بعد السينما التركية وسينما لوكينو فيسكونتي وغيرهما، ها هي أفلام
عملاق آخر من
عمالقة تاريخ الفن السابع تصل إلى بيروت. فبدءاً من السادس والعشرين من هذا
الشهر
وحتى الرابع من الشهر المقبل يتشارك معهد سرفانتس الإسباني في العاصمة
اللبنانية مع
المعهد الفرنسي فيها وجمعية متروبوليس لتقديم تظاهرة عنوانها «من الحلم إلى
الوقائع»
تضم عدداً لا بأس به من أفلام لويس بونويل يُعرض فيها بين
فيلم الافتتاح («الكلب الأندلسي» مصحوباً بعرض موسيقي ملائم)
وفيلم الختام «غرض
اللذة الغامض هذا»)، عدد من أبرز الأفلام التي حققها بونويل في مساره
السينمائي
الفرنسي - الإسباني - المكسيكي. وهنا مواكبة لهذه التظاهرة الفريدة من
نوعها، وقفة
مع بدايات هذا المبدع الكبير.
«مع اقترابي من لفظ آخر أنفاسي يبقى شيء واحد
آسف له، وهو جهلي بما سيجري من أمور حين ألفظها... أنا أعتقد
أن هذه «الحشرية» تجاه
ما يمكن أن يحدث بعد الموت، لم تكن واردة في الزمن القديم... بل لربما كانت
موجودة،
وإنما بدرجة أقل في هذا العالم الذي لم يتغير كثيراً. وهنا يساورني اعتراف
أخير:
على رغم كل كراهيتي لأخبار الصحف، أتمنى – في الماوراء – أن أكون قادراً
على النهوض
من بين الأموات، مرة كل عشر سنين، لأذهب إلى أحد الأكشاك حيث أشتري مجموعة
من
الصحف، ولا شيء غيرها، ثم أعود إلى القبر حاملاً صحفي بوجهي
الشاحب، متكئاً في
طريقي على الجدران قارئاً أخبار كوارث العالم، قبل أن أعود إلى السبات
العميق،
راضياً في ملاذ القبر المريح».
كانت هذه، على الأرجح، آخر سطور خطّها قلم
لويس بونويل... قبل موته في عام 1983 بفترة يسيرة من الزمن...
وهي الفقرات الأخيرة
في كتاب ذكرياته الذي وضعه عند نهاية حياته بعنوان «أنفاسي الأخيرة».
والحقيقة أن
هذا الكتاب، على رغم عمقه وطرافته وجماله الأخاذ، لم يكن ضرورياً من قبل
فنان صدرت
عنه طوال حياته عشرات الدراسات، بين كتب ومقالات، وأبقى – للتاريخ –
أفلاماً كثيرة
حكت كل شيء عنه، أكثر مما حكت عن أي شيء آخر.
مع فنان مثل لويس بونويل، يمكن
استعادة ما نقول عن كبار مبدعي الفن السابع، من أن حياته إنما
هي في أفلامه. ومع
هذا، ووفق اعتراف بونويل نفسه، لم يكن لديه في صباه أية فكرة عن أن السينما
ستكون
عالمه ومهنته لاحقاً في حياته. في سنوات المراهقة كانت علاقة الفتى بونويل
بالفن
السابع مجرد علاقة متفرج فضولي بهذا الفن، وهو لئن كان وهو في
نهاية عشريناته قد
تحوّل إلى السينما، فإنما كان ذلك التحوّل لديه من طريق نزعة قادته إلى
السوريالية،
هو الذي من خلال علاقته المبكرة بفدريكو غارسيا لوركا، أراد أن يكون
شاعراً، ثم من
خلال علاقته بسلفادور دالي رغب في أن يصبح رساماً. مهما يكن
فإن الفيلم – الفضيحة
الذي أطلقه في عالم السينما، من باريس وليس من مدريد عاصمة وطنه الإسباني،
كان أقرب
إلى الشعر وإلى الرسم، منه إلى أي شيء كان معروفاً في عالم السينما في ذلك
الحين.
نتحدث هنا عن «كلب أندلسي» الذي أحدث عند عرضه الأول في عام 1928 ثورة
وفضيحة في آن
في عالم السينما.
