كانت الهندية فريدة بينتو تعمل «توب موديل» في آسيا حينما اكتشفها
السينمائي
البريطاني داني بويل في العام 2008، بعدما فتش طوال ستة أشهر كاملة عن بطلة
فيلمه
الجديد حينذاك «سلامدوغ مليونير»، ومنحها الدور النسائي الأول فيه إلى جوار
الممثل
الهندي أيضاً ديف باتيل الذي صار حسب الإشاعات غير المؤكدة
والتي ترفض بينتو الدخول
في تفاصيلها، خطيبها في الحياة الحقيقية.
عرف الفيلم نجاحاً عالمياً باهراً، وتحولت بينتو بين يوم وليلة من «توب
موديل»
مرموقة في آسيا إلى نجمة سينمائية على المستوى الدولي، وصارت سفيرة رسمية
لدار
«لوريال»،
أسوة بليتيسيا كاستا وإيفا لونغوريا وأندي ماكدويل وغيرهن من النجمات
العالميات.
تظهر بينتو حالياً في فيلم «نهوض كوكب القردة»، الذي يعتبر بمثابة
مقدمة للفيلم
المشهور في سبعينات القرن العشرين «كوكب القردة»، من بطولة الراحل الآن
شارلتون
هيوستون. وفي العمل الجديد، تؤدي بينتو شخصية خطيبة عالم يقوم بتجارب على
القردة في
مختبره بهدف اكتشاف علاج لمرض ألزهايمر، إلا أن الحيوانات تتجاوب مع العلاج
وتتطور
من الناحية العقلية إلى درجة انها تصبح ذكية وقادرة على مكافحة
الإنسان،فتخوض ثورة
ضده ساعية إلى تدميره والسيطرة على كوكب الأرض.
وكانت بينتو قد لمعت في العام 2010 في فيلم «ستلتقين رجلاً طويلاً
أسمر» لوودي
آلن، مثلت فيه دور امرأة هندية مقيمة في لندن ترتدي دائماً فستاناً أحمر،
يقع في
غرامها جارها من كثرة ما يراها في كل يوم من شباك غرفة نومه، إلا أنه متزوج
وهي
مخطوبة.
وفي مناسبة قدوم بينتو إلى باريس للترويج للفيلم الجديد، التقتها
«الحياة»
وحاورتها.
·
هل شاهدتِ فيلم «كوكب القردة»
الأصلي؟
-
نعم، شاهدته مع الأجزاء التي تبعته، والتي أدى بطولة بعضها
شارلتون هيوستون،
غير أنني شاهدت أيضاً الإعادة التي أخرجها السينمائي الكبير تيم بورتون قبل
حوالى
عشر سنوات أو أكثر، والتي لم تكن مع الأسف على المستوى المطلوب من حيث
النوعية.
لقد شاهدت كل هذه الأفلام لكنني لم أتركها تؤثر في طريقة تمثيلي دوري
في الفيلم
الجديد، ووصلت إلى الأستوديو في أول يوم من أيام التصوير ناسيةً كل ما قد
سبق
وعرفته في شأن حكاية كوكب القردة، باستثناء ما قرأته في السيناريو الذي
تسلمته.
كيف دار التصوير بالإمكانات التقنية المتطورة الآن؟
لقد ذهلت أمام الوسائل التقنية الجديدة التي توصلت السينما إلى
إنجازها، مثل «كابتشر»
(التقاط) وهي طريقة تتلخص في وضع أجهزة التقاط صغيرة جداً فوق أجسام
الممثلين، وتسمح في ما بعد برسم شكل القردة مثلاً من فوق
الأجسام بحيث يظهر الحيوان
فوق الشاشة بينما يكون الدور قد لعبه أحد الممثلين في الأصل. لذا تبدو
القردة معبرة
في ملامحها وفي أسلوب تحركها، فهي ليست مرسومة بل مصوَّرة، مثلما يحدث في
أي فيلم
عادي، ثم يتم تحويل كل ممثل إلى حيوان تقنياً. وقد أدى الممثل
أندي سركيس دور القرد
الرئيسي في الفيلم ببراعة فائقة قد تجلب له جائزة أوسكار أفضل ممثل.
