لم يكن بيير باولو بازوليني1922 ـ 1975 سوى فنان استثنائي، تعددت
إبداعاته الفنية ما بين الشعر والكتابة النثرية، والتنظير الفلسفي، وكتابة
السيناريو، وصياغة فكره المتقد في أفلام طالما أثارت فكر وروح الجميع.
ويعتبر فيلم "سالو" المأخوذ عن رواية للمركيز دوساد بعنوان "120 يوما
في سادوم" هو آخر أفلام بازوليني. وقد دفع حياته ثمناً لهذا الفيلم الذي
كسر به كل التابوهات بجرأة وحدة لا تعرفان المواربة.
فقد حاول النبش في جثة الرجعية والسلطة والدين، واجتمعت في هذا الفيلم
رؤية بازوليني كاملة، التي طالما نثرها في العديد من أعماله السابقة، حتى
الأسطورية منها، أو المستمدة من الحكايات الشعبية أو من تراث الشعوب. فقد
كانت تؤرقه دوماً فكرة حرية الإنسان، وتحرره من أية مرجعيات موبوءة تحد من
قدرات وقيمة الإنسان عقلاً وروحاً وجسداً. حتى جاءت نهاية بازوليني كنهاية
أبطاله، وربما كانت كل أعماله ما هي إلا مسودات متتابعة، حتى يحصل على
نهاية يرجوها، ورغم كونها مأساوية إلى أقصى حد، إلا أن بها الكثير من
رومانسية، فالطاقة الجبارة التي يحملها القلب والروح، لابد وأن يتفتت في
سبيلها الجسد كقربان وحيد يليق بها.
تركيبة السلطة الأزلية
يتناول الفيلم بكثير من التفاصيل المزعجة والمُربكة كل مفردات ومقومات
السلطة ومثلثها الأزلي المتمثل في السياسي والعسكري ورجل الدين. لعبتها
المتكررة عبر التاريخ تمكن في قدرتها على تحويل الإنسان عن روحه وقدراته،
ومسخة ليدور بعد ذلك في فلك السلطة عاجزاً عن معرفة نفسه مع تضافر عناصر
هذه السلطة من سياسية ودينية واجتماعية، لتسحق هذه الروح وتقضي عليها، مع
التنبيه لوسائل براءتها الزائفة، المتمثلة في وسائل الدعاية والإعلام، التي
تخفي بشاعتها وروحها الخربة.
مدرسة الرعب
تدور أحداث الفيلم في الأربعينيات وقت المد الفاشي، مع التجسيد الرمزي
للمناخ الذي يسمح بنشوء مثل هذه السلطة. ذلك من خلال إطار حكاية المركيز
دوساد في روايته 120 يوم في سادوم، محللاً وسارداً أقصى صورة لهذه السلطة
بشاعة، حيث يقوم ممثلوها بعملية انتقاء واختيار أو اصطياد فتيان وفتيات
يصبحون خدماً وأدوات مستقبلية لها،كما كان يفعل هتلر مع أولاد الملاجئ، حيث
هو أب الجميع، ليتعدى شكل السلطة الأبوية إلى سلطة إلهية مطلقة.
وفي مكان ناء تبدا عملية تربية هؤلاء، من خلال بعض الطقوس التي تقترب
من طقوس الرعب الكاريكاتوري، والذي جعله بازوليني طوال الفيلم عبارة عن
أحداث متتابعة من القسوة المفزعة، نذكر منها عدة مشاهد دالة لتشويه جيل
الأطفال المراهقين هذا، فبدلاً من حكايات الحب التي تحكيها الجدات الطيبات،
نجد امرأة قاسية تجلس لتحكي في صوت بارد عن مغامرات جنسية سادية، تثير
الرعب في نفوس الجميع، تصاحبها موسيقى رقيقة تنبعث من بيانو وحيد، كواجهة
إعلامية بريئة لما يتم سرده من حكايات تصيب العقل بالجنون،إضافة إلى
السخرية المريرة التي يراها بازوليني من طقوس الزواج ومراسمه الدينية، التي
تعضد كل سلطة مشوهة.
