بمناسبة صدور المذكّرات
التي وضعها المخرج الألماني فولكر شلوندورف بعنوان «على قرع الطبل» (فلاماريون)
مؤخّراً، نشرت المجلة الفرنسية الأسبوعية «لو نوفيل أوبسرفاتور» (22 تشرين
الأول
الجاري) حواراً معه أجراه فرنسوا آرماني وباسكال ميريجو، بدأ بسؤال عن
العلاقة
الأولى للمخرج بوطنه خارج ألمانيا. ففي العام 1956، عندما بلغ
عامه السادس عشر،
غادر شلوندورف ألمانيا متوجّهاً إلى «فارن» (مقاطعة بروتاني)، للانتساب إلى
مدرسة
يسوعية داخلية. هناك، التقى أناساً معجبين بألمانيا، بفضل أدبها وموسيقاها.
كانت
مفاجأة له: «المسرحية الأولى التي قدّمناها في الكلية، كانت «سيغفريد»
(مسرحية من
أربعة فصول، وضعها جان جيرودو وأخرجها لوي جوفي، وعُرضت للمرّة الأولى في
مسرح «كوميديا شانزليزيه» في الثالث من أيار
1928). وجدتُ صعوبة في التماثل مع هذا الـ
«سيغفريد»،
المرسوم بريشة جيرودو. في ربيع العام 1957، شاهدتُ «ليل وضباب» (فيلم
وثائقي أنجزه المخرج الفرنسي آلان ريني في العام 1956) في صالة السينما في
«فارن».
كانت صُوَر معسكرات الاعتقال هذه مجهولة حينها».
الصدمات الأولى
قال
شلوندورف إن ريني أبدى ذكاء رائعاً باعتماده الألوان والتحريك الطويل
للكاميرا
أداتين لتصوير «إغلاق المعسكرات»، معتبراً هذا أشبه بـ
«مخطّطات محايدة، مقطّعة بين
وقت وآخر بوثيقة». أضاف: «هذه صورة ثانية عن ألمانيا حصلت عليها. من جهة
أولى،
اشتغلتُ على «سيغفريد»، ومن جهة ثانية شاهدت «ليل وضباب». طبعاً، عندما كنا
نقوم
بجولات، كنا نصادف الغرف الباطونية المحصّنة تحت الأرض. هناك
الجدار الخاصّ
بالأطلسي أيضاً. ترافق هذا كلّه مع تصدير سيارات فولكسفاكن وآلات «ميال»
الخاصّة
بالغسيل إلى فرنسا». في باريس، «بدأتُ النضال مع اليساريين ضد الحرب في
الجزائر،
كأن الأمر يعنيني، بتوزيع سرّي لـ «السؤال» لهنري آلّيغ. هذه
كــانت «ألمانيتــي»
في تلـك الفترة».
ذات يوم، كتب شلوندورف أن «لا شيء يُشير إلى أن يوماً ما
سيأتي، أتخلّى فيه بشكل كامل تقريباً عن ثقافتي كي أتبنّى ثقافة فرنسا».
تأتّى هذا
الأمر من صدمة مشاهدته «ليل وضباب»، ومن النقاشات التي أثارها الفيلم: «في
الواقع،
كان التلامذة أقلّ اهتماماً من آبائهم، الذين طرحوا عليّ
جميعهم الأسئلة»،
المتعلّقة بالهوية والانتماء، وأسئلة أخرى يشعر المرء معها، أحياناً، بأنه
محاصر: «عندما ينكشف المشهد أمامك كـ «عقبة منيعة»،
يُصبح الهروب غالباً ردّ الفعل الأبسط،
وربما الأسلم. أن تهرب، بالنسبة إليّ، يعني أن تتماثل ونقطة
تُصبح فيها غير ألماني
(...).
في الولايات المتحدّة الأميركية، في نهاية القرن التاسع عشر، أكثر من
أربعين
بالمئة من المهاجرين كانوا ألماناً، (لكنهم) لم يتركوا أي أثر جرماني هناك.
بدّلوا
أسماءهم من مولّر إلى ميلر، ومن شميدت إلى سميث. في وقت ما، أدركتُ أني
كلّما سعيت
إلى التماثل، عدتُ ألمانياً. هنا قرّرت إنجاز أفلام». واعتبر
أن فيلمه الأول «اضطرابات
التلميذ تورليس» (1966) ألماني جدا، بينما يضطلع «الطبل» (1979) بشيء من
التوحّش».
