حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

فضاء قليل ومؤقّت لتحليق السجناء

حسن داوود

ألسجناء الذين عملتْ معهم زينة دكّاش لتحقيق «12 لبناني غاضب» رجال بعيدون عن ماضيهم مددا متفاوتة تصل إلى 16 عاما عند بعضهم. وهم بعيدون عن مستقبلهم أيضا، حيث أننا لم نسمع من أيّ منهم ما يدلّ على أن العالم الخارجي، العالم الذي هو «برّا»، موجود ومنتظر عودتهم إليه. إنّهم مقيمون في ذلك الزمن الممتد، لكن من دون حدوث ما يميّز يوما فيه عن يوم. وليست هذه حال الرجل المحكوم بالإعدام فقط، ذاك الذي قال إنّه يقضي أيّامه مشغّلا عقله بالإجابة عن أسئلة من نوع : هل سأُعدم أم لا، وإن كنت سأعدم، متى ينفّذون ذلك فيّ؟ الآخرون، المتراوحة سنوات أحكامهم بين سنوات تصل لدى بعضهم إلى المؤبّد، تحوّلوا إلى التفلسف والتفكّر في مسائل الموت والحياة، ومعنى الوجود، والذنب، وجدوى الانتظار.. مبرهنين أنّ الأسئلة هذه، العصيّة على الإجابة، يمكن لها أن تكون مبذولة لمن نظنّ أنه لا يملك عدّتها وأدواتها. أو إنّهم استعانوا على ذلك بلغة احتوت كلمات رحنا نفكّر، ونحن في الصالة، أنّها مأخوذة من كلام التفلسف الشعبي، لكن الجديد أو الصادر حديثا، بما جعلنا نتساءل كيف وصلت إليهم تلك الحذلقات إلى داخل السجن، ومن أدخلها إليهم؟ وكيف تعمّمت عليهم، هم «المقيمون» في بنايات السجن المنفصلة؟

في المشاهد الأولى من الشريط «الوثائقي»، وهي مشاهد تعريف المساجين بأنفسهم وبجرائمهم وبمدد سجنهم، رأينا أنّهم مختلفون، على رغم اشتراكهم جميعا بالتفكير في مسائل غير معيشيّة. وكان يمكن استخلاص الإختلاف من السحن ومن درجة الإنكفاء أو درجة التصدّر، أو الرغبة بالتصدّر، كما من ملامح الأسى في وجوه أولئك الذين لم يفلح الجوّ الإحتفالي المصاحب للتمارين ولإعداد المسرحيّة في دفعهم للإبتسام ولو مرّة واحدة. وهناك ضرب آخر من الأسى رأيناه عند السجين المتأسّف على ما انتهت إليه حياته والذي أظهر للكاميرا التي تُصوّره ورقةً كتب عليها، بإملاء خاطئ، أنّه حمار. وقد تعالت من حوله الأصوات المستنكرة، ليقول بعضها «حاشاك»، كأنّ كلاما كهذا لا يصحّ قوله أمام الآخرين من غير السجناء. وهم، الرجال الذين فاق عددهم الأربعين، أبدوا مواقف مختلفة حيال الظهور في الفيلم، أو على الأدقّ، في العمل المسرحي الذي سبق عرضه ظهور الفيلم. أحدهم انسحب في اللحظة الأخيرة، في اليوم الذي سبق العرض ربّما. آخر تخلّى منذ البداية، ثالث دُفع دفعا إلى القبول بالدور الذي اقتُرح عليه. آخرون رأوا صعوبة في الخروج من سمتهم العادي إلى سمت تمثيلي، مع أنّ مجريات المسرحيّة- الفيلم لم تبتعد ولو قليلا عن همومهم.

