كان اختراع السينما ومن ثم إقامة أول عرض سينمائي في العام قبل قرن
وعقد من الزمن، أمرا مبهرا للمشاهدين الأوائل الذين فوجئوا بالعالم يتحرك
أمامهم على الشاشة.
حصل الأمر نفسه لاحقا في أرجاء العالم الأخرى التي تعرض جمهورها
لمشاهدة عروض الأفلام السينمائية للمرة الأولى. غير أن درجة الإبهار
والانبهار كانت متفاوتة، وكذلك الأمر بالنسبة لنوعية الانبهار. فالدرجة
والنوعية أمران لهما علاقة وصلة وثيقة بالمستوى الثقافي للشعوب التي تعرفت
على هذه التجربة.
فبعض الشعوب المتقدمة حضاريا، رأت في هذا الاختراع المبهر للوهلة
الأولى والجديد من نوعه، تطويرا تقنيا لفنون سابقة، وعلى نحو أخص، لفن
الفوتوغرافيا، أي الصور الثابتة، في حين أن الشعوب المتخلفة حضاريا قد رأت
في فن السينما أو بالأحرى، في العرض السينمائي، ضربا من ضروب السحر يعجز
العقل عن فهمه تماما مثلما كان عليه الأمر بالنسبة لأفراد إحدى القبائل
المقيمة في مجاهل أدغال إفريقيا، الذين سجدوا للكائن الخرافي الذي نزل
إليهم من السماء (أو عليهم)، أي الطائرة الشراعية التي رأوها للمرّة الأولى
في حياتهم وهي تهبط في حقل قريب.
وإذا كانت المشاهدة الأولى للسينما بمثابة الصدمة التي احتاج البعض
إلى وقت طويل للاستفاقة منها، فإن هذه الاستفاقة أفرزت، وبسرعة لدى الشعوب
المتقدمة تقنيا وحضاريا، نقادا وباحثين بدأوا يفكرون على المستوى النظري
ويتأملون في هذا الفن الجديد، أي السينما، ويبحثون في طبيعته وخاصيته
وبنيته الفنية وآفاق تطوره المستقبلي.
أما في البلدان غير المتطورة فإن الذي كتبوا عن السينما بقوا في
البداية عند المستوى الأول واستمروا في الكتابة تحت وقع الانبهار بهذا
السحر الذي يعرض عليهم خيالات متحركة على شاشة بيضاء في قاعة معتمة
واحتاجوا إلى بعض الوقت كي ينفك الشعور بالسحر عنهم ما يسمح لهم بالكتابة
عن السينما من منطلقات ثقافية تتراوح في مستوياتها المعرفية ما بين البسيط
والمتوسط.
بعد سنوات قليلة من اختراع السينما وبعد أن أصبحت ظاهرة جماهيرية
وعالمية، ترسخ نوعان من الكتابة عنها وتعايشا جنبا إلى جنب: النوع الأول
جدي ونظري، يبحث في نظرية السينما أو يقرأ الأفلام قراءة نقدية وتحليلية،
وهو النوع الأكثر فائدة من الناحية الثقافية ولكنه الأقل حجما وانتشارا
والمعدوم الحظوة عند مشاهدي الأفلام، والنوع الثاني سطحي، لا يخلو من
الابتذال أحيانا، ولا يرى في الكتابة عن السينما إلا مجالا لسرد ملخصات
لقصص الأفلام أو عرضا سطحيا لما فيها من مواضيع أو متابعة أخبار عن ما يدور
في صناعتها أو فضائح وأسرار العاملين فيها وبخاصة ما يتعلق منها بالحياة
الخاصة لنجوم السينما ومشاهير الممثلين والممثلات. وهذا النوع الثاني هو
الذي انتشر في كافة وسائل الإعلام المتخلفة حضاريا.
