كان الحشد مساء أمس أمام الصالة الكبيرة لمجمع "سينماسيتي" على غير العادة.
تدافع، موسيقى صاخبة، ورقص يخرج المكان من سياقه الروتيني المعهود. بضعة
مئات ممن
نلقبهم عادة بـ"الجمهور العريض" كانوا في المجمع وفي ايديهم بطاقات دعوة،
مرسومٌ
عليها بورتريه لمغنٍّ وراقص صنع الثمانينات الموسيقية. أما مناسبة هذه
الاجواء
الاحتفالية، فعرضٌ تمهيدي لفيلم مرتقب عن مايكل جاكسون أنجزه
كيني اورتيغا في عنوان
"انها النهاية"، يشاهَد بالتزامن في كل انحاء العالم، وليس لبنان في
منأى من هذا
الحدث.
يتابع الفيلم الاشهر الثلاثة التي تمرّن في غضونها ملك البوب تحضيراً
لسلسلة الحفلات المنتظرة جداً التي كان سيقدمها في لندن، بعد
عشر سنين من الغياب،
والمفترض انها كانت ستختم مساره. من نيسان الى حزيران، راحت كاميرا أورتيغا
تتعقب
جاكسون في وضعيات مختلفة: راقصاً، محادثاً، مغنياً. ثمة رجل آخر نكتشفه في
هذا
الـ"مايكينغ اوف"، غير ذاك الذي تصدرت فضائحه مانشيتات الصحف
الصفراء. على رغم عدم
اقتحام الكاميرا تفاصيل وجهه، قد يشعر المُشاهد، لقطةً بعد
لقطة، بشيء من الألفة مع
رجل ظل الغموض يلفّه طوال حياته، ولم يكن له من سبيل للدفاع عن نفسه الا
بالموسيقى
والرقص. الموت عادةً يكشف المستور. هنا يزداد جاكسون "غموضاً أرشيفياً".
ولا شك أن
غبار الزمن سيزيده غموضاً وغموضاً.
"انها
النهاية"، ميوزيكال آخر يعيد تذكيرنا
بأن الطريقة الفضلى للتعرف الى فنان هي الاستماع الى فنه. فما
يفعله في الحياة هو
أقل أهمية مما يفعله بريشته أو بفيلمه أو بكاميراه أو بآلته الموسيقية. ما
ينجزه
بجسده، هذا الملقب بـ"بامبي"، يعفيه من التعليق. هذا الشيء يدركه أورتيغا
تمام
الادراك، لذا يصب اهتمامه على الحياة الفنية لجاكسون، متفادياً الوقوع في
تقرير
صحافي متلفز عن المحطات المتتالية والمفصلية التي قادت جاكسون الى موت لم
تُكشف
ألغازه بعد. لهذا السبب أيضاً، يتخذ الشريط شكل تحية، وسواء
أكنا من محبي جاكسون أم
من كارهيه، أم بين بين، فمن الصعب جداً ان نضع انفسنا على مسافة بعيدة مما
يُطرَح
أمامنا على الشاشة، ذلك أن الرهان هنا هو على العاطفة والاحاسيس الجياشة،
التي تأتي
لا نعرف من أين، وهي في طبيعة الحال مرتبطة بما نعرفه مسبقاً
عن جاكسون. وعليه، لا
يريد أورتيغا إحداث أي خضة تقلب الطاولة فوق رؤوس المعجبين، لذا يبقى في
العموميات
وعلى سطح الاشياء، متحولاً المؤرخَ الرسمي لأسطورة الثمانينات.
لا شك في ان
أورتيغا يعرف حدود فنه، ولا يجهل تماماً ان المناسبة التكريمية تحول دون
تمكنه من
إلقاء نظرة مغايرة على جاكسون. مَن يعلم، فقد لا يكون عنده هذا
الطموح أصلا؟ وقد لا
يمتلك المفاتيح والادوات لتعرية شخصية إشكالية في الحياة الاستعراضية
الأميركية. ما
انجزه انطلاقاً من ساعات طويلة من الـ"راشز"، مثير ومضحك وذكي في الحين
نفسه. انه
في الواقع كولاج يتضمن كمّاً هائلاً من الاحتيالات: مشاهد ما كانت لتسكن
هنا على
جسد فيلمي واحد، لولا رحيل الفنان. لهذا، ثمة نوع من صدمة تحصل
بين اللقطات
المختلفة، وهي صدمة لا تحسب كلها لمصلحة الفيلم. بعض الصور، الواحدة منها
تصعد على
الأخرى، ولا أحد يهتم، لأن قيمة الشيء هنا في ذاته وليست في كيفية
استخدامه. حسناً،
لقد نسينا مرة أخرى أننا في حفل تكريمي لملك البوب...
