هل يمكن ان تتجسد القصيدة؟ وهل تستطيع الصورة التعبيرعن دواخل شاعر تلاطمت
في قلبه الكلمات؟ خطرت لي هذه الاسئلة قبل مشاهدة الفيلم العماني "سماء
متحركة" وهو عن قصيدة بنفس الاسم للشاعر عبد الرزاق الربيعي والقصيدة عبارة
عن محاورة تخيلها الشاعر بينه وبين الشاعر مالك بن فهم والشاعر وظف اسم
مالك لما له من تشابه مع تجربته في الغربة والترحال خصوصاً انه هاجر من
بلاد اليمن الى عُمان وهو نفس المسار الذي سلكه الشاعر لذلك فقد أسقط
الشاعر تجربته على تجربة مالك بن فهم الأزدي وقد شارك الفيلم في مهرجان
مسقط السينمائي للأفلام القصيرة الذي أقامته الجمعية العمانية للسينما, مدة
عرض الفليم 11.5 دقيقة تمضي بسرعة وأنت تتابع الفيلم بسبب الالقاء الجميل
للشاعر والموسيقى التي كانت تتخلل ذلك الالقاء والصور المتزامنة معهما.
أخرج الفيلم حميد بن سعيد العامري ومن تصوير سعيد بن حميد العامري ومونتاج
ورد بين حميد العامري وهي التجربة الثانية لهذا الفريق مع الشاعر فقد سبقه
فيلم "مدن تئن وذكريات تغرق" عن قصيدة له بنفس الاسم. يبدأ الفيلم بلقطة
جميلة جدا للشاعر وهو يظهر من خلف التلة القريبة للكاميرا وكأنه يظهر من
العدم ثم مع اقترابه من الكاميرا يبدأ جسمه بالظهور بشكل تدريجي وهذه
اللقطة من أجمل لقطات الفيلم وتشعر عندما تشاهدها بأنك أمام فيلم سيشدك
بلقطات على غرار لقطة البداية، ولكن للاسف لم تكن اللقطات التالية بمستوى
تلك اللقطة. من الواضح أن الفيلم صنعه هواة محبون للسينما أرادوا عمل شيء
جميل رغم صعوبته فالقصيدة دائمًا ما تكون عصية على التجسيد فهي ترتبط بخيال
الكاتب وتصل الى مخيلة المتلقي وهو يرسم صورها بنفسه في مخيلته وهي
بالتأكيد صورة لايمكن اسقاطها على الواقع، لذلك فمهما حاول المخرج وكاتب
السيناريو والمصور الاقتراب من تلك المخيلة فهم بالتأكيد يخفقون وهذا سر
سحر القصيدة فاذا استمع اثنان لذات القصيدة مثلا يستحيل ان تتطابق مخيلتهم
لما توحيه لهم تلك القصيدة، هذا امتحان صعب يتهرب منه كبار المخرجين، لكن
هناك ملاحظات أرى من الواجب علي تنبيه جنود السينما العمانية عليها.
كان يجب على المخرج والكاتب خلق خط درامي موازٍ للقصيدة وعدم الاكتفاء
بالصور المعبرة عن روح القصيدة بخطوطها العامة وحبذا لو كان هناك ممثل الى
جانب الشاعر يمثل شخصية مالك بملابسه التي تعبر عن حقبته التاريخية ليختفي
ويظهر حسب المبنى الدرامي للقصيدة "خصوصا ان بناء دراما لشخصين اسهل بكثير
من شخص واحد" ولا أعتقد ان هناك سيناريو مكتوب تحرك على أساسه فريق العمل
لذلك تحس في بعض اللقطات أن الكاميرا تركت على عفويتها تلتقط ما تراه
أمامها وبدون تحديد وطبقا لخطة مسبقة فطالت المدة الزمنية لتلك اللقطات
بحيث يترك المشاهد الصورة الجامدة تقريبا ويتجه بكل تركيزه الى الصوت
والقصيدة وهنا تفقد الصورة وظيفتها التي هي التمازج مع الصوت والتعبير عنه
ومن الصعوبة بمكان اعادة انتباه المشاهد اليهما معا لذلك فالمشاهد في كثير
من الاحيان يتشتت في التركيز فاذا ركز على الصورة فقد الصوت وكذلك بالعكس
لأنهما لم يكونا على خط واحد ولم يكمل أحدهما الاخر سوى في بعض المشاهد.
هذه معادلة على المخرج الحذر منها بشكل كبير فخط الصورة في السيناريو يجب
ان يحسب بدقة مع خط الصوت مجسدًا اياه ومعبرًا عنه مع مراعاة مدة اللقطة
ومحاولة تقصيرها لان العين تمل من اللقطة التي تطول مدتها مهما كانت جميلة.
