"أيادٍ
خشنة" يعيد محمد العسلي الى الواجهة، بعدما
كان رتب له "فوق الدار البيضاء الملائكة لا تحلق" (2004) حيزاً
في السينما
المغربية. بحكايات مستقاة من صميم الواقع الاجتماعي المغربي (هجرة، تحايل،
ضائقة)
يقدم العسلي هجاء سياسياً هادئاً وبسيطاً
يقول الكثير عن الاوضاع المغربية، محتكماً
الى مجموعة كاراكتيرات ناضجة ومتأصلة في محيطها. في ابو ظبي،
حيث عُرض الفيلم للمرة
الأولى، أتيح لنا أن نتحدث مع العسلي عن كل القضايا غير المحسومة التي تلقي
بظلالها
على "الربيع العربي".
·
أنت غائبٌ عن السينما منذ ست
سنوات، ماذا كنت تفعل
خلال هذه الفترة؟
ـــ هذا الغياب كان له دوافع خارجة على ارادتي. كنت أعمل على
فيلم عن العراق لم استطع انجازه لأن المركز السينمائي المغربي رفضه، ولم
أحصل على
الدعم. هذا الفيلم كان مكلفاً، لذا وضعته جانباً وباشرتُ العمل
على فيلم آخر. في
غضون ذلك وقعت أحداث، ما فرض عليّ تأجيل الفيلم الثاني أيضاً، لأجد نفسي
أعمل على
تأسيس جريدة، وكنتُ مصراً على انشاء هذه الجريدة، ولا أزال، لأنها اضافة
جيدة جداً
في المجال الاعلامي. تعرضتُ لمضايقات كثيرة أزعجتني ومنعتني من العمل،
فالدولة حجزت
معدات التصوير، نتيجة اقدامي على تأسيس هذه الجريدة التي أزعجت السلطة،
فأزعجتني
بدورها، مما أخّر ولادة الفيلم هذا، فوجدتُ نفسي مشطوراً بين
مستبعدات جمركية
وضريبية وقانونية داخل ردهات المحاكم، وهذه كلها كانت أشياء كيدية.
·
لماذا
فيلمٌ عن العراق؟ ولماذا رفضه المركز السينمائي المغربي الذي
لا تربطك به علاقة
طيبة أصلاً؟
ـــ مشكلتي مع مديره وليست مع المركز. نقاوم توجهاته ولا نقاومه هو
شخصياً. أختلف مع خطه وأجندته. هذا صراع شرعي.
·
معروفٌ انك من طبقة غنية ورجل
أعمال مهم في المغرب. ما الذي أخذك الى المجتمع المتواضع الذي تصوره، كيف
لمستَ
هموم هؤلاء الناس، وماذا تعرف عنهم؟
ـــ أنا من عائلة مستورة، ولدتُ في حيّ
شعبي، ولم أنتحل طبقياً، ولا أزال أجالس هؤلاء الناس وأبقى
قريباً منهم، لا أشعر
نفسي خارج هذا الاطار، ولا أحقق ذاتي خارج هذه الطبقة. لكن، هذا لا يعني
انني فقير
اقتصادياً. أوظف كل قدراتي المادية والفكرية لخدمة هذه الطبقة التي اعتز
بالانتماء
اليها. الفقراء ليسوا البؤساء. أنا أجد بؤساً كبيراً في فئة تمتلك كل أنواع
الترف
في المغرب.
·
تعالج في "اياد خشنة" موضوع
الفساد، لكنك لا تتطرق الى الكبير بين
المفسدين إنما يطاول نقدك العنصر الصغير.
ــ الاعلى ليس الشخص. الاعلى هو
النظام. لا يمكن أن أحكي عن النظام بكل أشخاصه. اذا كان هناك
وزير سابق مقعد ومتخم
بالأمراض ورائحته عفنة، فهذا التجسيد وحده يجب أن يفهم منه المتلقي أنه
تجسيد لنظام
قائم. مرة أخرى أكرر، ليست لي مشكلة مع الأشخاص بقدر مشكلتي مع توجهاتهم.
