عندما تخرج من صالة العرض فور انتهاء فيلم 'عجمي'
تدخل في تخبّط مع الذات حول ما اذا اعجبتَ بالفيلم او انّك كرهته، وبعد
التمعّن تصل
الى قناعة فحواها انّ الفيلم من الناحية السينمائية لهو حقًا عملٌ رائع
متقن يجسّد
في طياته علامة مميّزة يبرزها مخرجان اثبتا قدرتهما الاخراجيّة
الهائلة من ناحية
السرد وحبك التفاصيل بشكل ملفت لا يستطيع المرء إلا ان يشيد بدورهما من هذه
الناحية، ولكن، هنالك ملاحظات عدّة ادّت بالمحصّلة النهائية الى كتابة هذه
السطور!!
يتناول الفيلم عدّة روايات فرديّة لأبطال فرديّين تتشابك جميعها بحنكة
سينمائية مفادها المصير المشترك للجميع رغم فرديّتها.
لو أنّ قصّة الفيلم تتحدّث
عن منطقة اخرى غير مدينة 'يافا' أو غير فلسطين التاريخيّة لكان العمل يقتصر
على
انتقادات تقنيّة بسيطة، ولكنّ المشكلة تكمن في اختيار القيّمين على هذا
الفيلم لهذه
المنطقة تحديدًا وحاول ابراز مشاكلها، ولكن، وهذا شعوري، قام
الفيلم، وبقصد، بتجاهل
فكرة الجماعة والمجتمع وركّز على تهميشها وتسليط الاضواء على المعاناة
الفرديّة
فقط، وهذا عندما يدور الحديث حول ذاك العربي الفلسطيني ابن يافا او نابلس
على حدّ
سواء، ولكن، عندما يدور الحديث عن ضحيّة يهوديّة، يبرز العامل
الجماعي والتعاطف
والتكاتف والمعاناة العائليّة (الجماعيّة)، كأنّ بالفيلم ليقول لنا انّ
لليهوديّ
قومًا وجماعة ينتمي اليها، أمّا ذلك العربي فلا قوم له، وهو عبارة عن كيان
مستقل لا
رابط له بقوم، وكلّ ما قد يعانيه عبارة عن معاناة فرديّة يحلّها، إن
استطاع، بشكل
فردي.
لا ينكر المرء أو يتنصّل من المسؤوليّة انّنا كفلسطينييّن داخل اسرائيل
لنا مشاكلنا، ولنا دور اساس في تراكمها وعدم الخروج منها، ولكن
الفيلم لا يبرز دور
المؤسسة الاسرائيليّة فيها، من الناحية التاريخيّة من تشتيت وهدم وقتل وطرد
ومصادرة
للأرض والعقل، ومن الناحية المعيشيّة من تضييق وممارسات يوميّة خانقة من
الناحيتين
الاقتصاديّة والسياسيّة. الفيلم ببساطة لا يتناول هذه الامور التي تشكّل
عاملاً
اساسيّاً للوضع الاجتماعي البائس الذي تعاني منه الاقليّة
العربيّة في النقب
والمثلّث والجليل، وإن شئنا وعلى وجه الخصوص منطقة يافا واللد والرملة؛
الاسوأ من
ذلك انّ الفيلم يتعمّد تجميل صورة المؤسسة الصهيونيّة ودولة اسرائيل
بابرازه
'الانسانية'
الشرطة والشرطيين في تعاملهم بتساوٍ بين جميع المواطنين، فها هي الشرطة
تحاول تخليص حي 'العجمي' في يافا من تاجر سموم يبيع اهالي الحي ممّا لديه
من
مخدرات، ولكن اهل الحي يحولون دون ذلك بفعل مقاومتهم العنيفة
الهمجيّة لكي يحرّروا
هذا المجرم، ابن الحي، من قبضة الشرطة 'الانسانيّة'، وعندما يستغرب شرطيّ
ما من
فعلة اهل الحي بقوله انّ جلّ ما تريده الشرطة هو تنقية الحي من هذا الخارج
عن
القانون لما فيه مصلحة للحي وأطفاله، يجيبه آخر بأنّ 'العرب'
يكرهوننا، هكذا فقط،
يكرهوننا، وهذا الامر لا يتصل بالواقع البتّة، فنعم تكره الاقلية
الفلسطينية شرطة
اسرائيل، ولكن واقع هذه الكراهية يختلف تمامًا عمّا حاول الفيلم تصويره،
فواقعنا
المعيش يثبت مرارًا وتكرارًا انّ شرطة اسرائيل هي شرطة قمعيّة
همجيّة تضع كامل
عنفها على الاقلية العربية عندما يتعلّق الامر بقضايا 'أمن الدولة'، وتترك
هذا
العربي ليموت بعالمه ومشاكله من غير ان تمدّ يد العون بصفتها شرطة ذات واجب
تجاه
المواطنين، وهنا تحديدًا تكمن الكراهيّة، فهي كراهية ذات معنى،
فالشرطة بفعلها
اليومي معادية للأقليّة الفلسطينيّة، وترى بها خطرًا يهدّد امن الدولة،
وتعاملها
على عكس ما وجب، ولا تقدّم لها الخدمات التي على الشرطة ان تقدّمها
للمواطنين
بتساوٍ، وهذه الامور قام القيّمون على الفيلم بعكس واقعها
وابراز الشرطة على انها
الحامي الذي يقوم بدوره على اتمّ وجه، وهنا يجب التنويه الى انّ الاقليّة
العربية
في اسرائيل بمجملها لا تكره شرطة او جيش اسرائيل هكذا فقط لأجل الكره،
وإنما تكرههم
نتيجة الممارسات اليوميّة البطشيّة التي تمارس بحقّهم في العيش
الكريم.