مع السورياليين
ولنتخيل هنا هذا المشهد: كان بونويل
بالكاد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره حين خاض لعبة الفن
السينمائي، من دون قصد
وفقط لكي يفرض على سورياليي باريس قبوله في أوساطهم... وهكذا نجده يستجيب
لاقتراح
رفيقه سلفادور دالي ويحققان معاً ذلك الشريط. ثم وبحياء شديد يتمكنان من
إقناع صاحب
صالة «أورسولين» الباريسية بأن يعرض الفيلم خلال حفل أقامه السورياليون في
القاعة
لعرض فيلم كان حققه المصور مان راي. وهكذا – يومها – ما إن انتهى عرض فيلم
مان راي
وسط صخب السورياليين، ومن بينهم أندريه بريتون وآراغون وبول إيلوار، حتى
وقف صاحب
الصالة سائلاً الحضور أن يشاهدوا معه «فيلماً قصيراً حققه
شابان إسبانيان غير
معروفين في باريس». لسنا ندري ما الذي كان دالي يفعله في تلك اللحظة، لكن
بونويل
كان مختبئاً خلف آلة العرض وقد ملأ جيوبه بحجارة تحسباً لرد فعل غاضب من
الحضور...
إذ قال لنفسه: «إن شتموني فسأرميهم بالحجارة»!
لكن المعجزة الصغيرة حدثت:
أدهش الفيلم السورياليين وتبنّوه من فورهم مرحبين بالشابين الإسبانيين
خالعين
عليهما لقب السوريالية الذي لم يكن الزعيم بريتون يوزعه إلا
بالقطارة.
طبعاً، أسفر ذلك النجاح، بالنسبة إلى بونويل ودالي، عن رغبة في
تكرار التجربة، ولكن من دون أن يخطر في بال الأول، أن كل ذلك حدّد له مهنته
ومستقبله، وأن عرض «كلب أندلسي» كان بداية طريقه ليصبح خلال
نصف قرن بعد ذلك واحداً
من كبار مبدعي السينما في تاريخها. واللافت هنا أننا، إذا استثنينا بعض
أفلام مرحلة
لاحقة لبونويل، هي المرحلة المكسيكية، سنجد أن ما يهيمن على القسم الأعظم
من أفلامه
التي حققها حيناً في فرنسا وحيناً في إسبانيا، إنما كان المقدمات والأفكار
والإرهاصات نفسها التي حملها فيلماه الأولان، «كلب أندلسي»
(1928)، ثم «العصر
الذهبي» (1930)... في استفزازية لم يبارحها حتى نهاية حياته. والاستفزاز إذ
كان في
أول هذين الفيلمين قد تبدّى شكلياً – فنياً، فإنه على أية حال، كان سياسياً
واجتماعياً عنيفاً في «العصر الذهبي»، الذي جربه – هو – بردود
فعل عنيفة، وقنابل
مسيلة للدموع وصراخ واستهجان ومحاولات تدمير من قبل متفرجين دخلوا الصالة
حين عرض
الفيلم، معربين عن فاشية مرعبة إزاء فيلم قيل لهم إنه مناهض للكنيسة ينسف
أفكارها
وبخاصة فكر البر والإحسان... ناهيك بنسفه الإيمان. وهكذا تدافع
الفاشيون داخل
الصالة صارخين «الموت لليهود»... و«هذا لكي نقول لكم إن ثمة، بعد، مسيحيين
في
فرنسا».
تحت شعار الفضيحة
تحت شعار الفضيحة، إذاً، كانت بدايات
بونويل السينمائية... وتحت شعار الفضيحة ستظل سينماه تصنع
دائماً. لكن الفضيحة لن
تكون كل شيء في هذه السينما. سيكون هناك التجوال والتشرد أيضاً. والخيبات
الكبرى،
والمطاردات... لكنه، هو، سيجابه ذلك كله ساخراً ضاحكاً، مستفزاً وقد آلى
على نفسه
منذ اندلاع «فضائحه» الأولى أن يجعل من كل فيلم ومن كل مشهد
وحوار في فيلم له،
متفجرة أشد عنفاً وتدميراً من تلك القنابل التي رماها الفاشيون ضد فيلمه
«العصر
الذهبي». صحيح أنه لم يلتزم – شكلياً على الأقل – بهذا التعهد دائماً...
