أثيرت الكثير من الانتقادات على الصورة التي ظهرت بها أحياء
دمشق العشوائية، في مسلسلات موسم رمضان المنصرم... ورغم أن هذه
الموجة من الموضوعات
ليست جديدة على الدراما السورية، وقد ظهر في السنوات الماضية العديد من
المسلسلات
التي تناولت شبكة العلاقات الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية الرثة، في
تلك البيئة
التي تجمع إلى الفقر والبطالة مفاهيم خاصة لحياة تطحن آمال أبنائها، إلا
بعض
مسلسلات هذا العام بالغ في طروحاته، وكان هاجس الإثارة
والافتعال واضحاً في طريقة
الكتابة وفي آلية التنفيذ والإخراج... حيث السعي لفبركة حدث مثير، وعلاقات
جرمية
معقدة، على حساب معاينة واقع اجتماعي قائم بصدق وعفوية.
الصورة القاتمة!
ويبدو أن دراما العشوائيات السورية هذا العام، جاءت متأثرة إلى حد بعيد
بدراما العشوائيات في السينما المصرية، من حيث النسج الحكائي،
والتركيز على النماذج
السلبية التي تمثل بسلوكياتها الصورة القاتمة لقاع المجتمع حتى لا يبدو
معها أنه
ثمة ضوء يمكن أن يكسر عتمة الصورة، ومن الملاحظ أن هذا التأثر لم يراع في
كثير من
جوانبه خصوصية واختلاف المجتمع السوري، المتمايز في علاقاته
وحدة مشكلاته، قياساً
إلى تشابك علاقات العشوائيات المصرية... من دون أن نغفل في هذا السياق
حقيقة أنه
ثمة قواسم مشتركة في معظم (مدن الظل) العشوائية التي تحاصر الكثير من
العواصم
العربية، بفعل تضخم الهجرة من الريف إلى المدينة، وتراكم أزمات
السكن والبطالة
والتضخم الاقتصادي.
لكن بالمقابل ثمة شيئا لافتا في دراما العشوائيات هذا
العام، ألا وهو تناول مشهد اللجوء في تلك البيئة، وهو الملمح الجيد الذي
انفرد به
مسلسل (سحابة صيف) للكاتبة إيمان السعيد والمخرج مروان بركات... فقد اختط
هذا العمل
لنفسه درباً مختلفاً عن المسلسلات الأخرى التي تناولت هذا الواقع الاجتماعي
الموصوف، حين ركز بؤرة العدسة على حياة اللاجئين العرب في
دمشق، مستحضراً جزءا من
مسار اللجوء القديم للأشقاء الفلسطينيين بخصوصيته وفرادته التاريخية،
ومتطرقاً
بكثير من الميلودرامية إلى مشهد اللجوء الأحدث والأكثر ارتباكاً للأشقاء
العراقيين،
الذين جاؤوا في زمن عربي مختلف كل الاختلاف عن ذاك الزمن
المعافى، الذي استُقبل فيه
الفلسطينيون، وفتحت لهم البيوت والأبواب والقلوب!
الشكوى من الضيوف!
لكن المسلسل بالطبع لم يتطرق لهذا الاختلاف في المشاعر، وربما كان جديراً
أن
يعالجه... فرغم أن السلطات السورية لم تغلق أبوابها في وجه
مئات الآلاف من
العراقيين الذين قصدوا سورية بحثاً عن مكان وملاذ آمنين من العنف والاقتتال
الطائفي
والاحتلال، إلا أنه لا بد من القول أن مزاج الشارع السوري قد تغير بعض
الشيء تجاه
الضيوف، حيث راح الكثيرون في السنوات الثلاث الأخيرة يحمّلون
أزمات ارتفاع أسعار
السكن، أو الغلاء في المواد الغذائية، أو تقنين الماء والكهرباء للأزمة
الطارئة
التي أحدثها وجود أكثر من مليون ونصف المليون عراقي في دمشق وضواحيها
لوحدها... وهو
أمر لم يحدث حين استقبل السوريون على مر عقود أشقائهم
الفلسطينيين بمشاعر الالفة
والإيثار والبذل، ولا مع الأشقاء اللبنانيين الذين طالما تدفقوا على سورية
طيلة
سنوات الحرب الأهلية اللبنانية وما بعدها... فلماذا ارتفعت الشكوى من
الضيوف، رغم
صلات التوافق والانسجام التي تربط المواطن السوري بالعراقي،
ورغم غياب الحساسيات
القطرية بينهما؟!