وبالطبع، فإن الذين كتبوا بجدية عن فن السينما، وحتى في وقت مبكر من
عمرها وحيث كانت معظم عناصرها التعبيرية في مرحلة مخاض، باتوا لاحقا جزءا
من التاريخ الثقافي للسينما كفن وكوسيلة اتصال وكظاهرة اجتماعية، ولا زالت
كتاباتهم إلى اليوم تحظى بالاهتمام عند من يهتمون بالسينما كفكر وكفن في
مختلف دول العالم ويجري التعامل معها باعتبارها مراجع مفيدة يستشهد
بمقولاتها واستنتاجاتها الباحثون في أزمان لاحقة.
أما الكتابات الأخرى المكتفية بالأفلام، الانطباعية في غالبيتها
العظمى، أو الإخبارية الطابع والسطحية التي تكتفي بسرد ملخصات القصص، فلم
تدخل في التاريخ الثقافي للسينما وليس لها أية قيمة تذكر، باستثناء كونها
قد تفيد كمرجع يساعد الباحثين في مجال دراسة نوعية استجابة وسائل الإعلام
الشعبية لظاهرة السينما وهي استجابة تقتصر على نمط معين من الأفلام ينتمي
إلى صناعة السينما المتخصصة بإنتاج الأفلام التجارية الترفيهية المهيمنة
على أسواق العرض في العالم والأكثر شعبية عند غالبية الجماهير من رواد
صالات عرض الأفلام في مراحل وظروف محددة.
غير أن الغريب في الأمر أنه على الرغم من تطور توجهات ومستويات
الكتابة عن السينما من الناحية النظرية، وظهور ثم انتشار العديد من مناهج
التحليل النقدي الجاد للأفلام، ومع تطور وعي عامة الناس بطبيعة السينما
وتطور خبراتهم في مشاهدة الأفلام، فلا زلنا نلاحظ أن النوع الآخر من
الكتابة عنها لا يزال يسود في العديد من الدول عبر صحف أو وسائل إعلام لا
تزال تنظر إلى السينما بسطحية كوسيلة ترفيهية، ولا تتعامل معها كوسيط فني
وثقافي.
ثمة نوع ثالث من الكتابة عن السينما لا يرقى إلى مستوى الكتابة
النظرية والتحليل المنهجي للأفلام كما لا يهبط إلى مستوى الكتابات السطحية
أو الترويجية. هذا النوع الثالث هو نتاج تفسير انطباعي لقصص الأفلام مرتهن
لحالة من العشق للسينما تتملك الكاتب وتجعله يتمتع بمشاهدة الأفلام على
اختلاف مستوياتها فيكتب عنها متأثرا بما جادت به عليه من متعة.
ويتضح هذا النوع أكثر ما يتضح عند الكتابة عن الأفلام القديمة التي
انطلقت علاقة الكاتب بالسينما منها، حيث نلمح في العديد من الكتابات التي
تنشر عن السينما ككل أو عن الأفلام نوعا من الحنين إلى ماضي السينما يشبه
إلى حد كبير الحنين إلى الطفولة، حيث يتذكر المرء بحب لحظات من وقائع ساذجة
في طفولته.
فالسينما التي عرفها معظمنا في الطفولة كعالم مبهر، باتت لهذا السبب
بالذات، جزءا من ذاكرة الطفولة نفسها وجزءا من التاريخ الشخصي للإنسان وهذه
خاصية تتميز بها السينما عن باقي الفنون والآداب الأخرى، فهي فن مرئي مسموع
له قدرة علىالإيهام بالواقع،ومشاهدة فيلم سينمائي كانت ولا تزال نوعا من
العيش الواقعي لفترة قصيرة من الزمن، لحدث ولعلاقات إنسانية.
ويعكس هذا الأمر نفسه في حالات كثيرة على الكتابة عن الأفلام، حيث
تبقى الكتابة أسيرة لرؤية ذاتية لا تستطيع أن تتخلص من التأثر العاطفي
والانفعال لأنها لا تزال تحتفظ بحرارة الالتحام مع الفيلم.
