يعد فيلم "الجزيرة المعزولة"
Shutter Island
لمارتن سكورسيزي من نوعية الافلام التي
لابد من الكشف عن نهايتها في محاولة لقرائتها، وهو كائن فني يحتمل اكثر من
قراءة خاصة مع استناده إلى نص أدبي لكاتب انجزت كل رواياته من قبل كأفلام،
بل ان اول رواية كتبها ميستيك ريفير حصد الفيلم الذي اخرجه كلينت ايستوود
عنها عددا لا بأس به من الجوائز!
هنا وللمرة الألف نحن أمام هذه الحبكة النفسية الغامضة التي تقوم على عملية
ايهام ضخمة لنا كمتفرجين بأن ما يحدث أمامنا هو الحقيقة والواقع والحياة ثم
نكتشف أننا في توحدنا مع بطل الفيلم لسنا سوى موهومين تماما مثله لكن الفرق
بيننا وبينه انه يعاني من مرض نفسي أما نحن فربما نكتشف أنفسنا او واقعنا
من خلال معاناة أوهامه او آلامه!
ومن أشهر الأفلام التي قدمت حبكة مماثلة "نادي القتال" لديفيد فنشر عن
رواية ادبية ايضا و"عقل جميل" عن قصة حقيقية لعالم شهير.
في "الجزيرة المعزولة" هناك حالة عمق إنساني وفلسفي وسياسي يتسم بها النص
بالاضافة إلى قدرة المعالجة الدرامية لكاتبة السيناريو على توريطنا طوال
الوقت في ايهامية الاحداث، فكل شئ يبدو طبيعيا تماما فنحن في عام 1954 فوق
جزيرة شاتر المقام فوقها مصحة نفسية لعزل وعلاج المجرمين الذين يعانون من
امراض نفسية او الذين تسببت أمراضهم النفسية في جرائم عنيفة أو غير
تقليدية.
لغز اختفاء
فوق هذه الجزيرة يهبط المارشال الأمريكي تيد دانيلز (دي كابريو) ليبدأ في
عملية تحقيق دقيقة عن اختفاء احدى المريضات من المصحة مصطحبا زميله تشاك،
لكنه بعد قليل يكتشف أن هناك شيئا ما غامضا وراء مسألة الأحتفاء هذه ويشعر
أن كل الاطراف في هذه الجزيرة المعزولة متورطين في سر كبير وخطير خصوصا
عندما يلتقي بطبيب الماني يشارك في إدارة المصحة وعبر احلام كثيفة وحقيقية
جدا نتعرف على ماضي هذا المارشال الشاب فهو احد الجنود الامريكيين الذين
دخلوا في نهاية الحرب العالمية الثانية ليحرروا بعض الاسرى في معسكرات
الموت وتظل تطارده صورة قائد المعسكر المنتحر الذي كان يريد أن يلتقط مسدسه
ليكمل عملية الانتحار ومشاهد القتلى المتجمدين والوجوه الكئيبة والمريضة
خلف الأسوار الشائكة.
أشباح وخيالات
هذه الاحلام والذكريات يتخللها ظهور شبح زوجته لنتعرف على قصته الشخصية
التي تتلخص في أن شخصا ما اخر قتلها باشعال حريق في منزلهم وأن هذا الشخص
موجود في المصحة النفسية في عنبر الخطيرين، بل وتتسع الاكتشافات حين يربط
المارشال بين وجود الطبيب الالماني وبين اختفاء المريضة الهاربة وبين
الاجواء المريبة للمصحة ليضعنا أمام مؤامرة قومية مفادها أن امريكا تستعين
بخبرات هذا الالماني النازي من اجل اجراء تجارب على المخ البشري، الغرض
منها تجريد الانسان من العواطف والذكريات بازالة بعض فصوص المخ وبالتالي
تحويله إلى آلة يمكن أن تقوم بأي شئ إلى ان تظهر الحقيقة في النهاية، وهي
ان المارشال ما هو إلا مريض نفسي في المصحة، وكل ما يراه ويعيشه هو مجرد
لعبة يتمادى معه فيها الجميع من اجل محاولة علاجه بعد ان قتل زوجته لانها
قتلت اطفاله الثلاثة نتيجة مرضها النفسي وبالتالي في محاولة للهرب من
الواقعة البشعة اخترع شخصية اخرى بنفس مهنته لكي يعالج جرحه لكن دون فائدة.