وقد كانت أقصى مشاهد التعذيب قسوة تتم على خلفية موسيقة لقدّاس كنسي.
وأخيراً فئة الصفوة وتكوينها، الذي لم يتغير، وهي صورة للأرستقراطية
القديمة في أوروبا، التي تتفنن في ممارسة كل أنواع التعذيب، حتى تنجح في
تحويل الأشخاص في النهاية إلى مجرد قطيع. حتى أن الكثير من المشوهين منهم
يقوم بالتواطؤ لنيل مكانة ما بالاقتراب من هذه السلطة، وهو ما يحدث في كل
زمن.
غباء السلطة
رغم كل ما تحاول بثه السلطات القمعية في نفوس الأفراد بأنها لا تموت،
وأن لديها القدرة المطلقة على تجديد نفسها، إلا أن روح الإنسان تسعى بكل
الطرق للإفلات منها.
وقد حاول بازوليني تجسيد بارقة الأمل هذه في عدة تنويعات خلال دراما
الفيلم،كعلاقة الحب بين أحد الحرس وإحدى الخادمات، وانتحار عازفة البيانو
في النهاية للإفلات من مصحة الرعب هذه، كذلك مشهد النهاية بالفيلم، حيث
يقوم ولدان بالرقص، وكأنهما انفصلا عن المكان المشوه الذي يجمعهما، ويسأل
أحدهما الآخر عن الحب ومعناه، وهو الحل السحري الوحيد للحرية.
هذه هي الأفعال المُعلنة، أما الإرهاصات المضمرة التي لم يلتفت إليها
النظام،وهي الأهم دلالة،فقد ظهرت طوال الفيلم بين الفتيان والفتيات في
حوارات وإيماءات عن محاولة الهرب، فالإنسان بطبعة مهما كان ما يحيطه، يبحث
عن حريته مهما كان الثمن.
الأماكن والألوان
من المفردات السينمائية التي حاول بازوليني من خلالها التأكيد على سرد
حكايته الأماكن التي جسدت حالة السجن الكبير الذي يعيش به قطيع المشوهين
هذا، فجاءت أغلب المشاهد داخل حجرات أو بين جدران ضيقة، سواء حجرة الطعام،
أو حجرة الحكايات، ثم السلالم الضيقة، وحجرات النوم الأشبه بحجرات
الحيوانات، مع الإضاءة التي توحي بالبرودة والخوف. حتى المشاهد الخارجية
فهي قامعة بطبعها، سواء في عملية اصطياد الفتيان والفتيات، ووقوفهم في صفوف
منتظمة قاسية وسط طبيعة جميلة، ليجسد هذا التضاد تشويه المكان ذاته. كذلك
وقوف ممثلو السلطة في شرفة تاريخية تطل على الجميع، وكأنهم آلهة الأولمب،
أو زبانية الجحيم في لوحات يوم الحساب.
لجأ بازوليني لدلالة اللون لتجسيد حالات المعاناة المزمنة..
فاللون الأخضر الباهت على سبيل المثال جاء مسيطراعلى الأحداث، وهو
المعادل لحالة العفن التي يتنفسونها بالداخل.
إلا أن اللون الأحمر ظهر بدلالات حاول بازوليني إيصالها، لما يمثله
هذا اللون من أهمية خلال التاريخ الإنساني كله. هذا اللون الذي دلل على
الشراهة إلى الدماء، حتى ان من قام بدور القِس في حفل الزواج الجماعي ارتدى
اللون الأحمر، وكأنه قربان لهذه الأرواح المريضة. فالدم ورمزه التاريخي به
شئ من الإرباك، فهو قربان للآلهة في العهد القديم، حيث قبول هدية هابيل
راعي الغنم، ورفض هدية قابيل الزارع/فداء إبراهيم لإسماعيل بكبش عظيم
(النحر وإسالة الدماء)/فض العذرية الذي جاء بالفيلم من حق ممثلي السلطة
فقط.