لكنه التزم
به في كل مرة قيّض له ذلك... بل يمكننا اليوم أن نقول إننا حتى في أفلامه
المكسيكية
التي توصف عادة بأنها «شعبية» و «جماهيرية» صنعت لغايات تجارية، خلال فترة من
حياته
امتدت بين 1947 و1960 حتى في هذه الأفلام سنرى ملامح تدميرية ساخرة... تسير
على نمط
الفكر الذي حمله بونويل منذ بداياته الشعرية: فكر متمرد مشاكس، معاد
للكنيسة
وجمودها، مدمّر لأنماط الفن الكلاسيكي... باحث في الوقت نفسه
عن أخلاق جديدة، أخلاق
صادقة صحيحة، تلائم الإنسان، لا الصورة التي يرسمها المجتمع الجامد
للإنسان. وكل
هذا عبر لغة تبدو في ظاهرها هادئة... لكنها في داخلها تضج باللهيب. وحسبنا
اليوم أن
نراجع المتن السينمائي للويس بونويل كاملاً، منذ أول فيلم قصير باريسي له،
وحتى
فيلمه الأخير «غرض الرغبة الغامض هذا» الذي حققه أيضاً في
باريس في اعام 1977
خاتماً به مساره السينمائي قبل مرور نصف عقد على اختتامه حياته في المكسيك
التي عاد
إليها بعد غياب، هو الذي عاش فيها أغنى سنوات شبابه وحياته.
وبين «كلب
أندلسي» و «غرض الرغبة الغامض هذا» مر نصف قرن تقريباً، عاشه لويس بونويل طولاً
وعرضاً، عاشه مدمّراً وساخراً، فناناً ومناضلاً سياسياً. وهو حقق خلال تلك
الفترة
عدداً كبيراً من الأفلام التي أتت، في ظاهرها متفاوتة الجودة
والقيمة، إذ عرفت
صعوداً وهبوطاً... بيد أنها في جوهرها... تكاد تكون مساراً متواصلاً في فن
ذلك الذي
حين ولد عام 1900 في مدينة كالاندا الأراغونية في إسبانيا، لم يكن ليخطر في
بال
والديه البورجوازيين الموسرين أنه قد يحتل في القرن العشرين
تلك المكانة التي
ستكون، أو أنه سيعيش طوال حياته معادياً للكنيسة ولرجال الدين هو الذي كانت
تربيته
الأولى في المدارس الكاثوليكية اليسوعية المشهورة بصرامتها. والحقيقة أن
تربية لويس
لدى اليسوعيين كانت هي ما طبعه – سلباً – طوال حياته (وهو أمر سنلاحظه
لاحقاً عند
سينمائي إسباني متمرد آخر هو بيدرو ألمودوفار معبراً عنه في
فيلمه «التربية
السيئة»...) ولعلنا لا نعدو، هنا، الحقيقة إن نحن دنونا من الأمر، من منطلق
فرويدي،
لنجد أن موقف بونويل من الكنيسة، إنما كان موقفاً أوديبياً خالصاً: لقد
مثلت
بالنسبة إليه، في آن، صورة الأب والأم اللذين يجب التخلص منهما
واغتصابهما في آن...
وهو أمر يمكن رصده في أفلام بونويل، كما يمكن رصده في كتاباته أيضاً... غير
أننا
نؤثر في سياقنا هنا ألا نغوص في مثل هذا الأمر الذي قد يبعدنا عن بونويل
السينمائي
دافعاً إيانا إلى التعمق في... دراسة النوايا.
خط غير مستقيم
بعد
دراساته الابتدائية والثانوية لدى اليسوعيين، التحق لويس بونويل بجامعة
مدريد حيث
درس العلوم الطبيعية، لكنه – ولأنه كان يعيش في إسبانيا الصاخبة بالأفكار
وضروب
الإبداع في ذلك الحين – سرعان ما وجد نفسه يفضّل صداقة
الفنانين والأدباء
المتمردين، وكذلك المناضلين السياسيين، من فوضويين ويساريين، على مصادقة
العلماء أو «الناس المرتبين الأنيقين» وفق تعبيره.
