سيظل عام 2011 الميلادي من الأعوام التي لن ينساها التاريخ المصري
مابقيت الحياة علي الأرض، حيث شهد أول ثورة شعبية سلمية في التاريخ
الإنساني، بكل المقاييس جاءت علي غير مثال، وان شابها بعض العثرات
والمعوقات أو السلوكيات السلبية والانحرافات أو فقدت لبعض الوقت جادة
الصواب ...مهما يكن من أمر تبقي ثورة 25 يناير رمزا لإرادة الشعب الذي أراد
الحياة واستجاب له القدر رغم دماء الشهداء ومكايد الأعداء ومؤامرات
الخبثاء.. لكن يبدو كذلك أن هذا العام أيضا كما سعدنا بأحداثه العظيمة، هو
نفسه العام الذي شهد رحيل كوكبة من ألمع نجوم الفن عندنا وأسماء لامعة
وشخصيات كان لها توهجها وحضورها في الوسط الفني المصري.. قدم كل منهم عصارة
جهده وزهرة عمره في الصبا والشباب والشيخوخة، ولم يتراخ أي منهم أو يقصر في
بذل النفيس والغالي للفن الذي عشقه ودفع حياته ثمنا لرفعة شأنه والوصول به
لمقام عال ورفيع لا في مصر وحدها، بل في الساحة العربية الممتدة من سواحل
الأطلنطي حتي شواطيء الخليج العربي، حتي بات الفن المصري هو صاحب القدح
المعلي ومالك اليد الطولي علي المستوي العربي، كما كان لهم الفضل في انتشار
اللهجة المصرية والتعريف بمصر وتاريخها وتراثها الحضاري، ومساهماتهم في
تأسيس مدارس ومعاهد وأنشطة فنية يفخربها كل إنسان عربي شريف غير جاحد أو
حقود أو ناكر للجميل، واعترافا بفضلهم وريادتهم لفنون السينما والمسرح
والتليفزيون والإذاعة في الكثير من بقاع دولنا العربية، لتنعم هذه الدول
بالعديد من الأنشطة الفنية وتعرف معني الفنون. في شهر يناير الماضي فقد
الوسط الفني في مصرالفنان القدير "محمد الدفراوي"، ورحل عن عالمنا في مارس
فنان الديكور والمناظر المتميز "صلاح مرعي"، وفي مايو فقدنا الفنانة
القديرة "نادية عزت"، وبعد ثلاثة شهور رحل عن دنيانا العملاق "كمال
الشناوي"، وأول من أمس فقدنا الفنان الشاعر والكاتب المسرحي الدكتور "يسري
خميس" صاحب شخصيتي: بوجي وطمطم.. وبالأمس فقط كان رحيل الفنان القدير "عمر
الحريري"، الذي تميز بالبعد عن تقديم تفاهات الفن الهابط والمسييء، والبريء
من المشاهد الساخنة والجنس الرخيص، والمشهود له بدماثة الخلق والتواضع
الجم، فلم يكن يوما ما طرفا في معركة مع زميل أو صاحب خلاف مع مخرج أو
متورطا في فضيحة من أي نوع.. عمر الحريري الفنان النقي المعطاء الذي لم
ينتظر يوما ما كلمة مدح أو ثناء، لقد أعطي بلا حدود وعمل بكل طاقته ليس
للفن في مصر وحدها، بل أمتد عطاؤه خارج مصر، فهو صاحب فضل كبير وجهد وافر
في إنشاء "المسرح الوطني" في بنغازي بليبيا وأحد معلميه الكبار طوال مايقرب
من عقد من الزمان، مثلما سبقه من قبل "زكي طليمات" في الكويت. جيل العظماء
عمر الحريري زميل دفعة الفنان الكبير "شكري سرحان" حيث تخرجا عام 1947 في
المعهد العالي للتمثيل العربي، وابن جيل العظماء: كمال الشناوي وصلاح
ذوالفقار وأحمد مظهر وغيرهم، وصاحب رحلة عطاء فني امتدت لستين عاما، منذ أن
وقف أمام كاميرات السينما في فيلم "الأفوكاتو مديحة" عام 1950 إخراج وبطولة
العملاق "يوسف وهبي" والفنانة القديرة "مديحة يسري" وحتي مسرحية الأطفال
"حديقة الأذكياء" قبل عدة أيام من رحيله في هذا العام 2011 أي حتي الرمق
الأخير من حياته ... عطاء وحضور تميز به الحريري في: الإذاعة والسينما
والمسرح والتليفزيون، ليترك لنا ميراثا من الأعمال الفنية التي شكل الكثير
منها علامات بارزة في مشوار الفن المصري منذ منتصف القرن الماضي وحتي الآن.
قدم "عمر الحريري" للسينما العديد من الأفلام التي يتجاوز عددها المائة
وخمسين فيلما، وعمل مع أشهر مخرجي السينما المصرية، ولعل أبرزهم ـوفق
الترتيب الزمني ـ : المخرج "صلاح أبو سيف" في فيلمي "الوسادة الخالية" عام
1957 وفيلم "هذا هو الحب" عام 1958 . ومع المخرج "عز الدين ذو الفقار" فيلم
"نهر الحب" عام 1960 . وقدم مع "السيد بدير" عام 1962 فيلم "غصن الزيتون" .