فهناك علاقة وثيقة بين السلطة والدماء حاول بازليني الإشارة إليها.
إضافة إلى العلاقة المركبة والمعقدة بين الدماء والمَني، والتي من خلالها
تعاد صياغة العالم، وتشكيل السلطة وانتقالها من الميتريركية إلى
البطريركية.
تساؤلات عديدة يفرضها الفيلم ويوحي بها، رغم كل هذا الصخب الجنسي
المرعب، وهو في النهاية إطار ليس إلا للكشف عن هذه العلاقات وطبيعتها في
وعي الإنسان وتاريخه نحو الحرية.
عين على السينما في
12/09/2011
الراحل ابراهيم السايح:
رائد دبلجة الأفلام بالمغرب
أحمد سيجلماسي
فقدت الساحة السينمائية المغربية يوم 29 أغسطس2011 بالرباط رائدا من
روادها الكبار الدين كان لهم حضور بارز في مرحلة البدايات الأولى للتجربة
السينمائية المغربية على مستويات الحوار والمساعدة في الاخراج والدبلجة
واخراج أفلام المونتاج الوثائقية.
يتعلق الأمر بالأستاد ابراهيم السايح ، الذي ولدبالرباط يوم 30
ديسمبر1925، وعشنا معه فترة دهبية من تاريخ الفرجة السينمائية ببلادنا،تمبزت
بالاقبال الجماهيري المنقطع النظير على القاعات السينمائية الشعبية التي
كانت شبه متخصصة في برمجة الأفلام الهندية الشعبية الميلودرامية والأسطورية
والاستعراضية وغيرها، التي كان لها رواج في أوساط المراهقين والصناع
التقليديين والعديد من الأسر المغربية.
فمن منا نحن مواليد الخمسينات من لا يذكر أفلاما مثل " منكلا البدوية
" و"ساقي ومصباح علاء الدين" و "ساحر جهنم" و "رستم سهراب" و "الهاربون من
جهنم" و "السبيل الوحيد" و" نور العين " و"طريق العمال" و"حداد بغداد"
و"الصداقة" الخ ، كانت تعرض بنجاح في مختلف مدن المغرب؟
ومن منا لم يتمتع بموسيقاها وأغانيها ورقصاتها؟ ومن منا لم يدرف دموعا
وهو يتعاطف مع أبطالها وبطلاتها؟ ومن منا لم يسبح في العوالم الأسطورية
والخيالية التي دارت فيها أحداث تلك الأفلام ؟ ومن منا لم يحفظ عن ظهر قلب
أسماء نجوم السينما الهندية كدليب كومار وشامي كابور ووحيدة رحمان ومينة
كوماري وغيرهم كثير؟
إن معاودة مشاهدة نمادج من تلك الأفلام تثير فينا مشاعر خاصة تدكرنا
بمراحل المراهقة والشباب وتجعلنا نحن الى سنوات الخمسينات والستينات
والسبعينات بما لها وما عليها. كما تجعلنا نعيد النظر في تقييمنا لتلك
الأفلام ونتعاطى معها من منظور الكهول الناضجين لا من منظور المراهقين.
ان مشاهدة هده الأفلام في وقتنا الحالي تجعلنا نقف على المجهودات التي
قام بها الراحل ابراهيم السايح قبيل وبعد استقلال المغرب من أجل ترسيخ
الدبلجة كرافد من روافد تجربتنا السينمائية الفتية. كما تجعلنا نقف على
جانب مهم من تاريخنا السينمائي ظل، للأسف الشديد، منسيا ومهمشا وبالتالي
تمكننا من مقارنة دبلجات السايح، بما لها وما عليها، بدبلجات لبنان
المفروضة علينا من خلال المسلسلات الميكسيكية وغيرها والتي تتميز بهشاشة
حواراتها وركاكة لغتها.
