ايمانويل سينييه، الممثلة الفرنسية التي تشارك رومان بولانسكي حياته، لعبت
أخيراً في فيلم المخرج البولوني الكبير يرزي سكوليموفسكي "قتلٌ
اساسي" من بطولة
فنسان غالو. المرأة التي تسمّرك في مكانك بعينيها الزرقاوين، هي تلك
الساحرة
السادية التي منحها زوجها أفضل أدوارها في "قمر مرّ" (1992)، قبل أن تهبّ
على
حياتهما الزوجية عاصفة آتية من سبعينات القرن الماضي، وتحول السيدة
بولانسكي، غصباً
عنها، الى معسكر الرئيس الفرنسي ذي المصير الانتخابي غير
الأكيد بعد. في المغرب،
كان معها هذا اللقاء الخفيف.
·
¶
ما هي طموحاتك الحالية؟
ـ طموحاتي؟ حالياً، لا
طموح عندي سوى أن أشارك في أفلام جيدة. وان أجد أدواراً تلائم تطلعاتي
السينمائية،
طبعاً تحت ادارة مخرجين تجمعني بهم الرغبة في العمل معاً.
·
¶
أهذا كل
شيء؟
-
نعم، ألا يكفي ذلك؟ (ضحك).
·
¶
ربما يبدو من السهل عندما نقول ذلك، لكن
الأصعب عندما ننتقل الى مرحلة التطبيق...
-
التمثيل والعثور على أفلام جيدة
يزدادان صعوبة يوماً بعد يوم. أولاً، هناك القليل جداً من الأدوار الجيدة،
وثانياً
هناك كمّ قليل جداً من الأدوار النسائية. الشخصيات الرجالية أكثر حضوراً في
الذاكرة
الجمعية وأكثر وفرة وتنوعاً. انظر الى الأدب. هكذا هي الحالة
منذ زمن بعيد. لهذا
السبب، يقبلون طلبات الممثلين أكثر من الممثلات في معاهد التمثيل. هذا شيء
يعود الى
التاريخ. ليس من السهل علينا نحن النساء، العمل في ظلّ هذه الظروف.
·
¶
هل أصبحتِ
أكثر تطلباً مع تقدمك في السنّ؟
-
بالتأكيد. فجأة ننتبه الى انه لم يعد لدينا
الكثير من الوقت، وان إضاعة الوقت لم تعد جائزة، فنغير نظرتنا الى الأمور
ونسعى الى
اختيار ما يلائمنا.
·
¶
هل حاصرتك السينما الفرنسية في السنوات الأخيرة ومنعتك من
الذهاب الى سينمات أخرى؟
-
لا نستطيع قول ذلك تماماً، لأنني لعبتُ تحت ادارة
داريو أرجنتو، وأخيراً شاركت في فيلم "قتل أساسي" ليرزي
سكوليموفسكي. تعاطيتُ أيضاً
الموسيقى، بل الموسيقى هي التي سجنتني أكثر من السينما الفرنسية.
·
¶
ما الذي
أخذك الى الموسيقى؟
-
انجزت ألبوماً حظي بالنجاح، فأكملت. صرتُ أقدم الحفلات
الموسيقية. أعجبني هذا الشيء، وخصوصاً انه صادف في مرحلة من
حياتي كنت بدأت أشعر
فيها بالملل، وكنتُ في حاجة الى أن اتنفس هواء جديدا. هذا الضجر بدأ
يتأكلني بعدما
صرتُ في حالة كان يستحيل في ظلها العثور على الأدوار الجيدة. الأفلام التي
بتُ
أشارك فيها لم تكن ترضي ذائقتي. أعتقد ان كوني تعاطيتُ
الموسيقى، ساهم في النضج
الذي أنا عليه اليوم، حدّ انه يمكنني العودة الى البحث عن أدوار.
·
¶
ألا يغريكِ
الانتقال الى خلف الكاميرا؟
-
يغريني جداً، لكن لا أريد أن أنجز فيلماً بائساً
أو حتى متوسط الجودة. لذا أسعى الى تأجيل هذا المشروع في مرحلة لاحقة من
حياتي. لا
يستطيع المرء أن يتحول الى مخرج بلمحة بصر. بالاضافة الى أنه ليس عندي ما
أرويه.