لكنّهم، في الليلة التي سبقت عرض المسرحيّة في إحدى قاعات السجن، أصابهم الخوف جميعا وبعضهم قال إنّه لم يتمكّن من النوم في تلك الليلة. لم يكن سهلا إحتمال الظهور أمام قادمين من «برّا»، وبينهم أهل وصحافيّون وديبلوماسيّون ورسميّون في طليعتهم وزير الداخليّة، وضبّاط عسكريّون من رتب عالية أتوا جميعا ليشاهدوا السجناء وهم ينبثقون من الإغفال والحجز إلى الضوء الساطع. كما أنّهم، هم السجناء، لم يحتملوا تلقّي الإعجاب الذي بلغ حدّ التصفيق لهم، وقوفا من قِبَل الجمهور الذي نصْفه من حارسي سجنهم. في الليلة التي تلت العرض الأوّل ذاك بكى أكثرهم، لكن كلّ بمفرده بعد أن أعيدوا متفرّقين إلى أمكنتهم في السجن. أحدهم قال إنه، بعد ليلة خوفه، التي سبقت العرض، قضى ليلة أخرى ، مؤرّقا باكيا، وفي الحمّام لكي لا يكون مُشاهَدا يبكي أمام الآخرين. لأكثرهم كان النجاح إثباتا على أنّهم قادرون على تحقيق شيء. ولنضف إلى ذلك ما حملتْهم إليه تلك السنة، ألتي استغرقها الإعداد للعمل، من انتظار يومي لأوقات الإجتماع والتدربّ على أداء الأدوار، والبهجة المصاحبة في أوقات التدريب على اختلافه.

إنّهم الأربعون المحظوظون من بين آلاف هم نزلاء سجن رومية. لم نتوقّف ونحن نتابع مجريات الفيلم عن تذكّر أولئك الكثيرين الذين، في أيّ حال، لم يكن لدى المخرجة زينة دكاش كمية كافية من الضوء لتشملهم ببعضه. كان القصد من العمل، المسرحي ثم السينمائي، أن تكون تلك القلّة ممثّلة للكثرة، غير أننا، نحن المشاهدين، لم نستطع التغاضي عن «الظلم» اللاحق بالكثرة في إزاء ما تحقّق للقلّة المحظوظة. رحنا نتخيّل كيف هو يوم الآخرين، الآلاف، يوم سجن عادي، فيما كنا نشاهد فئة الأربعين تتوزّع وجوهها على الشاشة، مرّة بعد مرّة، ناقلة إلى جمهور واسع ما تهجس به وما تفكّر فيه ( أقصد في المشاهد التي خصّصت للبعض للتعريف بهم).

لكن تلك الفئة القليلة لن تظلّ محظوظة. طبعا سيمكن لها أن تنعم شهرا أو شهورا مسترجعة صدى ذلك النجاح لكن، في وقت ما، سيبدأ إيقاع السجن اليومي يداخل تلك الذكرى ويضعفها. ذاك أنّ صانعي الإحتفال هؤلاء سيكون عليهم الخلود إلى زمن راحة طويل بعد إسدال الستارة عليه. المكافأة، أو الBonus الذي أعطي لبعضهم، بعد ختام المسرحيّة، مثلما حدث للسجين «هوّيلو« الذي أتيح له أن يستقبل إبنه وعروس إبنه فيما يشبه حفل زفاف صغير أقيم في السجن، هذه المكافأة هي آخر المكافآت على الأغلب. لم يستطع شيء أن يوقف تخيّلنا لهؤلاء، الذين زوّدوا بما يشبه الأجنحة ظلوا يرفرفون بها سنة كاملة، عائدين إلى ذلك الزمن الأوّل الممتدّ يوما بعد يوم بعد يوم، حيث الماضي بعيد والمستقبل لا يُظهر شيئا من صوره. لا أعرف إن كانت زينة دكاش والقائمون معها على تحقيق ما شاهدناه سيستأنفون بشكل من الأشكال ما كانوا بدأوه، أم أنهم سينتقلون من بعده إلى إنتاج عمل رائد آخر، في مكان آخر. واحد من السجناء الممثلين قال ما يفيد أّنّ ما كان يهمّه، في أثناء الإعداد ، ليس أن يدلّ العمل على نجاح فكرته أو فائدتها، كأن يُقال ما قيل في التعليقات الإعلاميّة عن إمكان إشراك السجناء في أعمال مكانها، في العادة، خارج السجن، بل إنّ ما يهمّه العمل ذاته مفصولا عن أيّ استخدامات أخرى له، تلك التي من بينها ما حمله البروشير التعريفي الذي يقول: «يتناول الوثائقي» 12 لبناني غاضب» مراحل تجربة العلاج بالدراما الرائدة التي أسّستها الممثّلة والمخرجة والمديرة التنفيذيّة لـ«المركز اللبناني للعلاج بالدراما...».