وللأسف الشديد لم تلق تجربة ابراهيم السايح عناية كبيرة من لدن مالكي
القرار السمعي البصري ببلادنا ولم تستثمر خبرة الرجل الطويلة من أجل تكوين
أطر شابة ووضع لبنات مؤسسة وطنية لدبلجة الأعمال السمعية البصرية.
فالى متى سنظل مستهلكين لدبلجات الغير بغثها وسمينها؟ ألا نملك ما
يكفي من الامكانيات المالية والبشرية والقانونية وغيرها لمباشرة دبلجة
معقلنة تركز على الكيف وتمكننا من تكسير تبعيتنا لفرنسا وغيرها؟
لقد عاش الراحل السايح بعد عطاءاته الكثيرة والمتنوعة بعيدا عن
الأضواء ولم يخرجه من عزلته الا الصحفي التلفزيوني الصديق علي حسن الدي
استضافه سنة 1997 في برنامجه السينمائي بالقناة الأولى وخصص دورة شهر
مايوكاملة لعرض نمادج من الأفلام الهندية التي دبلجها وهي على التوالي
"منكلا البدوية" و"طريق العمال" و "حداد بغداد" و "الأميرة والساحر".
ويمكن اعتبار هده المبادرة التلفزيونية نوعا من التكريم للرجل واعادة
اعتبار له كرائد من رواد التجربة السينمائية بالمغرب، وسيتلوها تكريم آخر
بمناسبة توزيع جوائز الجامور على أفضل الأعمال التلفزيونية.
ان أفضل تكريم للراحل، في نظرنا، هو تحقيق الحلم الدي راوده مند أكثر
من نصف قرن والمتمثل في انشاء مؤسسة وطنية لدبلجة الأفلام.
لقد حقق السايح حلمه جزئيا وكانت المبادرة منه قبل استقلال المغرب
وبعده وما نتمناه جميعا هو أن يعاد النظر في سياستنا الاعلامية السمعية
البصرية وأن يتم تخصيص جزء من مداخيل صندوق النهوض بالقطاع السمعي البصري
لبناء وتجهيز وتشغيل مؤسسة للدبلجة بطلق عليها اسم الراحل ابراهيم السايح
اعترافا بما أسداه من خدمات في هدا المجال.
كما نقترح على التلفزيون المغربي بمختلف قنواته عرض الأفلام المدبلجة
من طرف السايح حفظا لها من التلف واخراجا لها من دائرة النسيان لتصبح رهن
اشارة النقاد و الباحثين في تاريخ الممارسة السينمائية بالمغرب.
وبالمناسبة ندعو مؤسسة "الخزانة السينمائية المغربية" بالرباط الى
التفكير في تجميع ما تبقى من تراثنا السينمائي القديم بما في دلك الأفلام
التي أنتجها وركبها السايح ، محمد الخامس و طريق الحرية والأمم الاسلامية
المستقلة، أو دبلجها الى العربية الفصحى والدارجة، 150 فيلما هنديا
وباكيستانيا وعشرات الأفلام الفرنسية والمغربية والأمريكية والايطالية ، أو
كتب حواراتها العربية وساعد في اخراجها، أسرار المغرب و ابراهيم وأبناء
الشمس وغيرها.
مسيرة زاخرة
يعتبر الراحل ابراهيم السايح رائدا من رواد الجيل الأول من
السينمائيين المغاربة الدين انفتحوا على عوالم السينما في وقت مبكر.
ويمكن القول أن التاريخ الفعلي للممارسة السينمائية بالمغرب انطلق في
عقد الأربعينيات من القرن الماضي بمبادرات فردية كان وراءها سينمائيون
عصاميون أمثال محمد عصفور وأحمد المسناوي وابراهيم السايح رحمهم الله
وغيرهم.