* ناقد من الأردن مقيم في عمان
عين على السينما في
28/09/2011
السينما والجمهور والنقاد: فوضى الفن القبيحة
بقلم: يسرا علي
*
نعيش داخل فيلم واقعي حقيقي مرهق. هذا الفيلم بدايته ثورة، ووسطه فوضي
طبيعية لكن نرفضها نحن، ونهايته لا نعلم!
من خلال هذا تعالوا معي نقرأ هذه السطور...
مجتمع قام بثورة علي حكامه الطاغين الفاسدين، زلزل الأرض من قمع
الفساد الذي عاش فيه ثلاثين عاما، هذا المجمتع قبل ثورته كان يحمل جهازا
سينمائيا يقوم علي مجموعة من الذوقيات المختلفة منها القوي العميق، المتوسط
المقبول، الضعيف المبتذل، هذه المستويات جاءت تبعا للإختلافات الفكرية
والثقافية التي كان عليها المجمتع، فإذا قلنا إن هذا المجتمع قبل ثورته عاش
حاله من الجهل والجوع والفقر، وظلام وفساد.. إلخ فنستنتج من هذا أن
المستوي الأخير الضعيف المبتذل هو الطاغي علي المنظومة السينمائية.
شخصيات وأبطال الفيلم
عناصر المنظومة السينمائية: جزء لا يتجزأ
الفئة الأولي تحمل دائرة المتلقي ولكن هذا المتلقي يحمل أنواعا حيث
هناك متلقي مثقف يريد مشاهده ما يغازل عقله الثمين، متلقي اجتماعي يبحث عن
الترفيهة من خلال درس اجتماعي، متلقي جاهل كل ما يبغيه رقصة وضحكة منحطة
وغنوه تلوث الأذن.
الفئة الثانية وهم أصحاب العمل الفني أي الفيلم خيط الصراع، وهم أيضا
فئات تبعا لذوقيات الجمهور، والفئة الأخيرة هم فئة النقاد الذين مازلوا
يفهمون الفن علي حقيقته والسنيما وأنواعها.
دائرة الصراع
الكل يغضب.. الكل يثور.. ولا شئ يتغير علي الإطلاق.. كل الشعب قام
بثورة ولكل ليس كل الشعب يعرف معني كلمة ثورة، حيث الأفلام الموسمية التي
نحن بصددها هذه الأيام وإيرداتها وجمهورها تحمل الدليل علي هذا.
أفلام هابطة حققت نجاح جماهيري عالي وإيرادات عالية، وهنا يكمن الصراع
الحقيقي، ما بين متلقي واعي ينتظر التغير الحقيقي، وفن يحمل معاناته ويصور
تطلعات مستقبلية، هذا المتلقي مندهش كيف يوافق جزء كبير من الشعب علي هذه
الأفلام بعد الثورة، يعيش حاله جنونية من أثر الصدمة وخصوصا النقاد. وبين
متلقي جاهل لا يحمل شيئا من المعرفة ولا قيمة ماحدث في بلاده، ثائر فقط
ليجد أقل حقوقه الإنسانية، فهذا لا يتغير ذوقة الظليم بين يوم وليلة وبضعة
أشهر، ولكنه أيضا لا يعرف ما الجريمة في الموافقة علي مشاهدة هذه الأفلام
إلي الآن!
من أجل هذا الصراع المكتوم قامت الفئة الأولي (النقاد) تفسر ما يحدث،
منهم من قال إن هذا طبيعي بسبب الحالة العصيبة ومحاولة الجمهور الخروج مما
هو فيه وقد حدث هذا في الثورات السابقة ، فهو طبيعي.
وآخرون اندهشوا من من يعتقد أن الحالة السينمائية تتغير بين يوم وليلة
وهناك لم يجدوا تفسيرا ووجدوا أن ما حدث ليس إلا سخرية وتعد وظلم للثورة.
إن القائمين علي الأعمال الفنية في هذا الموسم لا يفهمون الثورة، ما
قدموه هو معني الثورة لديهم، وهم أيضا جزء من هذا الشعب الذي يحمل فئة
المستوي الضعيف المبتذل.