غير أن عودة المخرج الألماني إلى بلده تزامنت وأعواما سياسية جداً.
قال شلوندورف إن الجميع يتحدّثون عن 1968 دائماً: «في بداية الستينيات، بدأ
كل شيء.
السينمائيون الألمان الشباب، الذين ظهروا
في فترة 1965 ـ 1966 في الوقت نفسه معي،
كتبوا في العام 1960 «بيان أوبرهاوزن»، الذي أكّد أن أفلامنا
يجب أن تتحدّث عن
ماضينا وأهلنا وحالة مجتمعنا. في الوقت نفسه، انطلقت في ألمانيا الدعاوى
القضائية
المتعلّقة بالمعسكرات. هنا بدأت الأمور تتحرّك. أكّد «بيان أوبرهاوزن» أن
«سينما
الأب» ماتت. كانت حركة قتل الأب علانية. عندما أقمت في باريس،
كنتُ أعود (إلى بلدي)
في كل صيف، لتمضية العطلة. كنتُ أشعر بأني مسيّسٌ أكثر من الآخرين. لم يفهم
الألمان
أنه يمكن للمرء أن يكون يسارياً من دون أن يكون شيوعياً: إن تحديد ألمانيا
الغربية
كامنٌ في مواجهتها ألمانيا الشرقية (فقط)؛ ولمن كان يحمل
أفكاراً يسارية، كانوا
يُردّدون: «إذا لم تكن مسروراً، إذهب إلى الجهة الأخرى». كنتُ مذهولاً جداً
لتصنيفي
بـ «يساري متطرّف». مع «تورليس»، ذهبت للمرّة الأولى إلى الشرق. سافرتُ إلى
موسكو،
وطبعاً إلى «جمهورية ألمانيا الديموقراطية». زرت قبر لينين
وطرّادة (سفينة حربية
للمواكبة والاستكشاف) «أورورا»، لكني عثرت على الحقيقة الاشتراكية المخيفة.
في
الواقع، لم يرغب اليسار الثقافي الألماني، فعلياً، في تحقيق الاشتراكية.
النقابيون
خاضوا معاركهم طبعاً، لكن المثقفين دافعوا عن أفكار لا يريدون
رؤيتها مطبّقة. هذا
كلّه لم أدركه إلاّ بعد سقوط الجدار».
سقوط الجدار
عن كيفية عيشه لحظتي
سقوط الجدار وإعادة التوحيد، قال شلوندورف: «بعد فشل «حب سوان» (1984)،
باتت فرنسا
أرضاً محروقة بالنسبة إليّ. انتقلت إلى أميركا، وحقّقت «موت
وكيل متجوّل» (1985).
شعرت بأني مرتاح جداً في الولايات المتحدّة، إلى درجة أني أقمت في نيويورك.
في
العام 1989، كنت في الطائرة مسافراً من نيويورك إلى بوسطن عندما أعلن
ربّانها سقوط
الجدار. صفّق الركّاب، مع أنه ليس جدارهم. في الفندق، بمشاهدتي الصوَر
الأولى على
الشاشة الصغيرة، اختبرتُ شعوراً وطنياً قوياً للغاية، لم أفكّر
أبداً في قدرتي
عليه. طرحت سؤالاً على نفسي: ماذا تفعل في نيويورك؟ الأعمال البطولية توجد
عندما
يلتقي التاريخ، مع حرف «تاء» كبيرة، الطرفة الفردية. أستطيع القول إني عرفت
هذا
مرّتين: في فارن مع «ليل وضباب»، ومع سقوط الجدار. ادّعيت
دائماً أن الجدار ليس
مشكلة، وأن ألمانيا منقسمة إلى دولتين، وأن هذا لا يستحقّ إعطاءه أهمية
مُبَالغاً
بها. داخل العائلات، في المدارس والكنائس، كانوا يتحدّثون بشفقة عن «إخوتنا
وأخواتنا المساكين في الشرق، المضطَهَدين بسبب ديكتاتورية
مرعبة». هذا كلّه كان
يثير الضحك فيّ. أدركتُ أن السينما الألمانية الجديدة، بين العام 1965
وسقوط
الجدار، لم تتناول تقسيم ألمانيا أبداً. لم يكن أحدٌ يرى تقسيم البلد
والجدار
الضخم. بعد سقوط الجدار، دامت الغبطة بين ثلاثة وأربعة أعوام.