الفيلم ينقلنا بين الاجواء النفسية الغامضة وبين المؤامرة السياسية المعقدة
وبين الوجع البشري الخالص لتصبح تلك المراحل المختلفة هي نفسها قراءات
الفيلم.
فنحن امام طرح سياسي مباشر يتحدث عن امريكا بعد الحرب العالمية الثانية
وربما حتى الآن، فكما كانت المكارثية تناهض أي تيار شيوعي أو اشتراكي في
الخمسينيات ظهرت الآن الياهو بروتستانتية التي اعتبرت الأصولية الاسلامية
عدوها رقم واحد، وكما كان النازيون يجربون في الأعراق الأخرى اصبح
الأمريكان يفعلون ولكن في السر بدعوى الحرية والأمن القومي.
زاوية التحليل النفسي
هذا من زاوية ومن زاوية اخرى، لدينا هذا التحليل النفسي الرائع عن فكرة
الجرح النفسي الذي يحول الإنسان من بشر إلى وحش، ففي الكثير من مشاهد
الفيلم هناك عملية تشريح قوية لهذه الفكرة بل وربطها بفكرة العنف كغريزة
موجودة في النفس البشرية وليست مجرد طبع مكتسب نتيجة ظروف معينة بل ان
نهاية الفيلم تعزز بدرجة كبيرة وصول البطل إلى قناعة مهمة بعد تجربته
المريرة في العلاج حيث يقول لطبيبه المعالج الذي هو نفسه شريكه الوهمي انه
من الافضل ان تموت كرجل صالح على ان تعيش كوحش، ثم ينهض ليذهب مع الممرضين
الذين سوف يقودونه لعملية إزالة فصوص المخ.
وينتهي الفيلم بلقطة للفنارة التي كان يتصور وجعلنا نتصور معه انها تحوي
غرفة العمليات الجراحية لتضعنا هذه اللقطة في حيرة شديدة فقد رأينا هذه
الفنارة من الداخل واكتشفنا فيها حقيقية البطل واكتشفها معنا لكن ان ينتهي
الفيلم بها فهذا مكر درامي وإخراجي شديد لانه يجعلنا نتردد مرة اخرى في
قبول حقيقية ان بطلنا مجنون بالتعبير الدارج بل ونشك لوهلة ان كل هذا ربما
كان بالفعل مؤامرة حكومية للتغطية على طبيعة هذا المصحة النفسية الخطيرة.
وبالتالي تدخلنا دائرة الشك في رغبة عارمة لاعادة مشاهدة الفيلم علنا نكتشف
خيطا او تفصيلة فاتتنا، وتلك هي طبيعة الافلام العظيمة.
حالة بصرية
اما سكورسيزي فقد قدم حالة بصرية مبهرة وصلت إلى حد اللوحات الكاملة التي
تضم اكثر من مدرسة وتيار فني قديم وحديث فمعظم مشاهد أحلام وهلوسات البطل
هي في الحقيقية تشكيلات فنية ولونية شديدة الروعة، بل وتختصر وتكثف عشرات
الدلالات الدرامية وتساهم في زيادة الخيوط العنكبوتية للإيهام.
