تفخر شبكة قنوات النيل بانتاجها مسلسل التحريك (بسنت
ودياسطي)
والذي يفجر الكوميديا من هذا التعارض بين
البيئة الريفية التقليدية
والتقدم التكنولوجي الكاسح الذي يجتاح القرية المصرية عبر وسائل الاتصال
الحديثة،
دونما اهتمام بكيفية استفادة القرية المصرية من منجزات العصر المتطورة،
بدلا من
السخرية من استخدامها بصورة ساذجة، ودونما انتباه إلي ان المسلسل يسير في نفس
اتجاه السخرية من الشخصية المصرية بشكل مطلق،
بأسلوب اسكتشات العمدة الريفية
الغر (كشكش بك) في هزليات »نجيب الريحاني«
الاولي، وعلي طريقة النكت
السخيفة والمتكررة علي قنواتنا التي تتصور أنها كوميدية والتي
تتحدث عن الصعايدة
الذين يهبطون القاهرة فينبهرون بأضوائها، ويعجزون عن مجاراة اهلها في حديثهم
وحداثتهم، ويلوكون مصطلحات اجنبية لا يعرفون معانيها، وهو مايزيد من جرعة
السخرية الخارجية علي وطن يبدو علي الشاشة جاهلا بكل شيء
تجاوزته دول صغيرة في
التقدم والمعرفة العصرية.
ولا يقف الامر عند حد السخرية من الذات والتفكه من
جهلها، بل يزداد الامر سوءا بتفتيتها داخليا، عن طريق هدم القيم التي تربت
عليها، ويكفي ان نتوقف عند هذا المثال الذي تسعد شبكة قنوات النيل برفعه
شعارا
علي (تريلر) مسلسلها المذكور عاليه والمتكرر علي قنوات الشبكة الخمس لأكثر
من
خمسين مرة يوميا،
بصورة ترسخ بذهن المتلقي الفكرة التي يقدمها هذا المثال،
والمنطلقة بلسان السيد »دياسطي«
في معارضة لبيت الشعر الشهير للشاعر الكبير »أحمد
شوقي« والذي رسخ في وجداننا وعقولنا لزمن طويل قيمة العلم والمعلم ومبدأ
احترامهما وتقديرهما والتسامي بمرتبة المعلم الي درجة حمل
الرسالة المقدسة،
حيث
قال »قم للمعلم وفه التبجيل/كاد المعلم ان يكون
رسولا«..
وقد تربت اجيال علي
هذه القيمة التي صاغها شعرا أمير الشعراء،
ورافقتها قيم حفظ النظام وخفض الصوت في
حضور الكبار، وفتح المجال لهم في الحركة في المدرسة والشارع والطرق،
واحترام
الكبار، وفتح المجال لهم في الحركة في المدرسة والشارع والطرق، واحترام
قاعات
الدرس والحرم الجامعي بارتداء الزي المهندم وعدم التلاسن وتبادل الشتائم
بين
الزملاء، إلي آخر منظومة القيم التي تجعل الطالب مؤهلا لتلقي العلم،
والاستفادة
منه، والتفوق فيه، والتقدم بالمجتمع نحو المعرفة التي لا تجعله يسخر من
نفسه
حينما يعجز عن امتلاكها.
ان المعارضة التي يقدمها المسلسل لبيت »شوقي«
بالقول.. »قم للمعلم ولو كنت ماشي/
كاد المعلم ان يكون
غباشي« لا تطيح فقط
ببيت شعر رفيع المعاني، بل تهدم مجموعة قيم مجتمعية كاملة، وتنتظم في سلسلة
طويلة من القيم الفاسدة التي رسختها بعض الاعمال الفنية،
وراحت وسائل الاعلام
لدينا تروجها حتي الان دون اي انتباه لخطورتها، منذ (مدرسة
المشاغبين) التي
اطاحت بسلطة الاب والمعلم، (والعيال كبرت)
التي منحت الاولاد حق السخرية من
أبيهم واللعب به، مرورا بالاغاني السينمائية التي سخرت من الشعر الرصين
والمشاعر
الرومانسية والوطنية في آن واحد،
وصولا الي التشكيك في كل قيمة تظهر في حياتنا،
فالسياسي المعروف مشكوك في اخلاقه، والمعلم المحب لطلبته والمتفاني في تعليمهم
مشكوك في سلوكه، وحتي من يحافظ علي نظافة المكان الذي يتواجد فيه مشكوك في
عقله،
بعد ان اعتدنا علي القيم السلبية،
وصار الاستثناء هو القاعدة في حياتنا.
