الابحار بعيداً في الاستفزاز المدوّي والخلاّق ليس هواية طارئة لدى
رومان غافراس، ابن السينمائي الكبير كوستا غافراس. مَن يعرف عمله يعرفه
مخرجاً لكليب فرقة "جوستيس" حيث صوّر مجموعة من شباب الضواحي، من ابناء
المهاجرين، ينزلون الى باريس ويثيرون فيها الرعب والفوضى ويتحرشون بالناس
ونلتقط في عيونهم الكره والفراغ. الفيديو، ذو الواقعية المقلقة والمتقنة
الصنع، اسمه "ستريس". عندما انتقل الى الشاشة الرحبة لانجاز باكورته
الروائية الطويلة، صوّر شخصين هما ضحية التمييز الاجتماعي الصارخ، ليتحول
الفيلم الى نقد اجتماعي وتعليق سياسي لاذع يقفز خلالهما المخرج من التمييز
الذي يتعرض له ذوو السحنة الحمراء، الى كل اشكال التمييز، في اطار استعارة
لا تحمل أي خبث. لا يوفر المخرج أيّاً ممن يلتقيهم على طريقه، من المهاجر
العربي القبيح ومصدر الازدراء الى اليهودي المحاط بخطوط حمر، الى اللوطي
غير المرغوب به وصولاً الى فرنسا بأكملها التي يجعل منها غافراس سجناً
كبيراً.
اليوم، يعود غافراس (1981) الى الواجهة الاعلامية بثاني كليب ينجزه
للمغنية الانكليزية ميا عنوانه "فتيات متمردات" صوّره في ورززات المغربية.
هذا العنوان يُكتب بالعربية في بداية الشريط البالغ طوله اربع دقائق واثنتي
عشرة ثانية. نحن في وسط الصحراء. لقطة بانورامية واحدة والشعور بالمكان يصل
بسرعة قياسية. نساء منقبات برداء قريب الى الزي المغربي التراثي، يتحلقن
حول سيارة ولا يفعلن الا التحديق في عدسة الكاميرا. نساء بالكلاشنيكوف
ورجال عابسون وسيارات ب أم دبليو، هذا ما هو عليه الفيلم. ثم تطلّ ميا وفي
خلفية المشهد شيء ما يحترق، بئر نفط ربما. على كل حال كلمة غازولين ترد
وتتكرر في نصّ الأغنية.
لقطة من هنا وأخرى من هناك وندخل صميم الفكرة. ففي حين نرى النساء
يرقصن على السيارات وحولها، تتقدمهن ميا، يتسلى الرجال المرتدون الكندورة
الخليجية البيضاء بسياراتهم في لعبة "تشفيط" دارجة كثيراً في اماكن عدة من
العالم العربي، نتيجة الفراغ والضجر. ثم ينتقل الكليب الى مزاج ليلي مع
المحافظة على المفهوم نفسه: مواجهة غير معلنة تضمر عنفاً بين نساء ورجال
يبدو ان لا لقاء قريباً بينهم، يلتقطها غافراس بالكثير من حركات الكاميرا
الاستعراضية، وصوت ميا يصدح ناصحاً: "عيشي بسرعة، موتي شابة". لكن خلافاً
للمقولة الشهيرة، لن يترك أيٌّ من هؤلاء جثة جميلة.
يحمل الكليب تأويلات عدة، لكن خطابه واضح: تحدي القمع الذي تتعرض اليه
السعوديات في مجتمع لا يسمح لهن بممارسة الحرية الفردية. انها الرسالة
الموسيقية لميا، التي لا تتوانى عن حمل السلاح ورفع الاصبع الوسطى. تقابل
هذا براعة اخراجية تختار الواقعية النيئة اسلوباً للتعبير، بعيدة من
الرومنطيقية الزائفة للكليبات العربية البغيضة. نحن هنا أمام محاكاة.