وقد استطاع سكورسيزي ان يفرق بصريا بين ايقاع وزوايا والوان وإضاءة مشاهد
البطل وهو يحقق في الجريمة بشكل اشبه بالصورة الكاسيكية المعتادة لافلام
التحقيقات البوليسية، وبين مشاهد الأحلام ومشاهد المعاناة النفسية للبطل-
لو كان مريضا بالفعل- فالدارما البوليسية النفسية رغم كونها نمطا تقليديا
جدا إلا انها تفتح المجال امام المخرجين الكبار للتعبير الضوئي واللوني
بشكل غير محدود كما ان التعامل مع سيناريو مليئ بالحوار وبالجمل المهمة
وذات المعنيين يجعلنا نسقط خرافة ان السينما صورة فقط لأن معظم أفلام
سكورسيزي مليئة بالحوار لكنها ايضا مليئة بالمعادلات البصرية والدلالات
اللونية والتكوينات التي كلما استغرقت فيها العين كلما لمس الذهن والوجدان
ما فيها من قوة فنية وتعبيرية.
بطاقة الفيلم:
سيناريو : لاتيا كلوجريديس
عن رواية ل: دينيس ليهان
بطولة : ليوناردو دي كابريو
إخراج : مارتن سكورسيزي
مدة الفيلم : 138 ق
عين على السينما في
21/08/2011
آخر كلمات طلعت زين قبل الرحيل:
لا أطلب نقوداً لعلاجى.. فقط اسألوا عنى!
شيماء مكاوي
توفى- الأسبوع الماضى- المطرب والممثل الفنان طلعت زين صاحب الوجه الأسمر
الضاحك بعد صراع مع المرض عن عمر يناهز 54 عاما، وكان طلعت قد اكتشف مرضه
بالصدفة منذ عام تقريبا عندما تعرض لنزلة برد وكحة شديدة ظن أنها نتيجة
التدخين لأنه كان مدخنا شرها، فتعامل مع الأمر ببساطة، وحاول علاج نفسه
بالعسل والمشروبات الساخنة، ولكن صحته تدهورت فجأة، فذهب إلى الطبيب الذى
أوصاه بعمل أشعة على الصدر واكتشف وجود خراج كبير على الرئة تناول بعدها
مضادات حيوية إلا أنها لم تأت بأى نتيجة فسافر إلى لندن وأجرى عملية
استغرقت 11 ساعة وتمت بنجاح وبعدها واصل جولة من العلاج الكيماوى، واستمر
العلاج لفترة طويلة حتى وافته المنية يوم الأحد الماضى.
طلعت كان يشعر بالظلم والتجاهل قبل وفاته، بسبب عدم اهتمام نقابتى
الموسيقيين والمهن التمثيلية به على الإطلاق، وتجاهلهما التام له وعدم
السؤال عنه، أو المشاركة فى تكاليف علاجه الباهظة، وقال إنه لم يتقاض مليما
واحدا من النقابة سواء الموسيقية أو التمثيلية للمساهمة فى تكاليف الجراحة
والعلاج، على الرغم من أنه عضو قديم فى النقابتين.
وكانت آخر كلماته : أنا لا أتسول منهم لأنى والحمد لله «مستور» ولكنى كنت
أتمنى منهم التكرم بالسؤال عنى!!
وكان آخر ما فعله طلعت زين رغم مرضه هو حضور حفل تخرج ابنه سيف الدين من
الجامعة البريطانية.
وبدأ زين مشواره الفنى فى حقبة السبعينيات من القرن الماضى، حيث كون أكثر
من فرقة موسيقية مع أصدقائه، قبل أن يغنى فى منتصف الثمانينيات بملهى ليلى
ويحقق شهرة به وقتها. وله أكثر من تجربة غنائية من بينها أغنية بعنوان
«فاضل إيه» بألبوم «تيك تاك»، ولكن تظل أغنيته الأشهر على الإطلاق هى «مكارينا».
كما له أيضا عدد من الأفلام السينمائية من بينها «أنياب»، «لحم رخيص»،
«جمال عبد الناصر»، «أفريكانو»، «أحلام عمرنا». وكان آخر أعمال الراحل فيلم
«الديلر»، مع كل من أحمد السقا وخالد النبوى ومى سليم، ومن تأليف الدكتور
مدحت العدل.