قضيّة
اخرى يثيرها الفيلم، وهي بعيدة كلّ البعد عن الواقع، هي محاولة تصوير
العربي كهمجيّ
قبالة اليهوديّ المؤدّب الراقي، فها هو الجار اليهودي يأتي
وبصورة مؤدّبة وخلوقة
ليطلب من جيرانه العرب ان يجدوا حلاً للماعز الذي يربونه في الحي لأنه لا
يستطيع
النوم من صوته المزعج ليلاً، فنرى العرب، وتحديدًا صاحب تلك الماعز،
يقتادونه الى
جدل وسجل يؤدي بهم في نهاية المطاف الى شجار دامٍ يكون هذا
اليهودي فيه وحيدًا لا
حول له ولا قوّة قبالة العديد من العرب 'الهمجيّين' الذين ينهالون عليه
بالضرب، ومن
همجيّتهم لا يكتفون بالضرب، بل يطعنه احدهم بالسكين في قلبه ليرديه قتيلاً
فنرى من
بعد هذا المقطع اكثر المشاهد انسانيّة في الفيلم حين تبكي الابنة على
الضحيّة ابيها
وتتألّم على فقدانها اياه، فلا كلام ولا نقد على هذا المشهد الانساني،
ولكنّ
الانتقاد يكمن بالفكرة العامّة التي تتكرّر بمشاهد الفيلم
المختلفة، فحين تكون
الضحيّة عربية لا نجد دورًا لعائلة الضحيّة ولا تبرز مشاعر الالم عندما
تفقد الام
ولدها مثلاً، على عكس الضحيّة اليهوديّة التي يركّز الفيلم، وبشكل مبالغ
فيه، على
مشاعر العائلة التي تحتضن هذا الابن وتتفكّك وتتعطّل عن الحياة
لمجرّد غيابه، فها
هو الجندي المفقود قد قلب كيان عائلته من الام والاب والاخت والاخ حسرة على
فقدانه،
بينما هذا العربي المقتول غدرًا (وليس من المؤسسة الحاكمة) أو الهارب من
واقعه أو
البعيد فلا نجد ايّ رابطًا اسريًا له ولا عاطفة تحوم من حوله خوفًا عليه أو
أسفًا
على شبابه المفقود، بل يركّز الفيلم على شخصيّته فقط ويقودنا لأن نتعاطف
معه كفرد
فقط وليس كفرد من مجموع، وهذا التهميش المتعمّد للكيان
الفلسطيني ككيان وجماعة يثير
الغضب والكثير من التساؤلات حول نوايا الفيلم، فبالله عليكم كيف للمرأة
النابلسيّة
الراقدة بمشفىً اسرائيليّ ان تبعث لولدها 'مالك' تحيّة عيد ميلاده بفيديو
مصوّر وهي
تقرأ الكلام عن ورقة؟!! أيعقل هذا؟ ألا تملك هذه الأم قليل من الحنين
داخلها
ليعفيها من هذه الرسميّات بينها وبين ولدها؟!
المشكلة انّ هذه الامور تتكرّر
وتتكرّر فتهمّش انسانيّة الفلسطيني وتبرز انسانيّة اليهودي بشكل مبالغ فيه،
فحتّى
عندما تدخل الشرطة الى منزل 'بنج' لتبحث عن الكوكايين الذي ابقاه اخوه
الهارب من
القانون عنده، تتعامل معه بمهنيّة مثاليّة لا تمتّ للواقع
المعيشيّ بصلة، فالشرطة
الاسرائيليّة، ومن تجاربنا التاريخيّة معها، لا تبخل بتعذيب الاقليّة بل
تفرط
بوحشيّتها تجاهها، فكم من فلسطيني قُتِلَ بدمٍ بارد أو بطلقة من يد شرطيّ
اسرائيليّ
أو عسكريّ في الجيش قالوا بعدها انّها فعل بدافع الخطأ ولا
مكان لمحاسبة
الفاعل؟!