غافراس لا يوفر الامكانات، ويعرف بأي منحى وتوتر يخاطب قرار السلطات
السعودية منع لنساء من القيادة. قرار صدر "خوفاً من الا يبقى هناك عذراء
واحدة في السنوات التالية لهذا القرار". هذا كله يتبلور بلغة عالية النبرة،
قاسية ومستفزة، لكن فعالة في امكان تحولها أداة ضغط وتغيير وتحريض ايجابي.
الشيء الذي لا يؤمن به غافراس كاملاً، ربما لأنه دخل السينما المناضلة التي
تحمل القضايا الشائكة على ظهرها، من باب الراحة وليس المعاناة.
النهار اللبنانية في
23/02/2012
ما الذي يدعو مُخرجاً إلى أن يحقّق فيلماً عن أحد أقاربه
اللصيقين؟
حفظ القصص أم الحب والإعجاب أم المصالحة مع الذات
أم تناولها
كموضوع غير شخصي!
تحقيق: نديم
جرجوره
ما الذي يدفع مخرجاً
سينمائياً إلى تحقيق فيلم وثائقي مرتكز، أساساً، على شخصية أحد أقاربه؟
ماذا يعني
أن يختار هذا المخرج أباً أو أمّاً أو عمّاً شخصية أساسية لقراءة واقع، أو
لمحاولة
فهم حالة؟ هل يختلف حضور شخصيات كهذه في الأفلام الوثائقية، عن حضور المخرج
نفسه في
أفلامه؟ هل هناك تشابه بين قريب اختير ليُبنى عليه أو معه أو
عبره نصّ بصري متكامل،
ومخرج وضع نفسه، جسداً وروحاً وانفعالاً وتفكيراً، داخل فيلم روائي
له؟
أسئلة العلاقة
في الأعوام القليلة الفائتة، ارتفع عدد الأفلام
الوثائقية اللبنانية المرتكزة على إحدى هذه الشخصيات القريبة
جداً، بالمعنى
البيولوجي البحت، من المخرجين. «قرابة الدم» كما يُقال. لكن، إذا طغى حضور
الأب في
غالبية الأفلام تلك، فإن للأم مكانتها أيضاً، في توازن إنساني جعل المخرجين
يستعيدون قصصاً فردية أو حكايات جماعية، في مسعى واضح لفهم
الراهن، أو لتواصل مختلف
مع الذاكرة، أو لـ«تصفية حساب» مع سلطة أبوية، أو لطرح أسئلة لا يُمكن
طرحها بعيداً
عن هذه الشخصية القريبة أو تلك. من بين هؤلاء، هناك إليان الراهب (هيدا
لبنان)
وداليا فتح الله (كاوبوي بيروت) ودانييل عربيد (أحاديث صالونية) وغسان سلهب
(1958)
وغيرهم، وصولاً إلى سيمون الهبر الذي ذهب
أولاً إلى عمّه لاستعادة فصل من فصول
الذاكرة المضمّخة بالحرب الأهلية (سمعان بالضيعة، 2008)، قبل
أن يلتقي والده، من
بين شخصيات متعدّدة الأمزجة والحكايات، لسرد مزيد من حكايات الذاكرة
والماضي (الحوض
الخامس، 2011). هناك أيضاً زينة صفير (بيروت عالموس) ورامي نيحاوي (يامو)
وأحمد
غصين (أبي لا يزال شيوعياً، أسرار حميمة للجميع). هؤلاء جميعهم
وجدوا في الأب أو
الأم أو الاثنين معاً مدخلاً إنسانياً أولاً، وثقافياً وجمالياً ثانياً،
إلى الذات
تحديداً، وإلى علاقتها بالذاكرة الفردية والجماعية، وبالتاريخ الشخصي
والعام.
