انصبابَ المؤسّسات الغربية على تمويل الأفلام المغاربيّة ليس بريئًا في
أغلبه، بل يتبطّن على رغبة تلك الجهات في تمرير بعض مفاهيمها.
لئن واجه الفعلُ السينمائي المغاربيّ منذ بداياته مجموعةً من العوائق
أثَّرت في مردوده الكميّ والنوعيّ وأوْهنتْ فيه القدرةَ على مزاحمة
النتاجات السينمائية العربية والغربية في زمنٍ حضاريٍّ تعوّل فيه الشعوبُ
على فنونِها لصيانةِ هُويّاتها المحليّة والقوميّة، فإنّه يقف اليوم مشدوها
على عتباتِ واقع ذي ملامح سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة جديدة أفرزتها
مجرياتُ الثورات العربية، وهي ملامح تطرح كثيرًا من الأسئلة من جهة غلبةِ
الدّينيِّ فيها على الثقافيّ الإبداعيّ. ذلك أنّنا نشهد انزياحًا بطبيعة
نمطِ الدولة من حيّز المَدنيِّ إلى حيِّزِ العقائديّ، وهو أمر يطرح علينا
مجموعةً من الأسئلة المتعلّقة بطبيعة العلائق التي ستربط الفنون البشريّة،
وبخاصة منها السينما، القائمة على شروط التجاوز ومخالفة السائد وانتهاك
الطابوهات، بمؤسّساتٍ تحتكم إلى سَنَنٍ دينيٍّ في إدارة شؤون الثقافة
والإبداع عامّةً، وهو أمر قد يدفع إلى ظهور مشكلاتٍ تواصليّةٍ بين النّتاج
السينمائيّ والجهات السياسيّةِ.
وعليه، يمكن أن نوزّع ما قد يظهر من مشاكل إلى أصنافٍ ثلاثة ممكنةٍ:
أوّلها حضاريّ، وينعقد على خطورة وظيفة الفنون السينمائيّة وما صار لها من
تأثير في الرأي العام بعدما تَيَسُّرِ لها التواصل السهل مع الناس وتنوّعت
طرائق عرضِها وتعمّق تأثيرُها في المتلقّي من خلال ملامستها للمسكوت عنه في
المتخيّل الجمعيّ. وهي وظيفة يمكن لها أن تطرح على الفاعلين السينمائيين
التصدّي لبعض الانزياحات الاجتماعية أو السياسيّة بتعديلِ سياقاتِها
والتخفيف من حِدّة انصبابِ فعلِها على الناسِ ما يزيد من توتّر علائق
الفنيِّ بالسياسيِّ.
أمّا الصنف الثاني من المشكلات فهو تقنيّ، وتفصيلُه أنّه في الوقت
الذي شهدت فيه الوسائل التقنيّة أوجَ تطوُّرِها وتنامت فيه مكتشفات علوم
الصورة والحركة والصوتِ، ظلّت الصّناعةُ السينمائيّة المغاربيّة عاجزة عن
مواكبة هذه التطوّرات التقنية. وهذا ما يراه البعض مساهمًا في هجرة
السينمائيّين المغاربيّين بأفكارهم إلى دول أوروبا ونُدرة إنتاجِ مَن بقوا
منهم في أوطانهم وتهافتِ مضامين أعمال بعضهم وعدمِ قدرتِها على تحقيق
انتظارات الجمهور ما قد يفتح البابَ أمام اقتصار تمويل الجهات الرسميّة على
نمطٍ من السينما خادم للتوجّهات السياسيّة الجديدة.