وملاحظة مهمة أخرى اننا شاهدنا الشاعر يتنقل في الصحراء بلا هدى و اللقطات
كانت لقطات عامة قريبة تمنيت ان تكون هناك لقطات عامة بعيد جدًا بحيث يكون
صغيرًا جدًا في أسفل الكادر فهذه لقطات معبرة عن التيه والضياع اكثر، كما
اننا شاهدناه في الصحراء فقط مع انه كان يتحدث عن اسفاره وتنقلاته "من خلال
مالك" فحبذا لو كانت هناك لقطات له وهو في المطار مثلا او بين زحام الناس
بملابسه المختلفة عن ملابس الجموع لتاكيد غربته أو تصويره ينظر الى النافذه
من داخل السيارة المسرعة بحيث تتحرك الشوارع أمامه وهكذا كان بالامكان
ادخال لقطات كهذه او مشابهة لها لتاكيد الاسقاط على ذاتية الشاعر ولكسر
الملل الذي قد ينجم من تكرار اللقطات في مكان مفتوح كالصحراء فتصوير
الاماكن المغلقة يخلق تنويع في الصورة ولتعزيز المقارنة بين مالك وبيئته
وبين الشاعروبيئته الداخلية ووسطه الواقعي، وللاسف لا أعتقد انه تم استخدام
ركيزة "ستاند" للكاميرا وأن معظم لقطات الفيلم تم تصويرها بكاميرا محمولة
لذلك كانت هناك اهتزازات واضحة للصورة في بعض المشاهد أفقدتها جماليتها
فالعين تميل الى الثبات والاهتزازات تربكها وتفقد المشاهد التمتع بوهم
المشاهدة المباشرة فذهن المشاهد يلغي اطار الصورة ويحصل عنده الغاء لحقيقة
انه يشاهد صورة متحركة فيتوهم انه يراقب مباشرة والاهتزازات احدى الامور
التي تلغي هذا الوهم وينتبه المشاهد للاطار ويفقد متعة الانغماس في موضوع
الفيلم ومن المؤسف حقاَ أن يسبب أمر بسيط كهذا في اضعاف الصورة والاطاحة
بكل الجهود المبذولة، كذلك لم يراعِ المصور جهات حركة الكاميرا عند
استخدامه لحركة الكاميرا بشكل بانورامي فهي تنتقل من اليمين الى اليسار
وبالعكس بدون خطة مسبقة وهذا بسبب عدم وجود سيناريو دقيق يحدد للمصور من
اين يبدأ واين ينتهي لتسهيل الأمر على المونتير الذي من الواضح أنه واجه
صعوبة كبيرة في دمج اللقطات لذلك لجأ الى طريقة الظهور والاختفاء التدريجي
ليخفف من حدة التنقل بين اللقطات ومع أن هذه الطريقة ادت الغرض منها
فكانت التنقلات ناعمة تتناسب مع ايقاع القصيدة لكن تكرارها قد يسبب الملل
وكان على المونتير استخدام طرق مبتكرة أخرى. وهناك قاعدة مهمة جدا في
المونتاج وهي ان اللقطة غير المعبرة والزائدة تضر بالعمل أكثر من فائدتها
فتردد الشاعر في مسك لجام الفرس في بداية الفيلم أعطى انطباعاً انه يمسك
لجام فرس للمرة الاولى وهذا ينافي الفكرة التي أراد المخرج تأكيدها في تلك
اللقطة فلم نر حميمية بينه وبين الفرس. كذلك ظهور طفل في حافة يمين الشاشة
قبل نهاية الفيلم بقليل اثرت بشكل كبير على البنية الدرامية فكسرت وحدة
الشاعر المفترضة ولقطات مثل هذه مع انها لثوان معدودة قد تنسف العمل برمته
"إن لم يكن لها مبرر درامي طبعا" وعلى العكس من اللقطة السابقة فقد جاءت
اللقطة التالية لها مباشرة وهي لقطة الطائر معبرة جدًا. ففي السينما كل
شيء محسوب بكل دقة ولا يمكن ترك أي شيء للصدفة او العفوية الا ما ندر.
وبالتاكيد جمال الإلقاء وتغيرات الصوت الذكية للشاعر إرتقت بالعمل وأنا
اعترف انني قرأت القصيدة غير مرة لكنني لم اتذوقها كما تذوقتها بسماعها
بإلقاء الشاعر فليس هناك شخص على الارض يستطيع التعبير عن القصيدة الا
كاتبها كذلك الموسيقى كانت جميلة جدا ومكملة ومعبرة عن اختلاجات الشاعر،
لكننا للاسف لم نسمع المؤثرات الصوتية الساحرة مثل صوت الريح في الصحراء "اضيف
صوت الصحراء في مشهد واحد وكان له وقع جميل جدا" أو صوت تلاطم الامواج أو
صوت صهيل الخيول هذه الاصوات تزيد من جمالية الصورة وترتقي بالعمل فهي
أصوات طبيعية خلقها الله تعالى لتكمل سحرها و جمالها فهل تحس بالجمال إن
أنت راقبت البحر باذان صماء؟ هذه اشياء يكمل أحدها الاخر ونحن نشوه الطبيعة
إن أبقينا على أحدها واهملنا الآخر. الفيلم تجربة جميلة واشد على ايدي
الشباب المتحمس الذي تجشم كل هذا العناء لحبه للسينما واعجابة بالقصيدة
وأتمنى أن أرى عملا جديدًا متكاملا وحماسهم ومثابرتهم الواضحين بالتأكيد
سيوصلهم الى مبتغاهم.
mohd10002001@yahoo.com
إيلاف في
26/10/2009 |