أكتوبر المصرية في
21/08/2011
المخرج مجدي أحمد علي:
يجب إلغاء الرقابة على الأعمال الفنيَّة فوراً
كتب: القاهرة - أمين خيرالله
هو أحد رموز المدرسة الواقعية السينمائية، ورغم أنه مُقلّ في أعماله، إذ لم
يقدّم للسينما إلا عدداً قليلاً جداً من الأفلام، فإنه حصد جوائز كثيرة، من
بينها ست جوائز من مجمل عشر جوائز نالتها الأفلام المصرية التي شاركت في
المهرجانات الدولية.
عن فيلمه الأخير «الميدان» وما يواجهه من مشاكل، كان اللقاء التالي مع
المخرج مجدي أحمد علي.
·
ما آخر أخبار فيلم «الميدان»؟
صوَّرت الجزء الخاص بالتظاهرات وهو عبارة عن مشاهد حية التقطتها أثناء
اندلاع الثورة، ثم توقّف تصوير الفيلم بسبب التمويل، لأن المنتج انسحب
بعدما كنا قد اتفقنا على كل شيء وما زال البحث جارياً عن منتج جديد.
·
«الميدان» ليس أول فيلم يتناول
الثورة ولن يكون الأخير، فهل ستشهد الأيام المقبلة طوفاناً من الأفلام
الثورية، كما حدث عقب ثورة 23 يوليو؟
في الخمسينيات والستينيات كانت هذه الأفلام مموَّلة ومدعومة من مجلس قيادة
الثورة الذي أراد من خلالها تثبيت أقدامه في الحكم، أما الآن فالشعب هو
الذي سيحكم نفسه ولن نرى ثانيةً القائد الملهم والزعيم الكاريزمي والرئيس
الإله، والدليل الانتقادات اللاذعة الكثيرة التي توجَّه الى المجلس الأعلى
للقوات المسلحة.
·
ألم يكن أولى بالسينما أن تستشرف
المستقبل بدلاً من سيل الأفلام التي ترصد أيام الثورة؟
كان من المفروض أن يحدث هذا الأمر لأن الفن الحقيقي يكمن في استشراف
للمستقبل والتمرّد على الواقع، وهذا التعريف ينطبق على أنواع الفنون كافة.
قد تظهر هذه النوعية من الأفلام في الأشهر والسنوات المقبلة.
·
ما مصير الأفلام الهابطة بعد
الثورة؟
لن تختفي هذه الأفلام بل ستظل موجودة، لكن بأعداد أقل من السابق، حيث كنا
نهرب من واقعنا المرير إلى هذا الهزل والإسفاف، لأن الشعب المصري بالكامل
كان محبطاً ومكتئباً، وكما هو معروف الشخص المحبط لا يريد أن يرى نفسه في
المرآة. أما بعد الثورة فتغيّرت الأمور كثيراً وصرنا نواجه أنفسنا بأخطائنا
كي نتجاوزها.
·
ما المصير الذي سيواجهه فنانو
النظام السابق من ممثلين ومخرجين وكتاب سيناريو ومنتجين؟
لن يتقبّلهم الجمهور، لأن صلاحيتهم انتهت بخلع الرئيس السابق، وحتى لو
غيّروا آراءهم وأيدوا الثورة فسيعتبرهم الناس متحوّلين وبالتالي لن يرضوا
عنهم.
·
هل أنت مع فكرة إلغاء الرقابة
على المصنفات الفنية؟
أتمنى إلغاء الرقابة على الأعمال الفنية فوراً بشكل كامل والاعتماد على روح
المبدع، فعلى سبيل المثال عندما ألغيت الرقابة على الكتب لم تحصل كارثة.
ينبغي إلغاء الرقابة على كل أشكال الإبداع، وأن يكون المبدع هو المسؤول
أولاً وأخيراً عن عمله، على أن تكون ثمة وثيقة أو كلمة شرفة تتضمّن تقاليد
المهنة، بالإضافة إلى أهداف المجتمع الكبرى كي لا نجد فيلماً يدعو الى
الفاشية الدينية أو عسكرة المجتمع أو فيلماً أو مسلسلاً دينياً ممولاً من
دولة ما لأغراض سياسية دنيئة.
