واجهت صناعة السينما في العراق بدايات متعثرة منذ ظهور فيلم «عليا وعصام»
عام 1947م تمثيل إبراهيم جلال وعزيمة توفيق وهو الفيلم الذي أنتجه استوديو
بغداد، وثبت تورط هذا الاستديو مع المنظمة الصهيوينة العالمية، وأعقبه فيلم
«فتنة وحسن» عام 1955م لحيدر العمر الذي يعتبر أول إنتاج عراقي خالص، ليبلغ
عدد الأفلام العراقية المنتجة حتى سقوط النظام السابق سنة 2003م «99»
فيلماً بحسب بعض الإحصائيات.
وجاء ما بعد السقوط وتدمير البنية التحتية بالكامل في العراق -بما فيها
مؤسسة السينما والمسرح- لتبدأ مرحلة العراق الجديد، فما هي أسباب ضعف
الصناعة السينمائية العراقية مقارنة بفنون أخرى كالمسرح الذي يعتبر الأبرز
في المشهد العربي؟ وما هي الآفاق المستقبلية لصناعة السينما في العراق..
«الحواس الخمس» التقى خبراء السينما من العراقيين المشاركين في مهرجان
الشرق الأوسط السينمائي الدولي في أبو ظبي وكانت هذه الأطروحات ..يرى
الناقد السينمائي العراقي انتشال التميمي أن القطاع الخاص كان المحرك
الأساس والأول للإنتاج السينمائي في العراق، وأن الإنتاج الحكومي أتى
متأخراً لأسباب متعددة، ويعتقد أن البداية الحقيقية للسينما في العراق كانت
مطلع الخمسينات من القرن الفائت مع أفلام «سعيد أفندي» و«من المسؤول» وبعض
الأفلام الأخرى التي قدمت مواضيع عراقية بحتة.
ولا يتفق التميمي مع الرأي القائل ان وصول حزب البعث للسلطة عام 1968م قد
قضى نهائياً على أي فرصة لظهور سينما حقيقية في العراق، لوجود بعض الأفلام
التي أنتجت آنذاك وكانت تشكل محطات فنية مهمة بتاريخ السينما كفيلم
«الضامئون» لمحمد شكري جميل، وفيلم «المنعطف» لجعفر علي، ويضيف: لقد بدأ
تدخل النظام السابق يزداد شيئاً فشيئاً مع نهاية حقبة السبعينات، فتم تقييد
الحريات والتدخل في جميع تفاصيل العمل السينمائي، والسينمائي دون حرية لا
يمكن أن ينجز أو يصنع فيلماً مما يفخر به.
وتأتي مرحلة ما بعد حرب الخليج الثانية بين أعوام 1991-2003م؛ ويشدد العالم
حصاره على الشعب العراقي، يقول التميمي عن تلك المرحلة: لقد توقفت العملية
السينمائية بصورة كاملة، حيث منعت الأمم المتحدة حتى دخول مواد تحميض
الأفلام بحجة أنها مزدوجة الاستعمال، وبعد سقوط النظام أتيحت لي الفرصة
للاطلاع على التجارب الجديدة أثناء تحكيمي في مهرجان العراق الدولي للفيلم
القصير، وكانت تجارب واعدة تبشر بخير، أما آفاق ومستقبل السينما فلم تتكامل
ملامحه لغاية الآن، فالاحتلال وتدمير البنية التحتية للوطن والخراب وعدم
نضوج التجارب السابقة كما ينبغي وعدم توفر الدعم وعشرات من الأسباب؛ باتت
عقبات قاتلة للطموح السينمائي.
كما أننا يجب أن نعترف بأننا لا نملك تقاليد سينمائية حقيقية، فحتى المنجز
السابق بات كالجثة الهامدة، ومما يجدر ذكره أن أصحاب القرار السياسي
الحاليين في العراق؛ لم يضعوا السينما في حساباتهم -حتى أيام كانوا معارضين
للنظام السابق- لأسباب فكرية وأخرى موضوعية يطول شرحها، وانتقلت لا
مبالاتهم بالسينما والفن بعد استلامهم السلطة، ويجب أن تفكر الحكومة
الحالية وما يعقبها بأن السينما والكتاب والمسرح وغيرها من أدوات الفعل
الإنساني الحضاري توازي أهمية الدبابة التي تحرس الحدود وأن دور
السينمائيين في بناء الوطن والنهوض لا يقل أهمية عن غيره، وهناك تجارب
لشعوب ودول تثبت هذا المنطق.