وفي عام 1963 قدم مع العملاق "يوسف شاهين" الفيلم الأسطورة «الناصر صلاح
الدين» . ومع المخرج "حسن الإمام" قدم فيلم "وبالوالدين احسانا" عام 1976،
وعمل في نفس العام فيلم "دائرة الانتقام" مع المخرج "سمير سيف"، الذي قدم
معه أيضا فيلم "معالي الوزير" عام 2002 وقدم الحريري مع المخرج "حلمي رفلة"
فيلم "سنة أولي حب" عام 1976، وجاء تعاونه مع المخرج "هنري بركات" عام 1979
في فيلم "الشك ياحبيبي" . وفي عام 1981 قدم فيلم "أهل القمة" مع المخرج
"علي بدرخان" ...وهذا وأن دل علي شيء فإنما يدل علي قناعة هؤلاء المخرجين
الكبار بموهبة هذا الفنان الكبير "عمر الحريري"، الي جانب عشرات الأفلام
التي قدمها مع العديد من المخرجين في تنوع للأدوار وأداء يدل علي موهبة هذا
الرجل، علي الرغم من أنه لم يقم طوال مشواره السينمائي ببطولة مطلقة، سوي
مرة واحدة. في مجال الدراما التليفزيونية قدم "عمر الحريري" عشرات الأعمال
وعمل مع كبار مخرجي التليفزيون أمثال: "مجدي أبو عميرة" في مسلسل "الإمام
الطبري" عام 1977، ومع المخرج "محمد فاضل" عام 1978 في مسلسل "أحلام الفتي
الطائر"، وقدم فوازير رمضان من خلال "ألف ليلة وليلة" مع المخرج "فهمي عبد
الحميد" عام 1986 . وفي عام 1995 قدم مسلسل "ساكن قصادي" إخراج "ابراهيم
الشقنقيري"، وفي نفس العام قدم مع المخرج "إسماعيل عبد الحافظ" مسلسل
"خالتي صفية والدير". وفي العام التالي 1996 مع المخرج "مجدي أبو عميرة"
قدم "السيرة الهلالية"، وفي عام 2006 مع المخرج "وفيق وجدي" قدم الحريري
مسلسل "الإمام المراغي"، وفي العام الماضي قدم مع المخرج "حسني صالح" مسلسل
"شيخ العرب همام" الذي أذيع في رمضان قبل الماضي، ومن مفارقات القدر أن
"عمر الحريري" جاء ليؤدي دوره في هذا المسلسل بعد رحيل الفنان "عبد الله
فرغلي" بعد أن بدأ تصويره لهذا الدور ولم يمهله القدر لاتمامه فقام به
الحريري.. هذا العطاء المتميز للتليفزيون إلي جانب ماقدمه "عمر الحريري" في
العديد من المسلسلات التي تشكل أحد أركان الدراما التليفزيونية المتميزة في
مصر، والتي كان أخرها في هذا العام مسلسل "سمارة" إخراج "محمد النقلي" خلال
شهر رمضان الماضي. اللعب مع الكبار قدم "عمر الحريري" للسينما العديد من
الأفلام التي يتجاوز عددها المائة وخمسين فيلما، وعمل مع أشهر مخرجي
السينما المصرية.. إنه فنان مسرحي قدير تنوعت أدواره وتميز أداؤه وقدم
أدوارا ستظل تؤكد موهبته وحضوره وتوهجه علي خشبة المسرح المصري العريق. لقد
قدم "عمر الحريري" للمسرح ـ وبشكل خاص ـ في العقود الأخيرة العديد من
المسرحيات التي كتب لها أن تسجل وتنقل تليفزيونيا لكل بيت في مصر والوطن
العربي، والتي ستظل من علامات المسرح المصري في مجال الكوميديا بشكل خاص..
قدم الحريري مسرحياته الأخيرة مع كبار نجوم الكوميديا عندنا، نذكر منها:
"شاهد ماشفش حاجة" مع فرقة الفنانين المتحدين عام 1978 أمام النجم "عادل
إمام"، ومسرحية "منور ياباشا" مع النجم "محمد نجم" عام 1983، ثم عودة مرة
أخري مع الفنان "عادل إمام" في مسرحية "الواد سيد الشغال" عام 1993 .. هذه
المسرحيات التي يعيد التليفزيون عرضها بين الحين والآخر والتي تعد من كنوز
الكوميديا المصرية دائمة الحيوية والغنية بعناصر الجذب الجماهيري. هذا هو
"عمر الحريري" الفنان المصري الأصيل الذي قدم الكثير والكثير للفن في مصر
طوال مايزيد علي النصف قرن من الزمان.. قدم خلالها كامل طاقته وكل عمره من
منطلق حبه لبلده مصر ولشعبها الطيب الذي لن ينسي فضل هذا الفنان مابقيت
الحياة علي أرض مصر.. رحم الله "عمر الحريري" وأبقاه نموذجا لعطاء بلا حدود
دون انتظار لكلمة شكر أو شهادة تقدير.
جريدة القاهرة في
25/10/2011
حديقة الأذكياء ..