·
هل
اصحاب الأجندة هم المتآمرون مثلاً؟ كلمة أجندة سمعتها سيئة...
ـــ أبداً. ليس
هناك مؤامرة. هناك مد استعماري بآليته الوطنية. وهؤلاء المنتفعون يخدمون
مصالح غير
وطنية. أنت تعرف ان المستعمر يدمرنا من خلال إخواننا في العالم الثالث
اليوم. وهذا
ليس بجديد،
لا في المغرب ولا في غيره.
·
نعرف مواقفك وآراءك خارج اطار
الفيلم،
وهي حتماً ستبقى. لكن طرحك للشخصيات يتخطى خطابك هذا...
ـــ الموقف في الاختيار.
عندما تختار موضوعاً كهذا معناه انك ستمنحه سنة أو سنتين من حياتك. إنه
لعمل جبار
أن اعطي جزءاً من حياتي لهذه الشريحة من الناس. من دون قضية ليست هناك
سينما.
القضية كما أراها ليست في الضرورة سياسية أو اقتصادية. القضية تبدأ من هذا
الجزء
الصغير لكن تنتهي عند الانسان، وهو المحرك الاساسي. اذ يهمني الانتماء إليه
والدفاع
عن كرامته.
·
هناك الكثير من القضايا لا نراها
مجسدة في السينما
المغربية.
ـــ لأن القائمين على هذه السينما لا يدعمون توجهاً كهذا. أنا خارج
السرب لأنني لست في حاجة الى هؤلاء. أنا مستقل حقيقة، وهذا الفيلم أنتجته
بمالي
الخاص، من دون دعم المركز السينمائي المغربي ولا من جهات
أجنبية.
·
لكن، معروف
انك مقرّب من الايطاليين...
ـــ (بغضب). يا أخي، أنا درست في ايطاليا، لكني لست
مقرّباً منهم. الفيلم انتجته مع صديق ايطالي له وليس الدولة الايطالية. اما
الانتاجات الفرنسية فليست بريئة البتة لأنها من جهات رسمية.
·
هل ترفض أن
يموّلك الفرنسيون؟
ـــ ارفض كل جهة تمنحني المال ويكون لها أجندة عليها امرارها
من خلال عملي.
·
ماذا لو كان المركز الوطني
للسينما في فرنسا؟
ــــ لو وقع
تقاطع بين خطّي وخطّه، لا أمانع.
·
كيف تتبلور فكرة الفيلم في رأسك؟
ـــ
تكون الفكرة ملحة. مرّات تكون عنيفة، اذ توقظني من نومي وتتابعني. أحياناً
ترعبني
وفي أحايين أخرى تصرخ في وجهي. حينها أعرف أنها فكرة مهمة وعليّ أن أخضع
لها
وأتبنّاها. هذا قرار غير سهل، لأنك في اليوم الذي تقرر فيه أن
هذه هي الفكرة، عليك
أن تضع رهن اشارتها سنتين أو أكثر من حياتك.
·
أنت مراقب للمجتمع
المغربي...
-
أنا مراقب للمجتمع العربي، والمغرب جزء لا يتجزأ من العالم
العربي،
برغم اختلافاته. هذه الصورة التي في ذهن المشرقيين عن المغرب خاطئة جداً.
للمغرب
عمق عربي أكثر مما تتصورونه. وله ايضاً عمق نضالي. انظر الى الشعارات
المرفوعة من
جانب حركة 20 فبراير الشبابية.
·
هل أنت من مناصري هذه الحركة؟
ـــ طبعاً،
أنا معها. بل مع كل تحرك. فيلمي سابق لهذا الحراك. عندما انطلقت شرارة
الحراك
العربي المبارك في تونس، كنت اضع اللمسات الأخيرة على الفيلم في ايطاليا.