ومن هنا أهمل دراسته الجامعية وراح
يجرب حظه في كتابة الشعر والأدب، كما في النقد السينمائي (في
«غاسيتا ليتراليا»)،
من دون أن يخطر في باله طبعاً، أنه سينتقل إلى الجانب الآخر من
مرآة الاهتمام
بالسينما. في ذلك الحين كان يعرف أموراً كثيرة عن الماركسية والدادائية،
وكان قد
ارتبط بصداقة عميقة مع لوركا ودالي.
وهو إذا كان قرر في عام 1925 أن يتوجه
ليعيش ردحاً من الزمن في باريس، فإنه فعل هذا سيراً على خطى
دالي. وهكذا، في باريس،
كان – كما أشرنا – احتكاكه بالسورياليين وفيلماه الأولان... وهو على أثر
هذا، وإذ
تشعبت الأوضاع في إسبانيا وساد فرز سياسي وأيديولوجي، وجد نفسه يفترق
بالتدريج عن
سلفادور دالي، الذي اختار سلوك درب الفاشيين، ليقترب أكثر من لوركا الذي
ارتبط
باليساريين. وبونويل، بعد سنوات باريسية صاخبة وضعته على «الخط
المستقيم» وحددت له
اختياراته، فنياً وسياسياً ووجدانياً، عاد إلى إسبانيا ليحقق في عام 1932،
أول فيلم
طويل له وهو «لاس هورديس»، الذي حققه كجزء من نضاله إلى جانب الجمهوريين
اليساريين.
والفيلم يتحدث عن منطقة شديدة التخلف
والقسوة، طبعت بهامشيتها وفقرها سكانها... عن
هذا كله تحدث الفيلم بلغة واقعية عنيفة، غير محتفظ من المناخ
السوريالي القديم في
فيلمي بونويل السابقين، إلا بالمزج المدهش بين موسيقى براهمز الهادئة
الناعمة،
ومشاهدة الحياة العنيفة في تلك المنطقة الجرداء المرعبة. والجدير بالذكر
هنا أن هذا
الفيلم منع – لقسوته وواقعيّته – من العرض في إسبانيا، حتى من
قبل السلطات
الجمهورية التي استبقت حكم فرانكو... وكذلك منع من العرض في فرنسا، التي
لجأ الفيلم –
وصاحبه – إليها، حتى جاء حكم الجبهة
الشعبية هناك وسمح بعرض الفيلم بدءاً من عام
1937.
في تلك الأثناء كان بونويل قد انصرف إلى تحقيق أفلام دعائية للحكم
الجمهوري
التقدمي في إسبانيا، قبل انهيار هذا الحكم... وإضافة إلى ذلك العمل
الدعائي، كان
بونويل يمضي جل وقته في باريس مكلفاً مهمات نضالية لمصلحة الجمهوريين. في
ذلك الحين
كان مندفعاً في هذا بكل قوته وحماسته، رامياً أحلامه الإبداعية
جانباً. ومن الطبيعي
والحال كذلك أن تكون خيبة أمله كبيرة حين هُزم الجمهوريون وصارت إسبانيا
تحت سيطرة
الجنرال فرانكو وفاشييه. غير أن ما خفّف من وطأة هذا الأمر على بونويل، كان
وجوده
في ذلك الحين في الولايات المتحدة الأميركية.
السينما كمصير
فرديّ
بالنسبة إلى بونويل، كانت السينما قد أضحت اختياراً نهائياً ومصيراً
ووسيلة تعبير... لذلك ها هو الآن في أميركا يحلم بأن يحقق مشاريع سينمائية
كان قد
بدأ يعرضها على أهل هوليوود. وفي انتظار تحقّق واحد من تلك
المشاريع كان عليه – لكي
يكسب عيشه إذ تزوج وأنجب ولداً – أن يقيم في نيويورك حيث يعمل في «متحف
الفن
الحديث»، إضافة إلى اشتغاله «بدبلجة» أفلام شركة وارنر إلى اللغة الإسبانية.