كان ذلك السجين ينطق بالكلام ذاته الذي يقوله أهل الفنّ عن فنّهم، مقصيا ما يقع حول العمل أو خارجه. أما نحن، المتفرّجين في الصالة، فقد حملنا ما حملناه على وجه الدراما لا على وجه الفائدة، متفّقين في ذلك مع السجين في قولته تلك. أي أنّنا شُغلنا بمصائر أولئك الناس أكثر من انشغالنا بالفكرة الفذّة غير العاديّة وغير المسبوقة على الإطلاق.

المستقبل اللبنانية في

29/08/2010

 

في تجربة المخرج السينمائي الإماراتي نواف الجناحي:

مترفٌ يرفل بأقدار دامية

بشار إبراهيم 

سيأتي المخرج نواف الجناحي إلى فيلمه الروائي الطويل الأول؛ «الدائرة«، المُنجز عام 2009، مدعوماً بعاملين اثنين: أولهما خبرته التي بناها عبر مجمل أفلامه القصيرة، التي بدت ذات سياق صاعد، على المستويين الفني والفكري، معاً. وثانيهما بتعاونه الفذّ مع مجموعة من السينمائيين الإماراتيين والخليجيين، الذين أضحوا بعد شوط التجربة والخبرة، محترفين حقيقيين في مجال إنجاز الفيلم السينمائي.

يؤلف نواف الجناحي القصة، التي سننتبه أنها تنتمي، بأصالة وطيدة، إلى مشروعه الفكري والسينمائي معاً، ولا تكاد تبتعد بشيء عما سبق أن طرحه في أفلامه القصيرة: علاقة الإنسان مع قدره، مع نهايته، مع مصيره المحتوم، مع ذاته، مع الآخر، مع من هم حوله!

ولكن «نواف« النابه حقاً، سوف يتعاون مع السينمائي العتيد مسعود أمر الله آل علي، في مجال «معالجة السيناريو«، التي لن تعني هنا إلا العمل على تطوير السيناريو، وتعميقه، ومنحه السياق الدرامي اللازم، بما يقود إلى تطوير الشخصيات والأحداث والحالات والحوارات.. وإثارة التساؤلات، خاصة وأن بنية قصة الفيلم، ومسار الحكاية، وتحولات الشخصيات، ومجريات الأحداث فيه، إنما تقوم على الحافة تماماًّ!

لا أعتقد أن مسعود أمر الله كان «دراماتورغ« فقط. بل لعلي أجزم أنه كان شريكاً في نقاش طويل، ربما بما يمسّ جوانب الفيلم كلها، من حيث القصة، والبناء، والسياق، والحوارات، والنهايات.. مع أهمية ترك الخيار والقرار النهائي للمخرج، الذي هو كاتب القصة والسيناريو والحوار، وصاحب الرؤية الإخراجية، التي انتهى الفيلم إليها، بالشكل الذي رأيناه أول مرة في مهرجان الخليج السينمائي 2009، ومن ثم أمكن لنا رؤيته في مهرجانات متعددة، كما في مهرجان وهران للفيلم العربي.

من المؤسف حقاً، أن ما كان سيعتبر فضيلة وميزة للفيلم، من الناحية الإنتاجية، وهي مشاركة المنتج الكويتي عبدالله بوشهري، ومجموعة تلفزيون الشرق الأوسط (MBC)، ستتحول إلى ما يمكن تسميتها «لعنة«!.. إذ ما زال الفيلم، بعد أكثر من سنة ونصف على جهوزيته للعرض الجماهيري، حبيس الأدراج، والإجراءات البيروقراطية، التي كان يمكن لها أن تمرره إلى صالات العرض السينمائي الجماهيري، منذ سنة على الأقل.

فيلم «الدائرة«، الذي قام بأداء الشخصيات فيه كل من: عبد المحسن النمر، علي الجابري، إبراهيم سالم، علاء النعيمي، شهاب حمزة، ونواف الجناحي، والذي صوره خليفة الحداد، وبنى مونتاجه عباس اليوسفي، وصاغ الموسيقى والمؤثرات الصوتية طه العجمي.. هو خلاصة بارعة لمسيرة سينمائية مجتهدة، وإن لم يكن ذروتها، إذ من المؤكد أن المخرج نواف الجناحي، الشاب (مواليد 1977)، ما زال يعد بالكثير مما يمكن أن يقدمه.