أنا مع
التغيير في كل الوطن العربي وفي كل العالم. لا احكي عن المغرب
خارج رقعة جغرافية
عربية.
·
ألم يرضك تغيير الدستور؟
ـــ الدستور الجديد يحمل في ثناياه
التقدم. الملكية البرلمانية هي السقف الذي نطالب به. نريد أن
يُترك المجال للشعب أن
يحكم نفسه بنفسه. هذا هو الشعار وأنا من موقّعي هذا الشيء، حتى قبل الحراك،
كنتُ
وقعتُ عريضة. أتمنى ان ننجز هذا، حفاظاً على بلدنا من الدمار. لا شيء
ايجابياً يأتي
من الدمار، فالمغرب ليس ليبيا. نحن مجتمع متقدم مقارنةً ببعض
البلدان العربية. ليس
لدينا قانون طوارئ. نحن لسنا في بلد دموي كالنظام السوري. كل ما نريده هو
حماية
البلد من الغليان الحاصل.
·
ألا تخاف من التطرف الديني؟
ـــ لا أظن أن
المواطن العربي سيقبل بأي تطرف آخر. لا التطرف الديني ولا تطرف الفساد.
الشعب
العربي سيحسم في هذا الموضوع ولن يسمح بما هو اسلامي وما هو غير اسلامي.
هذا المخاض
سيفرج عن هذا الوعي، وهو وعي ليس موجوداً الى الآن. لن نقامر بحريتنا
وديموقراطيتنا، مهما يكن، مهما يحصل.
·
علاقتك قوية جداً بالدار البيضاء
التي
تصورها تصويراً يجعلنا نشعر بأنك معني بالمكان، والمكان معني بك. حتى
اللقطة
العريضة التي تأخذها عن المدينة ليست بهدف التغني...
-
أكل لقطة عريضة هي للذمّ.
هدفها ابراز القبح الذي صنعه الانسان.
دائماً اتعامل مع الفضاء باعتباره يجب أن
يكون في خدمة الانسان. الدار البيضاء هي آلة طاحنة للانسان
بقبحها وبعدم تهيئتها
كمدينة. إنها غولٌ ساحق، وهي الاطار الذي يجري في داخله هذا الاجرام كله.
فهي فضاء
للاجرام ولقتل ما هو جميل. الدار البيضاء بالنسبة إليَّ هي المغرب المصغر.
المكان
الذي تجتمع فيه التناقضات كافة. انها حلبة الصراع والحراك
الاجتماعي والسياسي
والثقافي. الدار البيضاء التي صوّرتها قبل سبع سنوات مختلفة عن هذه التي
صوّرتها
الآن، ولن تكون هي نفسها بعد عشر سنين. هي متحولة وفي حركة دائمة. تحولها
الآن هو
نحو الأسوأ. حتى الفاعل فيها هو ابن دمار سابق، لا ينتج الا
دماراً. هي مدينة فاقدة
لمكونات المدينة.
·
ما رأيك بالنهضة الحاصلة الآن في
السينما المغربية، وقد
وجدنا نفسنا هنا في مهرجان أبو ظبي أمام خمسة أفلام مغربية، وهذه سابقة...
ـــ
لا نستطيع أن نتكلم عن نهضة، بل حالة عشوائية غير ممنهجة. ليست هناك سياسة
واضحة
المعالم.
·
لكن، هذه حال كل النهضات في
العالم: لا أحد يخطط لها بل تنطلق بطريقة
عشوائية. هل "الواقعية الايطالية" كانت ممنهجة؟
ـــ نعم "سنيور". كان هناك كتّاب
سيناريو، يلتقون، ضمن الحراك السياسي الموجود حينذاك. كان هناك
وعي سياسي وطني
حقيقي. ليس لتهيئة سينما، بل لصناعة شيء ما يكون مغايراً. وكانت هناك
سينمات أخرى
جانبية لا قيمة لها وانتهت مندثرة. لكن من أسّس لسينما ايطالية في العالم،
هي هذه
الاسماء القليلة التي كانت تملك الوعي. هذا معدوم في المغرب. ما يُنتَج
اليوم في
المغرب يجب أن يكون على الشكل الآتي: أن يتضمن كلاماً ساقطاً
وأن يحتوي على
عري...