والحقيقة أن وضع بونويل في ذلك الحين لم يكن سيئاً، وكان يمكنه أن يعطى
عملاً
إخراجياً ما... في هوليوود، لولا أن جاءته الصفعة من... سلفادور دالي، إذ
إن هذا
الأخير تحدث، في كتاب كان أصدره حينها عن أن لويس بونويل «ملحد» كافر. وفي
ذلك
الحين لم يكن في وسع هوليوود أن ترضى إعطاء عمل لملحد... ففشلت
كل مساعيه، بل إنه
–
حتى – طرد من عمله في المتحف النيويوركي... ولم يعد أمامه إلا الهرب إلى
المكسيك،
التي كانت في ذلك الحين، تستقبل اللاجئين الإسبان فتوفر لهم عيشاً كريماً
وعملاً...
وبين 1947 و1960، عاش بونويل وأسرته في المكسيك وقد حاز – في آن –
عيشاً كريماً وعملاً. لقد كانت السنوات
التي قضاها بونويل في المكسيك من الطول بحيث
إن موسوعات سينمائية كثيرة، حيث تتحدث عنه اليوم تعرّفه بأنه
«مخرج مكسيكي من أصل
إسباني». وربما لا يكون هذا دقيقاً، لكنه منطقي، ذلك أن علينا ألا يغيب عن
بالنا
هنا أن بونويل لم يعش عاطلاً من العمل سنواته الطويلة في المكسيك، بل إنه
حقق فيها
العدد الأكبر من أفلامه. صحيح أن عدداً من أفلامه المكسيكية
كان ضئيل الأهمية
مقارنة مع أفلامه الكبرى، ولكن صحيح أيضاً أن ثمة من بين أعماله المكسيكية
أعمالاً
اعتبرت كبيرة وأساسية منذ ظهورها... إضافة إلى أن النقد يكتشف منذ سنوات
أهمية
أفلام أخرى مكسيكية لبونويل لم يكن أعارها اهتماماً من قبل.
إذاً، خلال 14
عاماً قضاها بونويل في المكسيك، إبان إقامته الأولى فيها هرباً من خيباته
الهوليوودية، حقق هذا المخرج الذي كان النسيان قد طواه في ذلك
الحين، أربعة عشر
فيلماً مكسيكياً خالصاً، قبل أن يحقق في فرنسا، أو في إنتاج مشترك مع
فرنسا، في عام 1956،
فيلم «هذا يسمى الفجر»، ثم في العام نفسه «الموت في هذه الحديقة»... ذلك أن
اسم بونويل كان قد عاد إلى الأضواء منذ النصف الأول من خمسينات القرن
العشرين بعد
أن عرض له في مهرجان «كان» (1950) «لوس أولفيدادوس»، أحد أجمل وأعمق أفلام
مرحلته
المكسيكية... وكان ثاني فيلم مكسيكي له، بعد «غران كازينو»
(1947) و«المزعج
الكبير» (1949).
مهما يكن من أمر فإن المرحلة المكسيكية في عمل بونويل تبدو
للمؤرخ مرتبكة بعض الشيء. وهو قال دائماً إن ثمة أفلاماً حققها خلالها، لا
تزال
مجهولة حتى الآن، ثم إنه لاحقاً في عام 1956، حتى من بعد أن
أصبح معلماً كبيراً من
معلمي السينما العالمية (وفق الوصف الذي سيسبغ عليه عام 1969 في مهرجان
البندقية)
وبعد أن حقق في إسبانيا ثم في فرنسا،
فيلمين من أهم أفلام مرحلته الأخيرة (وهما
«فيريديانا»
1961 و «يوميات وصيفة» – 1963) سيعود مرة أخرى إلى
المكسيك يحقق فيها
فيلماً كبيراً له هو «سيمون الصحراء». وهو حقق كذلك أفلاماً ذات إنتاج
مشترك مع
إيطاليا، ومع فرنسا/ المكسيك، ومع إسبانيا/ المكسيك،
بحيث يكاد ينطبق عليه، أكثر مما على أي مخرج آخر، وصف السينما بالفن الأكثر
كوزموبوليتية في تاريخ العالم. غير أن هذا لا يمنع من تأكيد أن آخر الأفلام
التي
حققها بونويل كانت فرنسية خالصة، وهي بالطبع «شبح الحرية»
(1974) و «غرض الرغبة
الغامض هذا» (1977) يسبقهما بالطبع تحفته الساخرة «سحر
البورجوازية الخفي» (1972).