ربما عندما أطعن في السن، ينزل عليَّ الوحي.
·
¶
أشعر أنكِ تقللين من شأنك...
-
على الاطلاق. لا انتمي الى هذا النوع من النساء.
·
¶
هل تشاهدين الأفلام، هل أنت
سينيفيلية؟
-
نعم، أشاهدُ الكثير. لكني لستُ سينيفيلية متعصبة، إنما يُمكن
تصنيفي في دائرة السينيفيليين. أحب الافلام التي تجعلك تفكر
بعد صعود الجنريك. وهذا
أمر جد نادر.
·
¶
كما هي الحال مع "قتل أساسي" مثلاً؟
-
أتعتقد ذلك؟
·
¶
نعم.
أخبريني كيف جرى اللقاء مع سكوليموفسكي؟
-
جرى كل شيء في الفرح والبهجة، على رغم
ان التصوير كان في مكان تبلغ درجة الحرارة فيه 40 تحت الصفر. لم يدم
التصوير الا
اربعة أو خمسة أيام، لكن لي عنه ذكرى جميلة. كنت مصرة على العمل مع فنسان
غالو،
واذا لاحظتَ لا توجد في الفيلم الا شخصيتين، غالو وأنا. لم
اقبل المشاركة في الفيلم
من أجل الفيلم فقط، انما من أجل العمل مع سكوليموفسكي وغالو.
·
¶
لغالو صيتٌ
فظيع. انه شبه مجنون.
-
الأمر اكثر تعقيداً من اعتباره مجنوناً. انه شخص
"أوريجينال" وصاحب مزاج خاص وموهبة حقيقية. أحبّ كثيراً فيلمه الأول.
وهو يتعاطى
الموسيقى ايضاً. كنت اريدُ لقاءه، ليس لأنني اشعر بأننا ننتمي الى عائلة
فنية
واحدة، بل لأنه كان عندي احساس بأن التواصل بيننا سيكون في أحسن الأحوال،
وهذا ما
حصل.
·
¶
كيف كانت ادارته لكِ؟
-
كان يعرف تماماً ماذا يريد ولم يتركنا وشأننا.
المشكلة اننا كنا نصور في منزل غير مجهز بنظام تدفئة فعال، وأحياناً كان
جدول
التصوير يفرض علينا أن نلتقط مشاهد خارجية في الصقيع. كانت الظروف جد قاسية.
·
¶
هل أنتِ غريزية في عملك؟
-
مئة في المئة. في الواقع، كان عندي بعض التقنيات
سابقاً، لكني تخليت عنها تدريجاً مع مرور الزمن، والآن صرتُ
متيقنة من أن الأمور
تسير على نحو أفضل.
·
¶
بولانسكي، ماذا يعني لكِ هذا الاسم؟
- (مقاطعة)
لا
أريد التكلم عن هذا الموضوع...
·
¶
بولانسكي المخرج، وليس بولانسكي الرجل...
-
ماذا يمكنني القول عنه؟ انه واحد من عباقرة السينما ولي معه ثلاثة افلام
ومسرحية.
نحن الآن في طور العمل معاً على مشروع
جديد. لا يوجد شيء ملموس بعد. الفكرة هي ان
نتعاون على نصّ، لذلك نبحث عما يتطابق مع هذه الرغبة. منذ
سنوات ونحن نريد هذا
الشيء، لكن ليس من السهل أن نجد موضوعاً يشد انتباه كلينا اليه، ولا تكون
أفلمته
مجرد رغبة.
·
¶
وهل تتحدثان كثيراً في هذا الشأن؟
-
طبعاً، نطالع كثيراً، نشاهد
الأفلام، نستكشف...
·
¶
أين تجدان ضالتكما أكثر، في السينما أو الأدب أو
الموسيقى...؟
-
بالنسبة الى رومان، عندما كان يتعاون مع جيرار براش، كان يفضل
السيناريوات الأصلية، أما الآن فصار يميل الى الاقتباسات
الأدبية. انه مطلع على كل
جديد يصدر في عالم الآدب.
·
¶
هل أحببت فيلمه الأخير، "الكاتب الشبح"؟
-
نعم،
جداً.