ويتمثّل ثالثُ الأصناف في الجانب التّيميّ للأفلام، حيث لم تتخلّص
السينما المغاربيّة من عقدة "تمجيد التاريخ التحرّريّ" ولم تتمكّن من صناعة
"رموز" جديدةٍ تلبّي حاجات الناس في الحريّةِ والعدل والمساواة، وهي
المطالب التي قامت من أجلها بعضُ الثورات العربية الحديثة. وهنا قد تُشجّع
بعض الأطراف السياسيّة المتلقّي المغاربيّ على عدم التواصل مع الأفلام
ومعارضته لموضوعاتها، بل وقد تدفعه بخطابِها العقائديّ إلى رفضها على
اعتبار أنّها تعتمد أسلوب الإثارة حين تخاطب فيه الجَسدَ وتتلكّأ كثيرًا في
مخاطبةِ حاجاتِ فكره. وقد تجد تبريرًا لذلك في القول بأنّ هذه السينما لم
تتجلَّ بين الناسِ نتاجًا فنيًّا ذا وظيفة اجتماعيّة وثقافية وسياسيّة
واستهلاكيّة طيلة العقود الثلاثة الأخيرة، بل اكتفتْ من وظيفتِها الجمالية
بتجميل مَشَاهد الواقع المعيش عبر قناة اللغة البصريّة أو تعريتِه في شكلٍ
تصويريٍّ ساذج، وإذا غارت قليلاً في أعماق هذا الواقع، فإنّها لا تبلغ فيه،
على ما يرى البعض، إلاّ قشرتَه وتقف عند حدودِ المحرَّماتِ تُفجّرُها
تفجيرًا خاليًا من كلّ فلسفةٍ وتبصُّرٍ، فلا تؤسِّسُ لتاريخِها أخلاقًا
جديدةً، ولا تنخلُ تاريخَ الأخلاقِِ القائمة من أتربةِ المألوفِ. ولنا أن
نجمل أغلب مطبّات الفعل السينمائي المغاربيّ الراهن في العناصر التالية:
• "السيناريو" المفقود
لم تسعَ السينما المغاربيّة إلى تجسير العلاقة بين كلّ ما هو سينمائي
وكلّ ما هو روائي، حيث لم تستثمر الكمّ الهائل من النصوص الروائيّة
المطروحة في المشهد الثقافي المغاربيّ الراهن، بل وجدنا كثرة كثيرةً من
المخرِجين يعوِّلون على أنفسهم في كتابة حكايات أفلامهم، لا بل وينتصرون
لما يكتبون في كثيرٍ من تداخل الوظائف (الإخراج، الكتابة، التمثيل،..) حتى
تحوّلت أفلامهم من التركيز على بُطولة المُمثِّلِ إلى التركيز على بطولة
"المُخْرِج"، بالإضافة إلى الركون إلى القول بأنّ احترام قوانين الكتابة
السرديّة يُقيّد الإبداع ويقتل فيه إمكانات الفُرجة.
ووفق بعض الإحصاءات فإنّ "66% من الأفلام المغربية كتبها مخرجوها،
ونصف الثلث الباقي شارك فيه المخرج في كتابة السيناريو، أي أن 17% فقط لم
يكن فيها المخرج كاتبا"، وهذه النسب تتماهي مع ما هي عليه حال نسبة كتابة
السيناريو من قبل المخرجين بكلّ من الجزائر وتونس. ولعلّ هذا ما جعل رحلة
البحث عن السيناريو بالنسبة إلى المخرجين رحلةً تحتاج كثيرا من الجهد
والزّمن اللذيْن يُقلِّلان من فرص تواتر الإنتاج ويمنعان تكوّن ثقافة
الإقبال على السينما لدى الجمهور. وفي هذا الشأن، تُقرّ المخرجة التونسيّة
سلمى بكّار بصعوبة إيجاد السيناريو بالنسبة إلى أفلامها واضطرارِها إلى
كتابة حكايات أفلامها عبر استنطاق البيئة التي ترغب في تصويرها بما يضمن
لها بعض الصّدقة، على حدّ قولها "والحكايات التي أسردها في أعمالي والتي
تعلّقت دائما بالماضي وبالذاكرة الجماعية النسائية المسترسلة بين جيل وجيل
كجيل أمي وجيلي أنا، بقيتُ لسنوات أبحث وأجمع المعلومات حولها قبل أن أسمح
لنفسي بكتابة السيناريو. فلإنجاز "حبيبة مسيكة ورقصة النار" الذي يتناول
حياة فنانة تونسية يهودية عاشت في الثلاثينيات بحثت طوال عشر سنوات عن هذه
الشخصية، محيطها وزمانها.
ما أريد قوله هو أنّ المخرج يجب أن يعيش ما يعمله، إذا كان في الماضي،
فعليه جمع المعلومات والوثائق المتعلّقة بالموضوع ويتعمّق قدر المستطاع ولا
يبخل بشيء من وقته وجهده في ذلك، أمّا إذا كان واقعا معيشا فعليه أن يتنقّل
ويتعايش مع ذلك الواقع ويتفاعل معه حتى يقترب منه ويشعر به" . ورغم ما
نُلفي في قول سلمى بكّار من سعيٍ دؤوبٍ إلى تجويدِ سيناريوهات أفلامها إلاّ
أنّ مشاهدةَ بعض أعمالِها السينمائية تشي بتشظّي الحكاية فيها، وطغيانِ
جمالية الصورة على جمالية الفكرة، والسّطحيةِ في مقاربة التّيمات الأخلاقية
التي تروم الخوضَ في تفاصيلها.