·
هل من الممكن قيام ثورة أخرى
لاحقة في حال عدم تحقيق ثورة 25 يناير لمطالب الشعب؟
هذه الثورة مستمرّة ولن تتوقّف إلا إذا أخذنا كل حقوقنا ومطالبنا، وسننتظر
طويلاً حتى نرى نتائجها والطريق أمامنا طويل جداً. الإنجاز الوحيد الذي حدث
هو أننا خلعنا رؤوس الفساد لكن ذيوله ما زالت موجودة وتحتاج الى وقت طويل
لإزالتها.
·
ماذا سيكون رد فعلك في حال وصلت
الجماعات الدينية إلى سدة الحكم؟
إذا وضعنا دستوراً ديمقراطياً حاكماً لكل الأطراف فسيطمئن قلبي وسأشعر
بالأمان، لكن الخوف الحقيقي أن ينجح بعض الجماعات الدينية عن طريق تجييش
الناس وحشدهم إلى صناديق الاقتراع من دون أن يعرفوا الشخص الذي سينتخبونه
أو برنامجه السياسي، مثلما كان يحدث سابقاً، حيث كان ينجح مرشّحو البرلمان
بالرشاوي المالية التي كانوا يدفعونها أو عن طريق الجماعات الدينية التي
كانت تضحك على عقول الناس بالدين، بالإضافة إلى أن المصريين غير مدربين على
الديمقراطية لكن هذا لا يعني أنهم لا يستحقّونها. الحل الوحيد هو ممارسة
الديمقراطية والسياسة فوراً من دون تردّد والتجربة هي التي ستعلّم الناس
كيف ومن يختارون، ويجب علينا كأسرة أن نعلّم أبناءنا منذ الصغر كيفيّة
الاختيار الصحيح.
·
أين دور الفن في توعية الناس؟
الفنان والجمهور متساويان تماماً في كل شيء ولا يمكن أن يكون الفنان وصيّاً
على جمهوره بحجة أنه أعلم منه أو أن يوجّهه إلى الصواب، لكن الفرق الوحيد
بينهما هو أن الفنان يكون حساساً بشكل كبير لكنه ليس المعلّم، فتجربة ثورة
25 يناير أثبتت أن النخبة وحدها لا تستطيع أن تفعل شيئاً، فكم من تظاهرة
قامت بها النخبة قبل الثورة إلا أنها لم تستطع إحداث تغيير واحد؟ لكن عندما
قرر الشباب غير المسيّس أن ينتفض قدّم للعالم ثورة عظيمة أزاحت نظاماً
فاسداً ظلّ لمدة 30 سنة جاثماً على صدورنا.
·
هل كانت السينما سبباً رئيساً في
التعجيل بالثورة أو التمهيد لها أو تأجيج مشاعر الناس ضد النظام السابق؟
للأسف لم يحدث ذلك، نظراً الى الرقابة الشديدة جداً التي كانت مفروضة على
الأعمال الفنية المقدّمة، إذ كنا نعاني الأمرّين لتقديم عمل يناقش الأوضاع
السياسية والمعيشية في مصر، وكان ثمة كم كبير من المعوقات التي تواجهنا
كفنانين.
الجريدة الكويتية في
21/08/2011
ثورة السينما… وسينما الثورة
كتب: محمد بدر الدين
يهدف الفنان المبدع الحقيقي، في السينما، كما في كل فن، إلى ثورتين
تتلازمان في عقله وعمله: ثورة تغير حال وطنه إلى الأمام وتنقل ما هو واقع
وكائن إلى ما ينبغي أن يكون، وثورة تطوّر فنه وتدفعه قدماً، ليصبح فناً
أرفع وأنفع، وهو يريد، بما وهب من إمكانات ومواهب، أن يساهم في الثورتين:
الأولى ثورة بلده ومجتمعه من خلال إبداعه وأداء دور في العمل العام والحركة
السياسية، والثانية ثورة الفن الذي يعمل فيه ويعبّر من خلاله، فهو، بتجويد
إبداعه وتطوير أدواته وإنضاج قدراته وتحليقه في آفاق فنية وجمالية أرحب على
الدوام، يشارك في نقلات ثورية تلو الأخرى، أو موجات تدفع هذا الفن من تطور
إلى آخر، ومن طور إلى آخر.