اعتبرت زينة صفير أن المسألة كلّها مرتبطة بكون الأب صاحب شخصية مثيرة
للاهتمام: «نشأتُ على قصصه»، التي استقاها وجمعها من عمله حلاّقاً في «فندق
فينيسيا» على مدى سنين طويلة. بينما رأى سيمون الهبر أن الأفلام، خصوصاً
تلك
المُصنَّفة في فئة «المستقلّة»، تفرض على المخرج أحياناً
خيارات محدّدة: «عندما
يُريد المخرج (أو الكاتب أو الرسّام أو أي فنان آخر) التعبير عن نفسه أو عن
موضوع
معيّن «يغلي» في داخله، فإنه يختار شيئاً من حياته. أي أنه يستخدم الأدوات
الموجودة
حوله، والمؤثّرة فيه وفي حياته». رأى أن هناك مخرجين لا
يختارون أحد أفراد عائلاتهم
في أفلامهم، لكنهم موجودون هم شخصياً فيها: «غسان سلهب موجود في أفلامه
الروائية
الطويلة الأربعة على الأقلّ. إيليا سليمان موجودٌ في أفلامه الروائية
الطويلة
الثلاثة أيضاً كممثل (وإن لم يتكلّم)، لكن هذه تجربته وقصصه
وحكايات ناسه القريبين
جداً منه، التي يُعبِّر عنها بطريقته الخاصّة». من جهته، طرح رامي نيحاوي
على نفسه
سؤالاً اعتبره ركناً أساسياً لبناء فيلمه: «كيف يُمكن لهذه المرأة (أمّه
نوال)،
التي بلغت هذا العمر من حياتها، أن تعمل طوال النهار؟». أي أنه
يُمكن وصف الدافع
إلى اختيار الأم بأنه «غريزيّ»، نابعٌ من مشهد متكرّر أمام عينيّ المخرج
الشاب،
بإضافة تراكم صنعته أسئلة متعلّقة بالجيل الخاصّ بالأم وبجيله هو أيضاً،
وبالبلد
والعلاقات القائمة فيه، وبالذاكرة وتاريخها: «قراري النهائي
باختيار الأم نبع من
وضوح المسار الخاص الذي ربط خيوط الفيلم: الذاكرة. عندما حصل تشابكٌ بين
المرأة
وعملها طوال النهار من جهة أولى، والشخصيّ المتعلّق بي، المنفتح على جيل
بكامله
وعلى أسئلته أيضاً من جهة ثانية، وأسميت هذا التشابك
«الذاكرة»، قرّرت إنجاز
الفيلم». أما أحمد غصين فقال إن حصوله على أرشيف صوتيّ بفضل أشرطة الكاسيت
المتبادلة بين والديه (هاجر الأب الشيوعي إلى المملكة العربية
السعودية للعمل في
ثمانينيات القرن الفائت، وظلّت الأم برفقة أولادها الثلاثة في بيروت الحرب
الأهلية)، سببٌ أساسي جعله يُقرّر تحقيق فيلم لا يقف عند الأرشيف نفسه، بل
ينفتح
على سؤال الذاكرة أيضاً: ذاكرة فرد وذاكرة جيل، تماماً
كـ«يامو»، أو بالأحرى
كمحرِّكه الجوهري: «هناك ما يُشبه الرغبة في حلّ معضلة خاصة بالذاكرة»، قال
غصين،
الذي أضاف: «بالنسبة إليّ، لم يكن أبي موجوداً دائماً». لكنه أعاد نشوء
فكرة إنجاز
الفيلم إلى عثوره على أشرطة الكاسيت تلك: «لا أعتقد أني كنتُ
سأنفِّذ مشروعاً كهذا
لو لم أحصل على الأرشيف. ليس سهلاً تحقيق فيلم عن الأب أو عن الأم. المادة
الموجودة
حرّضتني على هذا. أردتُ مقاربة موضوع شخصي كهذا، بالتعاطي معه على أنه
موضوع غير
شخصي أيضاً».
أسباب مختلفة
باختياره عمّه سمعان، العائد الوحيد إلى
قرية «عين الحلزون» بعد أعوام عدّة على تهجير أبنائها أثناء
«حرب الجبل» في العام 1983، عثر سيمون الهبر على مفتاح يتيح له ولوج عالم مغلق. لكن، «لو أن
عمّي لم يكن
العائد الوحيد إلى القرية المهجَّرة للإقامة والعيش فيها، بل شخصاً آخر،
كنتُ
سأختار الشخص الآخر، لأن الموضوع هو القرية والمناخ الخاصّ بحرب الجبل،
والتفاصيل
التي تصنع الذاكرة، التي لا يريد أحدٌ استعادتها». بحسب الهبر،
فإن الصدفة لعبت
دوراً في اختيار العم ثم الأب: «صدف أنه لا يُمكن الحديث عمّا أردت تناوله
في
الفيلمين إلاّ عبر عمّي وأبي. بل معهما». هذا على خلاف مع ما شعرت به زينة
صفير.