سؤال: ماذا كنا نتوقع منهم؟ هل نتوقع من جاهل أن يتعلم في شهور ويغير
طريقة تفكيره وينغمس في مسار نقد الذات ليصبح مثقف واعي يحمل ثائر بمفهموم
التغيير.
أنظروا من حمل راية هذا الموسم السينمائي:
محمد سعد وفيلم "تك تك بوم" هل كنا نتوقع منه تقديم عمل فني قوي عميق
يحمل قضية اللجان الشعبية بصورة جاده مهذبة، محمد سعد المريض بفوبيا اللمبي
والشخوص ذو الحركات البهلوانية التي لا تحمل عقلا يقودها، ما الذي قدمة لنا
قبل الثورة ليقدم لنا بعدها!
"أنا بضيع يا وديع" إعلان إباحي صنع صيتا تجاريا قدم في فترة فاسده،
قرر أن ينتج عملا للجمهور الذي صنع الصيت للإعلان، فأنتج من خلال قصة
مقتبسة لم ينجح القائمين علي الفيلم (الكاست) استغلالها بصورة تحترم حواس
الإنسان التي يشاهد بها الفيلم، هل كنا نتوقع أن يصبح فئة فكر وديع غير
ذلك!
"شارع الهرم" توليفة سعد الصغير ودينا، والتيمة الشعبية الهابطة
المبتذلة الناقصة، في نظري بعد إندهاشنا لكمية البلطجة التي كانت مختبئة في
جدران المجتمع وكمية الفساد التي شاب لها الجسد، لا نندهش من الفيلم
والجمهور المتهافت علي الفيلم .
ميزة الفن أن يبحث عن الجمال ومحاولة الوصول إليه حتي وإن كانت الصورة
مغلقة علي واقع أليم، الوصول للجمال يحدث تغيير في رؤية حياتنا يعمل علي
إصلاحها وإصلاح النفس المرهقة من الضغوط الطبيعية للحياه.
إذن الذي نحن بصدده ليس بفن، هو مجموعة أشخاص ترضي ثمة أشخاص أخري
فقط لا غير، وترضي الضمير الذي اهلكته ضياع القيمة واختزال الفنية في
المكسب المالي والتجاري فقط,(ماقدم هذا الموسم ملوثاث تحمل عقولا أكثر
تلويثا).
السينما هي مرآة الواقع الذي نعيشه، ومعظم المواسم كانت تقدم أعمالا
بين الجيد والردئ، لكن تراجع من كان يقدم بصيص النور لنا هذا الموسم , جعل
مرآة الفن لا تحمل إلا حقيقة واحدة فقط، لم يكن يتوقعها أحد، ولكن هي
الحقيقة المرة، لو عرض القائمون علي هذه الأفلام شيئا غير هذا، لكانت معجزة
حقيقة، ولكننا لسنا في زمن المعجزات.
نهاية مفتوحة
قرأت مقالات النقاد عن هذه الأفلام وشحنة الغضب التي علت أقلامهم
وكلماتهم، ولكنني أقول لو كتبت ألف مقالة في هذه الفترات الراهنة، لن يتغير
شيء، لأن هذا الجمهور لا يقرأ ولا يراكم أيها النقاد، هم يشاهدون ما يشبع
رغباتهم وذوقهم المتدني رغم أنف الذائقة الجمالية الراقية. الجمهور نسي
المعني الحقيقي للكوميديا، نسي السينما التي تتحدث عن الإبداع الذي يشبع
العقل البشري والعواطف والأحاسيس.
هناك شرخ بين فئات المنظومة السينمائية، شرخ بين الناقد والفيلم
والمتلقي، الناقد هو الذي يصل بين الفيلم والجمهور، هو الذي يقوم شكل الفن
عند كل منهم , بعدت المسافات أصبحت شاسعة، وظيفة الناقد وقفت عند من يهتم
فقط، الباقي لا يري لايقرأ لا يعلم ولايريد أن يعلم نجح الجهل والجوع
والفساد في السيطرة علي الذوق والعقول، نجح في تدمير الوظيفة النقدية
الحقيقة .