الخيال هو من جملة ما
يراهن عليه اذاً هذا الكولاج البصري. المكان الذي يرتبه أورتيغا للخيال،
كبير في
الفيلم. لا يطرح سؤال "ماذا لو؟"، لكن المتلقي يفعل ذلك نيابة
عن المخرج. ثم ان
النص البصري يمنح رؤية تقريبية لما كانت ستكون عليه حفلة لندن لو أنها جرت
حقاً،
ذلك ان التمارين كافة تطلق العنان للمخيلة. وهي أيضاً (أي التمارين)،
تأتينا بوثيقة
أبدية عن التقنيات المتبعة من جانب جاكسون خلال العمل: ما الشيء الذي
يزعجه؟ كيف
يتعاطى مع الضوء ومع الجمهور ومع الخشبة ومع المؤثرات البصرية ومع الراقصين
من
حوله؟ هذا الجانب من الفيلم هو الفيلم برمته. انه وصية فنان
عرف كيف يخاطب أكثر من
جيل. أما صانعو هذا الشريط فعرفوا أيضاً ان الشيء الوحيد الذي سيبقى منه،
هو تلك
الضحكة الخجولة، ذلك الحرج التي آل عنده الى الجدية والبلاغة. انه ايضاً
فيلم عن
المتعة التي يشعر بها فنان وهو على الخشبة؛ جاكسون يلقن أقرانه
درساً في التواضع،
على رغم ان تركته الفنية ذات شأن.
في المحصلة، حسناً فعل اورتيغا بإخفاء
جاكسون - الرجل خلف جاكسون - الفنان. لكن بإخفاء جاكسون - الفنان، كان لا
بدّ ان
يبرز جاكسون - الاسطورة. هذا الشيء، لم يكن ثمة مجال للهرب منه، لأنه يمثل
رغبة
القائمين على المشروع منذ البداية. لكن، لو كان أورتيغا يملك
موهبة سكورسيزي حين
صوّر الرولينغ ستونز ولو أنه ارتقى الى مصاف فيم فاندرز في فيلمه "بوينا
فيستا سوشل
كلوب"، لكان استطاع ان يمزج الرجل والفنان والاسطورة في فيلم واحد، من دون
أن يأكل
الواحد الآخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنجز المخرج كيني اورتيغا فيلمه "انها النهاية" استناداً الى مئات
الساعات من المشاهد التي التقطت في كواليس الحفلات وأثناء
تمارين العروض الأخيرة
لمايكل جاكسون الذي توفى في 25 حزيران الماضي، تاركاً محبيه حول العالم في
أسى لا
علاج منه في المدى المنظور. وقد التقط معظم هذه المشاهد باعتماد التقنية
الرقمية في
ما يختص الصوت، مما جعلها ذات جودة عالية. أما الامكنة التي صوِّرت فيها
فهي: مركز "ستابلز"
في لوس أنجلس (أيام قليلة قبل وفاته)، فوروم إنغلوود في كاليفورنيا. وكان
ملك البوب يستعدّ لاحياء سلسلة حفلات تحت عنوان "انها النهاية" في لندن (50
عرضاً
في
O2 Arena، تتوزع بين 13 تموز 2009 و6 آذار 2010). ويقترح
الفيلم، بحسب الملف
الصحافي الخاص به (يضمّ كذلك بعض المشاهد الثلاثية البُعد)،
لمحة فريدة عن مسيرة
مايكل جاكسون، تتخللها مقابلات مع أصدقائه المقرّبين وأيضاً معاونيه الذين
لا شك
انهم كانوا يكتمون أسراره وطريقه عمله.