كان هناك اعتقادٌ أن
الناس جميعهم سيصبحون إخوة، ما إن يتوحّدوا مع بعضهم البعض. الصدمة
المعاكسة حدثت
في منتصف التسعينيات، عندما انتبه الجميع إلى وجود رابحين وخاسرين، وإلى أن
الخاسرين، لوهلة أولى، هم الألمان الشرقيون، ليس لأنهم كانوا
يعيشون بحرية، بل
لأنهم كانوا «في صحّة اقتصادية جيّدة». عاطلون عن العمل، كانوا يربحون أكثر
من
السابق عندما كانوا يعملون. لكن الارتياح لا يُقاس بالقيم المادية. هناك
تقدير
الآخرين لهم أيضاً». وأشار إلى أن الغربيين تعاملوا سريعاً مع
الآخرين «كمواطنين من
الدرجة الثانية». فجأة، وفي خلال خمسة أعوام تقريباً، «أصبح شرقيون كثيرون
متوترين.
وكي يُزعجوا الغربيين، كانوا يردّدون أن
الماضي أفضل. بسرعة كبيرة، بدأوا يصدّقون
هذا الأمر».
وعمّا إذا اندمل الجرح اليوم، قال شلوندورف: «للجدار قسوة في
الرؤوس. يُمكن القول إن سبعين بالمئة من الشعب يرى أن عملية
إعادة التوحيد نجحت.
لكن إحصاء حديثاً أشار إلى أن هناك سبعة وأربعين بالمئة من الناس يعتقدون
أن الماضي
أفضل. هذا رقم مُقلِق. في زمن الاشتراكية، كانوا يحسبون أنفسهم أفضل تلامذة
للاتحاد
السوفياتي. كانوا أبطال الاشتراكية بمفردات النخب الرياضية
والإنتاجية. إنهم يبحثون
اليوم أيضاً عن شرفهم الضائع. إنها الحكاية نفسها دائماً».
كلاكيت
مساحتان للفوضى
نديم
جرجوره
استاء عزت أبو عوف،
لأنه لم يعثر على فيلم مصري واحد «يليق» بـ «مهرجان القاهرة السينمائي
الدولي».
ردّد كلاماً قيل سابقاً في إدارة هذا المهرجان، عشية كل دورة سنوية. قال إن
الأفلام
المصرية الجيّدة تشارك في مهرجانات دولية. قال إن مأزق مهرجان القاهرة، منذ
أعوام
عدّة، كامنٌ في غياب فيلم «يمثّل» مصر في مسابقته الرسمية،
الدولية أو العربية. إنه
منزعج. أسلافه انزعجوا من هذه المسألة أيضاً. لكن أحداً منهم لم يشأ
الانتباه إلى
الوجه الآخر للمشكلة.
الكلام مهم ودقيق. صناعة السينما المصرية تعاني أزمات
عدّة. الأفلام المهمّة، شكلاً ومضموناً، قليلة. يُفضّل صانعوها الذهاب بها
إلى
مهرجانات أرقى وأكبر. هذا حقّهم. السبب واضحٌ: بهتان مهرجان القاهرة،
واهتزاز
مكانته. لا يريد مخرجون مصريون عديدون «التورّط» في مهرجان
مرتبك، تسوده الفوضى،
ويعمّه الخلل في كل شيء. لا ينتبه مدراؤه إلى أن المأزق ضاربٌ في المهرجان
بقوّة.
إلى أن المهرجان نفسه لا يليق ببعض الأفلام
الجدّية، التي يصنعها مخرجون شباب، أو
سينمائيون حاضرون في المشهد الإبداعي العربي منذ سنين مديدة.
يصبّ المدراء غضبهم
على الصناعة السينمائية، ويتجاهلون الأخطاء (هل أقول الخطايا) المرتكَبة
بحقّ
المهرجان وتاريخه الذاوي. إنهم مسؤولون عن تفريغه من محتواه الإبداعي، وعن
سلخه عن
ذاكرته وذاكرة السينما العربية وقضاياها وسجالاتها المشوّقة.
