تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

«على نهر لندن» نرتوي بماء التسامح

همس المشاعر يواجه طوفان التطرف في فيلم رشيد بو شارب

طارق الشناوي

تغير النظرة للإنسان المسلم بعد أحداث 2001 كانت هي قضية فيلم «نيويورك» للمخرج الهندي كبير خان، الذي افتتح فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. فيلم كبير خان يتبنى رؤية تدعو للتسامح ويؤكد على أن أميركا تفتح ذراعيها للمسلم ولكن على المسلمين، حتى الذين ذاقوا كل صنوف العذاب لمجرد الاشتباه، أن يتعالوا على تلك المشاعر السلبية. هذه كانت رؤية فيلم الافتتاح.. أما الرؤية الثانية فإنها تلك التي شاهدناها مع المخرج الجزائري «رشيد بو شارب» وذلك في فيلمه «نهر لندن» الذي عرض في إطار تكريم السينما الجزائرية بمهرجان القاهرة وكان قد سبق عرضه أيضا في مهرجان «الدوحة ترابيكا» ويأتي عرضه في القاهرة في توقيت أظنه مقصودا لمحاولة نزع فتيل الأزمة المفتعلة بين مصر والجزائر بسبب كرة القدم. المخرج «رشيد بو شارب» وهو إحدى علامات السينما الجزائرية والعربية سبق أن شارك فيلمه «أيام المجد» في مهرجان «كان» قبل ثلاثة أعوام وحصل أبطال الفيلم الأربعة على جائزة التمثيل وهي جائزة ولا شك تحسب للمخرج.. وهو من الجيل الثالث لمخرجي الجزائر على اعتبار أن «محمد الأخضر حامينا» الحاصل على «سعفة» مهرجان «كان» عام 1975 هو عنوان الجيل الأول ثم «أحمد راشدي» صاحب الفيلم الشهير «الأفيون والعصا» يمثل الجيل الثاني ثم «توفيق بو شارب» ممثلا للجيل الثالث والذي أذكر منهم عددا من المخرجين المتألقين مثل «مرزاق علواش»، «بلقاسم بلحاج» وغيرهم.

الفيلم يدور حول أحداث لندن الإرهابية التي اندلعت بعد أربع سنوات من مأساة البرجين في نيويورك.. اختار المخرج لحظة محورية فارقة جدا حيث شاهدنا ما يجري في الأندرجراوند ـ مترو الأنفاق ـ كم التدمير الذي حدث وذلك عبر شاشات تبث تلك الجرائم التي تعددت أماكنها ولكن لم يتغير مدلولها فهي ضد الإنسانية بعيدا عن أي دوافع يحاول أن يلصقها البعض عنوة بالدين الإسلامي والدين بالطبع بريء من كل هذه الادعاءات.