بالنسبة إليها، هناك أمران اثنان، مرتبطان بالانفعال الذاتيّ المحض، دفعاها
إلى
اختيار والدها: إلحاح ابن عمّتها على ضرورة أن تؤرَّخ القصص التي يعرفها
الأب،
والتي يحتاج إلى معرفتها كثيرون. ولاوعي خاص بها: «خوفي عليه»،
قالت. ثم «إعجابي
به، الذي تولّد فيّ بعد إنجاز الفيلم». كأنها أرادت تكريم هذا الرجل،
والاحتفاء به،
و«تخليد» صورته وذاكرته: «أما عن الخوف عليه، فنابعٌ من عمره المتقدّم.
إنها مسألة
مرتبطة بالعاطفة. عشتُ الحرب الأهلية أنا أيضاً. عشتُ حياة كان
الموت فيها قريباً
منّي. خسرتُ أناساً. ألمّ بي شعورٌ بأنه لا يحقّ لي أن أحبّ أحداً، خوفاً
عليه من
الموت. لأني كلّما أحببتُ أحداً، يُتَوفّى. عمّي أولاً، الذي شعرتُ بقربه
الشديد
منّي، بسب انشغال أبي بعمله. كنتُ في الثالثة عشرة من عمري عندما توفيّ.
أعزّ صديقة
لي ثانياً. كنتُ في الحادية والعشرين من عمري. هي أيضاً كانت في العمر
نفسه. خلاصة
المسألة كلّها مرتبطة بالموت، وبخوفي على الأب من هذه اللحظة».
الشخصيّ طاغ
كلّياً. لكل مخرج دافعٌ شخصي بحت: الخوف من الموت. الرغبة في طرح أسئلة
ذاتية
وعامّة. محاولة فهم مسارات الأمور الراهنة. نيحاوي قال إن سؤالاً ألحّ عليه
كثيراً: «كيف نستطيع إكمال حياتنا؟ هذا نابعٌ من
سؤال موجّه إلى أمّي أيضاً: كيف استطاعت
إكمال حياتها، في ظلّ ضغوط كبيرة عليها؟ كيف استطاعت ذلك بقوّة
واضحة؟». أعاد
نيحاوي السبب أيضاً إلى الغضب «الذي كان محرِّكاً للـ«هجوم» على المشروع
وتنفيذه».
لكن الشخصيّ لا يُلغي العام أيضاً: «تاريخ
البلد واستعادته حلاّ في المرتبة
الثانية»، كما قالت صفير. «المصالحة مع الذات. تصفية الحسابات. البحث عن
معنى غياب
الأب: هذا كلّه يُمكن أن يُشكّل أسباباً دافعة إلى إنجاز الفيلم»، كما قال
غصين.
لكنها أسباب لاحقة للدافع الأول: العثور على أشرطة الكاسيت، الذي فتح نافذة
على
الماضي وأسئلته المعلّقة. الرغبة في التنقيب في الذاكرة وأحوالها وتاريخها
دافعٌ
للهبر إلى إنجاز فيلم، لكن الصدفة لعبت دوراً في اختيار العمّ والأب:
«تختار
موضوعاً وتبدأ التنقيب حوله وفيه. أي ليس بعيداً عنه. لذّة
السينما برأيي نابعةٌ من
تجربة المغامرة في التنقيب حولك بعمق. تجربة تجعلك تلمس الأشياء، حتى لو
أنك لم
تفهمها أو تلتقطها كلّياً. تجعلك تشعر أنك التقطت شيئاً
دسماً».
