تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

قراءة جديدة في فيلم 'غاندي':

هل كان مؤسس الهند الحديثة الذي اخرج الاستعمار منها استعماريا؟

علي عوض الله كرار

فيلم (غاندي) من الأفلام التي لا أشبع منها.. كلما انشغلتُ بحوار ما دار بين غاندي وآخر (زميل/ حليف/ قاض/ ضابط/ صحافي.. إلخ) أراني تخلفتُ عن مسيرة الفيلم.. وما أن أستيقظ من حلاوة الحوار حتى أرى سمعي وبصري يتسابقان عدواً تجاه المشهد الذي بدأ يمر فوق الشاشة.

هذا هو حالي مع الأفلام المحتشدة بحوارات تتجاوز فيما بينها في معظم المشاهد، وخاصة إذا كانت هذه الحوارات من النوع المراوغ، أو المجاور لعديد من التفاصيل الصغيرة المرئية.. فما هو الحال إذن مع الأفلام الطويلة التي تتخطى الساعتين؟

طبعاً أنا أتحدث عن الأفلام الجيدة مثل فيلم (غاندي) الذي حاز على تسعة جوائز أوسكار، وعلى الرغم مما يسقط من حوارات وصور لا تطولهما عيني بسبب انشغالها بغيرهما، إلا أن ما يتبقى في وجداني يكون كافياً لرسم الشخصية وأحداثها كحلم أتمنى أن يتجسد شيئاً فشيئاً من خلال مقابلته أكثر من مرة، وعلى فترات متباعدة، في ناد للسينما، أو في قناة من قنوات التلفزيون، أو من خلال كمبيوتر أو شريط فيديو.

وقد شاء حظي أخيراً أن كنت في زيارة لأحد أصدقائي بالقاهرة (تشرين الثاني/نوفمبر 2008) ولما جاء على لساني ذكر غاندي في مَوْضعين من مواضع الفيلم، وهما موضعان متوازيان ومُغذّيان لبعضهما، ولهما- رغم اختلافهما الظاهري- دلالة على وجود بذرة الهيمنة الاستعمارية داخل المهاتما غاندي نفسه!! وهذه الدلالة لم ألحظها إلا بعد مرور 25 عاماً على عرض الفيلم الذي شاهدته مجدداً في مكتبة الإسكندرية بمناسبة يوم السلام العالمي (12 ايلول/سبتمبر 2008).

ولما جاء على لساني الموضعان بادرني مصطفى ابن صديقي محمود الهندي المشهور بفنان الأغلفة؛ بأن تحت يده سي دي يحتوي على هذا الفيلم؛ فاستأذنته في عرض هذين الموضعين كي أنقل حوارهما على الورق، وبالتالي أكون قد نجّيْتُ نفسي من السهو والخطأ الذين كنت سأقع فيهما حتماً لو اضطررتُ لنقل الحوار من الذاكرة الممسكة بالمعنى العام الذي يمكن التعبير عنه بعشرات من الجمل المختلفة.

وهذا الحوار المنقول عن السي دي بالنسبة للموضع الأول الذي نرى فيه الشاب غاندي وهو يرتدي زي جنتلمان إنكليزي، ويجلس بكل عظمة داخل صالون الدرجة الأولى في القطار المتجه إلى بريتوريا بجنوب أفريقيا، وما أن يلحظه الراكب الآخر الذي سيلازمه في الصالون، وهو إنكليزي أبيض البشرة، حتى بدا عليه الغضب، وارتد باحثاً عن مفتش القطار الذي عاد معه إلى الصالون:

المفتش: ماذا تفعل في هذه العربة يا هذا؟

غاندي: لماذا؟ أنا معي تذكرة درجة أولى.

المفتش: كيف حصلت عليها؟

غاندي: لقد طلبتها بالبريد. أنا أعمل بالمحاماة.

المفتش: لا يوجد محامون ملونون في جنوب أفريقيا. أجلس حيث تنتمي.

عامل الأمتعة: سآخذ أمتعتك يا سيدي.

غاندي (باحترام للعامل الأسود): دقيقة من فضلك.

ثم يخرج غاندي بطاقة الهوية ويريها للمفتش:

- هل ترى؟ مهانداس غاندي. محام..

قاطعة المفتش قائلاً:

- حرك مؤخرتك إلى الدرجة الثانية وإلا سألقيك في المحطة القادمة.

وبعد توقف القطار بالمحطة واذا بحقائب غاندي تُلقى فوق الرصيف، ومن بعدها تدفع شرطة القطار غاندي وتُلقيه هو الآخر أرضاً إلى جوار حقائبه.

' ''

وهذا هو الحوار المنقول عن السي دي بالنسبة للموضع الثاني الذي نرى فيه الناضج غاندي وهو يرتدي زيّاً هندياً متواضعاً، وهو يشرف على مستوطنته الذي يتوزع فيها العمل بشكل ديمقراطي تعاوني على سكانها، وبحيث يتبادلون هذه الأعمال فيما بينهم، وبالتالي تتحقق عملياً فكرة المساواة التي لم تتمثلها زوجة غاندي، وكان هذا الحوار:

الزوجة: جاء (سورا) ليخبرني أن أذهب وأفحص دورة المياه العامة وأنظفها.

غاندي: هذا صحيح. كلٌ في دوره.

الزوجة: هذا عمل أشخاص معينين.

غاندي: في هذا المكان لا تمييز. ولا يوجد عمل يقلل من شأننا.

الزوجة: ولكن أنا زوجتك.

غاندي: مما يجعلنا موضوعيين أكثر.

الزوجة: كما تأمر. ربما سيتبعك الآخرون. ولكنك تنسى أني كنت أعرفك منذ صباك.