الفيلم جزائري بريطاني فرنسي مشترك كإنتاج.. بذكاء وبرهافة وإحساس اختار المخرج هذا الموقف ليطرح قضيته بلا صخب أو ضجيج من خلال فتاة وفتى في مطلع العشرينات يلتقيان في أحد الأحياء الفقيرة المسلمة بلندن حيث تكثر في هذا الحي أعداد السود والعرب والمسلمين، كما نقرأ دائما على المجلات وباللغة العربية بعض العبارات العربية مثل «حلال» أو «طبقا للشريعة الإسلامية»، كما أن اللغة العربية تظل لها حضورها في هذا الحي تستمع إلى بعضها بين الحين والآخر مما يضيف قدرا من الواقعية على الأحداث.. بعد جريمة تفجير «الأندرجراوند» تأتي أم إنجليزية من ريف إنجلترا باحثة عن ابنتها في نفس الوقت يأتي رجل أسمر جذوره من السنغال لكنه غادر بلده بسبب الفقر والاحتياج إلى فرنسا حيث يعمل هناك بالزراعة أيضا.. المكان الذي يجمعهما هو شقة الابنة، في أول لقاء نرى ملامح شاب مسلم لم يقل إنه مسلم ولكن من الممكن أن تتوقع ذلك من ملامحه وذقنه يساعد الأم على وضع شريحة في جهاز المحمول. لمحة سريعة ولكنها لا شك تحمل مدلولا مثلما نشاهد مع بداية الأحداث كيف أن الأم تتردد عندما تتلقى اتصالا هاتفيا من الأب السنغالي الأسمر يخبرها أن لديه معلومات عن ابنتها، تلك المعلومات هي فقط صورة لابنه الأسمر تجمعه مع ابنتها.. هو لم ير ابنه منذ 15 عاما. غادر السنغال للعمل في فرنسا وابنه في السادسة ولم يتابعه منذ ذلك الحين، إلا أنه أمام رغبة زوجته التي افتقدت ابنها قرر أن يغادر فرنسا متجها إلى لندن وتحديدا إلى هذا الحي الفقير للبحث عنه ويستطيع عربي مقيم في هذا الحي أن يتعرف على ابنه من خلال صورة تجمعه مع هذه الفتاة صورت لهما بالجامع، ويقرر أن يبدأ البحث من خلال هذا الخيط.. لمحة أخرى يقدمها المخرج بذكاء وذلك عندما يمد الأب السنغالي يده للسلام على الأم لكنها تتجاهل اليد الممدودة وتكتفي بالإيماءة ولو أنك ذهبت سريعا ووصلت إلى المشهد قبل الأخير في الفيلم ورأيت كيف أنها قد حضنته بعد أن تأكدت من رحيل ابنه وابنتها وهي تواسيه لاكتشفت أهمية هذا المشهد في بداية الفيلم، حيث إننا كمشاهدين نتابع لحظات تصاعد وتغير في بناء الشخصية دراميا من الرفض إلى التردد ثم التسامح حتى تصل للتعاطف، وهو الذروة، بعد أن أضافت الأحداث الكثير الذي ينعكس على ملامح كلتا الشخصيتين. وعبر المخرج عن التشكك المبدئي لدى الأم فهي بمجرد أن ترى صورة ابنتها تذهب إلى الشرطة تتهمه بخطفها وتكتشف أثناء التحقيقات أن الضابط الإنجليزي الذي يحقق معه مسلم أيضا.