تابع ابراهيم السايح دراسته الابتدائية بالمدارس الحرة والثانوية
بكوليج مولاي يوسف ومعهد الدراسات العليا المغربية، قسم الترجمة، بمسقط
رأسه الرباط.
وبعد دلك التحق بالمكتبة الوطنية كموظف، من 1943 الى 1947 ، ونتيجة
لاحتكاكه بعالم الكتب، حيث كان أبوه كتبيا، أصدر مجموعة من المنشورات
المدرسية قبل كتابه حول "كرة القدم المغربية" وعشرة أعداد من مجلة الأطفال
المصورة "صوت الشباب المغربي" سنة 1947 التي كانت الأولى من نوعها في مغرب
الأربعينيات، الشيء الدي جعله يتلقى عنها رسالة تشجيع من الملك الراحل محمد
الخامس.
وفي نفس السنة راودته فكرة دبلجة الأفلام متسائلا: لماذا لا نشاهد
الأفلام الأجنبية بلغتنا العربية؟ وحاول جاهدا أن يترجم هده الفكرة الى
واقع فعلي.
وهكدا استغل تواجده بفرنسا أثناء رحلة سياحية رفقة مجموعة من الشباب
المغربي ليستفسر عن طرق الدبلجة وأساليبها، وقرر في الأخير أن يعود الى
باريس ويقيم بها حتى يحقق حلمه.
وفي سنة 1948 سجل السايح اسمه في السجل التجاري بالرباط في مهنة دبلجة
وانتاج الأفلام السينمائية، وبعد دلك اشتغل كمترجم الى العربية ومحرر
للأخبار لفائدة جريدة "السعادة" والمحطة الاداعية "راديو ماروك".
على درب الدبلجة
شكلت سنة 1950 منعطفا في حياة ابراهيم السايح ودلك لأنها السنة التي
سيخطو فيها أولى خطواته على درب الدبلجة والانتاج السينمائيين.
ففي هده السنة اشترى حقوق دبلجة الفيلم الفرنسي "الأحدب"، أحدب نوتر
دام، الذي أخرجه جان دو لانوا سنة 1944، ودبلجه الى العربية الفصحى.
ولم تكن لدى السايح في هده الفترة دراية كافية بتقنيات الدبلجة،
الأمرالدي جعله يواجه صعوبات لغوية ومالية وتقنية تغلب عليها بمثابرته
وصبره واستعانته في باريس ببعض الأخصائيين في هندسة الصوت والتوضيب
والميكساج.
لقد كان السايح في بداية عهده بالدبلجة يقضي الساعات الطوال أمام
المرآة يردد الجملة الفرنسية وترجمتها العربية مع احصاء عدد الكلمات
والحروف وكيفية النطق وحركة الشفتين وهدا ما جعل أول دبلجة له تستغرق عدة
أشهر .، في حين لم تكن تستغرق دبلجة فيلم طويل فيما بعد أكثر من أسبوعين.
لم يعرض فيلمه "الأحدب" المدبلج بكيفية منتظمة في المغرب لأنه كان
ناطقا بالعربية الفصحى مما جعل أصحاب القاعات السينمائية آنداك، بداية
الخمسينات، وجلهم من الأجانب، يرفضون عرضه وبرمجته.
ونتيجة لهدا الرفض أصيب السايح بخيبة كبيرة أمام فشل أول تجربة مغربية
في مجال الدبلجة. لكن التعويض جاء عندما تمكن أحد الموزعين من بيع نسخ من
هدا الشريط المدبلج لبعض الأقطار العربية ، الشيء الدي ترتب عنه حصول
السايح على مداخيل لا بأس بها مكنته من الزواج.
وتجدر الاشارة الى أن الممثل المصري جميل راتب والممثلة السورية منى
واصف وغيرهما كانوا من ضمن الطلبة العرب بباريس الدين شاركوا بأصواتهم في
دبلجة فيلم "الأحدب".