اَخرمحطات عمر
الحريري الفنية
بقلم : ناصر العزبي
كتبت هذا المقال قبل وفاة هذا النجم بأسابيع، وتمنيت أن يقرأه ليعرف
أن هناك كثيرين يقدرون قيمته وعطاءه الفني ، لقد أصابتني حالة من الاستياء
عند قراءتي لأكثر من مقال عن هذا العرض ولم يعط النقاد لهذا الفنان حقه،
كنت أزعم أنه لم يقرأها، وكنت أقول لنفسي أنه لا يعرفون ماذا يعني استمرار
العطاء أكثر من 36 عاماُ، ولا يعرفون معني الوقوف علي خشبة المسرح في هذه
السن، إنه في تلك الحالة يكون رمزاً، ويكفي أن حضوره يشع علي من حوله حتي
ولو كان ذلك علي فترات متقطعة، فالنقاد الموضوعيون عند تناولهم النقدي لآي
عمل فني عليهم عدم التجاهل لتاريخ المبدع ومسيرته، تحية إلي روح هذا الفنان
الكبير عمر الحريري الذي رحل عن عالمنا منذ أيام، والذي ظل يمارس الفن ولم
يمتنع أو ينقطع عنه حتي آخر أيامه، وإليكم المقال الذي كتبته عن آخر عرض
شارك فيه ... علي عكس ما اتبع في كتابتي النقدية أبدأ بالحديث عن نجم العرض
قبل المخرج أو المؤلف، ذلك لأنه نجم له مكانة خاصة لدي الفنانين وجمهور
الفن، نجم سجله الحافل بالإنجازات يدفعنا جبراً ـ لا اختياراـً للتوقف
أمامه قبل الخوض في التناول النقدي لهذا العرض المسرحي الذي نحن بصدده، إنه
النجم "عمر الحريري" الذي كان مولده عقب نشـأة السينما المصرية بعام واحد،
وعاصر الرواد وتتلمذ علي أياديهم، وكان رفيق درب الفنان الراحل شكري سرحان
منذ أن تخرجا معاً من المعهد العالي للتمثيل عام 1947، بدأ بعدها مباشرة
عمله بالمسرح القومي ليلتفت إليه زكي طليمات فيضمه لفرقته، ويعجب به يوسف
وهبي فيتيح له فرصة في مسرحيته " راسبوتين " وكذالك يختاره لدور في فيلم "الأفوكاتو
مديحة" عام 1950، ويعمل مع عمالقة جيل الرواد لينطلق بعدها مع نجوم الجيل
التالي، سرحان ومظهر وأباظة والشناوي ومن بعدهم مع جيل الوسط محمود ياسين
ونور الشريف وحسين فهمي وعادل إمام، وانتهاء بأجيال شابة معاصرة يواصل
الحريري الذي تجاوز الـ 85 عاماً ـ قضي 66 منها في الحقل الفني ـ رسالته
التي ظل خلالها مثالاً يحتذي به ليسطر لنفسه سجل حافل بإبداعات فنية متنوعة
أثري بها الساحة الفنية بين مسرح وسينما وإذاعة وتليفزيون مقدماً أعمالاً
تجاوزت الـ 180 فيلماً و87 مسلسلاً تليفزيونياً و70 مسلسلاً إذاعياً ونحو
34 عرضاً مسرحياً أغليها حقق نجاحاً باهراً ومنها ما يعتبره البعض علامات
في تاريخ الدراما . بعد تلك المسيرة يقرر الحريري الوقوف علي مسرح عبد
المنعم مدبولي ليقدم مع فرقة المسرح القومي للأطفال مسرحية "حديقة
الأذكياء" لتكون التجربة الأولي له مع الأطفال طوال مسيرته، وهي من تأليف
وإخراج الناقد والكاتب صلاح الحلبي خريج المعهد العالي للفنون المسرحية
دفعة 1996 قسم الدراما والنقد، و"حديقة الأذكياء"هي التجربة الأولي في
مسيرة الحلبي والتي أتيحت له بعد عمله سنوات مع الفرقة وليؤكد من خلالها
مدي استيعابه لطبيعة مسرح الطفل ووعيه ـ كمؤلف وكمخرج ـ بطبيعة واحتياجات
المرحلة السنية التي يتوجه بعرضه لها، ويوفق في توليف مجموعة جيدة من عناصر
العرض " شاعر، ملحن، ديكوريست، مصممة ملابس،مصمم استعراض" كذلك في مجموعة
منسجمة من الممثلين الحاملين لرسالة العرض لينجح في تقديم عرضاً جيداً
محكماً يتميز بالبساطة مناسباً للأطفال تحت 8 سنوات . تقييم الأفكار يبدأ
العرض باستعراض بسيط بغرض تهيئة أطفال الصالة للتواصل مع الحكاية التي سيتم
عرضها" يلا يا أصحاب؛ افرحوا وارقصوا/ غنوا وفرفشوا؛ اسمعوا ركزوا/ علشان
تعرفوا وكمان تكسبوا/ حكايتنا اللي أجمل حكايات"، ثم يستغل الاستعراض في
تقديم الشخصيات المشاركة بدءاً بالنحلة ثم بلبلة فـ "الجمل، الأسد، الحمار،
القط، الفأر" ممهداً لتقديم عم حكيم "عمر الحريري" الذي يرحبون به "أهلاً
أهلاً عم حكيم" وليتواصل معهم مستفسراٌ عن استعدادهم كي يبدأ الحكاية "يا
تري جاهزين ؟" وليؤكدون له ذلك فيبدأ مباشرة إدخالنا الحكاية "هقولكم
مسابقة عظيمة لحديقتكم .. فكرة تجعل الحديقة أحلي حديقة" ثم يقوم بإحاطتهم
بأن هناك لجنة ستأتي لتقييم الأفكار التي تقدمها الحيوانات لتقف علي أفضل
فكرة من الممكن وأن تفيد الحديقة وتجعلها أفضل حدائق الدنيا ـ كل هذا من
خلال الاستعراض الأول ـ بعد ذلك تبدأ الحيوانات في التنافس فيما بينها، كل
منها يبحث في فكرة من أجل الفوز بالجائزة، فجاءوا بأفكار تتعلق بتنمية
وبناء الإنسان، منها ما يهدف إلي التنظيم ومنها ما يهدف إلي التثقيف
والتعليم، وكذلك إلي الصحة والتربية الرياضية، وأيضاً إلي الفنون من موسيقي
وغناء ترقي بحس الإنسان وذوقه العام، كانت الأفكار رائعة، ولكن الثعلب الذي