وهو قبل ذلك، بين «سيمون الصحراء» (1965) و «سحر
البورجوازية الخفي» حقق ثلاثة
أفلام اعتبرت من أهم أعماله على الإطلاق، على رغم أن اثنين منها كانا
اقتباساً
لروايتين معروفتين «حسناء النهار» (1969) عن جوزيف كيسيل، و «تريستانا»
(1970) عن
رواية للإسباني بنينو غالدوس، الذي كان اقتبس عنه أيضاً فيلم «ناثارين»
(1958) أحد
أفلامه المكسيكية المميزة. علماً أنه ثالث تلك الأفلام «درب
التبانة» (1969) حقق عن
سيناريو لجان كلود كاريير.
الحياة اللندنية في
23/09/2011
زوجان وكاتب في دوامة الراهن
أمل الجمل
من بين عشرات الأفلام العربية القصيرة، الروائية بخاصة، يمكن التوقف
في الآونة
الأخيرة عند عدد لا بأس به من شرائط يحققها شباب آتون من شتى البلدان
العربية
حاملين دماً جديداً عبر الدوران بأفلامهم هذه بين مهرجان وآخر. وهنا وقفة
عند
فيلمين أولهما من الأردن والثاني من العراق: «بهية ومحمود»
لزياد أبو حمدان،
والثاني «المحنة» لحيدر رشيد.
للوهلة الأولى عقب هبوط عناوين فيلم «بهية ومحمود»، للمخرج زياد أبو
حمدان، تقفز
إلى الذهن قصة «الورقة بعشرة» للكاتب المصري الراحل وسيد القصة القصيرة
يوسف إدريس.
قطعاً الشخصيات مختلفة والأحداث غير
الأحداث تماماً، لكن الروح المسيطرة على كلا
العملين والفكرة الأساسية واحدة. في قصة يوسف إدريس كانت
الزوجة - وفق رأي زوجها
«صلاح»
- خانقة لا تُهديه سوى الكلمات السامة المنتقاة، والشخطات التي لا رحمة
فيها
ولا عاطفة... لذلك أصبح «صلاح» ساخطاً على الزواج، فحياته صارت مملة رتيبة
تقتله
بالتدريج، يحس أنه يحيا كالمومياء المحنطة. وفي البيت يتعثر في
ألف مشكلة وكارثة.
كما لم تعد رفيقة دربه امرأة يشتهيها ولا حتى صديقة يأنس إليها.
في الشريط السينمائي الأردني القصير «بهية ومحمود» نعايش يومين في
حياة زوجين
عجوزين يسكنان في شقة بحي شعبي، ونغرق معهما في شجارهما المتواصل، كأن ما
يربط
بينهما ليس سوى حرب مستعرة مستمرة وخلاف دائم يتجدد كل ثانية. الزوجة
ثرثارة سليطة
اللسان يكرهها زوجها، مع ذلك وعلى رغم الضجر نتعاطف معها لأنها تتحمل
مسؤولية كل
شيء فزوجها مريض وكسول ولا يُجيد فعل شيء سوى كرهها ومناكدتها.
ومع هذا عندما يصحو الزوج العجوز من نومه في أحد الأيام ولا يجد أثراً
لزوجته،
يظل يبحث عنها وينادي عليها كالمجنون. يهبط متعثراً بملابس النوم إلى
الشارع الذي
لم يخرج إليه منذ سنين أملاً في العثور عليها. تعود الزوجة إلى البيت
متأخرة؛ لأنها
أصرت على شراء خبز فرنسي له كان قد اشتهاه، وعندما لا تجده
تخرج باحثة عنه في
الشوارع. بعد رحلة بحث مكسوة بالقلق والخوف والفزع يلتقي الاثنان على مقربة
من
شقتهما فيضحكان فرحاً وبهجة غير مصدقين أنهما التقيا من جديد.