قلق
لأنها اهتمّت بأبيها وبشخصيته، جعلته محور «بيروت
عالموس». قالت زينة صفير إنها حاولت تفكيك شخصيته أيضاً، لأن الأب مسيّس
جداً:
«استماعه
الدائم إلى نشرات الأخبار، وقدرته الدائمة على تحليل الوضع، شكّلا معاً
جزءاً أساسياً من شخصيته. كان يحبّ الاستماع إلى أم كلثوم دائماً. لكن
السياسة أقوى
فيه. ثم أن براعته في سرد الحكايات، وقدرة الحكايات تلك على أن
ترسم شيئاً من تاريخ
البلد غير المكتوب، جعلتاني أذهب معه برفقة الكاميرا إلى الماضي الذي عرفه
جيّداً».
لكن، هل توصّل الفيلم إلى إراحة المخرجة من
قلقها وأسئلتها؟ «عندما نصنع أفلاماً،
نكون كمن يخضع لعلاج. هذا صحيح. لكن، هل تحرّرت من القلق
الذاتيّ الدائم؟ لا أعرف.
أشعر بأني لم أتحرّر، على نقيض آخرين». بالنسبة إلى رامي نيحاوي، هناك
أسئلة
مطروحة، أو معلّقة، أو ملتبسة. هناك أسئلة محتاجة إلى أجوبة: «عندما توضّحت
الأمور،
وعرفت الأدوات التي سأستخدمها في عملي، عثرتُ على المكان/
الأمكنة التي يُمكن لي
البحث فيها عن إجابات. لكن المسألة لا تعني أن البحث عن إجابات سيجعلني
أعثر على
الإجابات المطلوبة. أنا لا أسعى لترميم الذاكرة، لأنها لا تُرمَّم. إنها
مصالحة مع
الذاكرة كخزّان». ما أراده نيحاوي واضحٌ: «السؤال الأساسي
كامنٌ في ازدواجية
المسألة: ماذا نتذكّر، وماذا ننسى». استعاد بداية «يامو»، التي تطرح الأم
على ابنها
فيها سؤالاً: «هل تتذكّر هذا الأمر؟» أو: «ألا تتذكّر هذا الأمر؟». قال
نيحاوي:
«إنها
تسخر منّي، إلى درجة قالت لي فيها إن وضعي صعب، وإني بحاجة إلى طبيب. لكن،
مع
التوغّل في الفيلم، بدا أن نوال لا تريد أن تتذكّر». هنا يكمن جوهر القصّة
كلّها:
بلوغ اللحظة الدرامية والإنسانية لتحديد الحدّ الفاصل بين الرغبة والواقع،
«بين ما
نتذكّره (أو ما نريد أن نتذكّره)، وما ننساه (أو ما نريد أن ننساه)».
السؤال
مفتوح. الأجوبة متعدّدة وإن لم تكن نهائية. العلاقة بأقارب «الدم» جوهر
الحكايات
الفردية التي تصنع «تاريخاً غير رسمي»، لكنه تاريخ أصدق على الأقلّ: «ربما
انقلبنا
من حالة تاريخية موجودة حكماً، ومجسّدة بثرثرة سينمائية وتجارة بالشعارات،
إلى
مرحلة متّسمة بتفتيش ذاتيّ»، كما قال المخرج الفلسطيني إيليا
سليمان («السفير»، 15
كانون الأول 2009). أضاف: «أشعر بنفور الجيل الجديد من أنواع الشعارات
كلّها. أهذه
بداية، أم مجرّد لحظة عابرة؟ سنرى لاحقاً». غالب الظنّ، أن تحليلاً مقتضباً
كهذا
يُضيف حافزاً جديداً لمناقشة أصل الحكاية، وجذورها وامتداداتها.
كلاكيت
«اللايدي
دي»
نديم
جرجوره
تُشكّل سِيَر شخصيات
عامّة، عرفت شهرة في مجالات حياتية شتّى، مادة درامية غنيّة بالمعطيات
السينمائية.
تُشكِّل حافزاً لسينمائيين عديدين، لمقاربة
ثنائية المخفيّ والظاهر في السِيَر تلك.