كان يتابعهم يعرف بالأمر ويقرر بدوره أن يفوز بالجائزة، ولكنه لا يفكر، بل
يسعي لإفساد أفكارهم والسطو عليها ليستفيد هو منها مستخدماً في ذلك الحيلة
وساعياً لتنشيط الغيرة والأحقاد بين الحيوانات التي ينجح في صنع حالة من
التنافر بينهم، ولكن القط يتنبه لحيل الثعلب ومقصده فيقرر التصالح مع الفأر
من أجل صالح الحديقة ثم يقوم بإعلام باقي الحيوانات التي تقوم بفضح الثعلب
وتطالب بطرده ولكنه يعتذر ويتوسل لهم فيتوسط عم حكيم له وينبههم إلي أنهم
أخطأوا أيضاً حين فكر كل منهم بأنانية من أجل المصلحة الخاصة والفوز
بالجائزة لا من أجل المصلحة العامة والفوز للحديقة، والفكرة هنا واضحة، فهي
تدعو إلي الاتحاد أو التوحد من أجل المجموع أو من أجل أن تكون الحديقة
متميزة.. كسر الثوابت أول ما انتبهت إليه أن المخرج / المؤلف لم يحاول كسر
الثوابت الموجودة لدينا عن الحيوانات، فالحمار غبي بطيء التفكير، والجمل
سفينة الصحراء رصين، والأسد الملك زعيم آمر، والثعلب ماكر، وكذا حافظ علي
العلاقة المعروفة بين كل من القط والفأر، وهي وان كنت أتحفظ عليها
باعتبارها ثوابت علينا ألا نسعي لترسيخها إلا أن ذلك ربما يفيد من ناحية
التركيز علي الفكرة وعدم تشتيت الطفل المتلقي، ومن الملاحظات أن العرض
أخَّر تقديم شخصية الثعلب و لا أميل لذلك التأخير إذ أن الثعلب شخصية مثلها
مثل باقي حيوانات الغابة، وأن الحكاية تبدأ بعد دخول عم حكيم ولا أري
مانعاً من أن يشارك في الاستعراض وأن يسمع عن المسابقة معهم ثم يخرج ويبدأ
في الكشف عن نواياه في مشهد تالي ! وأري أيضاً أن مخرج العرض قد وقع في خطأ
بأن جعل مؤدي شخصية الثعلب يخلع ماسك الثعلب ليتنكر بقناع قرد، وكان عليه
أن يرتدي القناع علي ماسك الثعلب ذاته وهذا أمر منطقي إضافة إلي عدم إحداث
لبس لدي الطفل مثلما حدث لبس لدىَّ . الديكور جاء جمالياً متوازناً مزركشاُ
ألوانه الزاهية تضفي بهجة علي الطفل وهذا يحسب لـ «مؤمن ونس» حيث ان ذلك من
الأمور المهمة المطلوبة في مسرحيات الأطفال إلا أن تصميم الديكور في حد
ذاته لم يكن جيداً ولا يخدم العرض فلم يتجاوز حد المسميات "بيت القط" علي
اليمين و "بيت الفأر" مواجهاً له في اليسار و "بيت الثعلب" الذي كان علي
هيئة شجرة ـ جميلة ..! ـ في صدر المنظر، فلم يكن به مساحة من الخيال أو
الحيوية، وعلي العكس تفوق المصمم في ماسكات العرائس تصميماً وتنفيذاً فكانت
انسيابية مرنة ليست حادة صادمة، وكذالك ألوانها كانت مبهجة بما يساعد علي
خلق الألفة بينها وبين المشاهد، وقد تميزت أزياء فاتن مطر بما يساعد علي
الألفة كذلك فكانت والعرائس من أهم إيجابيات العرض . تنوع مستويات وقد
اتفقت أغاني عبده الزراع وصلاح الحلبي أيضاً مع نفس نهج العرض حيث اعتمدت
علي مفردات قريبة للطفل تميزت بالبساطة والجمل القصيرة إضافة إلي أنها جاءت
مكملة للدراما فلم تكن عبئا عليها وعلي سبيل المثال نجد في الأغنية الأولي
تمهيداً للمسرحية وتهيئة للجمهور وتقديم للشخصيات ثم البدء في الحكاية،
وتميزت الموسيقي والألحان لـ "وائل عوض" بإيقاعها الحيوي وأغلبها في سلم "المينير"
الموسيقي مع تنقل المؤلف بين مقامي "الكرد" و"النهاوند" وقد أتاح النص
للألحان التنوع بين الحوار الدرامي المغني وبين الكلمات الشعرية المغناة،
وكذلك بين الأداء الرستتيف للحوار وبين الأداء التمثيلي وهذا التنوع يعمل
تنوع مستويات التلقي . أيضاً تنوعت بين الطويلة "8 دقائق ـ الافتتاحية"
والقصيرة "دقيقة ـ حنكش بكش"ومن الأغنيات التي اتفقت كلماتها وموسيقاها
والمرحلة السنية الموجه لعا العرض أّذكر تلك التي جاءت علي لسان الحمار
"أبجد هوز حط كلمون/ نفسي أكون أنا منسجمون/ مع أصحابي في كل مكان/ ولا حدش
مرَّة يقولي مبلم" وان ذكرت سلفاً أن البساطة كانت إحدي السمات العرض التي
ميزت كل عناصره إلا أنها في حالة الاستعراضات لا تكون تحسب عليها، حيث لجأ
فاروق جعفر لها وزادها تلقائية، وان تجاوزنا هذا إلا أنه فقد كان عليه
الاهتمام بالتشكيلات والجمل الحركية القليلة، وهذا لا يمنعنا من الإشادة
بأداء الراقصين الذي اتسم بالمرونة وسلاسة الأداء . مساحة للاجتهاد وأوضح
أن أهم ما نجح فيه مخرج المسرحية هو إتاحة مساحة الاجتهاد للممثلين في
أدائهم للشخصية بما ساعد علي حب كل ممثل للشخصية التي يؤديها بما أتاح لكل
منهم الاجتهاد في تكوين ملامح وسمات خاصة أو سكة أداء تميز كل منها عه
الأخري فلا تبدو متشابهة، وكانت البطولة للفريق ككل، آلاء المصري "بلبلة"،
هبة علي "النحلة" اللتان تميزتا معاً في سمة مهمة ألا وهي التلقائية التي
تعد أقرب المفاتيح للنفاذ إلي قلب الطفل، ومعهما كان فريق العمل الذي نجح