في سنة 1952 سافر السايح الى فرنسا لتعلم الدبلجة وتقنياتها وتتلمد
على أحد الاختصاصيين في الدبلجة وهندسة الصوت وعمليات المونتاج، وأصبح هدا
الاختصاصي الفرنسي فيما بعد أقرب أصدقائه ومعاونيه.
وبمجرد عودته الى المغرب اشتغل ابراهيم مع شركة تيلما التلفزيونية
بالدار البيضاء بصفته محررا مترجما ودلك لأن السوق المغربية لم تكن تضمن
بعد مردودية من وراء الأفلام المدبلجة الى العربية بسبب احجام المستغلين
للقاعات السينمائية عن المغامرة في هدا المجال نظرا لنسبة الأمية المرتفعة
في أوساط الجمهور وعوامل أخرى.
تجربة الانتاج والاخراج
بعد مغادرته لشركة تيلما، التي كانت وراء أول قناة تلفزيونية خاصة
بمغرب مطلع الخمسينات، رجع السايح الى فرنسا وفكر في اخراج فيلم طويل عن
حياة الملك محمد الخامس، خصوصا بعد تفاعله مع حدث نفي الملك من قبل سلطات
الاستعمار الفرنسي سنة 1953، وما تلاه من نضال الشعب المغربي وقواه الحية
من أجل عودة الملك الشرعي وحصول المغرب على استقلاله السياسي.
وقبل أن يباشر البحث والتنقيب عن الوثائق البصرية المتعلقة بالمغرب
وملكه في بطون الخزانات السينمائية الأروبية استشار بعض رجالات الفكر
والسياسة بالمغرب فحبذوا الفكرة بعدما شرح لهم أنه ينوي اختيار أهم الوثائق
المصورة لتشكل مادة فيلمه الوثائقي.
وهكدا توجه السايح الى مدريد أول الأمر وحاول البحث عن الصور
والمواضيع المتعلقة بالمغرب في خزانات الأنباء السينمائية الاسبانية، لكنه
قوبل من طرف موظفيها باحتراس شديد ووجوم مخيف وتساؤلات جعلته يغادر العاصمة
الاسبانية بسرعة البرق.
وعندما ركز اهتمامه على خزانات فرنسا لم يجد صعوبة في دلك نظرا لكون
معظم الوثائق السينمائية كانت في ملكية شركات القطاع الخاص.
قضى السايح أسابيع عدة في البحث والتنقيب في سجلات شركة "باطي" وتدوين
أهم صور الأحداث وتواريخها مدعيا أنه بصدد التحضير لانتاج فيلم تاريخي صرف.
وحتى يوهم العاملين في الشركة بدلك كان يراجع في كثير من الأحيان
وثائق لا رغبة له في اقتنائها وذلك حتى لا يشتبه في أمره.
وعند مراجعته للمستندات والوثائق السينمائية كان يعثر من حين لآخر على
وثائق نادرة لم تستعملها هده الشركة في أسبوعياتها السينمائية، وثائق عبارة
عن نفائس تاريخية ثمينة لم يسبق نشرها، لا تهم المغرب فحسب بل الكثير من
الأقطار العربية والاسلامية، الشيء الدي جعله يدونها ويستعملها لاحقا في
فيلميه الآخرين" طريق الحرية" سنة 1956 و"الأمم الاسلامية المستقلة" سنة
1957.
فيلم "محمد الخامس" الدي انتهى ابراهيم السايح من اخراجه وانتاجه سنة
1955 وثائقي طويل يحكي عن حياة الملك مند زواجه سنة 1926 الى رجوعه من
المنفى ظافرا.
وهو فيلم مونطاج استغرق الاعداد له أكثر من سنتين بمساعدة السيدين عبد
السلام حجي وعبد الجواد بلافريج والأخصائي الدي تتلمد السايح على يديه.