وحول ما أنتج بعد عام 2003م؛ يقول التميمي: لقد استمر العديد من
السينمائيين العراقيين الذين هاجروا خارج العراق في العقود الثلاثة الماضية
بمواصلة تجاربهم السينمائية عبر التمويل الذاتي أو الاعتماد على جزء من
تمويل بعض مؤسسات دول المهجر، ومن أبرز أولئك السينمائيين؛ قتيبة الجنابي،
قيس الزبيدي، ميسون الباجه جي، طارق هاشم، قاسم عبد وقاسم حول، وقد بدأ
هؤلاء السينمائيون بالعودة لوطنهم المحطم برحلات أشبه بالاستطلاع فقاموا
بصناعة بعض الأفلام التي يمكن وصفها ببذرة لا شجرة، وكان أول من بادر
لإخراج فيلم سينمائي بعد سقوط النظام هو المبدع الشاب عدي رشيد في فيلمه
«غير صالح» وهو حالياً بصدد وضع اللمسات الأخيرة لفيلمه «كرنتينا»، وبعده
أنجز محمد الدراجي فيلم «أحلام» الذي تم عرضه في 70 مهرجانا عالميا، ثم
أنجز شوكت أمين فيلم «عبور الغبار»، وتحرك الإنتاج السينمائي بعد ذلك دون
أي دعم إنتاجي حكومي.
ويعتقد التميمي أن إنتاج ما بين 3-4 أفلام سينمائية عراقية -في الوضع
الراهن الذي يمر به العراق- يعتبر علامة مشجعة وإن كانت بعيدة عن الطموح،
ويضيف: لقد تميزت السينما العراقية في السنوات القليلة الماضية -وبسب
الظروف التي يمر بها البلد- بمنجزها في الأفلام الوثائقية كفيلم «العراق
بعدسات مفتوحة» لميسون الباجه جي الذي فاز بجائزة مهرجان روتردام، وفيلم
«16 ساعة في بغداد» لطارق هاشم، وأتوقع أن يكون مسار الأفلام الوثائقية
أكثر ثباتاً عن غيره من المسارات في السنوات المقبلة بعد أن رسخ مخرجو تلك
الأفلام أسماءهم في المشهد السينمائي العراقي والدولي.
ويرى عبد العليم البنا الناقد الفني السينمائي الذي يعمل بقناة السومرية؛
أن الصناعة السينمائية وبداياتها المتعثرة في العراق تكمن في النظرة
الاجتماعية تجاه الفن السينمائي بحد ذاته وعدم تقبل المجتمع آنذاك لصورة
الممثل أو الممثلة والعاملين بمجال الفن تبعاً لرؤية المجتمع الأخلاقية،
على عكس تجارب عربية أخرى -كمصر والمغرب وتونس وسوريا على سبيل المثال-
ويعتقد البنا أن الصراع السياسي بين الأحزاب المتنافسة بعد قيام الجمهورية
العراقية عام 1958م؛ أدى إلى حجب وتأخير عملية النهوض الفني السينمائي
وصولاً لحقبة الديكتاتورية البعثية التي وصلت الحكم عام 1968م فقامت بما
يمكن أن يسمى «ترقيع استنهاض السينما» على أساس أيديولوجي شمولي.