اذاً، يعود عنوان الفيلم الى الجولة
التي كان جاكسون يستعدّ للقيام بها. وهي الكلمات نفسها التي قالها خلال
المؤتمر
الصحافي حين أعلن عودته الى الحفلات الاستعراضية، وأكّد أن تلك الحفلات
كانت لتكون
الأخيرة في مسيرته. بدأ عرض الفيلم منذ أمس في كل أنحاء
المعمورة، لكن الغريب أنه
لن يبقى الا فترة أسبوعين في دور العرض. وفي بيان، أكّدت شركة "سوني" أنه
"بحسب
التقارير التي لا تزال تصلنا من بلدان عدة في العالم، يبدو أنه ليس من فيلم
في
التاريخ، بيعت بطاقاته بهذين القدر والسرعة، وذلك قبل أسابيع
طويلة من بدء عرضه على
الشاشات". وتؤكد "سوني" أن الصالات كانت محجوزة بالكامل، قبل 24 ساعة من
بداية
البيع المسبق للبطاقات. ويعلّق المدير العام لـ"سوني"، مايكل لينتون، على
الفيلم: "إن
الأشخاص الذين رأوا تلك اللقطات دهشوا لجودة أداء مايكل جاكسون الاستثنائية.
فهذا التسجيل التاريخي للمرة الأخيرة حيث غنّى ورقص على المسرح يظهر الفنان
الأسطوري بطريقة ضخمة، بصورة وصوت صافيين. ندرك أهمية انتاج فيلم عن مايكل
جاسكون
الفنان، ويشرّفنا أن نعمل مع منفّذي وصيته لنقدّم الى الجمهور
عروضه الأخيرة. أعلم
أن هذا الفيلم سيشكّل برهاناً إضافياً على أن جاكسون هو أحد أهمّ الفنانين
على
الخشبة".
تولى اخراج الفيلم كيني أورتيغا، الذي سبق أن أنجز ميوزيكالاً ناجحاً
هو "هاي سكول ميوزيكال". وكان أورتيغا مقرّباً من جاكسون، وبدأ
بتصوير الوثائقي
بكاميرا HD
عن كواليس الحفلات لإصداره في دي في دي/
بلو راي. "سيرى العالم الى أي
حد كان فريقنا محظوظاً بمشاركته في هذا المشروع، الذي كان مايكل ملتزماً
فيه
التزاماً كاملاً، اذ حرصنا على إظهار شغفه وإبداعه. كان هو مهندس "انها
النهاية"
وكنا نحن البنّائين. المشاهد التي التقطت منذ مراحل الانتاج الأولى حتى
التمارين في
مركز "ستابلز" في لوس أنجلس تظهر مايكل كما كان حقاً، مشاركاً في كل جانب
من جوانب
الانتاج والاخراج وتصاميم الرقص والموسيقى، مروراً بالإضاءة والملابس
وصولاً الى
تصوّر أشرطة الفيديو والأفلام القصيرة التي تبثّ في الخلفية. "انها
النهاية" هي
السلسلة الأخيرة لحفلات مايكل، وعلى رغم أنها لم تكتمل، أظنّ أن الفيلم
يبيّن الى
أي مدى كان يحب حقاً هذا المشروع وإعداده، ومن الواضح أنه كان
على وشك تحقيق نصر
جديد على المسرح".
محاميا جاكسون ومنفّذا وصيته، جون برانكا والمنتج الموسيقي
السابق جون ماك كلين، انضما الى "سوني" لإعلان مشروع الفيلم، علماً ان
الارباح
ستعود الى مؤسسة "مايكل جاكسون فاميلي تراست" التي عيّنها مايكل جاكسون في
وصيته
المستفيدة من ممتلكاته. يشرح جون برونكا: "يكمن هدفنا في العمل مع شركاء
يتعاملون
مع ارث مايكل باحترام وعزة نفس، وبتقويم ممتلكاته لمصلحة السيدة كاثرين
جاكسون
وأطفال مايكل الثلاثة وأعماله الخيرية التي كانت مهمة جداً له
طوال حياته". ويوضح
جون ماك كلين: "هذا الفيلم ليس فقط تحية الى فنان عرف كيف يحوّل كل لحظة له
على
المسرح حدثاً حقيقياً، بل أيضاً هدية الى ملايين المعجبين في العالم الذين
كانوا
يحبونه وقد كرّس لهم حياته. جون وانا سعيدان بالعمل مع "سوني"
لجعل الآخرين
يستفيدون من ارث مايكل الموسيقي، من أجل الحصول على أرباح مهمة لعائلته
وأولاده
المحتاجين".