لم يشأ فيلم «الدائرة« اختيار الدروب السهلة، أو لنقل الدروب التي تبدو أقل وعورة مما انتهجه!.. إذ في الوقت الذي أنبنى الفيلم على ما يمكن تسميتها «قصة بوليسية تشويقية«، مع وجود عصابة تحترف السرقة، ومع توفر جريمة قتل، أو اغتيال، مكتملة الأركان.. فإن الفيلم لن يركن إلى هذا ولن يكتفي به، إذ سنراه يغوص في سؤالات معقدة، يختلط فيها الحلال بالحرام، والأخلاقي باللا أخلاقي، والقدري بالاختياري.. إضافة إلى إشكالية علاقة الإنسان مع نفسه، مع الحياة والموت، مع الآخرين، مع المجتمع والواقع!..

على النحو الذي ظهرت فيه، ومع توفر عنصر الصدفة المحضة، الذي يحول مسارات الشخصيات بقوة، تبدو حكاية الفيلم مقصودة، ومنساقة، على نحو يرفعها من مستوى القصة البوليسية إلى مستوى المحاكمة الفلسفية، مع الانتباه إلى محاولة الاستفادة القصوى من وجود شخصية الصحافي «إبراهيم«، الذي سيتحول، في أجزاء من الفيلم، إلى ناثر أدبي من الطراز الممتاز، عبر مونولوجاته التي يتولى كتابتها على دفتره، خارج أوقات عمله الصحافي، الذي لن نراه عملياً، بل نسمع عنه، ونعرفه قولاً أو تعريفا!

الحضور الأدبي في السيناريو، عبر ذريعة الكاتب الصحافي، سيقدم مونولوجات طويلة، عابقة بالفلسفة، والشعر، والرؤية، (كما في مشهد الخور)، إذ نراه يكتب، ونسمعه يقول: «لم أكن أعرف أن للموت رائحة واضحة تحاصرني الآن.. ولم أكن أعرف أن الأشياء من حولي أصلها داكن.. وأن الشمس تضفي إليها ألواناً زائفة.. بدأت أعرف الآن أن لذة الحياة في عيشها، وليس في طول مدتها.. وأعرف أيضاً أن للموت أشكالاً مختلفة.. لكن مصيرها واحد«.

«أعرف الآن أن أي حركة في الخارج لها رنين على حياتي الداخلية.. وأن الموت يقترب مني.. وأن الأجل لابد اختارني الآن.. هذا القدر يأتي رحيماً بمثابة عجلة أو دائرة تلتف طويلاً حتى تصل إلى نقطة البداية.. ولغير القدر لن أفسح المجال لتدمير إنسانيتي.. هل الحياة مرة كالقهوة؟.. هل الحياة أشهى بلا قهوة؟.. قهوة.. دائرة.. حياة.. دائرة.. قهوة«..

هذا الاشتغال الأدبي في النص، سوف ينتقل خلال تنفيذ الفيلم إلى محاكاة مشهدية، على مستويين: الأول من خلال الصورة ذاتها.. فإذا كان النص أدبي، ما فوق واقعي.. فإن المخرج سوف يعمد إلى إضافة فاصل فومونتاجي، غير واقعي.. يحاول إظهار حالة القلق والتخبط والضياع التي يعيشها الصحافي إبراهيم أمام استحقاق الموت القادم، دون أدنى شك!.. أما المستوى الثاني فهو عبر استخدام عنصر التزمين، الذي يظهر على الشاشة راسماً مسار الوقت الذي ينفذ بين أيدي بطلي الفيلم، الذاهبين إلى نهاية مفجعة!

نلفت النظر هنا إلى أن المستوى الأول (الاشتغال المونتاجي على الصورة)، وعلى الرغم من أنه يناقض واقعية الحكاية، فقد جاء ضمن سياقها ومسارها، وليس مُضافاً عليها.. بينما ننتبه إلى أن المستوى الثاني (التزمين) والذي يتفق مع واقعية الحكاية، قد جاء خارج سياقها ومسارها، ومضافاً عليها. (يظهر الوقت كتابة أسفل يمين الشاشة).