سؤال كان يستحق لمسلسل (سحابة صيف) أن يعالجه ما دام قد تحدث
عن مشهد اللجوء العراقي، الذي لامس الكثير من همومه ومشكلاته
بواقعية، وإن استغرق
في الميلودراما والبكائية أكثر من اللازم، في حين جاءت معالجة واقع اللجوء
الفلسطيني بحس تراجيدي أرقى، حيث تابعنا هنا الفنانين المتميزين سمر سامي
وبسام
كوسا، وهما يؤديان دوري عجوزين فلسطينيين، ببراعة وعمق وخصوصية
في الفهم والأداء
والتعبير... حتى تحولا إلى الثنائي الأكثر جاذبية في هذا المسلسل، إن لم
نقل في
دراما رمضان السورية لهذا العام.
الزمن الذي توقف!
الحس التراجيدي في
مشهد اللجوء الفلسطيني يكمن هنا، في فن العيش على الذكريات واجترارها
والسخرية من
وطأتها. تلك الذكريات التي تبدو حاضرة باستمرار في الحياة
اليومية للاجئي الجيل
القديم، لكنها تثير المرارة أكثر مما تشبع الحنين. وقد نجحت الكاتبة إيمان
السعيد
في تغليف هذا الخط بنوع من الدعابة حين رسمت العلاقة بين ديب وزوجته فريدة،
بشكل
تناحري وعدواني يخفي في أعماقه ألفة بالغة... ناهيك عن الطبع
الحاد لهذا الرجل
العجوز، الذي تثور ثائرته عندما يكتشف أن زوجته تأخذ إعانة إعاشة، والذي ما
زال
يتحدث عن أيامه الخوالي في حيفا، ويصر أن يظهر بالصورة الأنيقة التي كان
يظهر فيها
فلسطين، من دون أي تغيير أو تبديل في عاداته وربما في مشيته...
فكأن الزمن بالنسبة
إليه قد توقف هناك.
ويمتزج مشهد اللجوء الفلسطيني في هذا المسلسل، بواقع بيئة
العشوائيات في ضواحي دمشق بطريقة درامية محكمة في النص
والإخراج معاً، وهو يتجاور
مع مشهد اللجوء العراقي ومع نماذج هجرة أبناء الريف السوري إلى المدينة...
فيبدو
هذا كله مترابطاً درامياً وموضوعياً، لأنه يخلق شبكة علاقات تنطلق من
المكان، لتشمل
نفس المشكلات التي يعاني منها ساكنوه، بغض النظر عن خصوصية الطريقة التي
جاؤوا فيها
كي يجتمعوا في دمشق... ومن هنا يبدو العمل ثرياً ومتميزاً في
هذا السياق وخصوصا حين
يتطرق للمخالفات السكنية والرشاوى التي تنتزع من أفواه الفقراء من أجل
السماح لهم
بإضافة غرفة على السطح هنا أو هناك كي يزوجوا فيها أولادهم، وكيف يستغل بعض
من
يتحدثون باسم السلطة ذلك بأبشع الطرق... إلا أن المشكلة
الحقيقية للمسلسل تبدأ حين
تحاول الكاتبة أن توسع دائرة رصدها لشرائح وخطوط اجتماعية أخرى من المجتمع
السوري... فتضيع منها تلك الخطوط، وتخلق حالة تنافر، يتحول المسلسل الجميل
العميق
معها، إلى مجموعة مسلسلات تطرح قضايا عدة، لا رابط بينها وبين
المحور الأساسي
للمسلسل فعلياً، حتى لو حاولت الكاتبة خلق صلاة شكلية، من قبيل زمالة العمل
أو
علاقات الصداقة بين بعض الشخصيات، وسوى ذلك!