المخرج في اختياره بعناية لما تميزوا به جميعاً من قبول وبساطة في الأداء
فأجادوا جميعاً، محمد سلامة "الأسد"، خالد نجيب "القط"، محسن العزب
"الجمل"، أشرف الشرقاوي "الحمار"، والقزم محمود الصغير "الفأر" في أجمل
أدواره، ومعهم منصور عبد القادر الذي تحمل قدر كبير من تحكمه في إيقاع
العرض بحكم مساحة دوره "الثعلب"، ونختتم بالنجم عمر الحريري الذي أكسب
الجميع الثقة بوجوده إلي جوارهم وأضفي بنجوميته بريق خاص علي العرض، التحية
والتقدير لجميع المشاركين في العرض في مروراً بـ أحمد شحاتة المخرج المنفذ
ولفرقة المسرح القومي للطفل ومديرها الفنانة عزة لبيب. المقال مكتوب قبل
رحيل الفنان الكبير عن دنيانا متأثرا بالمرض اللعين
جريدة القاهرة في
25/10/2011
«عبيط
في الحب»..
زوايا مثيرة
للتأمل والسخرية والمرح والبهجة والابتسام
بقلم : د. وليد سيف
قد يعتقد البعض أن صناعة الافلام الكوميدية الخفيفة ذات البعد
الاجتماعي التي لا تنشد سوي البسمة وصنع حالة من البهجة هي مسألة من أبسط
ما يكون.. وأن إثارة الضحك الهيستيري أو البكاء المرير أو الخوف الشديد هي
الأمور الأصعب. ولكن الحقيقة في رأيي عكس ذلك تماما. فقدرة الفنان علي
تحقيق التأثير بهذا القدر من الانضباط والتركيز يتطلب جهدا كبيرا في ضبط
المعايير والحفاظ علي الشعرة الفاصلة بين المبالغة والانضباط، فالفن
كالفضيلة كما وصفها أرسطو يقع في منطقة وسط بين الإفراط والتفريط. هكذا
يمكن الحديث عن فيلم عبيط في الحب طبقا لعنوانه التجاري بالعربية. وهو فيلم
ينجح في ملامسة المشاعر وتحريكها بقدر محسوب. وهو يتمكن من أن يلتقط من
حياتنا العادية صورا من زوايا جديدة غير مألوفة، فتبدو مثيرة للتأمل
والسخرية والمرح والبهجة والابتسام . كال ويفر أو استيف كاريل نموذج للرجل
التقليدي المثالي. يعيش حياة منضبطة كالساعة، حياة روتينية هادئة، تبدو علي
السطح ناجحة وسعيدة بمشاركة زوجة - جوليان مور - شريكة حياة بمعني الكلمة.
ويظلل السعادة صبي وسيم وطفلة جميلة تماما كما يقول كتاب الحياة الزوجية
المثالية. ولكن تحت هذا السطح الهادئ الجميل يكمن الفتور والاعتياد وتنطلق
الرغبات في التغيير وكسر الروتين الممل من قبل الزوجة التي تجد نفسها فجأة
وقد ارتبطت عاطفيا بزميل لها في العمل - ديفيد بيكون - ولا تجد الزوجة مفرا
من الاعتراف للزوج وقد قررت الانفصال نهائيا. قد تبدو هذه اللحظات الأليمة
هي نقطة البداية الأقرب لفيلم مأساوي مغرق في الحزن والكآبة. ولكن
السيناريو يتمكن في مهارة من اصطياد مناطق المفارقة والانتقال بالشخصيات
بذكاء ونعومة من منطقة إثارة الشفقة ليقتربوا أكثر من مناطق إثارة الضحك
والسخرية. لحظات فارقة في هذه اللحظات الفارقة يؤدي الممثل ستيف جاريل
ببراعة حالة الشرود والضياع وانعدام الوزن وافتقاد القدرة علي التركيز،
بجدية تامة، فيثير الضحك بلا مبالغة أو افتعال. إنه أداء بارع لحالة الشرود
وتلقي الصدمة ومناسب لطبيعة الفيلم الكوميدية دون أي لجوء للتهريج أو
الهزل. يحافظ كال علي الحالة وينتقل بأداء الشخصية وحالتها الشعورية بتفهم
رائع ومعايشة كاملة وتدرج طبيعي ومنطقي. تثير حالة الزوج وهذيانه شفقة
مرتاد نفس الحانة الشاب اللعوب ريان جوسلنج الذي يرشده إلي عالم النساء
وإلي الطريق الذي يراه صحيحا لاستعادة ثقته برجولته بل وإجبار زوجته علي
الشعور بالندم علي فقدان هذا الرجل الذي يصبح بفضل مرشده زير نساء ولكن
الحب ليس له كبير فالمرشد نفسه يقع في غرام حقيقي وربما يشرب من نفس الكأس،
ولا يتوقف الفيلم عن تقديم نماذج مختلفة ومتنوعة من الحب عبر أحداثه
ليطلعنا علي جوانب كثيرة من هذا العالم المعقد. فالفتاة الصغيرة تحب الزوج
المتقدم في العمر والصبي المراهق يحب الفتاة التي تجالس شقيقته وهكذا لا
تتوقف الحبكة عن توليد خطوط وعلاقات غرامية مختلفة ومتنوعة وكأن كاتب
السيناريو يصنع جدارية من المفارقات والمصادمات العاطفية. مفارقات وتناقضات
يعتمد المخرج في فيلمه علي طاقم رائع من الممثلين علي رأسهم ستيف جاريل
ورايان جولسينج وجوليان مور في أدوار البطولة، كما ياتي في الأدوار الثانية
أيضا مجموعة من الفنانين المتميزين بأسلوبهم الخاص وأدائهم المتمكن ومنهم
ايما ستون ومارسا تومي وكيفين بيكون. كما يتمكن المخرج من أن يضع كلا منهم
في الدور الأنسب لا يختلف في هذا أصحاب البطولات أو حتي ممثلي الأدوار
الصغيرة. ويستوي في الأمر الوجوه الناضجة مع الشابة مع حتي الوجوه الفتية
والصبية. ينطلق السيناريو من لحظة في غاية السخونة ليتخلل جلد وأحاسيس
بطله، فنخوض معه رحلته الشاقة والمثيرة ولنعايش تجربته التي تقلب حياته
رأسا علي عقب في لحظات مختارة بعناية ومواقف مرسومة بمهارة وإبداع.