3
أسئلة الى...
فيرونيك أوبوي: بروست يكفيني، لا أحتاج إلى طعام آخر!
في "معرض الكتاب الفرنكوفوني السادس عشر" قدّمت فيرونيك أوبوي
وثيقة مصورة مدتها 89 ساعة اطلقت عليها اسم "بروست مقروءاً"،
عبارة عن نحو من 900
شخص وضعتهم قبالة كاميراتها الصغيرة بين عامي 1993 و2009، أثناء مطالعتهم
صفحتين من "البحث
عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست. مشروع لم تنته منه بعد، اذ لم تسجل شفهياً
وبصرياً الا ثلث الرواية، والآتي أعظم...
·
كيف ولدت فكرة هذا الفيلم، ولِمَ
اخترت بروست تحديداً؟ بمعزل عن طول نصوصه، ما الذي أثار اهتمامك فيه؟
-
أحب نص
بروست هذا مذ كنت في الـ26 من العمر. ولم أتوقف يوماً عن قراءة هذا الكتاب!
ما إن
كنت أنتهي منه، حتى أبدأ بقراءته من جديد. فكرتُ ذات يوم أنه
عليَّ أن أنجز فيلماً
بناء على هذا الكتاب الذي صرت مطلعة عليه تمام الاطلاع، والذي كان
"يسكنني". ولكنني
لم أكن أريد أن أنجز فيلماً روائياً تقليدياً (لسبب انه يستحيل أن يكون
للراوي
وجه). ولطالما اهتممت بقارئ بروست. وفي نهاية الراوية، عندما
يقرر الراوي أن يؤلف
روايته، يتوجّه الى قارئه: يؤلف هذا الكتاب من أجله، ليدخل روحه. وإذا
تعرّف القارئ
الى نفسه في هذا الكتاب وكأنه انعكاس لصورته في المرآة، فهذا يعني أنه نجح
في تأليف
كتابه! أحد أبرز مراكز الثقل في "البحث عن الزمن الضائع"، هو
ان كل قارئ "يجد" نفسه
فيها، حتى بعد مرور 100 عام على تأليفه. هذا القارئ يعلم أيضاً
أن الحديث في الكتاب
هو عنه. لذا جعلت من القارئ محور الفيلم. فالكتاب، كل كتاب، لا يعيش الا
إذا قرأه
الآخرون. وهذا الكتاب، الذي حمله قراء القرن الحادي والعشرين، يصبح تالياً
كتاباً
لزمننا الحاضر.
·
هل كان هناك من معيار معيّن
لاختيار الشخصيات، وعمّ تبحثين
أولاً في تلك الشخصيات؟ أليست هذه الوثيقة أشبه ببورتريه للناس الذين قمتِ
بمطاردتهم من مكان الى آخر؟
-
بدءاً، وكان ذلك قبل 16 عاماً، أي في قرن آخر،
شرعت في تصوير أقاربي. اصدقاء، عائلة، زملاء في العمل. ثم أقارب أقاربي، ثم
صوّرتُ
أشخاصاً لا أعرفهم أُرسلوا اليَّ. شيئاً فشيئاً توسّعت الدائرة. تكمن
الفكرة في أن
الراوي قد يكون رجلاً متقدماً في السن أو امرأة شابة أو طفلاً. اتخذ الفيلم
شكل
سيرة ذاتية. خلال رحلاتي وجولاتي حول العالم، صرت أصوّر غرباء
في أماكن مجهولة، كما
كانت الحال في لبنان مثلاً أو في المجر أو سويسرا أو اسبانيا... كل قراءة
أشبه
ببورتريه كما كانت اللوحات الفلمندية في القرن السابع عشر: كل شيء يكمن في
وضعية
الموضوع، والتأثير الذي يعبّر عنه في هذه اللحظة، والديكور الخلفي. ففي حين
أن
القراء في فيلمي لا يمكلون خيار النص، فهم يملكون الخيار في
انتقاء المكان حيث
يقرأونه، وهذا ما يحدد مضمون الصورة والتخيّل الشخصي للنص. الأمر يختلف بين
القراءة
في صالون أو في شارع مكتظّ. ولكن في الحالتين، هناك تصوّر لعالم وحقبة، كنت
لأعيش
فيهما.