• تَكلّمْ بلُغة الشَّعْبِ حتى أفهَمَكَ
من نواتجِ استسهالِ مُخرجي السينما المغاربية لكتابة سيناريوهات
أفلامهم وتكفُّلِهم بتأليفِ نُصوصٍ سينمائيّة دون أن تكون لهم الشروط
المعرفيّة لتوفير أدبيّتِها، اتّكاؤُهم على "لغة الشَّعْبِ" يكتبون بها قصص
أفلامهم من بابِ أنّ الجمهورَ لا يقبلُ إلاّ لغتَه وأنّ السينما لا تكون
إلاّ واقعيّةً في إطار فولكلوري. ولكنّ الذي عليه أغلب نقّاد السينما
المغاربيّة هو أنّ استعمالَ اللهجات في المنطوقات السينمائية مَنَعَ
الأفلامَ من تجاوُزِ فضائِها الجغرافيِّ وحدَّ من تواصُلِها مع الآخر، بل
ولم يُشجّع على إيجاد صناعةٍ سينمائيّة تضمنُ للمُخرجِ إيجادَ سبيلِه إلى
الانتشار العالميّ. ويبدو أنّ بعضَ الفاعلين في قطاع السينما تفطّن إلى أنّ
ما يُرَدُّ من أمر ضآلة انتشار السينما المغاربيّة إلى صعوبة اللهجات
المحليّةِ التي هي خليط من العربية والأمازيغية والفرنسية أمرٌ مغلوط
يستعمله نقّاد السينما للتعمية على الكسل في التصنيع السينمائيّ على حدِّ
ما يذهب إليه الممثّل التونسي أحمد السنوسي في قوله إنّ "مشكل اللهجة
يستعمله البعض كتعلّة للغياب، والحلّ هو في كثرة الإنتاج التي ستُتيح
للجمهور العربيّ الاقترابَ أكثر من لهجتنا وثقافتنا، فالجمهور التونسيّ لم
يكن يعرف اللهجة المصرية والشامية والخليجية ولكنّ كثرةَ مشاهداته للأعمال
الدرامية جعلته يستسيغ مثل هذه اللهجات" . وينحو المُخرِج المغربيّ جيلالي
فرحاتي نفسَ هذا المنحى من خلال تأكيده على أنّ "اللهجة الدارجة المغربية
غير صعبة على الفهم" إلاّ أنّ ندرةَ الإنتاج وتهافتَ الحكاية السينمائية
هما مَنْ يُنفِّرُ المتلقّين من بعض الأفلام.
• أموالُ "الخارج" تُعرّي أجسادَ الداخل
يمكن، مع بعض الحذر، توزيع تاريخ السينما المغاربية إلى مراحل ثلاثٍ:
مرحلة السينما التي تصوّر الكفاح الوطنيّ على غرار أفلام "الفلاّقة"
للتونسي عمّار الخليفي عام 1970 و"وقائع سنين الجمر" للجزائري محمد الأخضر
حمينة عام 1974 و"الحياة كفاح" للمغربيَيْن محمد التازي وأحمد المسناوي عام
1968، ومرحلة الأفلام التي كرّست أهدافها للحديث عن مشاغل الناس في مجتمع
الاستقلال التي تبنّتها الحكومات المغاربية في تلك الفترة مثل فيلم
"السفراء" للناصر القطاري و"عزيزة" لعبد اللطيف بن عمار، وتتميّز المرحلة
الثالثة بتناول قضايا الذات في علاقتها بمحيطها الاجتماعي وجسّدتها أفلام
النوري بوزيد ومفيدة التلاتلي من تونس وعلال يحياوي وبهية راشدي وهشام
مصباح من الجزائر ومصطفى الدرقاوي وليلى مراكشي من المغرب.