والمسافة الفاصلة في هذا الفيلم أيضا بين الحزن والبهجة هي مسافة محدودة
جدا.. فاكتشاف البطل لخيانة زوجته ورغبتها في الانفصال عنه بعد زواج طويل
أثمر عن طفلة وصبي في سن المراهقة هي منطقة شائكة جدا تمكن السيناريو من
التعامل معها بمنتهي الحرص والدقة وأن يلتقط ما بها من مفارقات وتناقضات.
يصعب بالطبع في ظل هذا الإبداع التمثيلي الرائع أن تتوقف أمام ممثل واحد
ملفت أو متميز وسط هذه الكوكبة. ولكن كل شيء جائز في الفن والحب . في رأيي
أن ماريسا تومي أمكنها أن تسرق الكاميرا في مشاهدها وأن تحقق تأثيرا خاصا.
فقد أبدعت في دور المرأة المتعطشة للحب والتي تجده مع رجل ساذج ولكنه سرعان
ما يهجرها بحثا عن أخريات بعد أن فتحت له أبواب متعة الحب. وهي ممثلة من
طراز فريد قادرة علي أن تذوب في الشخصية وأن تدرك أبعادها من خلال تجسيدها
لها وأن تدهشك بأفعالها وردود أفعالها التي تنبع من الطبيعة البشرية
بتقلباتها وتعقيدها. لحظات جنونية يلتقط فيلم «عبيط في الحب» تلك اللحظات
الجنونية التي يقترب فيها الإنسان من مشاعر الحب كما يصوره أيضا في لحظات
ابتعاده عنه. إنه هذا الشهاب المضيء الذي يجذبك نحوه بشدة لتستمتع ببهائه
ولكنك لابد من أن تصاب بلهيب توهجه واشتعاله. يقتنص الفيلم تلك اللحظات
التي يبدو فيها الإنسان كمن يرقص فوق النار أو حقل ألغام فيبدو مثيرا
للسخرية والتأمل والدهشة. ويجعلك تعيش تلك اللحظات الرائعة الساخنة التي
سرعان ما تنتقل بك إلي لحظات من الألم العنيف المهلك. لا فرق في هذا بين
صبي صغير وفتي في ريعان الشباب أو رجل ناضج أو امرأة في منتصف العمر. قد
تشعر في بعض اللحظات أن الفيلم ضل طريقه من السهرات التليفزيونية. يبدو هذا
نتيجة لفتور بعض المناطق أو لتعدد الخطوط التي تثقل الحبكة أحيانا أو في
الطبيعة المسرحية للمشاهد في دراما تعتمد علي المواقف الطويلة والحوار
المكثف. ولكنها تبدو بشكل أكثر خصوصية في هذا الحرص الشديد علي الطبيعة
الأسرية للفيلم رغم موضوعه الشائك. فالفيلم رغم جرأة موضوعه فإنه يعالجه
بشياكة ومهارة ودون اللجوء إلي الابتذال أو المشاهد المثيرة. فحتي المشاهد
أو الحوارات الجريئة في الفيلم تتحقق بدقة ومهارة ودون أدني درجات خدش
الحياء. وهي نوعية من الأفلام كادت تندثر في السينما الأمريكية بعد أن
أصبحت حتي أفلامها الرومانسية لا تخلو من حوارات بذيئة أو تلميحات جنسية
صريحة أو كوميديا غليظة بتوظيف ما يطلق عليه
w.c comedy
أو كوميديا دورة المياه. إخراج ثنائي أخرج الفيلم الثنائي جلين فيكار وجون
ريكوا وهي مسألة نادرة وإن كانت تحدث أحيانا في السينما. ولكنها تحدث غالبا
في أفلام ذات طبيعة معقدة أو لظروف إنتاجية خاصة ولكني لا أفهم كيف يمكن
لفيلم كهذا بهذا القدر من الأسلوبية يقوم به مخرجان. لكن ربما يكون هذا
الانضباط الدقيق في رسم المواقف وتحديد الأداء للممثلين هو الذي تطلب جهدا
مضاعفا من جانب الإخراج. يتميز حوار الفيلم بخفة دم عالية وهو يكاد يكون
العنصر الأساسي في الإضحاك فالسيناريو يعتمد علي المشاهد الطويلة ذات
الطابع المسرحي ربما باستثناء هذه المنطقة الديناميكية التي يبدأ فيها
البطل في تغيير مظهره واختيار ملابسه الجديدة والتحول إلي رجل جذاب
بتوجيهات صديقه ومرشده الشاب، أو تلك التي يتنقل فيها البطل من عشق امرأة
إلي أخري ببراعة في الربط والمونتاج وتواصل اللقطات وفي إيقاع مرح ومفعم
بالحركة وفي توظيف بارع لعناصر الصورة والصوت وحركة الممثل وأدائه. استطاع
الديكور أن يلعب دورا محوريا في إضفاء صورة الجنة علي البيت وأن يحقق حيوية
للحركة وأن يتيح المجال للصورة وهو ما بدا بشكل واضح في حديقة المنزل
المميزة ولعبت الإضاءة دورا ممتازا في التأثير وفرض الحالة المناسبة لكل
علاقة وموقف علي حده. كما تميز الماكياج بالبراعة وبالقدرة علي التعبير عن