الأحداث قائمة بخط متواز بين الأب والأم، كل منهما لديه هدف واحد ولكنهما يلتقيان دائما في مستشفى أو في السوبر ماركت أو في المشرحة.. هناك فقط توازٍ في العلاقة ولكن لا مجال للتلاقي، دائما لدى الأم قدر من التوجس هي تضع إطارا من «السوليفان» على مشاعرها، وعندما نكتشف أن ابنتها كانت تذهب للجامع وتتعلم العربية وتتأكد من العديد من التفاصيل في شقتها بأن الشاب الأسود المسلم كان يقيم معها، كان من الصعب عليها أن تتقبل كل ذلك بسهولة، إلا أن مشاعرها تدفعها إلى أن تتصل بابنتها لتؤكد لها أنها ليست غاضبة منها وترجوها أن تعود إليها إلا أنها كالعادة لا تتلقى ردا، تترك لها فقط رسالة على جهاز الرد الآلي في التليفون المحمول.. اللحظة الفارقة هي أنهما يحصلان على أمل بالنجاة لأن الاسمين ليسا في كشوف الموتى ولا المصابين وهو يعيد إليهما وإلى الجمهور الأمل ولو قليلا في إمكانية النجاة.. هذا الخبر يتيح لهما قدرا من الهدوء لالتقاط الأنفاس، لأول مرة يأكلان تفاحة معا، بل تسمح له بالمبيت معها على الأرض في غرفة النوم الوحيدة بالمنزل، وليأتي الخبر قبل النهاية بأن هذا الأمل كاذب وأن تحليل الـ D.N.A أثبت أن جثتي الفتى والفتاة قد تحللت ولم تتبق أي بقايا، وهكذا تقبل الأب رحيل ابنه وقال لأمه في مكالمة مؤثرة من لندن، حيث إنها في السنغال، لم يعد هناك «علي» ـ اسم ابنه ـ ولا يوجد له جثمان من الممكن أن يضمه قبر.. وكان المخرج الذي اشترك أيضا في كتابة السيناريو يمتلك رؤية أكثر عمقا لأن الفيلم لا يحتاج إلى نهاية سعيدة ولكن إلى تأمل العلاقة بين الأب والأم والنظرة للآخر المختلف لونيا وعرقيا ودينيا، كان هناك تسامح حتى بعد إعلان الموت. شاهدنا في شقة الابنة مع لقطات النهاية المصحف وآلة موسيقية أفريقية كان والد الشاب الأفريقي قد أهداها له وهو طفل وأراد الفيلم بتلك اللقطة أن يؤكد على أن الشاب الأفريقي ظل معتزا بجذوره وبهدية أبيه له.. ثم يلتقط الأب صورة لابنه مع ابنتها يضعها في معطفه لتصحبه وهو يعود إلى فرنسا بعد أن يحاول مواساة الأم بأغنية فولكلورية لا نفهم كمشاهدين معناها لكننا نستشعر مغزاها الذي يحمل فيضا من المشاعر واللمحة الأخيرة للفيلم نراها عندما يذهب كل منهما إلى أرض يزرعها.. يواصلان الحياة وفلاحة الأرض لأن من المؤكد أن من يزرعها بتسامح تنبت خيرا.

قد تبدو الأحداث للوهلة الأولى قاتمة ولكن المخرج كان حريصا من خلال السيناريو الذي كتبه مع «أوليفر لورني» على أن يضع دائما بارقة أمل وأن يصبح الإطار الخارجي التشويقي هو مجرد غلاف، أما الإحساس العميق للعلاقة بين الأب والأم وكيف يتطور من مرحلة إلى أخرى، كان هذا هو الهدف الحقيقي للفيلم.

أجاد الممثلان الرئيسيان «بيراندا بليثين» و«سوتيجي كويات» تقديم الدور بدرجة عالية جدا من الإمساك بمفردات الشخصية بكل تفاصيلها.. أتذكر كيف عبرت الأم في البداية عن الغضب والاستنكار بعد أن علمت أن ابنتها تعرفت على هذا الشاب الأسمر المسلم ثم بدأت تعبيراتها تتغير بعد أن اقتربت أكثر من الشخصية المسلمة.. كذلك من أروع مشاهدها لحظة تلقيها نبأ مصرع ابنتها.. كان أيضا المخرج «بو شارب» حريصا على أن تستخدم كل شخصية لغتها، الأم الإنجليزية، والأب الفرنسية، ومنح الأم أيضا فرصة لغة ثانية فرنسية ليصبح هناك منطق فني ودرامي لكي يتحدثا معا بدون تدخل وسيط.. شذرات الكلمات العربية والإسلام والقرآن حتى المصحف الذي نراه بين كتب الابنة في نهاية الفيلم، كل هذه المفردات ـ على بساطتها ـ تملك قدرا كبيرا من الإيحاء الفني الجميل لتواجد الإسلام كدين وسلوك.. ليقدم «بو شارب» فيلما عزيزا علينا يصب لصالح الشخصية الإسلامية أينما كانت، مؤكدا أن الإرهاب والتطرف والعنف لا صلة لها بالإسلام. وأجمل ما يقدمه الفيلم أنه لا يتبنى أيا من هذه الأفكار بصوت صاخب ولكن المخرج كان دائما يهمس بتلك الأفكار ولهذا صدقناه وصفقنا له في نهاية العرض، مرة في مهرجان «الدوحة» والثانية في مهرجان «القاهرة».

الشرق الأوسط في

20/11/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)