·
ما المشكلة مع العري؟
-
جميل. لكن تفضّل وتكلّم عن العري في أبو
غريب أو في السجون الاسرائيلية أو الاغتصاب عند المخابرات
العربية. لماذا الكلام
فقط عن العري المجاني؟
·
ما علاقة هذا بذاك؟ العري لا
يحتاج الى مبرر، ليس هناك
عري مجاني، بعكس ما يُقال، العري من صميم الحياة...
-
ليس هناك رجل واحد يتعرى
في فيلم أميركي، الا اذا كان الفيلم اباحياً.
·
هذه مفاهيم قديمة. هل أنت مع "السينما
النظيفة"؟
-
أنا مع سينما ذات قضية. مع السينما التي تشبه ثقافتك ولغتك
ولونك. أنا مع سينما منتمية. أنا مع سينما غرامشية.
·
سينما النضال باتت
بعيدة...
-
لا اتكلم عن النضال. أنا أحكي عن شيء يمنحك قوة الانتماء. لم
أشاهد
فيلماً تناول موضوع العري بجدية. العري من الأجندات الخارجية. لا اريد أن
اقصي
الغرب أو ألغيه. لكن اؤمن بصراع الحضارات. من يملك السلطة يملي ولا يتحاور.
وأنا في
وضع من يُملى عليه. لذا قدري هو المقاومة. للبقاء وليس لشيء آخر. فكيف يجرؤ
هذا
الغرب المتمكن من كل شيء أن يمنعني عن هذا؟
·
قلت قبل بدء حديثنا أن السينما
وطنك. لكن كيف تفسر أن جريدتك شنّت هجوماً شرساً على السينما في المغرب؟
-
ابدأً. فليأتني أحد بمقالة واحدة. الجريدة التي أسستها ناجحة
وهي الاولى في المغرب
من حيث الانتشار. نبيع 130 ألف عدد منها كل يوم، لكن عدد القراء يصلون الى
مليون (...).
·
نُشرت مرة في جريدتكم صورة
لرومان بولانسكي وتحتها تعليق: "هارب من
العدالة الأميركية في مهرجان مراكش". هذا الأمر أجده غريباً:
فأنتم أعداء أميركا،
لكن عند الحاجة لا تتوانون عن الاستشهاد بالقضاء التابع لها...
-
هذا الموقف لا
يمثلني. أنا لست صحافياً والمحررون في الجريدة لا يتكلمون بلساني. هناك ما
أوافق
عليه وهناك ما لا أوافق عليه. أنا مؤسس هذه الجريدة ولست رئيس تحريرها.
الجريدة هذه
جاءت بعد احتجاجي على فيلم "ماروك" [ليلى مراكشي ــ 2004].
فجأة وجدت كل الصحافة
مجيشة ضدي وبدأ يُقال عني اني اخواني وظلامي... اذاً، الجريدة ولدت كرد فعل.
تكالبوا عليَّ على نحو لا يطاق. قبل بضعة
أشهر، كنتُ المخرج الكبير وتحولت فجأة
ظلامياً. الجسم الصحافي في المغرب موبوء. ليس هناك حرفية
واستقلالية عند صنّاع
القرار.
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
نقد
"الحياة
تستحق أن نعلن الحرب من أجلها" تقول فاليري
دونزيللي
"لماذا
نحن؟"، يقول الزوج المنتكس روميو لزوجته جولييت، وهما
ينظران الى الحياة التي تتابع وتيرتها من نافذة المستشفى
الباريسي حيث يرقد طفلهما
المصاب بواحد من أخطر أنواع السرطان، اذ ان نسبة شفائه منه لا تتخطى العشرة
في
المئة. "لأننا نملك القدرة على التحمل"، ترد الزوجة، كأنها لم تكن تتنظر
الاّ هذا
السؤال لتصر على أن المعركة لن تمضي بها الى الاستسلام.