التحولات التي طرأت علي الشخصية بلمسات بسيطة ودون مبالغة. تيمة خالدة سوف
تظل تيمة الحب من أجمل وأعمق التيمات وأقدرها علي أن تمنح الدراما دائما
الجديد والمفاجئ والمدهش. وسوف تظل هذه العاطفة الراقية الغامضة الجميلة من
أغلي نعم الله علي البشر وأكثرها غموضا وإثارة للتأمل. لن يتمكن إنسان علي
وجه الأرض مهما توافرت الأسباب الموضوعية من أن يفهم علي وجه التحديد لماذا
أحب هذه الإنسانة علي وجه التحديد في ذلك الوقت وبهذا القدر دونا عن سائر
البشر. بالتأكيد يمتلئ العالم بالعديد من التعساء الذين لم يتجاوز حبهم
مرحلة الحلم والأمل ولم يسعدوا بتبادل هذه المشاعر الجميلة مع من أحبوا.
وسوف يظل الحب لغزا وسرا لمن عرفوه تماما وبنفس القدر تقريبا لمن لم يعرفوه
قط. وسوف يظل الإبداع الفني هو أحد وسائل البشر في تأمل هذا السر الكوني
الكبير ومحاولة سبر أغواره وكشف بعض جوانبه التي هي جزء من سر الإنسان
والكون نفسه. ولهذا سوف يظل دائما من الممكن أن تتحقق المتعة والسعادة مع
أفلام مثل «عبيط في الحب» تحمل تيمات متكررة ولكنها تتعامل مع قضايا الحب
بمعالجات مبتكرة وبمحاولات دءوبة لفهم أعقد مخلوقات الله «الإنسان» ولكشف
أجمل وأصعب المشاعر: «الحب».
جريدة القاهرة في
25/10/2011
السينما مع رياح الربيع العربي...
إلي أين ؟
بقلم : د.صبحي شفيق
الخطأ الذي تقع فيه أغلبية من يجمعهم هم السينما، هو تصورهم بما يمكن
أن نسميه «الثوابت». فلسفة التعبير البصري - السمعي مازالت "ثابتة" منذ
اكتمال قواعد لغة السينما - وأقول السينما فقط - في العشرينات: اكتشاف
الايقاع لدي سينمائيي الطليعة الفرنسية، أمثال جيرمين ديلاك ، ولوي رد لوك
وابيل جاني ورنيه كلير، إلخ ... ثم اكتشاف "ديالاتيكية" تكوين المشهد لدي
ايزنشن، وتقسيمه الي مجال وعكس مجال، وكيفية كتابة الجملة السينمائية، ثم
اكتشاف التباين الحاد «كونتراست) في التناقض بين أفكار هيجل وماركس ونيتشه
واقع يعد البلاد للحرب، وهو ما أدي الي ظهور التعبيرية الألمانية أما في
فترات الرخاء، فالسينما تقود الي الواقعية - الشاعري «رنوار الفرنسي -
سيستروم السويدي ) وعندما تنتهي الحرب، تنعكس رواسب الدمار في كل شرائح
المجتمع، فإذا بالسينمائيين ينزلون الي الشارع وأبطالهم هم من ساهموا في
بناء الجبهة الشعبية وشاركوا في حركة المقاومة الشعبية : روسليني، دي سيكا
فيسكونتي كايرينو، لقد انتقوا أبطال افلامهم من الشارع ومن أزقة روما أما
مايناني مثلا، لم تكن ممثلة ولم يخطر ببالها أنها ستصبح نجمة السينما
الايطالية الأولي بل كانت عاملة بسيطة تقوم بتوزيع المنشورات السياسية،
منشورات المقاومة السرية في شتي شوارع وحواري روما حركات فنية لكنك لو نظرت
الي هذه الحركات الفنية التي ولدت لتجيب عن أسئلة حائرة في وجدان الجماهير،
ستجدها الأفلام التي حققت اعلي ايرادات لماذا ؟ لان السينما هي تكبير
تفاصيل حياتنا اليومية وما لا ننتبه اليه ونحن تحت وطأة ظروف العمل أو
الضغوط النفسية
stresss، أو الاحساس بالظلم، تحت وطأة هذه العوامل تسلبنا همومنا عمق النظرة
الي مكونات بيئتنا، وهنا يجيء دور السينما: إنها تدفعنا الي النظر الي
"تدقيق النظر" الي اتخاذ موقف ما أو الدوافع في مآرب النفس إلي تجاوز
أوضاعنا . في كل تلك الحركات التي هي نمو السينما من المراهقة الي عنفوان
الشباب الي رزانة سن الرشد، هي ايضا ثمرة تطور في " الآلة " التي
نستخدمها.. كأداة تعبير.. فلكي يحيط شخص ما بمكان، لكي تدور جماعة بحثا عن
مفقودين ، لكي تتقبل موقعها وسط "موقف"هي حتما جزء منه لكنها لا تدري انها
أحد عناصر هذا الموقف وانها شريكة فيما يحدث هنا السينما تجيب دائما عن
سؤال يتطور مع تطور اتساع وسائل التعبير لم لا تتخذ الكاميرا وجهة نظر من
يبحثون، من يدورون حول مكان من يتعذبون في موقع ما لاكتشاف المجهول، هنا لا