ثم نقطة، أو مسألة، أخرى لا تقلّ أهمية، هي أن ثورات الشعوب تدفع الفنون
أيضاً، كما أي مجال، إلى مراحل جديدة، تصل فيها إلى منجزات ومشارف أبعد.
على سبيل المثال، كان تأثير ثورة 1919 على الفنون هائلاً لا تخطئه عين،
فلقد أنشئت بعدها فنون التشكيل الجميلة إنشاء جديداً، وولد فن النحت مجدداً
على يد محمود مختار ومدرسته، في بلد انقطع فيه الإبداع في النحت طويلاً، مع
الأسف، مع أنه أول بلاد الدنيا التي عرفت إبداعات في هذا المجال، منذ مصر
الفرعونية، لم يعرف التاريخ الإنساني مثيلاً لها.
على صعد الفنون الأخرى، رأينا انطلاق وتألق الرواية والأقصوصة والمسرح
والأغنية والموسيقى بمفاهيم حديثة أكثر تطوراً ونضجاً، كذلك دخلت السينما
مرحلة جديدة مع النهضة التي وعاها طلعت حرب ودعا إليها وأسّسها، فكان، مع
بنك مصر والمشاريع العملاقة التي مثّلت حلم الرجل العملاق، مشروع ستوديو
مصر لتحقيق نقلة جديدة حضارية في مسيرة تأسيس صناعة ونهضة حقيقية للسينما
في مصر.
كذلك لم تبقَ السينما وغيرها من الفنون، بعد ثورة 23 يوليو 1952، على
المنوال نفسه قبل الثورة، فشهدت الخمسينيات من القرن العشرين عقداً ذهبياً
في تاريخ السينما المصرية، إذ تشجّعت على بثّ روح جديدة، وساعد المناخ
الصحي في إطلاق الطاقات، وبزغ مفهوم أن فن السينما جزء لا يتجزأ من الثقافة
الوطنية.
أما الستينيات (عقد دخول القطاع العام السينمائي إلى جانب استمرار الخاص)،
فقد أهدتنا أروع ثمار فن السينما المصري على مرّ تاريخه، إنها الأعمال التي
نفاخر بها وتمثل، على الدوام، قيمة وقاعدة تنطلق منها السينما المصرية نحو
آفاق مرجوة:
من «القاهرة 30» لصلاح أبو سيف عن أدب محفوظ، مروراً بـ «الحرام» لبركات عن
أدب إدريس، و{يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق صالح عن أدب الحكيم وأفلام
أخرى له رفيعة وثورية، وصولاً إلى «جفّت الأمطار» رائعة المخرج سيد عيسى،
«زوجتي والكلب» أول أفلام سعيد مرزوق وأفضلها، «البوسطجي» ثاني أفلام حسين
كمال وأفضلها، «المومياء» تحفة شادي عبد السلام وأول وآخر أفلامه.
بعد القضاء على القطاع العام السينمائي في نوفمبر 1971، على يد سلطة انقلاب
السادات الغاشمة على الثورة ومنجزاتها، لم يستطع شادي ولا غيره من الفنانين
الكبار إنجاز مشاريعهم في سبيل ثورة الوطن وثورة الفن إلا نادراً، في ما
يشبه المعجزة، مثل نموذج سينما يوسف شاهين في السبعينيات وما بعدها، من
خلال مؤسسته وتعاونها لإنتاج مشترك يعبّر من خلاله ويبدع، وهي حالة
استثنائية كما نعلم.