هذه لقطة معبّرة، من
بين عشرات اللقطات المؤثرة، من فيلم "الحرب أُعلنت"، الثاني للفرنسية
فاليري
دونزيللي، الذي يُعرض حصرياً في "متروبوليس" (أمبير ــ صوفيل). تعاملت
الأقلام مع
الفيلم بحماسة شديدة وداعمة، منذ الكشف عن تفاصيله في مهرجان كانّ، قسم
"اسبوع
النقاد"، والى أن قرر المركز القومي للسينما في فرنسا تسميته لجائزة
"أوسكار" أفضل
فيلم أجنبي. لكن، بغض النظر عن هذا كله، يمكن اعتبار "الحرب اعلنت" حالة
سينمائية
في ذاتها. فاذا نظرنا جيداً الى النحو الذي انجز فيه (تصوير غير تقليدي
لمخرجة لم
تدرس السينما) والنتيجة التي تم الحصول عليها، فسنقتنع حتماً
بحقيقة أن هذا الفيلم
إحدى المعجزات التي لا تحصل الا نادراً.
نمط؟ اسلوب؟ مرجع؟ لا يحيلنا "الحرب
أُعلنت" على أيٌّ من التيارات التي تجرجرها السينما الفرنسية
خلفها. فبعض من أهميته
يكمن في بقائه على مسافة مما يسمّى موضة. انها التجربة الشخصية المؤلمة
التي عاشتها
المخرجة دونزيللي وحبيبها جيريمي ألكاييم (يضطلعان بأدوارهما الحقيقية في
الفيلم)
تتحول رواية سينمائية ذات براغماتية لافتة،
قوامها الاختزال والسرد الديناميكي
والانفعال الذي يتسلل حتى من أكثر المشاهد بساطة. مأساة
استئصال ورم سرطاني من دماغ
طفل لم يبلغ الثانية من عمره بعد، تحكيها المخرجة بغرابة شديدة.
الميلودراما
التقليدية تفسح المجال هنا لصيغة حكائية قائمة على الكونتراست والتناقضات.
غضب
دونزيللي مثير. يبدأ بشيء من التمرد وينتهي بحكمة يكاد يكون
درساً في الحياة
والسلوك. الحقائق لا تعبّر عنها تجسيداتها الواضحة والبدائية. الفرح لا
يُترجم
بابتسامة والحزن لا يعني دمعة. كل مشهد يتجاوز ما يسبقه في قدرته على
الاقناع،
ودائماً المفاجأة في الطليعة. الحياة ماراتون متواصل، لكن
السعادة غير مضمونة
للعداء. واذا ألقي القبض على الثنائي بتهمة الغناء وهما في سيارة أجرة،
فهذا ليس
للتخفيف من وطأة المصيبة، انما للتأكيد ان الحياة، مهما بلغت أسى وسواداً،
ليست
كتلة متراصة على قلب الانسان، بل تبقى هدية.
اذا قبلنا السعادة، فعلينا أيضاً
قبول المأساة. بهذه الفكرة الفلسفية البسيطة، تأخذنا دونزيللي
في رحلتها التلقينية
التي تبدأ في صخب نادٍ ليلي حيث تغرم جولييت بروميو من النظرة الاولى،
وتنتهي
فصولها المتحولة على شاطئ بحر كما في فيلم شهير لتروفو. لكن فيلما طريفا
ومؤلما
يقطن بين هاتين الضفتين، على شاكلة الحياة التي يعيشها معظم
البشر: تنطوي على تناغم
عشوائي بين الصفاء والصراع، بين الحرب والسلام.
في الفصل الأول، انها الحياة
المدهشة: باريس كأننا في الستينات. العيش اللامبالي، لقطات
مدينية نتخيل أنها طالعة
من فيلم لغودار. الثنائي يمعن في حرية، تصورها المخرجة بخلفية موسيقية
كأنها تريد
إزالة المعنى السياسي المرتبط بهذه الحرية. في هذا الفصل، لا مكان للتفكير.