·
أما أنت، فمن الواضح أن جمالك هو
الذي جلب لك دورك في هذا العمل وغيره،
خصوصاً أنك أساساً عارضة أزياء «توب موديل»، فما رأيك؟
-
لقد عملت فعلاً «توب موديل» لأنني حلوة، ومن الصعب أن تفوز
فتاة ذات ملامح غير
متناسقة بمثل هذه الفرصة في الحياة. وبالنسبة الى عملي كممثلة الآن، فهو
أيضاً نتج
بطريقة شبه طبيعية عن عرض الأزياء والوقوف أمام عدسات المصورين، وأقصد
بكلامي أن
السينمائي داني بويل عرض علي الخضوع لاختبار أمام الكاميرا
بعدما شاهدني في عروض
أزياء وفوق صفحات المجلات، وذلك من أجل فيلمه «سلامدوغ مليونير». إلا أن
الدراما
تتطلب موهبة فنية لا علاقة لها بالجمال، وقد اضطررت إلى تقديم الدليل على
أنني
موهوبة وذكية ولست فقط دمية تتحرك فوق مسارح دور الأزياء
وترتدي أجمل الفساتين
وتخضع لجلسات تصويرية أساسها مفاتنها.
لقد فعلت كل ما بوسعي حتى أبلور موهبتي التمثيلية قبل يوم الاختبار
أمام بويل،
وعملت بأسلوب جدي وشاق، ولولا جهدي هذا لكان مستقبلي السينمائي قد دفن قبل
أن
يولد.
·
وهل كنت تفكرين في احتراف
التمثيل أساساً في يوم ما؟
-
لا، فأنا كنت أفكر في متابعة تعليمي الجامعي في الوقت نفسه
الذي أكسب فيه عيشي
عن طريق عرض الأزياء، والسينما هي التي جاءت تغازلني في بادئ الأمر بواسطة
فيلم «سلامدوغ مليونير» من دون أن أفعل من ناحيتي
أيَّ شيء للدخول إليها، فتركت التيار
يجرفني إلى أن قررت الإمساك بزمام مستقبلي بيدي، وبدأت أتعلم
فن التمثيل بهدف أن
أسيطر على الموقف بدلاً من أن أتركه يتحكم هو بي.
·
ماذا كان رد فعل عائلتك في الهند
عندما احترفت الفن؟
-
أنا محظوظة كون عائلتي متفتحة التفكير والذهن وتمنحني ثقتها
بشكل أشكرها عليه
مثلما أشكر السماء على كوني ولدت وكبرت في جو من التفاهم والحرية والاحترام
المتبادل، وهذا شيء ينقص بعض الفتيات في الهند، حيث إن العقلية السائدة
تفرض على
البنات طاعة الأهل من دون نقاش أو جدال من أي نوع .
أعرف أن أهلي يسعدون إذا كنت أنا سعيدة بما أفعله وبما يحدث لي وهم
يقدمون لي
النصيحة بطبيعة الحال ولكنهم لا يحاولون فرض إرادتهم علي رغماً عني، ومن
ناحيتي،
أفعل كل ما بوسعي كي أكون على مستوى ثقتهم ولا أضعهم في موقف خجل تجاه
تصرفاتي
بالمرة.
القدر يحل المشاكل
·
أنت تعملين في السينما الغربية،
فما هو رد فعلك أمام احتمال تواجد اللقطات
العاطفية أو الجريئة في الأفلام المطروحة عليك؟
-
الموضوع حساس، وأنا حتى الآن نجحت في تفادي مواجهته، لأن
الأفلام التي عملت
فيها لم تتضمن أي مشهد جريء أو غرامي حميم، لكن الاحتمال موجود طبعاً، وأنا
أعترف
لك بأنني أفضل ألا أكسر رأسي بهذه الأمور الآن، فأنا معتادة ترك القرارات
إلى حين
مواجهتي الظروف المعنية، فالقدر أحياناً هو الذي يحل المشاكل
بطريقة غير متوقعة
بالمرة. ولأرد على سؤالك بأسلوب واضح، أنا لا أنوي قبول الوقوف أمام
الكاميرا مجردة
من ثيابي أو في صحبة ممثل في مشهد حميم، لكنني لا أعرف كيف سأحل هذه النقطة
من دون
أن أضر بمستقبلي السينمائي.