غاندي: هذا ليس مني أنا. بل المبدأ. وستقبلين ذلك بصدر رحب. أو لا تقبلين على الإطلاق.

الزوجة: إذن. لن أفعل ذلك.

بعد فترة صمت حاول فيها غاندي السيطرة على غضبه الذي بدأ يتلوّى داخله ويتكاثر، حتى أنه اضطر إلى الإفراج عما زاد منه وطفح متشكلاً في حركة انفعالية جذبت الزوجة لغاية الباب، فيما كانت الحركة مصطحبة معها ثلاث جمل حاسمة وقاطعة؛ قالها غاندي:

- حسناً لتذهبي. وارحلي من هنا. نحن لا نريدك.

أكانت جملة واحدة من هذه الجمل تكفي؟ بالطبع، ظاهرياً تكفي، وبالطبع، نفسياً لا تكفي!!

التطاحن المتصاعد ما بين غضب استبد بغاندي ووصل إلى مُنتهاه، وبين حب أذاب روحين في روح واحدة؛ قد يُنتج عفواً عدداً من الجمل المتشابهة ذات المعنى، أو المغزى الواحد؛ وكأن الغاضب وَدّ لو تراجع عن جملته الأولى؛ فإذ به يؤكدها في الجملة الثانية التي وَدّ لو ألغاها بجملة ثالثة؛ فإذ به يحتمي بالمجموع حتى لا تغلبه العاطفة الفردية؛ فتنطلق منه جملة: (نحن لا نريدك)، وفي الوقت ذاته ينأى بنفسه عن ضمير المخاطب (أنا لا أريدك)، فالذهاب- في الجملة الأولى- يتضمن العودة والرجوع، والرحيل عن المستوطنة التي أقامها هو وأتباعه، لا يعني الرحيل عنه هو؛ فقد يُدبر لها إقامة قريبة خارج المستوطنة، أما أن يُخبِّئ (الأنا) داخل (النحن) فهذا يوضح مأساته الشخصية التي بزغت توّاً ووقفت بين واجبه كزوج، وواجبه كأب روحي للجميع.

' ''

ولنعقد الآن مقارنة بين الحوارين:

في الحوار الأول يلقي من يرى نفسه أنه الحاكم بأمره في القطار سؤالين أداتهما (ماذا/ كيف) أعقبهما بتوضيح قاطع لما يراه وكأنه قانون اجتماعي (لا يوجد محامون ملونون في جنوب أفريقيا) ثم انتهى إلى إصدار أمر قاطع: (حَرّك مؤخرتك إلى الدرجة الثانية) مصحوباً بتهديد قاطع أيضاً: (وإلا سألقيك في المحطة القادمة).

وفي الحوار الثاني؛ جاء الأمر لزوجة غاندي على يد من هو أقل مكانة طبقية منها، وبالتأكيد أخذ هذا الأمر شكلاً مهذباً، مثلما أخذت أسئلة المفتش (الحاكم بأمره) شكلاً مهذباً أيضاً، وهو وإن كان انكليزياً إلا أنه طبقياً ومهنياً أقل مكانة من غاندي الذي كان يتشكل جسمه ولسانه بالزي واللغة الإنكليزيتين فأدرك وهو ملقى بزيّه هذا فوق رصيف المحطة، أن هذا التشكل الحربائي بالأعداء لن يحمي مؤخرته من الركل، فتخلص فيما بعد من كل أنواع الأزياء، مستبقياً ما يداري عورته بينما هيكله العظمي يقتات علانية من شحمه، ويتدثر بجلده، مُبرِّئاً نفسه أمام العيان من فكرة الرغبة في الامتلاك، أو حتى الامتلاء فحسب مما لذ وطاب، وكأنه أدرك أن هذين الشيئين (الامتلاك والامتلاء) هما السبب في كل ما حدث ويحدث من حروب على سطح الكرة الأرضية، وربما يكون هذين الشيئين هما السبب في تحجيم العاطفة الحسية بينه وبين زوجته، ومن ثم كان طرحه الاستفتائي عليها: (ستقبلين ذلك بصدر رحب. أو لا تقبلين على الإطلاق) متفادياً الوقوع في صيغة من الصيغتين الاستعلائيتين (صيغة السؤال الحامل لإجابته، وصيغة الأمر الملازم للتنفيذ الفوري)، ومع هذا فإن طرحه الاستفتائي يتضمن هاتين الصيغتين، ومن ناحية أخرى يتشابه هذا الطرح مع ما طرحه مفتش القطار على غاندي (حرك مؤخرتك إلى...) (وإلا ...). وبالمناسبة: أليس عمل غاندي في المستوطنة يشبه عمل المفتش أو المشرف؟

أمعنى هذا أن في غاندي تكمن بذرة استعلائية استعمارية؟ لم لا. في كل منا صفات متنحية وصفات استثنائية وهامشية. وتحت شروط وظروف معينة قد ينمو بعضها على حساب الصفات السائدة التي قد تتحول إلى صفات كامنة.

وعلى العموم فإن فيلم 'غاندي' محتشد بالمشاهد المتوازية الرامية إلى فكرة التسامح عبر طرح إمكانية تبادل الأدوار لو أن الدول المستعمرة (بفتح الميم) كانت هي الدول الاستعمارية، والعكس بالعكس، وبالتالي تنحية السبب الماركسي قليلاً (صراع الطبقات) وتقديم السبب النفسي الثقافي، أو ربط السببين ببعضهما البعض، وهذا هو حال معظم الأفلام التي تبدو منحازة للشعوب ومنها فيلم (غاندي).

Karrar_753@yahoo.com

القدس العربي في

09/10/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)