هذه التأثيثات، والاختيارات الفنية، تشير إلى أن صناع الفيلم شاؤوا أن يأتي عملهم جامعاً لطرفي المعادلة، محققاً لها. فمن جهة أولى، يمكن له أن يكون فيلماً تجارياً، ينجح على مستوى العروض الجماهيرية، ويرضي القطاع الأوسع من الجمهور، على اعتبار أن قصة بوليسية تشويقية تدور أحداثها في أمكنة إماراتية، وبشخصيات إماراتية، يمكن لها أن تكون عنصراً جاذباً! ومن جهة ثانية، يمكن له أن يكون فيلماً جاداً، ينجح على مستوى النخب المثقفة، والعروض الرسمية المهرجاناتية، والكتابات النقدية.

هل أثقل هذا الأمر الفيلم؟.. تبدو الإجابة عصية فعلاً، خاصة وأن الفيلم لم يُمتحن بعد، على مستوى العرض الجماهيري، بينما تحققت له أشياء مهمة، على مستوى النخب المثقفة، والعروض الرسمية المهرجاناتية، والكتابات النقدية، وهي جميعها، وإن كانت غير مرضية تماماً، إلا أنها ذات علاقة بالشرطين الذاتي والموضوعي للفيلم.

كل ما في الفيلم من شخصيات تبدو مثقلة: الصحافي إبراهيم (يؤديه عبد المحسن النمر)، مثقل بالموت، وهو يعلم أنه مصاب بمرض عضال فاتك. اللص شهاب (يؤديه علي الجابري)، مثقل بالحياة، وسيعلن ذلك صراحة!.. وهما معاً مثقلان بالنساء: الصحافي إبراهيم، مثقل بزوجته «إيمان«. اللص شهاب، مثقل بشقيقته «العنود«..

وسيبدو أن الجميع عالقون في المصيدة، مصيدة الحياة، أو الموت. في مشهد تناول العشاء، في «فريجهم«، ثمة حوار تأسيسي، يبغي إضاءة جوانية أو خلفية الشخصيات. اللص شهاب يقول: «تعبت من هالحياة«، فيوافقه اللص عادل (يؤديه نواف الجناحي)، ويزيد قائلاً: «كلنا تعبنا من هالحياة«.. ومع زفرة عادل المتلاشية: «تورطنا واللي كان كان«، نجد أن لصوص الفيلم يدركون المأزق الأخلاقي والاجتماعي الذي يغوصون فيه، إلى درجة أن اللص شهاب سوف يعترف صراحة أن ما يحمله هو همّ أخته، طامحاً إلى استنقاذها، وتأمين مستقبلها، ويريد لها أن تخرج من «الوساخة اللي فيها«!

الفقر، الديون المتراكمة.. هي السبب الكامن وراء تحوّل هؤلاء الفتية، الإمارتيين الثلاثة، إلى لصوص، وقتلة!.. والمال المسروق، هو الذي سيحوّل الصحافي إبراهيم إلى مشروع لص، وإن كان ذلك بالإنابة!

لن يدخل الفيلم إلى أسئلة الحرام والحلال: (هل الحلال يحلل الحرام؟.. وهل الحرام يحرم الحلال؟..)، على الرغم من أنه يقترب تماماً من هذا السؤال المُقلق!.. كما أن الفيلم لن يغوص عميقاً في سؤال الأخلاقي واللا أخلاقي، على الرغم من دهشة اللص شهاب، ليباغت الصحافي إبراهيم متسائلاً: «تسرق.. وتهدد.. وتبتز بعد«؟ وذلك على الرغم من أن الحوار الذي بدأ بين الصحافي إبراهيم، واللص شهاب، وهما يقفان على ضفتي نقيض، سيصل بنا في نهايته؛ لحظة اتفاقهما، إلى شكّ وارتياب، حول من هو اللص بينهما؟

المداخلات المطولة، والتي تقترب من محاكمة الواقع؛ الواقع الذي يراه الشريك «بدر«، هو الحاكم بأمر القيم، وليس «كلام الجرائد«!.. والواقع الذي يراه اللص شهاب يسرق بألف طريقة، وبألف يد: «ألف واحد بيسرقون، وما يدخلون السجن.. البنوك، المولات، الوظيفة، البقالة.. البيع بأضعاف السعر.. الحياة تسرق من عمرك«!.. هذه المداخلات المطولة قد تثري السيناريو، ولكنها بحاجة إلى إثراء على الشاشة، خاصة وأنها جاءت على إيقاع الصدفة التي قادت إلى سقوط شهاب، مكبلاً، بين يدي الصحافي إبراهيم.