وقد مثّل تمويلُ الصناعة السينمائيّة المغاربيّة مصدر أرَقٍ فنيّ
وإبداعيّ بالنسبة إلى جميع مُخرجيها ودفعهم إلى المشيِ في وَحْلٍ فنيٍّ
وتقنيّ وماديٍّ جهيدٍ. إذ بتناقص حجم تمويل المشاريع السينمائية من قبل
الحكومات المغاربية التي كانت شجّعت في بداية سبعينات القرن الماضي
الأفلامَ التي تُمجِّدُ ثورات التحرير الوطنيّ، وتُكرِّسُ في المتلقّين
ثقافة الاستقلال، راح الإنتاج السينمائي يعيش تراجعًا بيِّنًا في العدد
والعُدّةِ، حيث تقشّفتْ وزارات الثقافة المغاربية في دعم السينما، خاصة
بعدما اتجه بعض المخرجين إلى تناول موضوعات اجتماعية وسياسيّة وأخلاقية
تتغيّا نقدَ الراهنِ والدعوةَ إلى تثويره والتأسيس لتصوّرات عن الواقع
جديدة، وهو ما انجرَّ عنه تراجع في عدد الأفلام وكذا في عدد قاعات السينما،
حيث لا يتجاوز عدد الأفلام المنجزة بهذه الأقطار حدودَ الثلاثِ مئةِ فيلما
منذ منتصف القرن الماضي إلى الآن، وتراجع عدد قاعات العروض السينمائية
تراجعا ملحوظًا بل ومُفزِعًا، حيث كان يبلغ 400 قاعة عرض بالجزائر وأصبح 15
قاعةً فقط، وفي تونس كان يصل إلى 82 قاعة وصار الآن 40 قاعة وفي المغرب
انحدر من 300 إلى 50 قاعة، وهي أرقام تُخفي نُدرةً في عدد المشاهدين
وإقلاعهم عن عادة الجلوس أمام الشاشات الكبيرة ومن ثمة نُدرة الإيرادات
المالية. ولعلّ بعضٌ من هذه الحال دفع المخرجين إلى سلوكِ إحدى السبيليْن:
إمّا الهجرةُ إلى أوروبا والاندراج في منظومتها السينمائية التي تُبيح لهم
أشكالاً من التعبير عن أفكارهم غير متوفِّرة في بلدانهم تحت مُسمّى
"السينما البديلة"، وتمكّنهم من الدعم الماديِّ لإنجاز أفلامهم أو المشاركة
في إنجاز أفلام مع مخرِجين غربيين ولكن وفقَ أشراطِ السياقات الثقافية
السائدة بين شعوب أوروبا، وإمّا البقاء في الوطن الأمّ والبحث عن
مُمَوِّلين أجانب لأعمالِهم.
ولا يُخفَى أنّ انصبابَ المؤسّسات الغربية على تمويل الأفلام
المغاربيّة ليس بريئًا في أغلبه، بل هو يتبطّن على رغبة تلك الجهات في
تمرير بعض مفاهيمها وتصوّراتها الفكرية التي تختلف مع ما يوجد عند شعوب
الفضاء المغاربيّ بغاية استنباتِ نوعٍ من الاستلاب الثقافيّ لدى هؤلاء
وإفقارهم من جميع عناصر هُويّاتهم الوطنية والحضاريّة عبر فرضِ موضوعات
يراها البعض أنها تمارس انتهاكَ بعض المقدّسات كالجنس والدّين، على غرار
الفيلم الفرنسي الإيراني "بارسي بوليس" الذي أثار موجة من الانتقادات لدى
فئة من المشاهدين في تونس، وذلك عبر مَشاَهدَ جسديّة ناعمةٍ أو ملفوظات
صادمة تقتُلُ في المُشاهِد كلَّ حياءٍ وتُثيرُ فيه مجموعةً من الأسئلة
نختزلها في ثلاثةٍ: هل يمكن اعتبار الأفلام المُمَوّلة أجنبيًّا أفلامًا
مغاربيّةً؟ هل يستطيعُ المخرج السينمائيّ المغاربيّ أن يفرض رؤيتَه
الفكريّة في صناعةٍ سينمائيّة تحتاج أموالاً طائلةً لا يمكنُ أن توفِّرَها
له دولتُه؟ ألا تشي مشاهدتنا لمثل تلك الأفلام بكونها أفلامًا أجنبيّة
واعية يقوم بالأدوار فيها ممثّلون مغاربيّون غير واعين بأخطارِها الثقافية؟
ميدل إيست أنلاين في
13/11/2011
المركز الوطني للسينما والصورة في تونس: بين الواقع
والآمال؟
د. أنور المبروكي
تردد في وسائل الإعلام التونسية كما الأجنبية في الأيام الفارطة ميلاد
مؤسسة جديدة تسمى " بالمركز الوطني للسينما والصورة" وهو في الحقيقة خبر
يسر الجميع، وبقدر ما كان اعجابنا بالفكرة كبيراً أصبح اهتمامنا بالموضوع
أكبر، فهو عبارة عن بوابة جديدة لإعادة طرح العديد من الأسئلة حول
بيداغوجيا وجغرافيا هذا المولود الذي نأمل أن يكون مؤهلاً أن يكون.