·
¶
أريد أن أعرف اذا كنتِ تهتمين بالسياسة وتطالعين أخبارها في
الصحف؟
-
نعم، يومياً. لا أختلف عن غيري في هذا المجال. هناك اشياء تثير امتعاضي
وغضبي وتستفزني. عالمنا لم يعد مكاناً مثالياً للعيش. ربما
كانت الحال هكذا منذ أن
وُجد الانسان. لكن لي احساس بأن الأمور تزداد سوءاً. بالنسبة الى الأوضاع
في فرنسا،
أنا راضية عن عمل الحكومة، وتستطيع اعتباري "ساركوزية" بلا تردد!
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
نقد
"بيوتيفول"
لغونزاليث ايناريتو:
في انتظار الموت
في فيلمه الروائي الرابع يذهب المخرج المكسيكي الكبير اليخاندرو غونزاليث
ايناريتو الى مدينة برشلونة ليرينا اياها من زاوية أخرى. هذا
السينمائي الذي جاء في
سياق ما نستطيع تسميته بسينما معولمة ظهرت جلياً في "بابل"، لا يزال يجذبه
تصوير
الفجيعة والألم والانكسارات الرومنطيقية من دون اللجوء الى ميلودراما
تقليدية
وتخدير عواطف.
أفلامه الأربعة لكمات يتلقاها المشاهد في وجهه. جديده
"بيوتيفول"، يجيء مع غلطة في كتابة عنوانه بالاحرف اللاتينية، وهي غلطة
مقصودة
طبعاً، الهدف منها اخراج الكلمة من سياقها الجميل بتفصيل صغير. وهذا
الاسلوب في قول
الأشياء، اي بشكل نصفي وليس كلياً، هو الاسلوب الذي يتبعه ايناريتو هنا،
مؤكداً انه
صار لديه النضج المطلوب ليرتقي بسينماه الى مرتبة أخرى. ومع ان
الفيلم
ليس افضل
ما صنعه الى الآن، ندرك بسرعة بعد المشاهدة بأنه الأكثر نضجاً من حيث اللغة
وطريقة
البوح بالألم.
بعد ثلاثة أفلام عن الألم، يواصل ايناريتو تنقيبه في اعماق النفس
البشرية متوصلاً الى استنتاجات مشابهة لما توصل اليه سابقاً.
ودائماً لديه هذه
الرغبة في الارتفاع بالسينما الى عولمة ما ومخاطبة كل الناس في الحين نفسه.
لكن هذه
المرة، بدلاً من أن يتنقل بنا في نص معقد من قرية في المغرب الى طوكيو كما
فعل في "بابل"،
يأتي بمهاجرين من بلدان مختلفة الى برشلونة، أو بالاحرى الى قاع تلك
المدينة، ولن يكون دليلنا الى هذا العالم السفلي سوى أوكزبال (خافيير
بارديم، نال
جائزة أفضل ممثل في كانّ حيث شارك الفيلم ضمن المسابقة الرسمية)، المصاب
بالسرطان،
الذي لا ينتظر الا ان تدق ساعة الموت. أوكزبال هذا، شخص معذب
يحاول الصمود في قلب
مدينة يصورها ايناريتو كمقبرة مع اشباح الموت الذي يحوم من حوله. من قصة
بسيطة،
نسمع مثيلاتها يومياً، يستقي صاحب "21 غراماً" فيلماً معقداً إن من حيث
المعالجة أو
المضمون.
ايناريتو ينجز هنا فيلمه الأول من دون التعاون الذي كان له سابقاً مع
غييرمو أرياغا على السيناريو، ويقدم صورة غير سياحية لمدينة
برشلونة، فيها تجار
مخدرات وشرطة فاسدة واستغلال لعمال أجانب غير شرعيين ومآس كثيرة، شخصية
وعامة.
بكاميراته المحمولة على الكتف، يلتقط احساس
هذا المكان، ومن حالة متوترة الى اخرى،
يولّد انزعاجاً بديعاً لدى المشاهد، مع عودات مفاجئة للازمة
موسيقية صارت العلامة
الفارقة في سينماه. بتوليفته المتوترة والممسوكة بقبضة من حديد، يلملم
المخرج
الاحساس بالأشياء والشخوص عبر حس تفصيلي ممعن في واقعية ديناميكية. على رغم
الخوف
من هذا الغريب الذي في داخلنا، وهي الفكرة المهيمنة على العمل، يترك باباً
مشرعاً
على الأمل، من خلال دعوة البطل الى أن يقبل نفسه كما هو، في
ختام تجربة وجودية
ستشكل له مناسبة ليولد ثانياً.