عرض الفيلم لأول مرة في عرض خاص باستوديو السويسي بالرباط بحضور
الأميرين آنداك مولاي الحسن ومولاي عبد الله ودلك يوم 29 نوفمبر 1955 وقدم
السايح النسخة الأولى من الفيلم كهدية للملك المجاهد بعد أن تكرم ولي عهده
آنداك مولاي الحسن بتسجيل كلمة سامية في مقدمة الشريط.
وبعد ذلك نظم العرض الأول للفيلم بالرباط والبيضاء في ديسمبر1955
وتوالت عروضه بنجاح منقطع النظير في كثير من قاعات المملكة.
ان النجاح الدي حظي به فيلم "محمد الخامس" هو الدي شجع السايح على
انتاج فيلمين وثائقيين آخرين هما "طريق الحرية" و"الأمم الاسلامية
المستقلة".
يحكي الفيلم الأول ويصف أفراح الشعب المغربي بعودة ملكه المحبوب
ويتضمن تسجيلات لأهم الأغاني والأناشيد الوطنية التي جادت بها قريحة
الشعراء والملحنين والمطربين بهده المناسبة السعيدة.
وقد أدرج السايح في بداية هدا الفيلم وثائق مصورة لم يسبق نشرها في
المغرب تتعلق بالبطل الشهيد علال بن عبد الله حينما ضحى بحياته وهو يحاول
قتل السلطان المزيف الدي نصبته سلطات الحماية ، اضافة الى وثائق حية لبعض
رجال المقاومة وهم في مراكز شرطة المستعمر الغاشم . أما الفيلم الثاني
فيتضمن لقطات ومشاهد نادرة لأحداث تتعلق ببعض الأقطار الاسلامية.
بعد انجاز وعرض فيلم "الأمم الاسلامية المستقلة" استقر ابراهيم السايح
ابتداء من سنة 1957 بفرنسا لأنه لم يجد الامكانيات المادية الضرورية
لممارسة الدبلجة ، مهنته الأصلية، في بلد حديث العهد بالاستقلال.
المنفى الاختياري
فضل السايح الاقامة بفرنسا نظرا للامكانيات المتوفرة هناك، وهكدا
سيوقع عقدا مع شركة فرنسية متخصصة في توزيع الأفلام الهندية بالشمال
الافريقي، ومن هنا ستنفتح أمامه آفاق الدبلجة.
ويعتبر "ساقي ومصباح علاء الدين" أول فيلم هندي دبلجه السايح الى
العربية الدارجة بمشاركة الممثل المغربي المقيم بفرنسا حميدو بنمسعود وعدد
لا بأس به من الممثلين الجزائريين والتونسيين وغيرهم .
وبفضل النجاح الدي حققته الأفلام الهندية المدبلجة في السوق المغاربية
سيتعاقد السايح مع شركات أخرى للمزيد من حصة الأفلام المدبلجة سنويا.
ولتوسيع مجال تحركه تعاقد السايح مع شركة "باطي" المشهورة لدبلجة
الأفلام الفرنسية وغيرها . والملاحظ أن جل الشركات التي تعاقد معها ابراهيم
السايح كانت لها فروع في الدار البيضاء والجزائر وتونس، ولعل هدا ما يبرر
اللجوء الى أصوات الممثلين والفنانين المغاربيين أمثال الطيب الصديقي
ونبيل لحلو والحاجة الحمداوية ومحمد الزياني وعلي بن عياد وباشطارجي وغيرهم
لأن الأفلام الناطقة بالعربية الدارجة المغاربية كان لها رواج كبير في شمال
افريقيا.
العودة الى المغرب
بعد أن اشتهر الأستاد ابراهيم السايح بدبلجاته لأفلام لقيت نجاحا
جماهيريا قرر العودة الى بلاده ليستقر بها حتى يتمكن أبناؤه من متابعة
دراستهم داخل وطنهم.