نحن ندور داخل حقلة صراعية مغلقة.. ننتظر صوت الضمير ليأتي.. ننتظر
ثورة الذات.. ثورة التغيير.. ثورة المعرفة، ولكن لا أعلم من أين المخرج
الذي يفتح الدائرة ولامتي يأتي ؟... فهل أنتم تعلمون؟
* ناقدة سينمائية من مصر تقيم في المنصورة
عين على السينما في
28/09/2011
فيلم "أجورا":
تراجيديا الموت المعلن دفاعا عن الحرية
ممدوح شلبى
ينقسم فيلم "أجورا"
Agoraالى
قسمين يفصل بينهما عشرون سنة، فى القسم الاول تتوضح معالم المجتمع الوثنى
فى مدينة الاسكندرية، حيث حبيشة (هيباتيا) السكندرية فى القلب من الأحداث
كعالمة فلك ورياضيات وفيلسوفة اعتادت على تعليم طلابها هذه العلوم فى جو من
التسامح والأخوة، فطلابها مسيحيون ووثنيون على حد سواء، فالاسكندرية يتعايش
فيها الجميع فى سلام رغم اختلاف عقائدهم.
يبدأ الفيلم وينتهى بلقطة لكوكب الأرض بشكلها الكروى، كتلخيص لرأى
مخرج الفيلم الاحتجاجى على ميراث الكنيسة الذى كان يحارب العلم، فمن كان
يناقش فكرة ان الارض تدور حول الشمس، فان مصيره كان الحكم عليه بالزندقة،
فيما عُرف بمحاكم التفتيش فى العصور الوسطى، وهذا لا نراه فى الفيلم، ولكنه
ماثل فى عقولنا جميعا، وهذا فى حد ذاته بلاغة فنية، عندما يكون مالا يُقال
حاضرا وجليا، وعندما ينبنى الفيلم كله على مفارقة درامية نستحضرها من
ميراثنا المعرفى.
ولذلك فثمة تأكيد على نظرية الكون طبقا لارستاكوس والالحاح عليها من
مخرج الفيلم، فالارض تدور حول الشمس، وهى جرم سماوى كروى، هذه النظرية تظل
حاضرة طوال الفيلم، حيث يحرص الفيلم على تقديم حبيشة فى مشاهد يغلب عليها
الطابع التسجيلى، منغمسة كلية فى هذا الامر لكى تجد الاجابات لما بدا غامضا
فى نظرية ارستاكوس، تلك النظرية التى طواها النسيان تماما مع تدمير مكتبة
الاسكندرية على يد الوثنيين.
تدمير المكتبة
إن تدمير المكتبة يتم بصورة وحشية على يد المسيحيين فى اعقاب استلامهم
المكتبة والمعبد القيصرى بعد صراعهم مع الوثنيين الذين ينهزمون تماما، ليس
فقط فى الاسكندرية ولكن فى العالم كله، وعندما يتسلم المسيحيون المعبد
القيصرى فانهم يحولونه الى كاتدرائية، اما مكتبة الاسكندرية فانها تتحول
الى خرابة يعشعش العنكبوت على جدرانها مكان اللفائف العلمية.
ان قسمى الفيلم يفصلان بين زمنين وفى نفس الوقت يبدو أن بنية القسم
الاول الدرامية مختلفة تماما عن بنية القسم الثانى الذى يهتم بتوثيق ظهور
المسيحية بممارسات وحشية ضد اليهود وبقايا الوثنيين، حيث حبيشة نفسها تموت
رجما بالحجارة فى نهاية الفيلم.