وهنا المضحك المبكي في آن، فعندما وأخيرًا اعتقدت انّ الشرطي 'دندو'،
وهو أخ الجنديّ المفقود الذي وجد لاحقًا مقتولاً في أحد احراش
نابلس كاشارة الى انّ
هذا الفلسطينيّ قتل ذاك الجندي من غير ايّ اشارة الى انّه هنالك احتلال
وانّ
الفلسطينيّ يعيش في ظلّه الخانق تحت القمع والقتل والتنكيل، فعندما اعتقدت
انّه قتل
الشاب الفلسطيني ابن السادسة عشر 'مالك' عندما رأى ساعة شقيقه
الجندي المقتول في
يده، رغم فظاظة وألم المشهد إلا انّي سعدت لهذا المقطع لطرحه واقعًا نلمسه
يوميًا
وهو القتل من دافع الانتقام، فهذا الشرطيّ اخيرًا قام بدور وحشيّ وقتل
الفلسطينيّ
بدم بارد فقط لأنه يكره فكرة وجود فلسطينيّ وما يحمله من خطر وهميّ يهدّد
كيانه.
لو تمّ فعلاً هذا المشهد بهذه الصورة لما كتبت هذه السطور، فهذا المشهد
كان ليكفيني لأشفي غليلي من واقع نعيشه يوميًا ويتكرّر بوتيرة
عالية ما دامت
الايّام تمضي بوجود الاحتلال والسياسات القمعيّة الاسرائيليّة، إلا انّ
سعادتي
المؤلمة لهذا الواقع المرير دمّرتها نهاية الفيلم حيث اتّضح انّ 'مالك' لم
يُقتَل
وإنّما هذا الشرطي الاسرائيليّ الذ ي يرفع السلاح بوجهه يهدد،
هوَ هوَ من قُتِل على
يد 'نصري' الصغير فكان الشرطيّ ضحيّة تراكم الاحداث التي وصلت بنا الى هذه
النهاية،
فحتّى هذه النقطة التي كانت ستقودني الى نوع من راحة البال لم أهنأ بها ولم
تنفّذ،
وبقي الفلسطينيّ ضحيّة فرديّة لواقع أليم لا دخل لاسرائيل
بفرضه، وبقي الاسرائيليّ
اليهوديّ هو الانساني الذي له بيت وعائلة يشاركونه ويشاركهم الألم الجماعي،
عسكريًا
كان او مدنيًا.
رأيت بأن اكتفي بهذا القدر من طرح نقاط تناولها الفيلم فأثارت
حفيظتي، رغم انّ هنالك العديد من النقاط الاخرى اخترت ألاّ
اطرحها كي لا اطيل اكثر،
ولكن وللختام اقول انّ هذا الفيلم كان ليشرّف دولة اسرائيل في المحافل
العالميّة
عند حصده لجوائز عدّة، ولم لا؟ فهذا الفيلم في المحصّلة النهائية فيلم رائع
في
مستوى السيناريو والاخراج، ولكنّه في الاساس يجمّل صورة
الاحتلال وسياسة القمع
والاضطهاد وعدم المساواة عندما يقصد ان لا يتناولهم في طيّاته، فيعكس صورة
غير
واقعيّة عن اسرائيل ومؤسّساتها، صورة غير واقعيّة لوحش واقعي.
ملاحظة لا بدّ
منها:
عندما رُشّح فيلم 'الجنّة الآن' للمخرج هاني ابو اسعد ابن مدينة
الناصرة لجائزة 'الاوسكار' كأفضل فيلم اجنبي، عملت دولة
اسرائيل بكلّ ثقلها لكي
تمنعه وفلسطين من هذا الشرف، وهذا ما تمّ رغم تناول الفيلم العديد من
القضايا
الانسانيّة التي تجول في افكار ذلك 'الارهابي' الفلسطيني الذي يسير في
طريقه لينفّذ
عمليّة انتحاريّة. أمّا بالنسبة لفيلم 'عجمي'، تتقدّم به دولة
اسرائيل على اساس
انّه من اعمالها القديرة المشرّفة، فلولا انّه جسّد واقعًا حقيقيّاً لما
تحمّست له
مؤسّساتها بل حاربته كما فعلت مع فيلم 'الجنّة الآن' تحديدًا، ومن هنا
نقارن ونفهم
ما يقصد الفيلم ان يفهمنا عكسه.
ملاحظة ختاميّة:
انتقاداتي اعلاه
تقصد سيناريو الفيلم وما يستتر من خلفه، وهنا رغم كلّ الانتقادات وجب عليّ
ان اشيد
بدور ابطال الفيلم الذين لا يملكون اي تجربة سينمائية سابقة،
وهذا العامل وبأدائهم
الرائع جعل من هذا الفيلم علامة مميّزة في صناعة السينما، فأنا لست من دعاة
مقاطعة
الفيلم وإنّما العكس، فهو حقًا عمل مميّز وراقٍ في المستوى السينمائي،
ولكن،
وللوقوف على الملاحظات التي ذكرتها في هذه السطور وملاحظات
اخرى لم اذكرها، أرى
انّه من المهم مشاهدته والتدقيق في تفاصيله لمعرفة المستوى الرائع بتشويه
الحقيقة
الذي وصلت اليه اسرائيل!!!
القدس العربي في
21/10/2009 |