إذاً عديدة هي الأسئلة التي تخامر أذهان المهتمين بعشاق الشاشة
الكبيرة وأنا اطرح معهم نفس السؤال عن المفاهيم والاستراتيجيات الجديدة
التي سيشتغل ضمنها هذا المولود الذي نتمناه مدللاً شعبياً، كما نطرح كذالك
السؤال الأثقل وزناً وهو ما موقع الدولة من هذه المؤسسة أو بالاحرى هل حقاً
ستتمكن الدولة أخيراً من نزع نظارات الرقابة السينمائية التي لبستها طيلة
عقود لتطوي بذالك صفحة من صفحات الاديولوجيا السوداء التي طالما طاردت
مبدعيها طيلة سنوات؟
هل سيتمكن هذا المولود حقاً من تلبية مطالب كل مفاهيم الإبداع
السينمائي بطرفيه الحر المطلق والحر المقيد ؟ وماذا لو فشلت هذه المؤسسة في
توفير كل الماديات إذا ما تطلب تصوير بعض الأفلام أموالاً طائلة ،،، (وهو
أمر أكيد ) ؟ هل يمكن أن يؤدي ذلك إلى اللجوء من جديد إلى دعم خارجي يفرض
كالعادة بنود موافقة قد تقلب الفيلم رأساً على عقب ؟
هل يؤسس هذا المولود السينمائي الحديث نوعاً جديداً من البيداغوجيا
السينمائية الحذرة خاصةً بعد ما ثبت سوسيولوجياً أن الشعوب غالباً ما
تجمعها الصورة الجنسية بسيكولوجياً وتفرقها الأفكار المابعدية حولها
براغماتياً ؟
قد لا نغالي صراحةً إذا قلنا أن القمع الذي صنعه النظام الإستبدادي في
تونس منذ أكثر من نصف قرن قد صنع في الحقيقة مجتمعاً ثائراً ثورةً وثأراً
وهو ما زاد في إرتفاع أرقام رصيده الإنتقامي ضد الأنظمة السياسية
والسياسيين. تلك الأنظمة كانت غالباً ما تشتغل وفق مخططات نظرية بدون أهداف
ولا حتى نتائج إيجابية. فنأخذ مثلاً السياسة التعليمية في تونس زمن الحكم
النوفمبري لنلحظ تحولاً متذبذباً في تغيير المفاهيم والتطبيقات كما في
الأسماء ، لتتحول ضمنه وزارة التربية مثلاً من وزارة التربية القومية سنة
1987 إلى وزارة التربية و التعليم العالي ثم يضاف إليها البحث العلمي ثم
يفصل التعليم العالي عن التربية فيعوضها التكوين و،،،و،،، لتنتهي في
النهاية هذه الوزارة "عازبة" أو مطلقة بدون طليق، بلا قومية ولا تكوين ولا
بحث علمي ،،،
هذه النقلة المتذبذبة هي في الحقيقة كشف واضح عن سياسة الفشل الذريع
في آداء الدولة لمهامها التعليمية والتربوية ، فنتحدث بذالك عن تربية
وتعليم متسيس وبما أن كل ماهو مسيس يشكل نفوراً بل وحتى عقدة للشعب التونسي
اليوم فإننا وبصراحة لا يمكن أن نلوم في الوقت الحالي هذا المجتمع على
هذا النفور الحذر بينه وبين الفن السابع.
فالسياسات التعليمية التربوية الفاشلة انشأت فئات إجتماعية قد لا
يستوعب غالبيتها اليوم المفهوم الحقيقي للحرية في الفكر والإبداع التي
لم تتعلمها لا في المدرسة و لا في المعهد و لا في الجامعة و لا حتى في
الكتاب، كما الحرية في تقبل الرأي المخالف بما أنها كانت وطيلة سنوات لا
تعرف سوى الرأي الواحد قمعياً في إطار نظام سياسي إستبدادي لم تفلت منه حتى
الأرتمتيقا كعلم لتتحول كل نتائج الجمع والضرب والطرح إلى رقم واحدة هو
رقم 7.