دراما القسم الاول تنتمى الى الثالوث الدرامى المقدس – امرأة فى علاقة
مع رجلين – ولكن هذا الثالوث الدرامى ليس كوميديا او هزليا كما عرفناه فى
المسارح العالمية، لكنه فى فيلم "اجورا" ثالوثا دراميا محوره حبيشة التى
يحبها اورستس ذلك النبيل السكندرى الذى يكرس نفسه للموسيقى بحثا عن
الهارمونية التى تسبب حبه لحبيشة فيها، وعاطفة حب ثانية من ديفيس عبد حبيشة
الذى يعتنق المسيحية ليس فقط كخلاص دينى ولكن طلبا ايضا لمعجزة لكى ينال
حبيبته حبيشة.
هذه الدراما تنتهى تماما فى القسم الاول من الفيلم، فحبيشة ترفض حب
اورستس لانها تُكرس نفسها للعلم، بينما ديفيس يجد حبيشة تُحرره فينتهى
القسم الاول برحيله، ولا يتعاطى القسم الثانى من الفيلم مع هذا الثالوث
الدرامى وكأننا امام فيلمين، فالسيناريو الذى كتبه أليخاندرو امينابار مع
ماثيو جيل واشتركا ايضا فى كتابة فيلم امينابار السابق عليه "داخل البحر"،
هو ما يجعلنا نعتقد ان هذه ليست هفوة منهما ولكنهما ارادا بنية جديدة
لفيلمهما اجورا، يمكن ان نعتبرها نوعا من التجريب السينمائى، وهى مغامرة
كبيرة، فالفيلم ينتمى لنوعية افلام الميزانيات الكبيرة، حيث تم تصويره فى
مدينة ديليميورا بمالطة وسط ديكورات كثيرة وملابس ومشاهد مجاميع ، يحتشد
الفيلم بها مثل مشاهد الحرب التى يبدأها الوثنيون على المسيحيين، على اثر
الاهانات التى يُوجهها المسيحيون لآلهة الوثنيين، وتنتهى بانتصار
المسيحيين.
بنية تجريبية
لكن الرهان بكتابة سيناريو بهذه البنية التجريبية، كان رهانا محسوبا،
فالافلام التى تتناول تاريخ المسيحية، هى واحدة من الموضوعات الاثيرة عند
المُشاهد الغربى الذى لا يتفاعل فقط مع السينما الجديدة بحماسة، ولكنه
يتفاعل بقوة مع الافلام التى تنقد المسيحية مثل فيلم "شفرة دافنشى"، فكلا
الفيلمان ينقدان تاريخ المسيحية صراحة.
لقد اعجبنى الفيلم جدا واعجبنى قسميه، ففى القسم الثانى الذى يبدأ
ايضا بكوكب الارض ثم تتقدم الكاميرا تدريجيا حتى نرى مدينة الاسكندرية، وهى
فعلا لقطة بديعة فالكاميرا تواصل تقدمها حتى نرى المعبد القيصرى الذى اصبح
الآن كاتدرائية مسيحية، بينما نسمع من خارج الكادر صوت نحيب نسوة.
فالقسم الثانى من الفيلم يبدأ بتولى الاسقف الشاب سيريل امر كنيسة
الاسكندرية، وعلى اثر ذلك يتبدل الحال فى هذه المدينة، فالسلام الاهلى الذى
عاشته المدينة يُصبح على المحك، حيث يبدأ المسيحيون فى عهده ومباركته فى
اضطهاد اليهود ويجبرونهم فى النهاية على الهجرة من الاسكندرية بعد ان
قاتلوهم بينما حكومة الاسكندرية قد اختارت الصمت ولم تبذل اى جهد فى حماية
اليهود، وهو ما تحتج عليه حبيشة بشده ، حيث بات من المؤكد ان تصاعد هذه
الممارسات سيؤدى الى النيل من حبيشة نفسها، التى تظل وثنية رغم جميع
التهديدات ورغم ان الجميع قد تحولوا الى المسيحية ، مثل اورستس الذى نراه
فى القسم الاول من الفيلم شديد الحماس الى الوثنية ومقاتلا عنيدا فى صفوفها
، بينما نراه فى القسم الثانى من الفيلم مسيحيا وقد اصبح محافظا
للاسكندرية.