تلك الخاتمة أيضاً تُؤكد ذلك التماس بين القصة والشريط السينمائي
القصير الذي
سبق وحصل على جائزة مهرجان بالم سبيرنغ في أميركا وجائزة مسابقة الأفلام
الأردنية
القصيرة في عمان. ففي «الورقة بعشرة» ظل الزوج يتساءل: ما الذي يربطه
بزوجته؟ ما
الذي يجعله يتحمل تلك الحياة السخيفة؟ ما كنه تلك العلاقة
الغريبة التي تجمعهما؟
كانت حياته معها كره في كره وخلاف في خلاف. عانى معها ألف ليلة وليلة من
الألم
القاسي. لكنه لحظة أهداها خمسة جنيهات في عيد زواجهما، وبعد أن كتبت هي
أيضاً له
إهداء على ذات الورقة النقدية، بعد أن بكت غير مصدقة أن زوجها يُفكر فيها
ولا يزال
يُحبها فاضطربت وضحكت وبكت وتناوبت عليها مشاعر مختلطة، هنا في
تلك اللحظة تفجرت
عاطفة قوية مبهمة في نفسه، وإعزاز غريب مفاجئ لزوجته اكتشف أنه يملأ صدره.
من محنة كاتب الى محنة وطن
ثلاثة أمور لافتة تُميز فيلم «المحنة». أولها جرأة المخرج الشاب حيدر
رشيد في أن
يُدشن حياته المهنية كمخرج سينمائي بفيلم يعتمد على الزمن النفسي للشخصيات
أكثر مما
يعتمد على وجود أحداث، إذ يروي الفيلم أزمة كاتب شاب انتهى من تأليف روايته
الأولى
ويبحث عن ناشر، لكن اختطاف والده واغتياله في «بغداد» على يد
عصابات إرهابية مسلّحة
يلفه بصدمه عنيفة. كان والده أكاديمي عراقي، عاش في المنفى أكثر من عقدين
وعاد إلى
العراق بعد تلك السنين ليُسهم في إعادة إعماره، لكنه يُخطف ويُغتال بعد
أسابيع من
عودته. يتنامى الشريط السينمائي عبر خطين: بحث الابن في ثنايا
علاقته المتوترة
المرتبكة إلى حد الانفصال مع أبيه عبر رسائل صوتية تركها له، وعبر علاقة حب
من طرف
واحد مع صديقته. كذلك يتعرض الفيلم لمأساة العراق ومحنة المنفى من دون أن
يستعين
بأية لقطة من أرشيف الحروب الممتدة في ذلك البلد الذي صار
مفتتاً متناحراً.
ثانيها اختياره للممثلين خصوصاً بطل الفيلم الذي جاءت معظم مشاهده في
لقطات
مقربة طويلة زمنياً، أو متوسطة الحجم، وهي أمور كفيلة بإفشال العمل لو لم
يكن
الممثل تلقائياً متدفق الأداء ومقنعاً. فإطالة زمن المَشَاهد - التي تعكس
وحدة
البطل بشخصيته المركبة وعزلته عن العالم المحيط به لكي تترجم
حالة الضياع والفراغ
التي تسيطر على حياته وتجعله ينام في سيارته ويتسكع في الشوارع - إذا لم
تُملأ
بالزمن النفسي الصادق وبالأداء المعبر يُمكنها أن تتحول إلى النقيض لتقضي
على
الفيلم تماماً.
ثالثها التصوير الذي جاء معظمه ليلياً ليُجسد حيرة البطل وأزمته
واغترابه
والانزواء بعيداً من صخب المدينة وذلك من خلال شحوب الأضواء التي زادت
الأجواء
وحشة، ومنحت الإحساس بالغرق في الحزن، من خلال اللقطات التي يلفها الضباب
والمشاهد
المعتمة، غائمة الملامح. وحتى عندما استخدمت الألوان اقتصرت على اللون
الأزرق رمز
الحزن، فالشخصية الرئيسة مغمورة بالحزن والتشوه والاضطراب،
لكنها مع ذلك لا تيأس من
محاولة تغيير الواقع.
الحياة اللندنية في
23/09/2011
من تكريم رويث الراحل إلى غرام إيراني
قديم
بيروت - «الحياة»
ثلاثة أيام أخرى وينهي مهرجان «آرتيسينما» في بيروت نشاطات دورته
السادسة.