في "بيوتيفول" تكاد تكون برشلونة شخصية اخرى.
هناك دائماً هذا الصراع بين شخصيات ايناريتو والمدن التي تعيش فيها. علاقة
ليست
دائماً صحية، لكن مخرجنا يحرص على تصويرها بطريقة افقية لا عمودية، اي
بصعود تدريجي
الى تلك اللحظة التي سيتغير فيها كل شيء. المدينة
هي سجن بالنسبة الى ايناريتو
وليست مكاناً للانشراح. تكفي رؤية كيف يتحول فيها الابطال وحوشاً، غصباً
عنهم، في
رغبتهم في انقاذ قطرات الروح القليلة التي بقيت في دواخلهم. مع هذا كله، لا
يدين
ايناريتو أؤلئك الذين يضعهم أمام كاميراه، بل ينظر اليهم بشغف
الفنان المتفهم لمآسي
الآخرين والخارجين على لعبة المجتمعات. دوستويفسكي السينما الحديثة يمتلك
تلك
النظرة الشغوفة والانسانية التي قلما نجدها اليوم في السينما المنتشرة
عالمياً. لا
يهمّ كم هو طويل الدرب الذي يفضي بشخصياته الى الهلاك في عملية البحث عن
السعادة،
فايناريتو يطاردها باقتناع تام في ان عظمة الانسان تأتي من
ضعفه وليس من قواه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(¶)
يُعرَض
في "بلانيت ـــ أبراج".
موقف
حلّ غودار للأزمة اليونانية: ماذا لو أعطيناهم عشرة
أورو كلما استعملنا كلمة "اذاً"!
إنه في الثمانين. لكنه أكثر السينمائيين
شباباً بأفكاره النيّرة ورأيه السديد في كل شيء. بالنسبة الى الكثيرين هو
"إله"
السينما. أما لمن لا تروقه تجاربه ونظرياته في مجال البناء الدرامي وآليات
المونتاج، فهو مدّعٍ ومتحامل ورجعيّ. عهدنا غودار طليعيّاً في
كل شيء. الرماد يتحول
تحت اصابعه أحرفاً من نار، والسينما لا تعود مثلما كانت عليه قبل دخوله في
باطنها
منذ ستينات القرن الماضي، بحثاً وتنقيباً عن كل ما هو مستجد ومثير وخارج
على اطر
الاقتناعات الشعبية. الأجمل من هذا كله، ان في امكانك استعمال تعبير ألدّ
اعدائه،
فرنسوا تروفو، لتصفه: السينمائي هو الله ومخلوقاته في آن واحد.
نعم، هذا التعبير
الآخاذ يُطبَّق الى حدّ بعيد على مَن اطلق على نفسه تسمية "يهوديّ السينما"
واتُهم
جوراً بأنه معاد للسامية. فغودار في هذا المعنى إله يحمي "معبد الصورة"
لكنه عبدٌ
مخرّب له ايضاً.
لم يقل كلمة الا صارت قصيدة سينمائية، لكن عندما أعلن ان
السينما ماتت وانه لم يعد للسينمائي المؤلف وجودٌ لافت في عصرنا هذا،
أدركنا أن
غودار لم يعد يشاهد الأفلام كثيراً، أو على الأقل يتظاهر بعدم المشاهدة.
لكن الأمر
مرتبط، قبل أي شيء آخر، بالضجر الذي يشعر به غودار في عصر الهواتف النقالة
المجهزة
بكاميرات صغيرة تتيح لحاملها بأن يتحول مؤلفاً، أكثر من انه
مرتبط بكونه غير مطلع
على الجديد. اذاً، في مقابلة مع فياكرا غيبونز من صحيفة "الاندبندنت"، ينعى
مخرج "بيارو
المجنون" السينما، كما فعل ذلك من قبل، مراراً. لكن هذا لا يمنعه من
الاستمرار في البحث عن لغات بصرية عصية على التقليد، من تلك
التي جرّبها في آخر ما
انجزه، "فيلم اشتراكية". انه اذاً إله لم يعد يؤمن بمخلوقاته.