شخصية تراجيدية
ان شخصية حبيشة تتشابه فى القسم الثانى من الفيلم مع انتيجون سوفوكليس،
فثمة صراع تواجهه مع العالم كله من اجل التزام وحق لا تستطيع التهاون فيه،
ان حبيشة شخصية تراجيدية بالمفهوم الارسطى ، وجميع مشاهدها تُركز على
صمودها وهى تختار نهايتها باصرار حتى ولو كان ثمن موقفها هو الرجم، ولعل
هذه الشخصية نفسها هى سبب جودة هذا الفيلم، فالسيناريو يبدو كما لو كان
معدا عن تراجيديا لسوفوكليس.
واذا تأملنا الفيلم جيدا سنلاحظ ان شخصية ديفيس هى الشخصية الدرامية
الرئيسية فى الفيلم، فثمة ازمة وصراع وذروة فى بنية هذه الشخصية التى يلعب
زمن الفيلم دورا كبيرا فى صياغتها على هذا الشكل، فالمسيحية تُمثل خيارا له
اثناء العبودية فهى طوق نجاه من الرق، وفى نفس الوقت يبتهل ديفيس الى خلاص
آخر فيما يتعلق بعاطفته المشبوبة تجاه حبيشة سيدته.
ان قسم الفيلم الاول ينتهى برحيل ديفيس، لكننا نراه فى القسم الثانى
من الفيلم حاضرا ايضا، فالرحيل كان رمزيا، فقد رحل ديفيس من براءته وانتمى
فى القسم الثانى الى مجموعة مسيحية مُتشددة تستخدم احجار الرجم والسيوف فى
تثبيت المسيحية، وهو تحول جذرى فى شخصيته حيث لا نرى اى رابط بينه وبين
القسم الاول من الفيلم الا فى نهاية الفيلم، حيث يبدو كما لو انه افاق على
حقيقة حبه لحبيشة التى يترصدها الآن الجميع من اجل تنفيذ (فتوى) سيريل فى
حقها كدجالة، فطبقا لهذه التهمة فان اعدام حبيشة اصبح مقررا.
ان مشاهد اعادة الوعى لديفيس تتشابه مع مشاهد الانقاذ في آخر لحظة –
تلك التى اختبرناها فى السينما كثيرا – وفعلا يصل ديفيس الى حبيشة فى لحظة
الرجم وينفرد بها، حيث نراها ترفع يدها وتكتم انفاسها فيضع ديفيس يده على
يدها حتى تلفظ انفاسها الاخيرة، كنهاية تليق ببطلة تراجيدية مثل حبيشة.
ويتميز هذا الفيلم ايضا بعنصر التمثيل، وسوف يبهرنا الممثل الفلسطينى
اشرف برهوم فى شخصية امونيس فقد اداه باسلوب مسرحى يتناسب مع الطابع
الخطابى لشخصية ذلك المسيحى المتشدد.
ان فيلم اجورا يستحضر زمنا استثنائيا فى تاريخ العالم عندما انتهى
التاريخ القديم وبدأ التاريخ الحديث للانسانية، وقد تم عرض الفيلم قبل بضعة
اشهر من ثورة الشعب اليونانى التى انتهت باقصاء اليمين من حكم اليونان، ثم
توالت الثورات فى تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا واوغندا وشيلى وحتى الصين
وايران وبريطانيا، وكأن العالم الآن على مفترق طريق فى تاريخه، انها قد
تكون مُصادفة، لكننى اراها نبوءة، فالفيلم وبرغم التزامه التاريخى الا انه
يبدو كما لو انه يتحدث عنا باسلوب التأريخية البريختية، لكن الفيلم – ويا
لها من حقيقة - سبق الحدث نفسه.
ملحوظة: أجورا كلمة يونانية معناها ساحة السوق التي كان يتجمع فيها
الخطباء العلماء لالقاء الخطب والتحدث مع الناس في أثينا ثم في الاسكندرية.
عين على السينما في
28/09/2011 |