هذا الرقم المسمى في المجتمعات الغربية بالرقم المتدين أو الرقم
الديني، عاث في تونس فساداً طيلة 23 سنة ونأمل أن لا تعود نظرية إستبداد
هذا الرقم من جديد بمفهوميه الغربي والسياسي وبطرق خفية.
نعود إذاً إلى السينما لنستخلص حقيقةً أن إحترام حرية الفكر في حد
ذاتها هو إحترام لحرية الإبداع كلمة وصورة ، فالكلمة ربما تقل وزناً عن
الصورة المتحركة أو الجامدة معاً، لكن تلك الحركة عندما تتحول إلى مشهد
سينمائي تطرح أحياناً ومن جديد مفهوم إعادة النظر في حرية إحترام الفكر
والإبداع وهو المشكل الذي يعانيه المجتمع التونسي اليوم والذي كما بينا
غير ملام عليه بما أنه لم يتدرب تعليمياً على الإيمان بهذه المفاهيم حقيقة،
فهي قد أخذت منه عوض أن تعطى له . فالإيمان بالإبداع والحرية السينمائية هو
حقيقة إرث ينطلق من البيت والطريق والمدرسة وداخل الفصل ومع التلاميذ
... ومنذ سن السادسة إذ لا يجب أن يولد هذا المفهوم اليوم عجوزاً فيصبح
عاجزاً أو تعجيزياً، فكل طفل هو في الحقيقة فنان لكن المشكلة هي كيف يبقى
فناناً عندما يكبر كما قال بيكاسو. هكذا إذاً يكون عسر الإيمان بمفهوم
الحرية في الإبداع الفكري أو المشهدي عسير الولادة اليوم بعد أن نام في بطن
منهكة سياسياً منذ 23 سنة .
إن الحالة الإجتماعية التي يعيشها أكثر من ربع التونسين اليوم من فقر
وخصاصة ومعاناة لهي في الحقيقة نتيجة لتلك السياسات التعليمية الفاشلة التي
زادت في فقر الفكر والجيب ، فكر موعود بالحرية الزائفة بواسطة سياسة "نجح
ولو بإمتحانات صورية " يدفع ثمنها اليوم الشارع التونسي بكل مؤسساته
الثقافية والدينية والإجتماعية والإقتصادية ،،،
فلا الفن تمكن من فهم السياسة والدين ولا السياسة أصبحت قادرة كلياً
على التحرر من صنع الفتنة بين الفن والدين ولا الدين أصبح قادراً على
إعادة النظر في زاويته الأديولوجية المعاصرة لتطمين الفن والبعد عن
السياسة.
هذا التنافر الموجود بين هذه المفاهيم الثلاثة (فن - دين - سياسة) هو
في الحقيقة نفس الفوضى التي عاشتها وزارة التربية والتعليم منذ عقود فأصبحت
هذه المفاهيم لا تلتقي لتتجاوز بل لتتنازع ، وكل نزاع يؤدي بسرعة إلى نزول
للشارع من كلا الطرفين. لكن هو في الحقيقة نتاج عدم التواصل إجتماعياً
وثقافياً بين هذه المفاهيم الثلاثة وهو ما جعل أحد الأطراف فيها غالباً ما
يلتجئ إلى الخارج للبحث عن الحرية بلا حدود سرعان ما تنقلب إلى أديولوجيات
عند عودتها إلى الوطن الأم.
هكذا يعيدنا هذا التحليل إلى النقطة الأولى التي افتتحنا بها هذا
المقال ألا وهي ولادة المركز الوطني للسينما والصورة ، فنؤكد مجدداً على
وجوب أن يكون هذا المولود الجديد وقبل كل شيء مؤسساً للحوار والإيمان
بالرأي والرأي المخالف حتى لا يعاد "الديقاج" فنياً من جديد .
نأمل أن لا تؤدي حرية التعبير فيه إلى "حرقة" جديدة قسراً وخلسةً إلى
الأراضي الأوروبية ونتمنى أن تعطى لمبدعينا كل الوسائل المتاحة للإبداع
السينمائي الجميل الذي يتجاوز الصراع مع السياسة و الدين ، كما نأمل أن
يكون توزيع الإعتراف بالأعمال الفنية ودعمها مالياً توزيعاً عادلاً لا
توزيعاً اديولوجياً سياسياً أو دينياً فتشجع سينمائيينا على مزيد التشبث
بالأرض لا التحريض على المغادرة.