·
ماذا عن الحب في حياتك، خصوصاً
أن وسائل إعلامية تؤكد أنك مخطوبة؟
-
أمتنع عن الدخول في أي تفاصيل تخص حياتي الشخصية في أي مقابلة
صحافية، وكل ما
ينشر في هذا الصدد عبارة عن إشاعات أو اختراعات من قبل الصحافيين ولا ينتج
بالمرة
عن كلام قلته أنا شخصياً.
·
لا أسألك عن تفاصيل شخصية في غير
محلها، ولكن عن رأيك في الحب ومكانته في
حياتك؟
-
الحب أجمل ما في الوجود، وهذا ما يتفق عليه الجميع، أليس كذلك،
فكلنا نعيش من
أجله ونتمنى العثور عليه وخوض أحلى تجاربه مع الشخص المحبوب. أنا امرأة
رومانسية
ومن النوع الذي يذوب وجدانه إذا سمع أغنية عاطفية حلوة أو قرأ رواية حزينة
أو شاهد
حكاية غرامية قوية فوق الشاشة، وهذا كله طبيعي جداً بالنسبة لي، لأنني
هندية، ولأن
ثقافتنا هناك تفرض علينا التأثر بالحب والتضحية من أجل الحبيب
والإخلاص له مدى
العمر، مثلما هي الحال حسب اعتقادي في العالم العربي والشرق كله بصورة عامة.
·
هل من السهل عليك التخلص من
مغازلة الرجال لك وأنت توب موديل ونجمة
سينمائية فاتنة؟
-
إنها مسألة حسن تصرف، والرجل يدرك من الوهلة الأولى إذا كانت
المرأة مستعدة
للتجاوب معه أم لا، وصدقني إذا قلت لك إنني لا أتلقى مضايقات كثيرة وذلك
منذ سن
المراهقة، لأنني تعلمت بسرعة كيف أكشف عن نواياي بصراحة تامة ولا أدخل في
لعبة
الرجل.
شعبية مختلفة
·
كيف تعيشين نجوميتك المحلية في
بلدك منذ ظهور فيلم «سلامدوغ مليونير» في
الصالات، علماً أن عدد الذين يتابعون أفلامك في الهند وحدها
يفوق ذلك الذي تتباهى
به أي نجمة سينمائية غربية على المستوى الدولي؟
-
أعتبر نفسي محظوظة جداً، وأشكر السماء في كل صباح على النعمة
التي أتمتع بها
في حياتي، صحيح أن النجم السينمائي في الهند يتمتع بشعبية مختلفة لا علاقة
بينها
وبين تلك التي يعيشها الفنان في الغرب، فالسينما في الهند لا تتجزأ عن
ثقافتنا وعن
تراثنا، وهي التسلية شبه الوحيدة، ولذا يتمتع أبسط فيلم معروض
بعدد من المتفرجين
يحسده عليه أعظم وأنجح الأفلام الهوليوودية. أنا فعلاً محبوبة في بلدي،
وأشعر بهذا
الحب كلما نزلت إلى الشارع أو تواجدت في مكان عام، وهو حب إيجابي دافئ
وكريم لا
يختلط بالمرة بأي عنف أو مبالغة غير مرغوب فيها.
من ناحية ثانية، صرت معروفة ومحبوبة في الغرب أيضاً، وهو شيء يعجبني،
لأنه يفتح
أمامي باب العمل مع أشخاص مثل وودي آلن، فأنا تأثرت إلى حد كبير بالتمثيل
تحت
إشرافه وبطريقته في تفسير تعليماته لممثليه من دون أن يبالغ في الكلام،
وهذا ما
أسميه الفنان الذكي.
·
وما هي مشروعاتك الآنية؟
-
الاستعداد للمشاركة في فيلمين جديدين بين الولايات المتحدة
وأوروبا، غير أنني
من المفروض أن أؤدي البطولة النسائية في فيلم جيمس بوند الجديد وهو أمر
أتلهف له،
نظراً الى كوني من أشد المعجبات بالعميل السري بوند، وذلك منذ طفولتي.