ولحسن الحظ استطاع التعاقد مع شركة استوديو السويسي بالرباط للقيام
بالدبلجة في شروط احترافية. وهكدا استأنف عمله باستوديوهات السويسي بعد أن
جهزها بأجهزة خاصة ودبلج بالعربية الدارجة المغربية عدة أفلام من بينها على
سبيل المثال الأفلام الهندية "الأمير أحمد" و "رستم سهراب" و "أمنا الهند"
و "الهاربون من جهنم" وعشرات الأفلام الأجنبية الأخرى بمساعدة ثلة من
الممثلين المغاربة كمحمد الحبشي وثريا جبران وأعضاء فرقة التمثيل التابعة
لدار الاداعة المغربية من عيار العربي الدغمي وعبد الرزاق حكم وأمينة رشيد
وحبيبة المدكوري وغيرهم.
وبعد اغلاق استوديوهات السويسي انتقل العمل الى استوديوهات عين الشق
بالدار البيضاء حيث أنجزت دبلجات العشرات من الأفلام الهندية وغيرها قبل أن
تغلق خده الأستوديوهات أبوابها وتنتقل الى المركب السينمائي بالرباط.
في خدمة السينما والتلفزة
أما تلفزيونيا فقد أشرف السايح أواخر السبعينات على ادارة انتاج
مجموعة من الأعمال الوثائقية تحت عنوان "خبايا المدن" من اخراج شكيب بنعمر.
كما دبلج سنتي 1983 و 1984 مسلسلين فرنسيين الأول بعنوان "فرسان الطيران"
في 39 حلقة، والثاني بعنوان "صديقي الفرس" في 52 حلقة.
الا أن هده المسلسلات المدبلجة تكلف كثيرا ولا يمكنها أن تغطي
مصاريفها الا ادا تم تسويقها وبيعها لعدة قنوات تلفزيونية عربية.
لقد اشتغل الراحل ابراهيم السايح بشكل انفرادي في مجال الدبلجة مند
مطلع الخمسينات ونجح في دلك يكفي الآن أن نوفر لهدا العمل الاعلامي والفني
الضروري كل ما يلزم من شروط وترتيبات تتمثل أساسا فيما يلي: وضع استراتيجية
سمعية بصرية واضحة المعالم باشراك الفاعلين في القطاع، انشاء مؤسسة وطنية
للدبلجة تكون نواتها في المركب السينمائي بالرباط بعد تعزيزه باستوديوهات
اضافية وقاعات مونطاج كافية وتجهيزات الفيديو ومترجمين أكفاء، احداث شعبة
لتكوين الممثلين المدبلجين.
لم يبخل الأستاد ابراهيم السايح بخبرته التقنية على زملائه
السينمائيين بل وضع كل معارفه رهن اشارتهم في مجالي الدبلجة والميكساج.
وهكدا كلف بدبلجة الكثير من الأفلام المغربية مثل " حلاق درب الفقراء
"للراحل محمد الركاب و"بامو" لادريس المريني و"الزفت" للطيب الصديقي
و"الورطة" لمصطفى الخياط و"غراميات" للطيف لحلو و"ظل فرعو" لسهيل بنبركة.
وقبل ذلك كتب الحوار العربي لفيلم "ابراهيم" الدي أخرجه بالمغرب
الفرنسي جان فليشي سنة 1957 ولعب دور البطولة فيه الممثل الكبير الراحل حسن
الصقلي.
كما دبلج فيلم "أبناء الشمس" من انتاج المركز السينمائي المغربي سنة
1961 واخراج الفرنسي جاك سيفيراك ومشاركة الممثلين الكبيرين الطيب الصديقي
والراحل محمد سعيد عفيفي والتقنيين أو تدريبهم مع توفير الامكانيات المادية
لذلك وضع قوانين تشجع على الاستثمار في هدا المجال وتلزم أرباب القاعات
السينمائية والقنوات التلفزيونية المحلية باعطاء الأولوية للمنتوجات
المدبلجة محليا
عين على السينما في
12/09/2011 |