·
أعربت عن رغبتك في الاستمرار في
هذا المشروع. ماذا تفعلين لكي تحافظي
على اهتمامك بهذا الموضوع الذي تتناولينه منذ أكثر من 15
عاماً، والى أين تريدين
الوصول تحديداً؟
-
المخيف في الموضوع أن اهتمامي بهذا النص لا يتغيّر! كلما
قرأته، زاد حبي له واهتمامي به، واكتشفت أموراً في الجمل لم
أكن قد رأيتها من قبل.
كل قراءة جديدة تأتيني بوجهة نظر جديدة، أضمّها الى وجهات نظر سابقة، من
دون أن
أنقضها. قرأ بروست "ألف ليلة وليلة" وسحره. هو نموذج اتخذه لشكل كتابه.
نقطة
الانطلاق هو الانسان قبل كل شيء. وهو موضوع مشوّق! فـ"البحث عن الزمن
الضائع" أشبه
بمادة لا تنتهي أعمل عليها من دون توقّف، وأصنع منها أشكالاً جديدة. أظنّ
أن هذا
سيكفيني لحياتي كلها، لا أحتاج الى طعام آخر!
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
إل غريكو من الظلمة إلى ملكوت الله
بعد دخول التبولة كتاب "غينيس"، يبدو أن بيروت جاهزة لتحطيم الأرقام
القياسية
لأكثر المدن استقبالاً للمهرجانات السينمائية المتنوعة، من كل حدب وصوب،
ومن كل
الهويات والأهواء. بعضها مفيد وبعضها الآخر أقل أهمية. الثلثاء
الفائت كان موعد
انطلاق دورة جديدة لمهرجان السينما اليونانية التي تستمر حتى السبت المقبل
في "أمپير
- صوفيل" ("متروبوليس"). هنا لمحة حول فيلم الافتتاح "إل غريكو"، الذي
سيعاد
غداً، الساعة 20:40، والسبت الساعة 19:05.
الفيلم مقتبس من سيرة الرسام اليوناني
دومينكوس تيوتوكوبولوس (نيك أشدون)، الذي عاش في القرن السادس عشر خلال
حقبة النهضة
الاسبانية، والمعروف عالمياً بـ"إل غريكو". يستند النصّ الى رواية "رسام
الله"
لديمتري سياتوبولوس، التي صدرت عام 2007. يانيس سماراغديس هو الذي تولى
الاخراج،
أما جاكي بافلينكو فألّف السيناريو. الفيلم هو أولاً وأخيراً،
سيرة حميمية لإيل
غريكو، هذا الفنان العظيم الذي تمتع بشخصية عنيدة، وغادر مسقطه في جزيرة
كريت
متوجهاً الى البندقية ثم الى توليدو، بحثاً عن الحب والحرية. اصطدم هناك
بمحاكم
التفتيش الاسبانية، لكن إدراكه الابداعي وقوته جعلاه ينتصر على
البربرية والجهل.
أثناء وجوده في السجن منتظراً اعدامه على يد محاكم التفتيش، كتب دومينكوس
قصّته،
لذا تظهر أجزاء من حياته في الفيلم بتقنية الـ"فلاش باك".
من الفصول الشائقة
في حياته، قصة حبه مع فانشيسكا (ديميترا ماتسوكا)، ابنة حاكم جزيرة كريت
التابعة
انذاك للبندقية. ولكن والدها يعدّ لثورة سياسية، ونتيجة ذلك،
يغادر دومينيكوس
الجزيرة وينتقل الى البندقية، مبتعداً عنها. يلتقي هناك الرسام الشهير
تيتيان (سوتيريس موستاكاس) والكاهن الاسباني نينو
دي غيفارا (خوان دييغو بوتو). ويتحوّل
هذا الأخير، بسبب مشاعره المثلية تجاه دومينيكوس، رجلاً شريراً
يقود محكمة التفتيش
في قضية دومينيكوس، رغبة بالانتقام منه.