ان
السخرية من أخطائنا وسيلة ناجحة في توجيه الانتباه إليها،
وتضخيم وجودها بصورة
كاريكاتورية ، بهدف إدراك خطورتها لتلافيها والقضاء عليها، بينما السخرية من
انجازاتنا والاستهزاء بأفكارنا وتشويه قيمنا انما تؤدي لهدمها
دون طرح البديل
الافضل كي نسعي إليه، واذا كان رجل الشارع البسيط،
المصري الاصيل او الذي كان
اصيلا بنكته اللاذعة، يستخدم السخرية التي ورثها عن آبائه وأجداده للاعلان عن
رأيه بصورة كاريكاتورية في مجتمعه وفي نفسه،
فهو مجرد سلاح او وسيلة تعبير يرفض
بها ما آل إليه حاله، و(يفش) غله في المسئولين عما وصل إليه حاله هذا، متمردا
بذلك علي واقعه،
ثائرا ضد مستغليه!
وهو الامر الذي أدركه كتابنا الساخرين
علي مر الاجيال من عبد الله النديم فمحمود السعدني وأحمد رجب وجلال عامر ثم
بلال
فضل وعمر طاهر وغيرهم كثر، والذين راحوا يشكلون كتيبة مثقفة تضحكنا علي
سلبياتنا، وتسخر من اوضاعنا،
وتنبهنا الي ان ما قد نتصوره أمرا طبيعيا ليس
بالطبيعي.. وما قد نظن أنه بالاعتياد أصبح مألوفا كقذارة الشوارع وضجيج
السيارات
وفجاجة الالوان و
غياب المعلم الجاد في المدارس وفساد التربية في البيوت الي
الدرجة التي أصبح فيها الاباء بكافة مستوياتهم الاجتماعية
والثقافية يتشدقون
بالقول: »أننا لم نعد نربي ونعلم أولادنا بل هم الذين يربوننا ويعلموننا«
وليس
بالمألوف الذي ينبغي علينا الامتثال له.
الطامة الكبري ان اعلامنا الرسمي
الموقر وتليفزيونه الذي ولد ذات يوم بعيد عملاقا غير منتبه لما يقدمه، وغير راع
بخطورة أعماله، وبخاصة الكوميدية منها،
وبدلا من الاستفادة من العقول المستنيرة
في مجال الابداع الفني وعلم النفس وعلم الاجتماع، ترك الأمر لمجموعة من
الصبية
يتصورون ان الكوميديا ليست بحاجة لعقل مثقف، وان تبذل الشارع يمكن ان يكون مادة
اعلامية تجذب الجمهور لشاشة لها دورها الفاعل -
اذا عرفته
- في تثقيف المجتمع
ورفع مستوي ذوقه.
مثلما ترك الامر لبرامج تافهة يتصور ان جراءتها علي اقتحام
الحياة الشخصية للفنان تجذب الجمهور فالاعلانات لشاشته، ايضا دون ان يدري ان
الكشف عن اخطاء الفنان الإنسانية،
انما تساعد بالتضخيم المتعارف عليه علي اسم
صورة سلبية له، تجعله قرين الرذيلة والخطيئة والفحش،
ولذا من السهل ترويج أية
اشاعات حوله، وتصديقها بسهولة، ألم يعترف هو علي شاشة التليفزيون الرسمي انه
ابن لحظة نشوة بين اثنين
غير متزوجين؟ وألم تعترف هي بقيامها بعمليتي اجهاض رغم
المعارضة الدينية لذلك؟ وقد أغنتني رئيس تحرير
(أخبار النجوم) برفضها القاطع
لسلوكيات القنوات والفنانين معا ببرنامج (العاشرة مساء)
مع مني الشاذلي من
ثلاثة اسابيع، اغنتني عن التوقف اكثر عند هذه البرامج وتأثيرها المأسوي في عقل
مشاهدينا.
هل نسي الاعلام الرسمي دوره في دعم القيم الايجابية؟..
وراح ينافس
الاعلام الخاص الباحث فقط عن المال؟...
سؤال يؤكده الواقع، ويرفضه العقل الذي
يؤمن بأن مؤسسة الاعلام مثل التربية والتعليم والصحة وبقية المؤسسات ذات
المهام
الوطنية، والمطلوب منها حماية المجتمع من الفساد والمفسدين، ليس باخفاء
الحقائق، بل بمواجهتها بالطرق التي تدفع الناس لتغيير انفسهم أولا للعمل
تغيير
واقعهم، وليس عن طريق دياسطي ومعلمه
غباشي والجريئة واسئلتها
الجنسية.
أخبار النجوم المصرية في
15/10/2009 |