في المقابلة
عينها، يطرح غودار حلاً طريفاً للأزمة الاقتصادية التي تعصف باليونان، هذا
البلد
الذي يعود الى ذكره كلما سنحت الفرصة. بالنسبة إليه، الاغريق
اخترعوا المنطق.
وارسطو كان خلف كلمة "اذاً"، وقد آن الأوان اليوم ليدفع الأوروبيون ثمن هذه
الكلمة
التي يستعملها سكان القارة القديمة ملايين المرات. يقول: "اذا دفعنا عشرة
أورو
لليونان في كل مرة نستخدم فيها كلمة "اذاً"، تُحلّ الأزمة اليونانية بيوم
واحد ولا
يضطر اليونانيون الى بيع البارتينون الى الألمان. لدينا كل الوسائل
التكنولوجية
لمطاردة أي استخدام لكلمة "اذاً" عبر "غوغل". حتى انه يمكننا
ارسال الفاتورة عبر
الـ"أي فون". في كل مرة، تقول فيها انجيلا ميركيل للأغريق إنها
ستسلّفهم "اذاً"
ليدفعوا الفوائد على السلفة، عليها "اذاً" ان تدفع لهم ما ندين لهم".
حلّ فكاهي
يأتينا به غودار يذكّرنا بالبرقية الذكية التي أرسلها الى كانّ قبل عامين
موضحاً
فيها انه سيمتنع عن المشاركة في الندوة الصحافية للمهرجان
لظروف "من نوع اغريقي"،
ومشدداً على أنه مستعد ليذهب الى الموت من أجل المهرجان، لكن
ليس أكثر من ذلك
بخطوة! ماذا يعني "أكثر من ذلك بخطوة"؟ وما هو الأسوأ من الموت بالنسبة الى
غودار؟
هذه الأحجية لا تجد شرحاً، ربما لكونها أبسط مما نعتقدها،
كما يؤكدها غيبونز في
المقابلة المذكورة، بيد انه من خلال مطالبته بـ"اعطاء أريسطو
ما لأريسطو"، ينسى
انه، لا يزال ربما الوحيد في العالم الذي يناهض فكرة الملكية الفكرية
معتبراً اياها
اختراعاً اريستوقراطياً سمجاً، لأنه، بحسب ما أعلن مرة، ليس للفنان حقوق،
بل عليه
واجبات. تناقضٌ آخر، بين فكرة وأخرى، ليس من شأنه الا تعميق
اللغز الغوداري
وعبقريته.
هـ. ح.
خارج الكادر
شنايبل والعرب
جوليان شنايبل لم يقنع
العرب. حاول المخرج اليهودي الأصل أن ينضمّ الى المعسكر الأجنبي المؤيد
للقضية
الفلسطينية، لكن فيلمه "ميرال" الذي أنجزه لهذا الغرض مرّ
بالكاد في مهرجان أو
اثنين ولم يجد طريقه الى الصالات التجارية في البلدان العربية. ربما لأن ما
جعله
يترك الفريق اليهودي المتطرف الذي ينحدر منه الى فريق عربي يبحث عن رفع
الظلم عن
قضيته، هو حبّ امرأة (الفلسطينية رولا جبريل، صاحبة النصّ
ورفيقته في الحياة) وليس
حبّ الأرض. لكن، خلافاً لكل الأطراف الذين لم يجدوا في الفيلم اقتناعاتهم
السياسية
وهواجسهم الفنية (ونحن منهم)، ها ان جوني ديب يعلن ولعه بالفيلم ويطلب من
شنايبل ان
يتولى اخراج "في يد دانتي"، رواية نيك توش، على أن يقوم صاحب
شخصية قرصان الكارايبي
بدور البطولة.
من تجربة جوليان شنايبل السينمائية، نتذكر سيناريو فيلم "قبل
الليل" (مع جوني ديب ايضاً)، الذي أخرجه، وأنتجه، وروى فيه
سيرة الروائي الكوبي
ريناو آريناس الذي انتحر بعدما تبددت أحلامه ونفي من بلاده وأمضى سنوات في
السجن.