في حين
سيتمكن الفصل الثاني من الامساك بضلوعهما، واستجوابهما وإشهار
الاسئلة المقلقة.
في كلا الفصلين، الطريقة اختزالية في التعبير. عظمتها خفتها التعبيرية.
دونزيللي جدية لكن لا تأخذ نفسها على محمل الجد. هناك شعرية في مأساتهما،
نوعٌ من
رمي للذات في النار، ذلك انهما يدركان، منذ لحظة اللقاء الاول،
ان في انتظارهما
مصيراً مشابهاً لمصير بطلي شكسبير. من اثر زائف الى آخر، ومن احباط لمخطط
يتنامى في
ذهن المشاهد الى آخر يشق طريقه، يجعلنا الفيلم شهوداً على عظمة الاخراج
السينمائي
وما هو قادر عليه، حتى في اللحظات الحرجة درامياً. هذا الفيلم،
ذو الايقاعية
المتقطعة، يحمل سره في داخله، كدليل على ان تقديم ما هو مستجد ومثير ممكنٌ
حتى في
التيمات المستهلكة.
اذا كان الفصل الثاني ردّاً على الفصل الأول، اي ان مقابل
كل صعود هناك تدحرج وسقوط، فإن دونزيللي تستطيع بإلهامها الفكري وحدسها
النسائي،
القفز فوق كل ما يعترض طريقها. داخل كل هذا الاصرار على
المعركة الذي نشاهده في
البدء بنوع من سخرية لئيمة معتقدين انه خاسر، هناك ردّ اعتبار الى نظام
الرعاية
الصحية في بلد مثل فرنسا. هنا، الواقع يضع يده علينا فجأة: "هذا الفيلم لم
يكن
ممكناً انجازه في أميركا"، تقول دونزيللي. الى هذا التعليق يمكن اضافة: هذا
الفيلم
لم يكن ممكناً اتمامه لو لم تحمل دونزيللي هذا الجنين في احشائها لمدة تسعة
أشهر.
الخلايا الملتقطة بالمجهر التي تُدرج نماذج منها في فيلمها، لا يمكن ان
تقول شيئاً
عما في داخل الانسان، مقابل ما تقوله هي في فيلمها: الحياة تستحق ان نعلن
الحرب من
أجلها.
يُعرض في "متروبوليس".
المصرية في
08/12/2011
وهلّأ لوين؟ حين تمسك المرأة زمام العالم
خاص بوابة المرأة: فريد رمضان
تطرح بانحياز تستحقه السينارست والمخرجة والممثلة "نادين لبكي" في
فيلمها الجديد "وهلأّ لوين؟" والذي يعرض حاليا في السينما، قوة المرأة
وقدرتها الخرافية في وضع واقتراح الحلول لأكثر مشاكل العالم المعاصرة، ألا
وهي: الصراع الطائفي!
تدور أحداث الفيلم "وهلأّ لوين؟" في قرية لبنانية صغيرة ومعزولة عن
محيطها بسبب صعوبة الوصول إليها بسبب منحدر جبلي وبسبب انتشار الألغام في
الطريق الوحيد المؤدي إليها، يسكنها مسلمون ومسيحيّون حيث يعيشون في سلام
ومحبة، ويمكن ملاحظة علاقة الحب بين "أمل" المسيحية والصباغ "رابح".
بعد تركيب جهاز تلفزيون في أحد ساحات القرية، يبدأ تأثير الصورة
الإعلامية على السكان، خاصة الرجال فتندلع المشاحنات الطائفية فيما بينهم.