لا يختلف عزت أبو
عوف وسابقوه عن محمد الأحمد. «المؤسّسة العامة للسينما» في دمشق صرحٌ منيعٌ
أمام
التجديد العصري والانفتاح الإبداعي. «مهرجان دمشق السينمائي
الدولي» بدا مترهلاً
منذ أعوام عدّة، لكن الشيخوخة أصابته في مقتل عندما بات سنوياً. له، مع
مهرجان
القاهرة، ذاكرة عريقة وتاريخ حافل بالتبدّلات والمعارك المنتصرة للحرية
والتغيير
والتواصل مع شؤون العصر وقضايا الناس. «المؤسّسة» نفسها شاركت
في كتابة فصل جوهري
من هذين التاريخ والذاكرة. المشهد اليوم موغل في العتمة. سينمائيون سوريون
منفضّون
عن المؤسّسة ومهرجانها. شباب طامحون يجدون مبتغاهم خارج هاتين الأداتين
القاتلتين
إبداعاً وتحرّراً. إنهما واجهة «ثقافية» لسياسة ثقافية
مدمِّرة. ذلك كلّه واضحٌ في
مسارهما. لكن خطوة إيجابية تميّز مهرجان دمشق عن زميله المصري: الاستمرار
في إصدار
كتب سينمائية مؤلَّفة ومترجمة، وإن بدت الترجمة مرتبكة أحياناً، وإن ظلّت
الطباعة
انعكاساً لآلية العمل الثقافي في ظلّ الأنظمة الشمولية.
بات المهرجانان المصري
والسوري متزامنين تقريباً في تنظيم دورات سنوية. لكن المنافسة بينهما
موجودةٌ في
الاستسهال والتسطيح، بدلاً من البحث الجدّي عن وسائل تطويرهما وتفعيل
حضورهما في
المجتمع والثقافة السجالية والإبداع الحرّ. باتا مساحتين
للفوضى، تنظيماً وهوية
وانتماء ثقافياً وفنياً. الشيخوخة مآل. لكن الشباب قدرٌ لمن يسعى إليه.
المهرجانان
متمتّعان بشيخوخة مريضة ونكدة، ومتجاهلان معنى النبض الشبابي الحيّ في زمن
التحوّلات الدائمة.
إنهما محتاجان إلى تأهيل جذري ينفض عنهما العفن المتجذّر
فيهما، ويصنع منهما فضاءين حقيقيين للإبداع.
كتــاب
فولكر شلوندورف: «على
قرع الطبل»
لا شكّ في أن إقدام
فنان على كتابة سيرته الذاتية، دعوة مفتوحة للقرّاء إلى معاينة تاريخ
وحالات
وتحوّلات. والفنان، إذ يجعل حياته مرآة للذات والجماعة معاً،
يتجوّل في أروقة نفسه
وعالمه الخاصّ، مستعيداً التأثّرات التي تلقّاها والتأثيرات التي أحدثتها
نتاجاته
المتفرّقة.
المخرج السينمائي الألماني فولكر شلوندورف (70 عاماً) قدّم سيرته في
شكل مذكّرات، بعنوان «على قرع الطبل»، صدرت باللغة الفرنسية في
23 أيلول الفائت عن
المنشورات الفرنسية «فلاماريون». و«الطبل»، عنوان فيلم سابق له منحه شهرة
واسعة،
بعد أن نال بفضله «السعفة الذهبية» من مهرجان «كان» في العام 1979 وجائزة «أوسكار»
أفضل فيلم أجنبي في العام التالي، في حين
أن مشهده الأخير ألهم صانعه السينمائي
مناخاً عاماً لنص ممتد على 430 صفحة، جعلها امتداداً لآرائه
وانفعالاته ومواجهاته
ونتاجاته.
اختزل في كتابه هذا خمسين عاماً من العمل السينمائي، أنجز فيها
ثلاثين فيلماً «ظننتُ أني قلتُ كل شيء أريد قوله فيها»، قبل أن
يعثر في أوراقه
الخاصّة ويومياته والصور الفوتوغرافية الكثيرة المحتفظ بها في خزائنه «على
ما تمّ
تمثيله بين المشاهد» وليس فيها. وأثناء الرحلة هذه، يلتقي القارئ إرنست
لوبيتش
وفرتز لانغ وجاين مورو وآلان دولون وكوانتين تارانتينو وغيرهم،
و«استعادات حميمية
عن أصدقاء وكتب ونساء وبلدان وشكوك وأفراح».
السفير اللبنانية في
29/10/2009 |