والحقيقة أن برنامج هذا المهرجان السينمائي الغني والطموح عرف كيف يترك
لأيامه
الأخيرة بعض اجمل عروضه وفعالياته. فهو بعدما قدّم لجمهوره في
أيامه الأولى أفلاماً
من الصعب القول إن ثمة في لبنان فرصاً حقيقية أخرى لمشاهدتها، من «الشجرة»
لجولي
برتوتشيللي، إلى «كوباكابانا» وغيرهما، هاهو يستكمل العروض متيحاً بفضلها
للمتفرج
أن يشعر وكأنه يخوض جزءاً من مغامرة العروض المستقلة في مهرجان «كان» الذي
سبق له
أن عرض معظم هذه الأفلام. بالنسبة إلى العروض والفعاليات المتبقية حتى
الأحد
المقبل، لا شك في ان فيلم الاختتام سيكون المكافأة الكبرى
للجمهور. فالمهرجان يبدو
موفقاً في عرض الفيلم الثاني للثنائي الفرنسي/الإيراني المؤلف من مرجان
ساترابي
وفنسان بارانو... وكان هذان حققا شهرة ونجاحاً (وسجالاً حاداً على خلفية
غضب
السلطات الرسمية الإيرانية من فيلمهما الأول الذي حقق بالرسوم
المتحركة اقتباساً من
كتاب ساترابي «برسبوليس» وهو غضب وصل يومها إلى لبنان مانعاً عرض الفيلم
لتكون
النتيجة انتشار عشرات ألوف النسخ من أسطواناته المدمّجة لدى الهواة
وغيرهم). فيلم
الثنائي الجديد لن يثير غضباً كثيراً هذه المرة حتى ولو كان
بدوره ايرانيّ الموضوع،
ذلك أن الفيلم - وعنوانه «دجاج بالخوخ» - يحكي هذه المرة حكاية إيرانية
تعود إلى
سنوات الخمسين من القرن العشرين، أي قبل ثورة الملالي، عن واحد من اشهر
موسيقيي
زمنه، ناصر علي خان، الذي فقد الرغبة في العزف والعيش والعمل
بعدما كسرت كمانه
فانروى في سريره ينتظر الموت مستعيداً ذكرياته بكل ما فيها من أفراح
وأحزان، نجاحات
وإخفاقات وصولاً إلى كشفه لنفسه عن قصة حب مدهشة عبرها في حياته. هذه المرة
لم تحقق
ساترابي وشريكها فيلمهما بالرسوم المتحركة، بل بواسطة ممثلين عالميين من
أبرزهم:
كيارا ماستروياني وماثيو امالريك وماريا دي مديروس بالإضافة إلى الهزلي
المغربي
جمال دبوز.
وقبل فيلم ساترابي/بارانو الذي يعرض في بيروت الأحد المقبل، قبل
شهر من بدء عروضه العالمية، سيتاح للجمهور البيروتي أيضاً فرصة نادرة
لمشاهدة آخر
فيلم تمكن المخرج الشيلي الأصل والذي كان يعيش بين فرنسا والبرتغال، راؤول
رويث، من
إنجازه وعرضه قبل رحيله بفترة من الزمن وهو «أسرار لسبونة»،
الذي اعتبره النقاد
واحداً من افضل الأفلام الأوروبية التي عرضت في السنوات الأخيرة، كما
اعتبروه
واحداً من اكثر أفلام رويث جماهيرية ومقدرة على الوصول إلى جمهور عريض
بعدما كانت
كلّ الأفلام التي حققها هذا المبدع بين فرنسا والبرتغال طوال
اكثر من ثلث قرن - تلت
نفيه الطوعي من وطنه الشــــيلي إثر انقلاب بينــــوشيت الفاشي ضد حكم
الاشـــتراكي
الليندي الذي كان رويث من مؤيديه -، أفلاماً نخبوية وصعبة موضوعات ولغة
سينمائية.
والجدير بالذكر أن عرض فيلم رويث الأخير هذا سيأتي في العروض البيروتية ضمن
إطار
تكريم خاص لذكرى مبدع سينمائي حقيقيّ لم يسبق، لحدّ علمنا، أن عرض ايّ من
أفلامه
عرضاً تجارياً في بيروت أو في غيرها من العواصم العربية.
الحياة اللندنية في
23/09/2011 |