والظهور في
أحد أفلامه سيكون مثل الحلم المستحيل الذي يتحقق.
الحياة اللندنية في
02/09/2011
«الرقم
13» بداية مجهضة لمسار سيّد
التشويق
إبراهيم العريس
بالنسبة الى تلك المشاريع السينمائية التي لم يقيّض لأصحابها أن
يحققوها فصارت،
كما قلنا في الحلقات السابقة من هذه السلسلة، أفلاماً شبحية توجد آثارها
وأطيافها
في التاريخ أكثر مما توجد في الواقع، سبق أن اشرنا غير مرة الى أنها ربما
تكون
«أهم»
ما في تاريخ أصحابها وأرشيفاتهم...
وينطبق هذا القول بالتأكيد
على الأعمال الثلاثة التي سبق أن تناولناها تباعاً، من «لتحيا المكسيك!»
لأيزنشتاين، الى «دون كيشوت» أورسون ويلز، مروراً بنابوليون ستانلي كوبريك،
غير أن
هذا الحكم القيمي لا ينطبق بالتأكيد على الفيلم الذي نتناوله هنا، حتى وإن
كان
«صاحبه»
واحداً من أشهر المبدعين في تاريخ الفن السابع وأكثرهم شعبية. نتحدث هنا عن
ألفريد هتشكوك وبالتحديد عن «فيلمه» الذي حمل حين ولد للمرة الأولى عنواناً
يكاد
يبدو اليوم بديهياً ولا سيما في سياق هتشكوكيته «الرقم 13».
بيد أن الخصوصية التي
تسم هذا الفيلم تكمن في أنه - وعلى عكس بقية الأفلام الشبحية التي سبق أن
تحدثنا
عنها أو لم نفعل - بدا دائماً منسياً من قبل هتشكوك الذي كان يتجاهله الى
حد كبير
في كل حوار يجرى معه. وليس أدلّ على هذا من أنه وفي الكتاب
الاستثنائي الذي ضم في
مئات الصفحات ذلك الحوار التاريخي الذي أجراه معه زميله السينمائي الفرنسي
فرانسوا
تروفو خلال النصف الأول من ستينات القرن العشرين، لم يخصّ هذا الفيلم بأكثر
من عشر
كلمات يشوبها الضجر، على رغم إلحاح تروفو.
قامة المبدع وقامة
أفلامه
ومن ناحية مبدئية قد يبدو هذا الموقف مستغرباً، بخاصة أن هذا المشروع
كان يفترض به أن يكون أول الغيث في مسار هتشكوك الأخراجي... فمن المعروف أن
وضعية
مثل هذه تعطي أي عمل ومهما كان مستواه شفعة ومكانة بالنسبة الى
ذكريات صاحبه، على
الأقل، لكن الحال لم تكن هكذا مع هتشكوك. وهنا حتى من دون أن نفترض أن ثمة
في خلفية
موقف كهذا، بعض الذكريات السيئة المتعلقة بالفيلم، سنبادر أول الأمر الى
الإشارة
بأنه إذا كان مبدعون من طينة كوبريك وايزنشتاين وأورسون ويلز
قد احتفظوا في ذاكرتهم
بمكانة ما لمشاريعهم الشبحية فإن هذا عائد الى كون كلّ واحد من تلك
المشاريع وليد
أفكار صاحبه: وأتته الفكرة فصمّم المشروع وكتبه وربما بدأ بتحقيقه ثم لم
تكتمل
الأمور فظلّ المشروع حدثاً معلقاً وجرحاً دائماً، فإن المشروع
«الهتشكوكي» الذي
نتحدث عنه هنا لم تكن له أية علاقة بالسينمائي الذي كان شاباً طازجاً في
ذلك الحين
ووجد الأستديو، من دون مقدمات، يطلب منه أن يتحول من مساعد الى مخرج مسنداً
إليه
مهمة إخراج ذلك السيناريو الذي لن يفوت هتشكوك لاحقاً أن يتحدث
عن «سذاجته» وأن
يقول ضاحكاً أن الأستوديو لم يكتف بهذا، بل أنه حتى لم يسأله رأيه حين
تعاقد - أي
الأستديو - مع بطلي الفيلم وكانا من نجوم الكوميديا الشعبية الكبار في
إنكلترا
بدايات عشرينات القرن.