نريد أن نرى حضوراً قوياً لسينمائيينا في المهرجانات السينمائية
العالمية اليوم حضوراً قوياً فنياً لا مجرد تكريمات بإسم الثورة . كما يجب
الإنطلاق في تكريس مشروع سينمائي جديد يجعل التونسي مثقفاً سينمائياً لا
مقموعاً وذلك من خلال تعميم قاعات السينما على كامل أنحاء الجمهورية ونشر
ثقافة الإيمان بمفهوم الحرية في الرأي كلمة وصورة ، كما لا يفوتنا التأكيد
على أن يكون الإيمان بمفهوم حرية الإبداع السينمائي نوعاً من أنواع الإيمان
الديني بواجب تقبل النظر في مرآة واضحة تعكس حياة التونسين الحقيقية لا
مجرد ومضات إشهارية لترويج انتاجات تبيع شعوبها عوض أن تسعى لكسبها . يجب
أن ينشأ اليوم صلح كلي بين السينما التونسية ومواطنيها و أن يرتقي
السينمائي إلى إقناع الجمهور بأن ما يدور على الشاشة الكبيرة هو مرآة عاكسة
عن واقعه الذي يجب إصلاحه بمشاهدته أمامه لا فقط مشاهدة نفسه فيه.
إن من علامات تقدم الشعوب هو أن يؤمن رجل الدين بأن الإيمان الحقيقي
هو إيمان بالإختلاف في الفكر وفي الصورة ،كما يؤمن الفنان بإحترام الحيز
الجغرافي و الإرث التاريخي الذي يوظف فيه فنه وفي نفس الوقت يؤمن السياسي
بإحترام مسافة الأمان بين الطرفين.
تقول الحكمة :" لا يمكن لرجل أن يصبح فناناً عظيماً دون أن تكون في
حياته قيم عظيمة ترفع الحياة إلى كرامة الفن " ، هكذا ترك لنا العظماء
الحكمة وعلينا فقط احياؤها.
أدب فن في
13/11/2011
قانون العزل الفنى وفلول الشاشة
محمد رفعت
هل رأيت فيلما لعادل إمام لا يشرب فيه الخمر أويتعاطى المخدرات فى
غرزة، ويرتدى روب أحمر ويقيم علاقة غير مشروعة أو أكثر..وهل شاهدت فيلما
لمحمد سعد، لا يمسك فيه بزجاجة خمور ويغنى فى الشارع وهو يمسك بمطواة
ويتحدث بلكنة غريبة ..وهل شاهدت فيلما للسيناريست وحيد حامد أو عملا فنيا،
«فيلم أو مسرحية» للكاتب لينين الرملى لا يسخران فيه من شخصية الرجل
المتدين أو من يطلق لحيته ويظهرانه على أنه فاسد وأفاق وعديم المروءة، سواء
كان سياق العمل الفنى يحتمل ذلك، أو كان المشهد محشورا فى سياقه لمجرد
الاساءة لصورة من يصلى أو يلتزم دينيا؟ وهل شاهدت فيلما من إنتاج «السبكية»
ليس فيه إيحاءات بذيئة أو ألفاظ مبتذلة أو رقصات خليعة أو قيم فاسدة؟ وهل
حولت الريموت كونترول عمدا أو بطريق الصدفة على واحدة من القنوات الفضائية
الموسيقية ورأيت وسمعت ما تعرضه من أغانى العرى التى تخاطب الغرائز وتفسد
الشباب والبنات باسم الفن.
وهل سمعت يوما عن دكاكين الرقيق الأبيض التى تؤجر البنات للبرامج
التافهة ليصفقوا ويتمايلوا فى مقابل أجر هزيل، ويخدعهم تجار أعراض محترفون
باسم توصيلهم إلى الشهرة و المجد ثم يحولوهن إلى فتيات سيئات السمعة، على
طريقة الريجيسير الذى كشفت عنه الصحف مؤخرا.
وألا يستحق كل هؤلاء وغيرهم أن يتم عزلهم فنيا بتهمة إفساد الذوق
العام، وتحويل الفن من وسيلة للارتقاء بالأمم وتوعية الناس والسمو بذوقهم
وإحساسهم إلى وسيلة رخيصة لجنى المال على حساب سمعة هذا الوطن..أليس هؤلاء
وغيرهم من تجار الفن الردئ أخطر من فلول الحزب الوطنى المنحل، لأنهم
يتسللون إلى البيوت والعقول دون أن يشعر بهم أحد، ويشكلون وعى الأجيال
القادمة، ويثيرون غرائز الشباب والبنات، ويسهمون فى تغييب الوعى بما
يروجونه من مخدرات فنية.