اليوم، نتوقّع نقلة وتأثيرات تتجمّع وتدفع ربما إلى حدّ الطفرة، بشأن
السينما المصرية بعد ثورة 25 يناير، فمرة أخرى لن تكون السينما والفنون بعد
الثورة كأحوالها قبل الثورة.
كان المبدعون، في السينما وغيرها، يساهمون في تقدم (وتثوير) بلادهم، من
خلال فنهم وعطائهم، الذي يزداد نضجاً وارتقاء بالفن والجماليات والحرفية،
فهو دور وأداء مزدوج للوطن… والفن.
إنها ثورة السينما… وسينما الثورة. من هنا يحتاج الموضوع إلى بحث وتناول
لأنه يشمل زوايا وجوانب كثيرة.
الجريدة الكويتية في
21/08/2011
أفلام الثورة… استغلالٌ أم تقييمٌ أم صيحة؟
كتب: جمال عبد القادر
«18 يوم»، «التحرير… الطيب والشرس والسياسي»، «الفاجومي»، «صرخة نملة»
وأفلام أخرى تناولت ثورة 25 يناير، بعضها بشكل مباشر عبر رصد أحداثها من
باب التوثيق، وبعضها الآخر استخدمها بعيداً عن توافق الحدث والدراما.
هل من المنطقي تقديم عمل عن أحداث لم تنتهِ بعد؟ وهل يعدّ ذلك ركوباً
للموجة بهدف الربح أم مشاركة الفن في ما تعيشه البلاد؟
يرى المخرج علي إدريس «أن الفن والإعلام يتاجران بالثورة بهدف الربح، ما
يفسّر إنتاج أفلام عن الثورة أو إضافة مشاهد منها الى أي فيلم بغض النظر عن
السياق الدرامي، على غرار ما فعل طلعت زكريا، صاحب الموقف الشهير من
الثورة، في فيلمه الجديد «الفيل في المنديل» إذ أضاف مشهداً تحيّة منه
لشهدائها، لذا فشلت هذه الأفلام، لإحساس المشاهد بعدم مصداقيّة ما يشاهده».
يضيف إدريس أن إنتاج أفلام عن الثورة وتأريخها وتقييمها مسؤولية الأجيال
المقبلة بعد أن ترى ثمارها فتسجل مقدار ما حقّقته من نجاح أو فشل، لا قدر
الله، أما اليوم فلا يمكن لأحد التحدّث عن أمر لم ينتهِ بعد.
تمهُّل وموضوعيَّة
يعتبر المخرج علي عبد الخالق أنه لا بد من التمهّل في تقديم عمل عن الثورة
لأن الحقائق لم تظهر كلّها بعد، ولتكون المعالجة موضوعية لا سيما أن الفيلم
سيسجّل للتاريخ وسيبقى مرجعاً للأجيال المقبلة.
يعطي عبد الخالق مثالاً على ذلك فيلمه «يوم الكرامة» الذي يتمحور حول تدمير
المدمّرة «إيلات» واستند فيه إلى مذكرات أحد القادة الإسرائيليين التي
نُشرت بعد 25 عاماً من الحدث وكانت إضافة إلى العمل، الذي كان سيختلف لو
قُدّم بعد الحدث مباشرة، «وهذا ما سيحدث مع ثورة 25 يناير التي سنكتشف عنها
الكثير بعد مرور الزمن».
أما ما يُقدَّم اليوم، برأيه، فهو لعب على مشاعر الجمهور واستغلال للحدث
لتحقيق مكاسب، «لكن هذا لن يحدث لسببين: الأول، تشبّع الناس من خلال متابعة
البرامج السياسية ومعايشتهم الحدث الأصلي وبالتالي لا يحتاجون الى مشاهدته
في السينما. والثاني، انشغالهم بتحديد المصير والبحث عن الاستقرار».