انطلاقاً من هذين المعطيين على الأقل، قد يكون في
إمكاننا أن نفهم موقف هتشكوك من ذلك المشروع الذي ولد ومات في عام 1922.
ومهما يكن
من أمر هنا، فإن هذا المشروع لن يكون الوحيد المجهض في مسار
ذاك الذي سوف يكون خلال
العقود التالية واحداً من أشهر وأفضل مبدعي الفن السابع. إذ هناك في
الذاكرة
السينمائية ما يقرب من دزينتين ونصف الدزينة من مشاريع «هتشكوكية» لم تر
النور
أبداً. والأدهى من هذا أن بعض تلك المشاريع وئد ولم يتمكن صاحب
«الطيور» و«بسايكو»
و«دوخان» و«النافذة الخلفية» من إكماله أو حتى البدء فيه وهو في عز شهرته
وجبروته
الفني. وطبعاً لن نخوض هنا في التفاصيل المتعلقة بكل واحد من تلك المشاريع.
ولكننا
في المقابل وقبل العودة الى «الرقم 13»، نجد ما يغرينا في رسم
الصورة القلمية
التالية: فمن المعروف أن واحدة من أكثر الصور الفوتوغرافية التي التقطت
لهتشكوك،
طرافة هي تلك التي تصوّره واقفاً أمام علب أفلامه وقد رصفت فوق بعضها
البعض، كانت
واحدة وخمسين علبة وتبدو اعلى قامة من صاحبها الذي اضطر لأن يمد يده كي
يطاول
أعلاها. يومها إذ تأمل هتشكوك في الصورة قال ضاحكاً: تأملوا
كيف ستكون حالي لو أنني
حققت بالفعل كلّ مشاريعي!!
الهزل خلف الرعب المفترض
إذا، ولد مشروع
«الرقم
13» في عام 1922، حين أرادت شركة الانتاج السينمائي «غينسبورو بيكتشرز» ان
تستفيد على عجل من عقد مزدوج كانت وقعته مع النجمين كلير غريت وإرنست
تيسيغر. وكان
هذان يكوّنان ثنائياً هزلياً في السينما الإنكليزية لكن
جمهورهما الأساسي كان
أميركياً. وهكذا إذ بدأت رساميل سينمائية أميركية تتدفق على إنكلترا ليحقق
بفضلها
أفلام رخيصة الكلفة للجمهور الأميركي أيام كانت السينما لا تزال صامتة وكان
الفنانون الإنكليز مطلوبين لجودة أدائهم، كان من السائد أن يتم
وضع المشروع
والتعاقد مع النجوم وكتابة السيناريو قبل أن يؤتى بأيّ كان ليتولى تقنيات
الأخراج.
وعلى هذا النحو يومها جيء بالشاب هتشكوك
وكان يعمل مع الأستديو كمساعد ورسام وكاتب
لوحات الحوارات التي تظهر على الشاشة كلما «نطق» ممثل بعبارة
ما. يومها وحتى قبل أن
يقرأ السيناريو بكامله، انصرف هتشكوك متحمساً للبدء في تصوير الفيلم. غير
أن
التصوير لم يدم سوى أيام قليلة. أما السبب فهو أن الأموال الأميركية سرعان
ما
انسحبت إذ بعد فورة أولى تمثّلت في تفضيل التصوير في بلاد
الإنكليز، تضاءل اهتمام
الأميركيين بالأمر بعد أن صلحت أمور السينما الأميركية إذ خشيت المنافسة
الإنكليزية
وبدأ أهل السينما هناك يخففون من غلوائهم وشروطهم. ونعرف أن ذلك التساهل
كان له فضل
كبير ليس فقط في عودة الأموال الأميركية الى أميركا، بل كذلك
في لحاق مواهب كثيرة
برأس المال آتية من إنكلترا خاصة كما من ألمانيا وفرنسا وأوروبا الشرقية.
وطبعاً
نعرف أن هذا هو الواقع التاريخي الذي سيعطي هوليوود كوزموبوليتها ومكانتها.
غير أن
هذه حكاية أخرى بالطبع. أما حكايتنا هنا فإننا نختمها مع أول
مشروع هتشكوكي
مجهض.