وأضاف: بعد سقوط النظام في 2003م؛ تأمل السينمائيون خيراً في مؤسستهم، إلا
أن واقع الأمور ذهب باتجاه آخر، لأن الهم الثقافي والفني يعتبر آخر هموم
الكيان الجديد للدولة العراقية، وقد استمرت العقدة التي صنعها النظام
السابق أيام التسعينات لغاية هذه الفترة بتحويل مؤسسة السينما والمسرح من
التمويل المركزي إلى التمويل الذاتي، ولم تقدم الدولة الجديدة أي دعم مادي
حقيقي للسينما، فقد تعرضت البنى التحتية للسينما بعد عام 2003م للنهب
والسرقة والتدمير، وجاءت تجارب السينما العراقية الحديثة لمبدعين من داخل
العراق وخارجه لتحرك الساكن في المشهد، وتمارس الضغط على الدولة لتقوم
بدورها في صناعة السينما وعدم تهميش الثقافة، وتحقيق مشروع مدينة الإنتاج
السينمائي الذي طال انتظاره.
ويرى المخرج السينمائي العراقي حميد حداد الذي أنجز 3 أفلام بتمويل ذاتي-
أن الاتجاه الأيديولوجي الشمولي الذي فُرض أيام النظام السابق؛ لا ينفي بأن
السينما العراقية قدمت أفلاماً مهمة على المستوى الفني رغم الاعتراض على
اتجاهها الفكري والسياسي، كفيلم محمد شكري جميل «المسألة الكبرى» الذي كان
ناجحاً بالمقاييس الفنية.
وفيلم «الحارس» لمحمد الجنابي أو «بيوت في ذلك الزقاق» لقاسم حول، ويضيف
حداد: لقد استغل بعض السينمائيين الشباب هامش الحرية الذي أتيح لهم بعد
سقوط النظام؛ لينجزوا أفلاماً بتمويل ذاتي أو بتلقي الدعم من مؤسسات فنية
خارج العراق، كفيلم «غير صالح» لعدي رشيد الذي يعتبر أول فيلم عراقي بعد
2003م، وفيلم «أحلام» للمخرج محمد الدراجي عام 2005م الذي جاب 70 مهرجاناً
دولياً وأخرجه الدراجي في فترة عصيبة تميزت بالقتل على الهوية، وفيلم «ابن
بابل» الذي أخرجه الدراجي وأعتبره علامة فارقة في مسيرة السينما العراقية،
إضافة لمواصلة المخرج قاسم حول بوضع لمساته الأخيرة لفيلمه «المغني»، ونحن
متفائلون بمستقبل السينما العراقية التي بدأت تنهض من جديد وتتجاوز
كبواتها.
البيان الإماراتية في
18/10/2009
مهرجان السينما المستقلة من بغداد إلى أهوار الجنوب
للمنتج السينمائي العراقي عطية الدراجي تجربة فريدة في المشهد السينمائي
العراقي؛ فبعد أن كان عدد دور العرض السينمائي في العراق تناهز 270 داراً؛
لم يبقَ منها بعد سقوط النظام سوى 3 دور عرض في بغداد، فقد تم تدمير بعضها؛
بينما تحولت الدور الباقية إلى محلات تجارية، أما تجربة الدراجي فهي محاولة
فردية في إعادة الروح السينمائية للواقع العراقي، فقام بشراء آلة عرض
سينمائي «35 ملم» وتنقّل مع فريقه في مختلف محافظات الفرات الأوسط والجنوب
العراقي ضمن مهرجان «السينما المتنقلة» الذي أسسه، لعرض الأفلام العراقية
الجديدة على جمهور تلك المحافظات في الهواء الطلق، كما عرضها في معسكرات
الجيش والجامعات والساحات العامة، لإعادة جزء من الثقافة السينمائية
للإنسان العراقي.
يقول الدراجي: حين قمنا بتصوير فيلم «ابن بابل» في بعض مناطق الجنوب؛ لاحت
لي الفكرة بعد أن رأيت فضول الناس واحتشادهم بالمئات حولنا وسؤالهم عن موعد
عرض الفيلم، فقمنا بهذه الخطوة وعرضنا الأفلام بصورة مجانية، لمعرفتي بحب
العراقيين للسينما، وتشكيل نوع من الضغط على المؤسسات الحكومية لدعم
السينما، ووصلنا في جولتنا إلى أبعد نقطة في الأهوار العراقية، وقد كان
أصحاب دور العرض السينمائي في بغداد أيام الستينات يبثون دعايات الأفلام
الجديدة عن طريق بطاقات دعائية ترمى جواً من هيلكوبتر مؤجرة.