أمران يبدوا لي ناقصي أغناء ما: أولاهما هي التحولات التي ينبغي لها أن تقود الصحافي إبراهيم من الرجل المسالم، قليل الحيلة (كما رأيناه أمام شريكه بدر)، لنتساءل: هل كانت توجد المبررات الكافية كي يقوم الصحافي إبراهيم، وهو في مثل وضعيته النفسية، والثقافية، والجسدية، باللحاق باللص إلى داخل شقة الجيران؟.. لماذا لم يتصل بالشرطة؟.. ألم يخش من اعتداء اللص عليه، خاصة وقد لاحظنا الفارق البدني بينهما، لصالح اللص؛ حجماً، وسرعة، ولياقة، وقوة.. (لاحظ أن اللص يعتلي السور بسهولة، بينما الصحفي سيحتاج إلى قطعة إسمنت تساعده على اعتلاء السور)!.. أما كان من المفترض بالسيناريو أن يمهد عميقاً وجوهرياً للتحولات لدى الصحفي إبراهيم، بما يدفعه كي يخوض هكذا مغامرة قاتلة!

أستعير هنا نموذجاً يكاد يكون مماثلاً، وهي التحولات التي جرت لدى السائق «حسن«، في فيلم «سواق الأوتوبيس«، للمخرج الراحل عاطف الطيب، إذ امتلأ الفيلم بكل ما سيدفع السائق «حسن«، للتحول من الرجل المسالم في بداية الفيلم، إلى الرجل الغاضب المُبادر، الذي يكيل اللكمات للص، لاعناً «أولاد الكلب«! في النهاية الشهيرة!

وثانيهما: هو الوقت، إذ مع اعتماد الفيلم أسلوب التزمين الذي ذكرنا من قبل. فعلى الرغم من أن الفيلم تدور أحداثه خلال يومين (قرابة 48 ساعة)، إلا أن ثمة زمناً مهملاً، يمتد من صباح يوم الحادثة، حتى مسائه، لا نرى فيه إلا الصحفي إبراهيم، ما بين ذهابه إلى شريكه بدر، وكتابته نصه، في مقهى على الخور..

صحيح أن اللصوص كائنات ليلية، بحكم تكوينهم.. ولكن دوران الصحافي إبراهيم على محوري موته القريب (وهو أمر مباغت)، وسرقته البائنة من قبل شريكه (وهو أمر غير مباغت، بل معروف من قبل)، لن يكفيا لهذا التحول الجوهري. ربما كانا كافيين لمونولوجات من طراز: «هكذا يرتدُّ موتي إلي.. تماماً مثل كرة.. كلما قذفتها تعود إلى مصدرها.. كلما ابتعدتُ عن الموت جاءني.. ماذا لو لم ترتد الكرة؟.. ماذا لو كان اللقاء عابراً، ليس قدراً؟.. طبيعياً، وليس قسرياً؟.. هل لنا أن نعرف أقدرانا سلفاً؟.. بالنسبة لي على الأقل.. أنا أعرف. ولكن بالنسبة للآخرين، لا يعرفون، يجهلون ماذا يخبئ لهم القدر بعد لحظات. هم يمضون على وتيرة غامضة، في ذات الدائرة اللانهائية، وفي نفس محيط ارتداد الكرة، ولكن في دواخلهم هم يشعرون بانجذاب ما وبألفة أكثر تجاه من يحبون«..

وربما لهذا لعبت الصدفة دور الانعطافة الدرامية في الأحداث وفي الشخصيات معاً، على الرغم من قدوم كل من الصحافي إبراهيم، واللص شهاب، من موقعيهما، وبكل ما فيهما من مرجعيات ثقافية وأخلاقية متنافرة!

صدفة أخرى، غير ذات شأن، ولكنها ذات مغزى، وهي صدفة أن تلتقي الفتاتان (العنود، إيمان)، أخت اللص، وزوجة الصحفي، في المكتبة. نراهما تمران إحداهما بجانب الأخرى، تدوران حول رفوف المكتبة، ذاتها.. وقد قادتهما إلى المكتبة أسباب مختلفة، وخاصة بكل منهما. لقاء عابر لا فعل درامياً له، ولكنه يؤشر إلى دوران الشخصيات جميعها في فلك واحد، باختلاف وضعياتها الاجتماعية، وأسبابها، وغاياتها!.. هنا صدفة تمرّ، دون أي فعل درامي لها، وهناك صدفة تقود الفعل الدرامي، كله، فتعصف بالشخصيات، وتحول مصائرها.. هل الصدفة هي القدر؟!