سوء تفاهم
لم يوجد هذا الفيلم إذاً. ولكن في المقابل ثمة مشاهد
عدة صوّرت منه وثمة صور عدة أيضاً. ومع هذا، ولأن أحداً لم يشاهد الفيلم
ناهيك بأن
السيناريو نفسه ليس متوافراً، ساد دائماً الاعتقاد لاحقاً -
وطبعاً انطلاقاً من «عنوان
الفيلم» - بأننا هنا في إزاء عمل تشويقي ماورائي يرتبط بدلالة الرقم 13،
كما
يرتبط بطبيعة السينما التي سيحققها هتشكوك لاحقاً. غير أن هذا بعيد جداً عن
واقع
الحال. فالحقيقة إننا أمام فيلم هزلي من نوع كان سائداً
ومطلوباً من الجمهور العريض
في ذلك الحين. أما رقم 13- وهو في المعتقدات الشعبية رقم النحس بامتياز -
فإنه
الرقم الذي تحمله شقة تدور فيها ومن حولها جملة أحداث ومقالب في أحد طوابق
بناية
يعيش فيها عدد من الأشخاص غريبي الأطوار ومن بينهم طبعاً بطلا
الهزل اللذين رسم
مشروع الفيلم بأسره كرمى لعيونهما. أو بالأحرى كرمى لعيني السيد بيبادي،
الأميركي
الثري وفاعل الخير الذي اشترى تلك البناية أصلاً كي يسكن فيها عائلات من
ذوي الدخل
المحدود. ومن خلال هذا البعد، على أية حال، تتضح هنا - على
الأرجح واحدة من سمات
هذا الفيلم: سمة ترتبط بما كانت أميركا تحاول أن تقوله خلال تلك السنوات
التالية
للحرب العالمية الأولــى عن مساندتها للأنكيز بعد تقديم الأنتصار العسكري
الذي حرر
اوروبا - وفي مقدمها انكلترا - من العدو الألماني... ولكن هذه
- أيضاً حكاية أخرى
لا مجال للخوض فــيها هــنا وإن كان في الإشارة إليها تـــوضيح مفـــترض
لرفــض
هتشكوك خلال عقود حياته التالية أي حديث عنها. وصــولا الى الزعــم انه نسي
موضــوع
الفيلم تماماً!!
مهما يكن من الأمر، سواء أكان هتشكوك صادقاً في مزاعمه حول
الفيلم أو ماكراً في الالتفاف حول المسألة برمتها، يبقى المشروع ككل جزءاً
من
تاريخه. والى جانبه هناك مشاريع أخرى له تحولت الى أفلام شبحية،
من أبرزها «كاليدوسكوب»
أو «فرنزي» الذي
كان يود تحقيقه في عام 1964-1967، لكنه أبدله بسيناريو آخر يحمل نفسه «فرنزي»
حققه
بالفعل من دون أن يكون ثمة تشابه بين الموضوعين. ومن بين تلك المشاريع
أيضاً «فخ
لرجل وحيد» (1963) و«ماري روز» (1964) و«3 رهائن» (1964)
و«هروب» (1940) و«الرجل
الأعمى» (1960)... وغيرها. ولعل الطريف في الأمر كله هو أن هتشكوك كان
دائماً
كالقطار السريع، بحسب وصف جان - لوك غودار له، يسير في طريقه قدماً من دون
أن يتلفت
الى الوراء متحسّراً على ما قد يكون فاته. ونعرف أن هذه لم تكن أبداً حال
زملائه
الآخرين من كبار أهل السينما الذين اعتادوا أن يحنّوا الى
مشاريعهم في أيامهم
الأخيرة متحسّرين إذ لم يقيّض لهم تحقيقها. وهي حسرة ساهمت بالتأكيد في تلك
الأسطرة
التي كانت من نصيب الأفلام الشبحية!
