات، مثلما رأينا
في "صراع في الوادي" ليوسف شاهين عام 1954، وهي موضوعات لم تكن السينما
تناقشها قبل الثورة، وقد رأينا الموضوع نفسه يناقش بأساليب متشابهة في
أفلام مثل "المارد" لسيد عيسي 1964، و"أدهم الشرقاوي" لحسام الدين مصطفي في
العام نفسه. ولأن الجيش هو الذي قام بالثورة، فإن المرحلة التالية من
الافلام كان هدفها اعلاء مكانة الجيش، والتعامل معه علي انه نموذج يحتذي به،
وانه من الافضل علي الشاب ان يدخلوا الجيش مثلما فعل الشباب في أفلام
عديدة، كي يصيروا مواطنين يملأهم الاحساس بالمسئولية، مثلما حدث في افلام
من طراز "اسماعيل يس في الجيش، في الاسطول، بوليس حربي، في الطيران"، وكلها
من اخراج فطين عبدالوهاب، وافلام اخري مثل "شياطين الجو" لنيازي مصطفي،
و"وداع في الفجر" لحسن الامام عام 1956 . والطريف أن الافلام السينمائية،
التي تم اخراجها عن حرب السويس عام 1956، أو ما أسماه الاعلام لدينا
بالعدوان الثلاثي، قد جعلت المقاومة الشعبية هي البطل الرئيسي في افلام مثل
"بورسعيد" لعز الدين ذو الفقار، و"سجين أبو زعبل" لنيازي مصطفي عام 1957،
و"حب من نار" لحسن الامام 1958، حيث لم تكن هناك مباشرة إلي انتصارات الجيش
أو هزائمه في هذه الحرب، وان كان فيلم "عمالقة البحار" للسيد بدير 1960، قد
صور معركة البرلس بخسائرها ومكاسبها، وهنا رأينا مشاركة الجيش.. أي أن
السينما المصرية كانت بالغة الذكاء في تقديم صورة رجال الثورة أثناء عدوان
1956، فإذا كانت القيادة السياسية قد جعلت من 23 ديسمبر عيداً لانتصار مصر
علي الدول الثلاث التي اشتركت في العدوان، فإن السينما سايرت هذا النصر
ونسبته إلي المقاومة الشعبية. في فترة لاحقة، كانت الثورة تلوح في الأفق من
خلال افلام عديدة، مأخوذة عن نصوص ادبية، وكم قام كتاب السيناريو باضافة
احداث وطنية مرتبطة بالمقاومة وثورة يوليو، مثلما حدث في فيلم "أنا حرة"
لصلاح أبو سيف، حيث ان الرواية ليست بها اشارة أن الذي ربط بين أمينة،
والصحفي هو النضال الوطني لتوعية الناس.. وقد ركز الفيلم الذي كتبه نجيب
محفوظ علي أن البطلين صارا من الثوار، والمعارضين للملكية، وجعل القرآن
الذي تم بين الاثنين في الثاني والعشرين من يوليو 1952 بمثابة انتظار ليوم
جديد مليء بالاشراق، كما أن فيلم "في بيتنا رجل" لبركات المأخوذ عن احسان
عبدالقدوس ايضا، قد ساند الثورة، من خلال مجموعة الشباب المناضلين، الذين
خططوا لقتل أحد الوزراء الذين كانوا عملاء للانجليز، وكشف الفيلم أن الثورة
لم تقم من فراغ، بل كان بدايتها هؤلاء الشباب الذين شاركوا ايضا في عمليات
فدائية تفجيرية ضد منشآت الانجليز، وقد صار هذا الموضوع بمثابة تقليعة في
سينما الستينيات، مثلما رأينا في "الباب المفتوح" لبركات ايضا، و"لا وقت
للحب" لصلاح أبو سيف، وهي أفلام مأخوذة عن نصوص أدبية، لكتاب عرفوا بمساعدة
الثورة . العمل كما أن اهداف الثورة، أخذت صياغة جديدة من خلال افلام تم
انتاجها في الستينيات، ومنها علي سبيل المثال تقديس قيمة "العمل"، وهو
الأمر الذي عزفت عليه الثورة في تلك المرحلة، وهي أعمال مأخوذة كذلك عن
نصوص أدبية مثل "النظارة السوداء"، و"الأيدي الناعمة" لكن لا شك أن السينما
قد أضافت موضوع اهتمام بطلي فيلم "النظارة السوداء" لحسام الدين مصطفي
للاهتمام بالعمل، حين كان المهندس يزور العمال المصابين في المستشفي،
والبيت، فقامت ماجي بتقليده في هذا السلوك، حين حاد خطيبها عن التزامه، أما
"الايدي الناعمة" لمحمود ذو الفقار، فإن النص السينمائي كان أكثر اهتماماً
بمسألة أن يعمل البرنس بدلا من أن يظل عاطلا، أكثر مما لاحظنا في النص
المسرحي لتوفيق الحكيم، كما أن هناك افلاما اخري عديدة اهتمت بمسألة تقديس
العمل، مثل "الحياة حلوة" لحلمي حليم عام 1966، وان كان العمل الذي رأيناه
هنا يتمثل في العمل بالسياحة وليس في مجال الانتاج. ساندت ثورة يوليو
الكثير من الثورات العربية في الواقع، أما السينما، فإنها ذهبت إلي ثورة
الجزائر من خلال "جميلة" ليوسف شاهين عام 1958، وساندت ثورة "اليمن" لتقدم
فيلما بنفس الاسم أخرجه عاطف سالم عام 1966، مأخوذ عن رواية نشرها صالح
مرسي في مجلة روزاليوسف ولم يسع لتقديمها في كتاب، وقد كان يمكن للثورة أن
تستمر في أن تجد دعما ملحوظا عن السينما، لولا هزيمة 1967، حيث تغيرت
المفاهيم بشكل ملحوظ، وأعطي ذلك فرصة لانتقاد الثورة، وكان الفترة من
1966إلي 1967 هي التي شهدت أكبر عدد من الافلام التي تناصر الثورة
ومنجزاتها وأهدافها في أفلام من طراز "الدخيل" لنور الدمرداش، و"وداعا ايها
الليل" لحسن رضا و"شياطين الليل" و"من أحب" لماجدة، و"سيد درويش" لبدرخان،
و"إضراب الشحاتين" لحسن الامام، وايضا "نادية" لبدرخان ايضا. وقد آثرنا أن
نتوقف عند المرحلة التي انتهت برحيل عبدالناصر، وكان فيلم "غروب وشروق" وهو
آخر فيلم يناصر الثورة ضد النظام الأسبق عليه، حيث إن الصورة تغيرت تماما
بعد أن تولي أنور السادات مقاليد الحكم، وظهر ما يسمي بـ "15 مايو". الآن
لقد بلغت ثورة يوليو سن الاستيداع.. فتري هل قيام ثورة يناير ساعد في
شيخوختها، وان صعود الاخوان المسلمين إلي الحكم سوف يدفع بهم لتصفية
حساباتهم مع الثورة ورموزها..؟ نحن في الانتظار.
جريدة القاهرة في
17/07/2012 |