بعد 7 سنوات من الاعداد، أنجز
سماراغديس هذا الفيلم، بعدما جرى تصويره في هيراكليون في جزيرة كريت، وفي
أماكن من
اسبانيا وجزيرة رودوس وأثينا. يقول: "إنها قصة ملحمية لفنان
يوناني رفض تقديم
تنازلات، ودافع عن الحرية. إنها رحلة ضوء حاول أن يخرج من ظلمة زمانه
والوصول الى
ملكوت الله... ولدت في هيراكليون في كريت، على بعد 300 متر من منزل إل
غريكو. عشت
في المكان نفسه حيث ولد، وتعمّدت في البحر حيث كان يسبح،
وأحببت سكان كريت أنفسهم
الذين أتوا به الى العالم وكنت أتوق للقيام بالرحلة نفسها عبر البحر الذي
يحيط
بجزيرتنا. فسكانها ينتمون الى نوع غريب من اليونانيين، ويتمتعون بمميزات
خاصة. فهم
عنيدون وأحرار (مثل إل غريكو والكاتب نيكوس كازانتزاكيس) ولكنهم أيضاً
محبون لملذات
الحياة والمغامرة.
ألّف فانجيليس موسيقى جميلة للفيلم. وكان هذا التعاون الثاني
بين فانجيليس وسماراغديس، بعدما عملا على "كافافيس" في عام
1996. ولم تكن مصادفة.
فبحسب سماراغديس "كانت فكرة فانجيليس، وبعض رجال الأعمال في كريت الذي
أمّنوا المال
للبدء بالانتاج". وليس الموضوع غريباً على فانجيليس كذلك، ففي عام 1995،
خصص
ألبوماً كاملاً للوحات إل غريكو من أجل جمع المال لشراء صالة
العرض الوطنية (متحف
ألكسندروس سوتوز) في أثينا لوحته التي تمثل القديس بطرس.
خارج الكادر
نموذجان يأتيان بالعار على
الآخرين!
في الاسابيع الثلاثة الأخيرة، جلت في مهرجانين
سينمائيين، الواحد مختلف عن الآخر، بقدر اختلاف الحرير عن المخمل، والمياه
عن
النار. لكن نستطيع أن نقول الشيء نفسه عن الاثنين.
لسبب محض تقني، لم يكن في
امكاني أن أوجد في المهرجانين طوال فترة انعقادهما، لكونهما يجريان تقريباً
في
توقيت واحد. لذا، اخترت أن أذهب الى عاصمة دولة الامارات
العربية المتحدة لمدة
يومين فقط من التظاهرة، ثم اتابع طريقي الى غرب الكرة الأرضية، وتحديداً
الى
المغرب، حيث كان في انتظاري المهرجان الثاني. على رغم مشاركتي السابقة في
مهرجانات
خليجية، كانت لي فكرتي الصغيرة عن مثل هذه المهرجانات التي تعقد في بلدان
الخليج.
عدت وفي جعبتي نظرة أخرى. الأهم: معنى آخر لمهرجان يعقد في بلد ثري.
يومان لم
يكونا كافيين لأشاهد ما أردت مشاهدته في ابو ظبي، لكنهما كوَّنا لديَّ فكرة
عميقة
عن معنى أن يشارك المرء في مهرجان سينمائي خليجي. كذلك فإن
اقامتي هناك بدّلت رأيي
الراسخ في مهرجانات هذه المنطقة وضرورتها والعبرة التي تمثلها عند الآخرين.
بالنسبة
الى المهرجان الثاني، ذاك الذي يجري في طنجة منذ سبع دورات، فلا داعي لأكرر
ما قلته
سابقاً. فرأيي فيه بات معروفاً وكتبته مراراً: انه ملتقى لشبان وشابات
يأتون من
بلدان حوض المتوسط، حاملين اختلافاتهم وأشياءهم المتشابهة.