الحياة اللندنية في
02/09/2011
الخلطة السرية لأفلام مصر العالمية
دمشق - فجر يعقوب
تطرح الكاتبة والناقدة السينمائية المصرية أمل الجمل في كتابها الجديد
«يوسف
شاهين وتجربة الإنتاج المشترك»- من إصدارات المـــؤسسة العامة للسينما
بدمشق 2011 -
سؤالاً قد يبدو بديهياً، ولكنه يحمل في
طياته مضمون الكتاب ومحتواه عموماً. فهي ترى
أن فشل الدولة المصرية في اقتحام مجال الإنتاج المشترك منذ أول
تجربة سينمائية
مصرية مشتركة وحتى أوائل الستينيات، أي في اللحظة التي أسس فيها القطاع
العام، جاء
على خلفية خلق مشاكل في طبيعة التيمات والموضوعات الملقاة على عاتقها. كان
يمكن
للسينما المصرية أن تدرك خطورتها، وهو ما تطلب معرفة الملابسات
التي أدت إلى ولادة
الإنتاج المشترك، ودراسة الظروف التي سمحت للدولة بأن تتدخل في الصناعة
السينمائية.
فبالرجوع عقداً من الزمن إلى الوراء تكشف
الباحثة الجمل إن الفيلم المصري دخل مرحلة
بالغة الدلالة والقلق حينها، فهنا لم يستطع هذا الفيلم التخلص
من آثار الحرب
العالمية الثانية، لجهة التقشف في العملية الإنتاجية، وجاء محاكياً من حيث
السرد
والحبكة للطريقة المتبعة في أفلام الواقعية الإيطالية.
عوامل سياسية كثيرة وصراعات بعضها إقليمي، لعبت أدواراً في خنق وتأطير
هذا
الفيلم، مادفع إلى محاولة البحث عن آفاق جديدة متمثلة بالإنتاج المشترك.
فهنا يكمن
عملياً حل مشكلة الاحتياج إلى أسواق العالم، ولكن التجربة لم تكن مدروسة
بشكل علمي،
ولم تملك جدوى الانفتاح والتحقق من فكرة الإنتاج نفسها. فالفكرة التي تنادى
السينمائيون المصريون من أجلها، وجدت نفسها في أعلى ذروة يمكن
أن يطالها النقاد
بأقلامهم، فقد ظهرت الأفلام رديئة الصنعة وحلت بالسينما المصرية كارثة لم
تجلب لها
سوى الخسائر، حتى أن جميع أفلام هذه التجربة فشلت فشلاً تجارياً ذريعاً،
ولولا بعض
الأفلام التي حققها المخرج يوسف شاهين في هذا المجال لأمكن القول أن
الإنتاج
المشترك كان مسألة خطرة على صناعة السينما نفسها، لم يكن
بالإمكان تداركها أو
التدقيق بمحتواها، طالما أن هناك مالاً دافقاً يستغل في عقد صفقات مشينة
كان آخر
همها كما تؤكد أمل الجمل أن تساهم في دفع الثقافة السينمائية وإثرائها من
حيث الشكل
والمضمون.
ربما تغدو تجربة يوسف شاهين، بالانطلاق المحض من شخصيته المركبة،
مجالاً رحباً
لدراسة هذا النوع من الإنتاج الصعب والمعقد، ولكن هنا مع شاهين سوف نقف على
شخصية
كانت قادرة على خوض هذا المجال المقلق بنجاح ربما لم يدركه كثر من قبل، حين
فشلوا
تماماً في وضع الإصبع على قوانينه، وحاراته الخلفية التي يتطور
فيها وينمو دون أن
يدركه إلا كل موهوب. فحتى سنوات طويلة سوف تتردد شائعة مفادها أن شاهين
وشركته (
أفلام مصر العالمية ) هما فقط يمتلكان تلك
الخلطة السحرية والمفاتيح السرية القادرة
على تحصيل تمويل أجنبي. والمفاجئ واللافت بحسب المؤلفة، إنه
بعد وفاة شاهين لم تعد
شركته قادرة على تمويل ودعم الأفلام بالسهولة التي كان يمتلكها المؤسس، فهو
حتى
رحيله لم يكن يعاني تقريباً من الحصول على تمويل من هنا أوهناك.