مسارات مشتتة!
وبالطبع
فمشكلة (سحابة صيف) تكمن في الحاجة لأن يكون مسلسلاً في ثلاثين حلقة...
وهذا ما دفع
الكاتبة إلى الحشو، ورسم علاقات حب، وقصص خيانة زوجية، وصومعة
رجل عجوز يعيش في
مزرعة منعزلة مع ابنته الوحيدة... إلا أن كل ذلك لم يستطع أن يعضد المحور
الأساسي
للمسلسل، ولا أن يشكل مشهدا اجتماعياً بانورامياً متامكلاً، يمكن أن نشعر
بترابطه
الدرامي والموضوعي... والحق أن تفوق أداء الفنانين بسام كوسا
وسمر سامي، ساهم
لاحقاً في إبراز هذه المشكلة، فبدت مشاهدهما غاية في التألق والظرف، مما
جعل الخطوط
الدرامية الأخرى تبدو أقل حضوراً وتأثيراً في النسيج الدرامي للعمل... من
دون أن
نغمط بالتأكيد الفنانة كاريس بشار حقها، وهي تختزل في حساسية
درامية، خطاً
تراجيدياً يبقى قريباً في جوهره من مجتمع العشوائيات.. أو ننسى جهود
الممثلين
الآخرين الموفقة بطبيعة الحال.
على الصعيد الإخراجي، يشكل هذا العمل إضافة
متقدمة لمسيرة مخرجه مروان بركات، الذي يبدو من المخرجين الذين يحترمون
مهنتهم
ويعملون بصمت... وأهمية (سحابة صيف) أنه أخرج مروان بركات من نمط مسلسلات
العنف
والأكشن والإثارة التي كرر نفسه فيها، حتى جاء عمله الأسبق
(أحقاد مخفية) باهتاً
ومخيباً... في حين يقدم مروان بركات هنا، أفضل أداء إخراجي سواء على صعيد
تصوير
أجواء الحياة اليومية في حياة اللاجئين الفلسطينيين والعراقيين بطريقة
مدروسة
بصرياً ومقنعة في رسم خارطتها المكانية وشبكة علاقاتها، أو على
تقديم أحياء
العشوائيات بواقعية شديدة بلا تجميل ولا مبالغة في رسم صورة قاتمة... ناهيك
عن
قدرته على ضبط إحساس المشهد وتعميق مقولاته، وحسن إدارته لأداء ممثليه،
ونجاحه في
علمية توزيع الأدوار، التي تعتبر إحدى أبرز ركائز نجاح كل
عمل... لكن تبقى مشكلة
مروان بركات هي في عدم إحساسه بمشكلة النص المتشرذم الخطوط، المشتت
المسارات، لكن
هذا لا يمنعنا من ناحية أخرى أن نشيد بالكاتبة إيمان السعيد في تجربتها
الدرامية
الأولى، التي تحمل طروحات اجتماعية جادة، وحسا اجتماعيا
حقيقيا... فضلا عن نجاحها
اللافت في صياغة حوار درامي متميز وبناء شخصيات ناضجة، وإن كانت تنقصها بعض
الحرفة
في الحبكة الدرامية وتوليف الخطوط بما يكرس انسجام روح العمل ككل.
أخيراً... إن
مسلسل (سحابة صيف) يقدم بشكل أو بآخر صورة درامية لمدينة دمشق التي تفتح
ذراعيها
دوماً للاجئين، فتبدو حنونة حيناً وهجينة وقاسية حيناً آخر...
تشيع الدفء بقدر ما
تجهض الأحلام وتغري زوارها بالتصالح مع خيباتهم... فالمدينة المنهكة
بالعشوائيات لم
تعد قادرة على أن تكون أكثر من محطة للحلم أو البقاء... ومن هذا المنطلق
يختلف هذا
المسلسل عن مسلسلات العشوائيات الأخرى، التي تبدو دمشق فيها
مجرد معالم وديكورات
متنافرة على مسرح أحداث صاخب لا أكثر!
ناقد فني من سورية
mansoursham@hotmail.com
القدس العربي في
14/10/2009 |