فهذا لقاء أهلي محلي،
يمضي الى التكريس دورة بعد دورة، لا ادعاء فارغاً يتأكل القائمين عليه ولا
أهداف
فضفاضة سوى هدف بسيط وشرعي، هو ادخال السينما الى أخلاقيات المجتمع المغربي
الذي لا
يزال يناضل بصمت شاسع لأجل دخول الحداثة. السينما في المغرب "استثناء
ثقافي" قد
يساعد الناس في أن يكونوا أكثر تسامحاً وانفتاحاً تجاه بعضهم وتجاه
الآخرين، وهذا
ما أدركه الملك محمد السادس. المغرب صار مختبراً في هذا المجال، والأرجح ان
بعض
البلدان النامية التي لا تدرك، بعد، معنى السينما في حيوات
الناس، ستقتفي خطاه،
شاءت أم أبت، وفي أسرع ما يمكن. فأن تقوم دولة اسلامية كالمغرب بمثل هذه
المغامرة،
على مرأى الجميع ومسمعهم، وتقطف ثمارها الآنية والمستقبلية، فهذا يعني انه
إما
سيكون لها اعداء يرمونها بالحجار وإما مريدون يسيرون على دربها، ما إن تصبح
هناك
نتائج ملموسة.
***
أما المهرجان الذي يجري على أرض دولة "ولدت" فجأة
حديثة، فهذه تجربة اخرى. فمنذ وصولك الى الفندق، تجتاحك مظاهر الفخامة التي
تحيط
بك. ثمة حيل وخدع كثيرة يقع فيها من لا ينتبه الى تقنيات الابهار التي
يستخدمها
اليوم مهرجان أبو ظبي. لكن مَن يتجاوز هذه الفخاخ، لا بدّ أن
يبحث عن المعنى
الحقيقي الذي يحمله على المجيء الى بلد متهم بأن لا حياة فيه سوى تلك التي
توفرها
المراكز التجارية الفارهة، ومتهم بأن الانتاج السينمائي فيه ليس الا نزوات
أثرياء
يريدون تأكيد وجود، واتهامات أخرى كثيرة بعضها حقيقي وبعضها الآخر مغلف
بالسفاهة
والعنصرية. من مثل: أبناء هذه المنطقة لا مخيلة عندهم ولا قدرة
على صناعة أي عمل
فكري متوازن وسويّ (!).
أفهم أن الانتقاد المتطرف مادة "بيّيعة" أكثر من الكلام
المدروس والعاقل الذي يقف وقفة المراقب الحيادي أمام مثل هذا
المشهد. وأفهم أن بعض
الأقلام تريد أن تتميز بنقدها اللاذع. وأفهم أن من جال العالم وشبع
انفتاحاً قد
يشعر بشيء من الحرج اذا دافع عن مهرجان يجري في بلد حيث الحريات الفكرية
والعقائدية
لا تزال محصورة في اطار جد ضيق. وأفهم أيضاً أن السينما لا
تنشأ الا عندما تغرف من
ينبوع الحرية. لكن، لندع جانباً، ولو للحظة، كل ما نعلمه عن هذه المنطقة،
وكل ما
يسهّل عملية اطلاق السهام (الثقافة النفطية، عدم احترام حقوق العمال،
الطموحات
الكاريكاتورية، الرأسمالية المتوحشة، العداء للبيئة، الخ)،
ونرى ما الذي يفعله
الخليج اليوم في سبيل السينما، وما الذي تقدمه بلدان أخرى (بعضها نفطية)
مثل
الجزائر وليبيا وتونس وسوريا. لا شيء! هذه البلدان تقدم العدم الى السينما.
لا بل
تعرقل وجودها، وخطيئتها مزدوجة لأنها بلدان قادرة.
سواء من خلال تنظيم
المهرجانات أو دعم الطموحات الفتية (وإن الخالية من المواهب في بعض
الأحيان)، أو
تحويل صدام الثقافات حواراً، نكاية بصموئيل هنتنغتون، فالنموذجان الخليجي
والمغربي،
كافيان لإلحاق العار بالكثير من البلدان العربية التي لا تصرف فلساً واحداً
من أجل
اخراج شعوبها من دهاليز الجهل والبلطجة والعفن. على رغم النقد القاسي الذي
يمكننا
أن نتوجه به احياناً الى كلٍّ من المغرب والامارات في مسائل
كثيرة، فهذان البلدان
قد فهما على الاقل شيئاً وحيداً، الا وهو أن بناء الانسان بالفكر والمعرفة
هو مفتاح
الدخول الى العالم الحديث.
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
29/10/2009 |