وكان المشاهد العراقي حتى الثمانينات نخبويا في اختياره للأفلام التي كان
يشاهدها، فكان يفضل ويشاهد الأفلام العميقة لا السطحية، فأردت بخطوة
«السينما المتنقلة» أن أعيد بعض أيام الزمن الجميل، وقد أدت سيطرة النظام
السابق على الحياة الثقافية العراقية إلى دمار شامل سبق دمار الحرب في
2003م، ونالت السينما نصيبها من ذلك الدمار، فأنتجت أفلاما تصب في زاوية
تمجيد الفرد والحزب القائد وما إلى ذلك من ترهات سياسية كأفلام الأيام
الطويلة والأسوار؛ بل إن فيلما مثل«الملك غازي» الذي أنتج في التسعينات كان
يصب بذات الاتجاه رغم معالجته لشخصية تاريخية، ففي نهاية الفيلم تظهر لقطات
تشير إلى فكرة النظام البعثي بتبعية الكويت للعراق.
ميزانية مفتوحة
حين سيطر حزب البعث على السلطة في العراق عام 1968م؛ حاول منذ البداية
تسخير الثقافة والفنون بما يخدم مصالحه وأفكاره؛ وكانت التجربة الأكثر
مرارة حين وصل «صدام» إلى الحكم بعد إقصاء أحمد حسن البكر عام 1979م، ولعل
أبرز محطات عبادة الفرد وترسيخ نظرية البطل الأسطوري تكمن في فيلم «الأيام
الطويلة» الذي يحكي قصة صدام وكتبه عبد الأمير معلّة مدير مؤسسة السينما
والمسرح يومها.
وأخرجه المخرج المصري -المحسوب على اليسار- توفيق صالح، أما البطل الذي أدى
دور صدام حسين فهو صدام كامل -أحد أقارب الرئيس السابق وزوج ابنته رنا
لاحقاً- وهذا الفيلم هو الوحيد في تاريخ السينما العراقية والعربية الذي لم
تكن له ميزانية بل جاء القرار الرئاسي ميزانية مفتوحة يسيل لها لعاب أقصى
اليمين واليسار وماركس في قبره، ومن المفارقات التي ذكرها مخرج الفيلم بعد
عودته لمصر أن «صدام» أمر في ليلة عرض الفيلم بإعادة مونتاجه من جديد ورفض
أن يظهر عليه -أي في الفيلم- أي ملامح ألم أثناء عملية استخراج الرصاصة من
رجله التي أصيب بها أثناء محاولة اغتيال الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم.
وأنجز المصري توفيق صالح ذلك بالفعل، ومن المفارقات التي حدثت بعد الفيلم
هي قتل الممثل الرئيسي في الفيلم «صدام كامل» بأمر من صدام حسين نفسه بعد
هروبه وشقيقه حسين كامل إلى الأردن وعودتهما الغامضة للعراق، وبالتالي جرى
منع عرض الفيلم في التلفزيون العراقي ودور السينما -بعد أن ظل هذا الفيلم
يطارد العراقيين في كل مناسبة وطنية- أما فيلم «بيت صدام» الذي أنتجته عام
2008م وتحول إلى مسلسل فقد أدى دور صدام فيه الممثل الإسرائيلي ياجال ناور،
أما كاتب الفيلم عبد الأمير معلّة فقد تمت معاقبته بضرب شديد في إحدى قاعات
القصر الجمهوري ببغداد بعد اكتشاف انتساب ولده لتيار ديني معارض لنظام
صدام؛ وقد أدت عملية الضرب تلك إلى وفاة كاتب سيرة الديكتاتور، وتأتي
المفارقة الأخيرة لهذا الفيلم بالقبض على صاحب القصة الأصلية «صدام»
وإعدامه شنقاً بعد سقوط نظامه.
البيان الإماراتية في
18/10/2009 |