يشير عبد الخالق إلى ما حدث مع حرب أكتوبر والاستعجال في إنتاج أعمال
درامية بعدها مباشرة اتسمت بالسطحية لأنها قُدمت من منطلق الفرحة بالحدث
وليس من خلال رؤية فنية، ما جعلها تخرج بهذا الشكل، وهذا ما سيحدث مع أيّ
عمل يُقدَّم عن الثورة راهناً.
وقت غير مناسب
تستشهد الناقدة علا الشافعي بمقولة الكاتب أسامة أنور عكاشة عندما طُلب منه
تقديم عمل عن حادثة غرق العبارة، فقال: «لا بد من الانتظار ثلاث سنوات على
الأقل بعد انتهاء الحدث لنستطيع تقديمه بموضوعية».
ترى الشافعي أن ما يحدث اليوم هو ركوب للموجة ولعب على مشاعر الجمهور،
«الثورة لم تنته بعد والوقت غير مناسب للحديث عنها خصوصاً أن الإعلام يكشف،
يومياً، جديداً عن أفراد النظام وعن الثورة، ولم يظهر بعد صدق هذه الأحداث
من عدمه، وبالتالي أي عمل يتمحور حول الثورة استناداً إلى هذه المعلومات
فيه ظلم كبير لها وللقيّمين على العمل الفني أيضاً».
في السياق نفسه يؤكد المخرج سامح عبد العزيز أنه ضد إنتاج أفلام عن الثورة
بشكل مباشر، والأفضل تقديم أفلام عن أهدافها، لأن الجمهور يبحث عن الأمل.
يضيف عبد العزيز: «ما زلنا نعيش أجواء الثورة عبر تلاحق الأحداث وازدحام
برامج الـ «توك شو» السياسية، فكيف تُقدّم وجهة نظر عن أمر لم ينتهِ بعد؟
ثم لا يحتاج الناس إلى ارتياد السينما لمشاهدة الأحداث التي يعايشونها».
بدوره يرفض الفنان صبري فواز تقديم عمل مسرحي عن الثورة إيماناً منه بأن
الوقت غير مناسب لتقديمه، «يحتّم المنطق علينا الانتظار لنقيّم الأحداث أو
نؤرّخها بموضوعية».
يضيف صبري: «ما يحدث اليوم هو ركوب للموجة وبحث عن نجاح لن يأتي لانشغال
الجمهور بالحدث الأصلي، بالإضافة إلى أن الثورة تمّ تأريخها من خلال الشباب
وبالتالي عند تقديم أي عمل فني اليوم أو بعد فترة ستكون ثمة مقارنة في غير
صالحه».
من جهته يرى المؤلف وليد يوسف أن الثورة يصنعها الحالمون ويستفيد منها
الانتهازيون، وهذا ما يحدث راهناً سواء في الفن أو غيره، «الأحداث لم تنته
بعد والحقائق لم تتكشّف كلّها فكيف يتم تقديم عمل عنها؟».
يشير يوسف إلى أن البحث عن الربح والنظرة التجارية هما وراء تقديم أعمال عن
الثورة، وسيكون الفشل مصيرها كونها تقدّم الأحداث بشكل مختلف عن الواقع
الذي لم يستقرّ لغاية اليوم.
رومانسيَّة وسط الثورة؟
تؤكّد الناقدة ماجدة خيرالله أنه ليس منطقياً أن تكون ثمة أحداث كبيرة مثل
الثورة ولا تعرضها السينما وتكتفي بأفلام كوميدية أو رومنسية.
تضيف خيرالله أن ما يتردّد حول فشل بعض هذه الأعمال نتيجة تشبّع الجمهور من
أحداث الثورة غير صحيح، بدليل أن الفشل طاول أفلاماً مثل «إذاعة حب» و»سامي
أكسيد الكربون»… وفشلت الألبومات الغنائية التي صدرت أخيراً على رغم ألا
علاقة لها بالثورة، ما يؤكد أن العمل الجيد يعرف طريقه إلى النجاح بغض
النظر عن مضمونه.
الجريدة الكويتية في
21/08/2011 |