وهل ينفع بعد أن أسقطنا النظام الفاسد أن نترك أشخاصا لا وعى ولا ضمير
لهم يهدمون ثقافتنا ويشوهون صورتنا أمام القريب والغريب..فالحقيقة أن من
أفسدوا الحياة الفنية طوال السنوات الماضية لم يكونوا جميعا ضمن القوائم
السوداء التى ضمت فنانين باعوا الثورة والشعب والدين والدنيا من أجل
الاستمرار على حجر النظام الذى كان يرعاهم ويستخدمهم فى إلهاء الناس عن
حقيقة فسادهم، لكن القوائم السوداء يجب أن تشمل كل من قدموا ومايزالون
بضاعة فنية رخيصة ومضروبة.
أكتوبر المصرية في
13/11/2011
بالبعد الثالث.. «التوريث» فى الغابة
محمود عبدالشكور
عندما ظهر فيلم التحريك «The Lion King»
عام 1994، لم يكن يتخيل أحد أنه ستظهر منه نسخة أكثر إبهاراً فى عام 2011
بتقنية البُعد الثالث التى تناسب الأفلام الخيالية، النسخة الجديدة لا تقل
أبداً من النسخة الأصلية التى حقق من خلالها فنَّانو الرسوم المتحركة
محاكاة مذهلة لعالم الغابة، لقد تم تسفيرهم إلى أفريقيا لكى يشاهدوا
الحيوانات على الطبيعة، ولكى يقوموا على مهل بتحليل الحركة بصورة تقترب من
الواقع، ثم أضيفت الأغانى والموسيقى التى أصبحت الآن منتشرة فى العالم كله،
وبعض الأغنيات ذات المذاق الافريقى كانت بأداء المغنى البريطانى المشهور «ألتون
جون».
الحكاية معروفة وتبدو بسيطة وأقرب إلى الحواديت، ولكنها لا?تخلو مع
ذلك من المغزى السياسى والإنسانى،فالأسد العجوز الذى يحكم الغابة يُنجب
شبلاً صغيراً هو «سيمبا» ويريد توريثه الحكم ولكن بعد أن يقدم إليه خبرته
سواء فيما يتعلق باحترام كل الكائنات الأخرى، أو بمراعاة التوازن البيئى فى
الغابة، ولكن العم الشرير الخبيث «الأسد سكار» يتآمر للتخلص من شقيقه ومن
ابن شقيقه، من خلال التواطؤ مع الضباع الشرسة التى تسكن فى مقبرة الأفيال،
تنجح المؤامرة فى إطلاق الثيران الهائجة فى الوقت الذى يحاول فيها الملك
الأسد إنقاذ ابنه، ولكمن العم الشرير يكون سبباً فى التخلص من الملك الأسد،
ويوهم الابن بأنه السبب حتى يترك المكان، يهرب «سيمبا» من ماضيه ليعيش وسط
اثنين من الحيوانات الظريفة هما «الخنزير مومبا» و«تيمون»، ولكن بمساعدة
«نالا» اللبؤة الشابة يستعيد «سيمبا» شجاعته، ويعود لانتزاع المُلك من «سكار»،
وينتهى الفيلم بمولد «شبل» جديد بعد أن تزوج «سيمبا» من «نالا».
ينحاز الفيلم بوضوح إلى مايقترب من المصير الدائرى المغلق الذى يحكم
عالم الحيوان، ويريد أن يُعّمم الفكرة على عالم البشر فلا?يقنع كثيراً فى
هذا الاتجاه، الحياة الأنسانية لا تسير وفق الحتمية التى يعتبرها الفيلم
ناموس الحياة كلها، ليس صحيحًا مثلاً أن هناك من ولد ليحكم فى مقابل مَنْ
ولدوا ليكونوا من المحكومين، وبما كان من الواضح أيضًا انحياز الفيلم
تماماً للتوريث السياسى بمعنا شديد الضيق رغم أنه لا يكفل بالضرورة أن يكون
فوق صخرة عالية يسكن الشعب فى أسفلها وكأننا ايضاً نعيش فوق صخرة عالية
يسكن الشعب فى أسفلها وكأننا أمام نمط الحكم الملكى فى عصور أوربا الوسطى.
الحياة فى عالم البشر لا تديرها هذه الحتمية غير المريحة، ولكن الفيلم نفسه
الذى أهدته «ديزنى» للعالم تحفة على المستوى الفنى والتقنى.
أكتوبر المصرية في
13/11/2011 |