يتبدى جلياً، بعد هذا الفيلم، ان شنايبل
يسعى إلى تخليد ذكرى الأشخاص الذين ذاقوا
الأمرّين في حياتهم عبر اعماله، لكن الفيلم مزعزع الكيان، ولا
يترك أثراً كبيراً في
وجدان المشاهد على رغم محاولات شنايبل المتكررة لإحداث ذلك.
لكن كان ينبغي
انتظار عام 2007، لتنفجر موهبة شنايبل مع "بدلة الغوص والفراشة"، الذي عاد
تاريخياً
الى اثني عشر عاماً الى الوراء، تحديداً في الثامن من كانون الثاني 1995،
ليروي
تجربة جان دومينيك بوبي (صحافي وأب لطفلين) الذي أصيب بمرض حاد
في الأوعية الدموية،
فرقد في غيبوبة تامة. حين خرج بوبي من هذه الغيبوبة، تعطلت وظائفه الحيوية،
فأصبح
عاجزاً عن التحرّك وعن الكلام وعن التنفس من دون اللجوء إلى المساعدة بعدما
أصيب
بما يسمّى حالة "متلازمة الانغلاق". جسده جثة هامدة، ووحدها
عينه تتحرك، فإذا هي
العضو الوحيد الذي يربطه بالعالم الخارجي. تطرف عينه تارة كي يقول نعم،
وتطرف عينه
طوراً مرتين كي يقول "لا". يلفت الزائرين بعينه إلى أحرف الأبجدية التي
تُملى عليه،
والتي يؤلف منها كلمات وجملاً وصفحات كاملة. إذ تمكّن بوبي باللجوء إلى
عينه من
كتابة كتاب "بدلة الغوص والفراشة"، وصباح كل يوم، طوال أسابيع
عدة، حفظ كلمات هذا
الكتاب عن ظهر قلب قبل أن يمليها على الآخرين.
بعد هذا الفيلم (2007)، يقدم
شنايبل على تعديل زاوية النظر الى العالم من خلال "ميرال".
رواية رولا جبريل
التي يقتبسها الفيلم وصف لنضال احدى رائدات العمل الاجتماعي الفلسطيني هند
الحسيني،
التي أسست داراً للأيتام ومدرسة كانت جبريل إحدى تلميذاتها في
السبعينات. التحدي
الأكبر بالنسبة الى شنايبل اقتصر على عكس وجهة النظر الفلسطينية للصراع
العربي -
الاسرائيلي. وهذا ليس بالقليل في فيلم
هوليوودي، لأن عاصمة السينما الأميركية متهمة
دائماً بالانحياز في قضية مصيرية وحساسة، الى اسرائيل. لا يمكن
التعاطي مع هذه
القضية الفلسطينية من باب حبّ الانسانية والنيات الحسنة، لكن شنايبل يخوض
هذه
التجربة المحفوفة بالأخطار، ويمكن القول إن النتيجة ليست سيئة.
يروي شنايبل
حقائق يعلمها الجميع، ولكن وضعها على الشاشة غاية في الأهمية. هذه الحقائق
تتخذ شكل
كوزموبوليتية الانتاج الذي حظي به الفيلم. اذ هناك خلفه طرف تونسي (طارق بن
عمّار)
واسرائيلي وايطالي واميركي وفرنسي (وربما فلسطيني أيضاً). هذا التشعب يتيح
لشنايبل
أن ينجز مثل هذا العمل، لكنه يدفع ايضاً ثمن هذه الخلطة التمويلية الغريبة.
حقل من
الألغام يمشي عليه شنايبل بشجاعته المعروفة.
يتخذ شنايبل من اسرائيل موقفاً شديد
الصرامة، مفاده أن هذه الدولة ارهابية، ومن افعالها انها تسرق الأحلام من
عيون
الأطفال. شنايبل ليس مراقباً سلبياً في هذا الفيلم، بل يخوض معركة. لا
ينصاع لمنطق
الادانة السهلة، ولا يلمّع صورة الفلسطيني، محاولاً اظهار العلاقات
المكلومة
والمتأزمة بين الفلسطينيين.
النهار اللبنانية في
11/08/2011 |