حين يغيب المؤسس
الدرس هنا قوي ومؤثر وبالغ الدلالة، حين يغيب المؤسس قد تغيب معه
أسرار الصنعة،
وما ينسحب على عالم السياسة قد يرخي بظلاله بدوره على واقع سينمائي، على
الأقل في
ما يخص هذا المجال في عالم يبدو كتيماً وصلباً وناسخاً أو مشوهاً لتجارب
كثيرة،
يمكن أن يحل فيها الخراب لحظة غياب المؤسس ونهجه في إدارة
العملية الإنتاجية. وهذه
عموماً مسألة بحاجة لدراسة من أوجه مختلفة، إذ يبدو أن شاهين كان يمتلك من
خلال
شخصيته مفاتيح كثيرة تساعده على فرض رؤيته الشاملة على الفيلم وتفاصيله
الابداعية
المختلفة لم يمتلكها سواه، وحتى حين كان يغرق في هموم حياتية
وفنية، كان بوسعه أن
يؤمن لنفسه سبل العيش، ويحقق أفلامه بمزاجية عالية لم تتحقق لمخرج عربي
سواه – ربما -،
ويمكن الكاتبة الجمل هنا أن تستشهد بكتاب الناقد السينمائي اللبناني
إبراهيم
العريس («يوسف شاهين ... نظرة الطفل وقبضة المتمرد») * الذي جزم بمدى
الحيرة التي
كانت تنبع دائماً من قدرة شاهين على مراوغة اللعبة الإنتاجية التقليدية
وفرض رؤيته
الشاملة على مركب الفيلم وسبل صنعته ( السرية) طالما إن هناك أقنية غير
معترف بها
في الجانب المعلن من العملية الإنتاجية الصعبة. تساؤل مبطن
يبدو للوهلة الأولى أنه
يصب في هذا المنجرف الكتابي، وإن كانت هناك رغبة بمعرفة أسرار هذه اللعبة،
فإن
الحاجة إلى قراءة الكتاب تظل تفرض نوعاً من محاولات البحث والتحليل بغية
تقديم
إجابة عن تلك الأسئلة الدافقة والغنية التي لم تكن ترتبط إلا
بيوسف شاهين، فتحل حين
يحل، وتضمحل وتختفي حين لا يكون في الميدان.
من المؤكد أن شاهين لم يكن أول من افتتح هذا العالم الصعب، ولكنه يعد
في هذا
المضمار الأشهر والأكثر ثباتاً ومراوغة وتأثيراً، ذلك أن أولى تجاربه جاءت
من خارج
مصر، وهذا ربما ساعد في تقوية موقعه لاحقا، وهو قد عاد منتصف ستينات القرن
الماضي
من غربة قضاها بين بيروت والمغرب وإسبانيا، وقد انتهى للتو من
خوض أولى تجاربه في
مجال الإنتاج المشترك بفيلم ساذج يحمل عنوان «رمال من ذهب» وذلك أثناء
هجرته، وهو
يومها عاد بطلب من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي اعتبر في
رسالته إلى
الفنانين المصريين المهاجرين إنهم «ثروة قومية لا يجب التفريط بها»
.
مشاريع كثيرة أجهضت في مكانها يومها. ومشاريع كثيرة تحققت، ووضعت
شاهين في مقدمة
أصحاب المشاريع الذهبية التي تتحقق أحياناً من تلقاء نفسها ومن دون عناء
يذكر
وأحياناً بكثير من الإفراط في الجهد، لكن الأكيد أن « عودة الابن الضال «
مع رسالة
الرئيس الراحل لم تكن تحمل حينها في طياتها كل تلك اللحظات السعيدة التي
تدافع
المخرجون المصريون وتزاحموا من أجلها على أبواب القطاع العام
من أجل صناعة أفلامهم،
فيما تمكن شاهين مع مرور الوقت والخيبات والإحباطات عبر شركته، من إنتاج
أفلام له
ولغيره، بعضها كان مجرد أفلام غير ربحية بدعم فرنسي واضح، وبعضها حمل سمة
هذا
المخرج القلق، الذي كان يفرض إيقاعه أيضاً على طبيعة التمويل
وإن لم يترك احداثيات
واضحة من حوله تسهم بقليل أو كثير في فك لغز الإنتاج المشترك. وما يحسب
لأمل الجمل
هنا هو الجسارة في البحث والتسجيل في عالم صعب بقدر ماهو مدهش.
الحياة اللندنية في
02/09/2011 |