وتزداد بعد تردد أخبار باندلاع حرب طائفية في البلد، يذهب ضحيتها احد أبناء
القرية "نسيم" الذي عادة ما يذهب مع "ركوز" لإحضار ما تحتاج إليه القرية من
ضروريات حياتية، ومع تكالب الحوادث بين الكنيسة والمسجد، وبين حادث هنا،
وآخر هناك، يشتد الصراع ويتأزم الوضع منذرا بنية الرجال لإخراج السلاح
والدفاع عن الطائفة ضد الطائفة الأخرى.
تستشعر النساء خطورة الوضع الذي سوف يدفع القرية إلى حرب لا نهاية
لها، عانوا منها سابقا، عبر ضحايا شباب مدفونين في مقبرتين محاذيتين، يفصل
بينهما طريق ترابي، تفتح به "نادين لبكي" الفيلم عبر نساء القرية وهن يقدم
افتتاحية تعبيرية رائعة الجمال، تنفيذا وإخراجا، عبر رقصة مستمدة من تراث
المسلمين والمسيحيين مطعمة بابتكار فني، تقدم من خلاله تجاوزا في الخطاب
السينمائي العربي المكرر، عبر جرأة وصورة بصرية مشحونة بالدلالات والمجازات
التعبيرية.
تسعى نساء القرية المسلمات والمسيحيات في محاولة لتخفيف من حدّة
المشاحنات بين الرجال وتصعيد الخطاب الطائفي إلى بعض الحيل والخدع التي
ممكن أن تلهي الرجال عن الحرب، فيجدن في باستقدام راقصات ذي أصول أوروبية
شرقية لإلهاء الرجال عن المشاكل الطائفية، وكيف يشكل الجمال وسطوة الأنثى
والجنس على عقل وتفكير الرجال، تنجح المحاولة كعلاج مؤقت، ولكن عندما يشتد
الصراع تجد النساء نفسهن أمام خيار ناجع في اعتقادهن، حيث ثم يقمن بخبز
الحلوى ودسّ الحشيش والأدوية المخدّرة فيها في محاولة لسحب السلاح من
القرية ودفنه بعيدا عن معرفة الرجال.
وأخيرا، تعلن كل امرأة تغيير دينها لوضع الرجال تحت الأمر الواقع
فالمسيحية تعتنق الإسلام ، والمسلمة تعتنق المسيحية، خاص بعد تخدير الرجال،
فعندما يستيقظن من نوم أذهبت بعقولهم يكتشفون ويبدؤون بالشك في هويتهم
وتختلط عليهم بين المسيحية والإسلام.
وينتهي الفيلم بتشيع جميع رجال القرية لجنازة "نسيم" وهم يطرحون
سؤالهم الجوهري على النساء بعد حيرة في دفن الصبي في مقبرة المسلمين أو
مقبرة المسيحيين: وهلّأ لوين؟ لينتهي الفيلم حاملا معه حزمة من الأسئلة في
فهم الهوية والصراع والقيمة الإنسانية، كل ذلك بعد سيناريو نجح في تقديم
فيلما كوميديا فنتازيا غنائيا راقصا، يطرح قضية سياسية واجتماعية حاضرة في
أكثر من بلد عربي، ينجح في أن يلعب على مشاعرك كمتفرج من خلال الكوميديا
السوداء، دون إغفال لعنصر الفرجة السينمائية في فيلم يقترب من الأفلام
الاستعراضية.
حقق الفيلم نجاحا جماهيريا على أكثر من صعيد، عربيا ودوليا، ودخل ضمن
قائمة الأفلام المرشحة لجائزة الأوسكار لحسن فيلم أجنبي. كما فاز الفيلم
بالعديد من الجوائز لعل أهمها جائزة الجمهور في مهرجان تورنتو، جائزة أفضل
فيلم أوروبي كونه إنتاج فرنسي في مهرجان سان سيباستيان، جائزة البايار
الذهبية في مهرجان نامور للسينما الفرانكفونية، جائزة الجمهور في مهرجان
الدوحة تربيكا السينمائي، ومهرجان الجنوب في أوسلو، وكلها في هذا العام
2011م.
بوابة المرأة في
08/12/2011 |