أو لمقاربة أحوال بلد ومجتمع وتاريخ، من خلال الشخصية المختارة. السينما
المستلّة
مواضيعها من سِيَر كهذه تمرينٌ على ممارسة تحليل نفسي، أو تشريح اجتماعي،
أو تفكيك
تاريخي. أفلام السِيَر الذاتية كثيرة. بعضها مال إلى ما هو
أبعد من السيرة بحدّ
ذاتها. بعضها ذهب عميقاً في التحليل والتشريح والتفكيك. بعضها ظلّ مسطّحاً
وطويلاً
ومُمِلاًّ، لعجز صانعيه عن اختزال الزمن، وتكثيف مساراته الدرامية.
مؤخّراً، تمّ
تداول خبرين مفادهما أن هناك مشروعين سينمائيين متمحوران حول إحدى أجمل
إيقونات
نهاية القرن العشرين، الأميرة ديانا. «اللايدي دي» عائدة إلى المشهد العام،
بعد
خمسة عشر عاماً على رحيلها التراجيديّ في حادث سير مأسوي وقع
فجر الواحد والثلاثين
من آب 1996. في حياتها المنبثقة من زواجها من ولي العهد البريطاني الأمير
تشارلز،
عاشت المرأة على الحدّ الواهي بين واقع مفروض عليها إلى درجة انتزاع
حيويتها
الإنسانية منها، ومتخيّل راودها طويلاً، قبل أن تُصدم باستحالة
تطبيقه: أن تعيش
حياة منسجمة وحيويتها الإنسانية تلك. «زواج ملكيّ» أفضى إلى حياة مرتبكة
ومتوترة،
و«حياة ملكيّة» جعلتها امرأة من دون حسّ إنساني، أو كادت تنجح في هذا. زواج
وحياة
ذهبا بها إلى الموت في حادث تحطّم سيارتها في نفق باريسي،
برفقة آخر الذين رأت فيهم
حبّاً قادراً على إنقاذها من وحشية الحياة وقسوتها.
مرّت أعوام طويلة على
رحيلها. لكن صُوَراً عديدة لها محفورة في وجدان كثيرين وعقولهم
وانفعالاتهم، في
أنحاء مختلفة من العالم: ابنة عائلة متواضعة أو عادية، باتت ذات يوم أميرة.
أميرة
متوَّجة على عرش بريطانيا وقلوب ملايين، باتت منبوذة في
بلاطها. امرأة محاصَرة
بتقاليد صارمة وبرودة لا تُحتَمَل داخل القصر الملكيّ، باتت شابّة متعطّشة
للحياة،
وساعية لاختبار مساراتها. شاعرة بأهمية التزام حقوق مقهورين، كافحت مرض
«فقدان
المناعة المكتسبة» والألغام. لكن، تبدو صورتها الأخيرة (جسد ممزّق. دماء
مبعثرة هنا
وهناك.
سيارة محطّمة. قلب مكسور. عمر شبابيّ
مبتور) أكثر صُوَرها التباساً في الذات
الفردية. باتت أشبه بلحظة معلّقة على جدار الزمن: هناك أناس
وجدوا في الصورة
الأخيرة نهاية التمرّد من أجل الذات. هناك أناس لفظوها لعنفها الوحشيّ، كي
يلتقطوا
صُورتها الأنقى بالنسبة إليهم: امرأة جميلة تسعى لحياة عادية، وسط صرامة
التقليد،
وخبث الانصياع لثنائية الظاهر والمبطّن في الممارسة اليومية
لحياة رتيبة
وباردة.
بين «الأميرة ديانا الحقيقية» للمنتج البريطاني ستيفن إيفانز و«محاصرة
في رحلة جوية» للمخرج الألماني أوليفر هيرشبيغل، تُصبح العودة المنتظرة
للأميرة
الراحلة تحدّياً إضافياً للتمرين السينمائي على إعادة صوغ المشهد الإنساني
بلغة
الصورة.
السفير اللبنانية في
23/02/2012 |