بد من اليات جديدة وضع السينما علي عربة تتراجع بينما الشخصيات تتقدم
نحونا، او العكس. وهو ما ادي الي ظهور اليات: "الترافلينج" « خلفي -امامي-
دائري) . هجوم جيش علي مدينة ما، كيف نصوره الزاوية هي اعلي مكان والحركة
تنتقل من زاوية عليا الي زاوية عليا تليها، ولهذا اخترعت اليات الرافعة «الكرين)
لست بصدد سرد مدرسي، طوال حياتي أمقته، وإنما اود ان انبه الي ان كل ما
يدرس في معاهدنا وجامعتنا من مواد الاخراج والتصوير والمونتاج لم يعد له
وجود حاليا، انتهي تماما في أي مكان تنبثق فيه تيارات سينما جديدة معاصرة
لم تعد السينما أسيرة الكادر القائم علي نظريات المنظور الفلورانسي «ديللا
بورتا - دافنشي الخ...) والذي يثبت العين علي منتصف الأنف البادي أمامها ثم
يبدأ بتدرج المرئيات لتقصر وتقتصر حتي تصل إلي نقطة التلاشي. السينما تحررت
من هذا المنظور، وبالتالي لم تعد قائمة علي اساس ان الارتفاع ثلاثة ارباع
القاعدة، فلم تعد القاعدة خطا مستقيما بل هي جزيء من محيط دائرة،وتثبت هذا
الجزيء يطابق نظرة شخصية ما، لكن ما ان تدور الشخصية بعينها، حولها حتي
تنسحب الي نقطة تالية في محيط دائرة المنظور حلزوني . وكذلك الاضاءة وكذلك
توجية الممثل . ومن ظهور الشاشات البلازما العريضة وأيضا الكاميرا
"اللولبية " حركتها : كانون الجدية «وريد وان داري» استعراض عضلات أنا لا
استعرض عضلات، وانما أشعر بالأسي اشعر بالأسي لتجمد مفهوم الاخراج والتصوير
في قواعد لغة كانت "طفولة " السينما يأتي بعد ذلك سؤال اخر " من له حق
الظهور علي الشاشة "؟ سؤال جوهري . لانه يحدد شريحة اجتماعية، تريد ان تري
جنودها يهزمون الاعداء، وتستعرض عضلات قوات الامن القوي، وتركز علي الجندي،
خاصة الجندي الامريكي الذي لا يقهر « كهبوط النسر الاسود الامريكي علي
الشعب الصومالي فريسة المجاعة والضياع، كقلعة النسور، النسور بينما بغداد
تتعرض لوابل من الغارات القاتلةالخ ... شريحة اخري : الغادة الفاتنة التي
تظهر، في منطقة رسم الشخصيات الدرامية كمركز للصراع بين بطلين: واحد يريد
ان يهزم الآخر ليفوز بها . أما الشعب فالموتي يبعثون والاشباح تظهر والقوي
الخارقة تقوم بعمل القاتل، كلها توحي لابناء الشعب : اي انتفاضة، اي وعي
بعدم المساواة في الدخول والكفارات، هو تمرد علي ارادة القدر، وها هو القدر
يرسل زبائن جهنم ليقضي علي ابناء الشعوب . صورة معاصرة علميا هذا ما نسميه:
"علم صياغة الموضوع الدرامي ـ السينمائي
thema tique تمثل كل هذه الطفرات في الموضوع في الرؤية السياسية الاجتماعية -
النفسية، في التمرس علي استخدام تكنولوجيا الصورة المعاصرة للنفاذ إلي
مكونات البنية ووضع الفرد في قلب كل هذا ضروري لنصل الي أعمق ولكن "ابسط"
وسيلة تعبير جماهيرية . يبقي ما يمكن أن نسميه : «التعبئة العامة
للسينمائيين» بدأت بوادرها عام 1976 عندما وضعنا نحن سينمائي البلاد
العربية - الافريقية، بمناسبة افقاد دورة مهرجان قرطاج بتونس، اقول عندما
وضعنا استراتيجية قوامها تكوين : اتحاد السينمائيين الافارقة اتحاد
السينمائيين العرب اتحاد النقاد العرب ثم كانت عاصفة الانفتاح التي اقتلعت
قلاع الثقافة العربية - الافريقية . ولكننا لم نستسلم . مع الصديق محمد بن
عيسي وزير ثقافة المغرب وشاعر السنجال الكبير ورئيس جمهوريتها وقت ذاك،
ليوبولد سيدر سنجور و38 عضوا من شتي البلاد العربية - الافريقية، وضعنا
ميثاق المنتدي الافريقي- العربي ليقف في مواجهة تكتل منتدي حوض البحر
الأبيض . وتم خنقه وأصبح السينمائي في أي بلد عربي متسولا : يتسول ميزانية
تمنحه اياها وزارات الثقافة أو الاعلام في بلده فلنرفض التسول، ولنعط
لابناء الشعوب العربية وفي طليعتهم شبابها حق الكلمة، حق الحركة . حق
الحياة.
جريدة القاهرة في
25/10/2011 |