«الغريب وأنا.. هنا في هذا المكان.. في هذه الليلة.. تجمعنا الخطيئة.. ويفرقّنا الموت.. أنا التائه في الظلمة، تكاد أصابعي أن تلمس جسد الألوان، ولكنها حارقة.. هل أنا ميت؟.. أم هي الحياة؟«.. يقول الصحافي إبراهيم، في مونولوج آخر!.. لعله نسي أن «الآخر« هنا، ليس هو «الغريب«!.. إنه الصورة الأخرى له، ذاته. في الواقع كان لهما أن يتبادلا المواقع، فيمتلك شهاب مبلغ «ست أرقام، وطالع«، ويخلص من وضعية اللص. وكان لإبراهيم أن يقع في ورطة الديون التي «يحتاج سنوات لسدادها«، فيكون اللص، لا الصحافي!..

لم يقم الواقع بتبديل هذه المواقع، فتولَّت الصدفة الأمر، وبفضلها سيجد الصحفي إبراهيم في اللص شهاب، صورة أخرى له، موازية أو مكملة أو متممة، حتى لو لم يدرك الصحافي إبراهيم ذلك تماماً. وحتى لو لم ينتبه إلى أن ما ينقصه متوفِّر لدى اللص شهاب. وأن صورته ناقصة بدون شهاب. وأن أجوبته حائرة بدون شهاب، وإلا فما معنى أن نرى الصحافي إبراهيم يسأل شهاب: «هل تخاف من الموت؟.. ألا تخاف أن يفقدك من حولك؟.. ألا تخاف من العيش وحيداً؟«.. وما معنى أنه، بعد هذا الفيض من التساؤل، يبدأ البوح، متحدثاً عن حياته، وزواجه، ومرضه، وموته القادم.. وأنه يجد نفسه في فيض الخسارات؛ خسارة الحياة.. البيت.. الزوجة.. المال.. يريد هذه العملية (سرقة ماله من شريكه) لاستعادة حقوق زوجته.. لتعيش حياتها؟!.. هل وجد لديه تلك الأذن التي تستمتع إليه؟!.. خاصة أن الصحفي إبراهيم بدا أعزلاً وحيداً، منقطعاً عن أي صداقة، أو زمالة عمل.. اللهم سوى شريكه بدر، الذي يسرقه!

على هذا المستوى من التعقيد، القائم على تبادل المواقع، والتكامل فيما بين الشخصيات، التي تبدو متناقضة ظاهرياً، وعلى إيقاع فيض الأسئلة التي لا تجد أجوبتها، عن علاقة الإنسان بذاته، ومحيطه، وقدره، وعلاقته من الآخر، زوجة، أختاً، شريكاً.. لا يبتعد فيلم «الدائرة«، للمخرج نواف الجناحي، عن الهموم التي لامسنا نبراتها في أفلامه القصيرة، حتى ليكاد يكون الفيلم الروائي الطويل الأول هذا، هو الخلاصة على المستوى الفكري النظري، أو الفلسفي الرؤيوي، على الأقل.

أما على المستوى السينمائي، وعلى الرغم من بعض المطبّات النمطية، كما في تقديم شخصية «الزعيم أبو عدنان«، مثلاً، الذي بدا مستعاراً من مخيلة سينمائية هجينة (هوليودية، بوليودية، مصرية)!.. وعلى الرغم من بعض عيوب التصوير، وأخطاء المونتاج القليلة.. فمن الواضح أن المخرج نواف الجناحي بذل جهداً مضاعفاً للنجاة بفيلم سينمائي، موفَّق في الكثير من جوانبه، بدءاً من حُسن إدارة الممثلين الرئيسيين: (السعودي عبد المحسن النمر، الإماراتي علي الجابري)، اللذين أظهرا إمكانيات تمثيلية مميزة، وصولاً إلى حُسن اختيار الموسيقى والمؤثرات الصوتية (طه العجمي)، وتأملات السيناريو الثرية.. في فيلم يحاول مخاطبة العين والعقل، معاً، وفي الآن نفسه. فيلم مهموم بالفكرة، مشغول بالسينما، منفتح على آفاق أوسع.

المستقبل اللبنانية في

29/08/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)