اذا وضعنا جانباً الخبطة الاعلامية التي تمثلت في الاتيان بأحد جبابرة الفن
السابع الى بيروت، فإننا نرى أن الدورة الحالية من مهرجان
بيروت السينمائي تأتي
مطابقة الى حدّ بعيد لسابقاتها. وكأن الطبع يغلب دائماً التطبع لدى مديرته
كوليت
نوفل التي بات مصيرها، ويا للأسف، أن لا تقنعنا بخياراتها الفنية المتسرعة
والعشوائية. خياراتها الفنية؟ نعم. فالمعيار الأول لتقويم
مهرجان هو التشكيلة
الرسمية التي تعبّر عن قرارات ورؤى. ولا يهمّنا لا مع مَن تتعاقد للحصول
على مصادر
تمويلية جديدة ولا مَن هنّ سيدات المجتمع اللواتي انضممن حديثاً الى اللجنة
المنظمة. القرارات الفنية بالغة الأهمية لأنها وحدها تعبّر عن
أفكار. والأفكار
تعبّر عن عالم نعيش فيه. بيد أن هذه الادارة، ومهما ترفع من شأن طموحاتها،
تبدُ كمن
يقول: تريدون مهرجاناً دولياً؟ هاكم مهرجاناً دولياً يزوره عظيم مثل كوبولا!
لكن
ماذا عن الأيام السبعة بعد رحيل كوبولا؟ وهل البانوراما
الدولية هي التي ستقنعنا
بأن هذا المهرجان دوليّ الصفة، في حين أنه ما برح في الحقيقة مهرجاناً
متواضعاً.
وهل أفلام تافهة كـ"فجر العالم" أو "فيلم"
لارا سابا المتواضع (يتباهى المهرجان
بعرضه على رغم انه عرض في كل المهرجانات التي عقدت في بيروت
أخيراً)، تصنع تشكيلة
رسمية جديرة بالاحترام؟ مع ذلك، لا يرضى طموح نوفل بما دون الدولية
والعالمية، وهي
الصفة التي اصلاً لم تعد تعني ما كانت تعنيه في السابق، في الستينات
والسبعينات من
القرن الفائت، وخصوصاً ان المحلي أحياناً بات ينافس الدولي ولا
سيما في المهرجانات،
وخصوصاً في النوعية التي تهمّنا.
في السنتين الأخيرتين، تخلص المهرجان من علة
كانت ترافقه باستمرار، فانتقل من كونه تظاهرة متقطعة الايقاع الى موعد ثابت
الى حدّ
ما، مما يعني انه بات في اتجاه التكريس، لكن مشكلته الاساسية لا تزال حول
غياب
المنهجية وانعدام الرؤية الفنية. فالتشكيلة التي تُقترح هنا،
لا رؤية لها ولا هدف،
وكلنا يعلم كيف تحط رحالها في بيروت (من هالك لمالك...). وربما تكفي قراءة
ما جاء
في افتتاحية الكاتالوغ لندرك مرة أخرى، اذا كانت هناك حاجة الى ذلك، أن همّ
السينما
ليس من أولويات المديرة. فالكلمة تكريمية وعامة وبسيطة، تشكر
هذا أو ذاك، بعيداً من
جوهر الموضوع، تماماً كما هي الحال مع هذا المهرجان الذي لم يستطع على مرّ
الدورات
التسع أن يبني هوية له وأن يرتب له مكاناً في أذهان السينيفيليين. لكن علة
وجوده
باتت معروفة. فهذا المهرجان لا يعرف ما يريد. واذا عرف، استعصى
عليه نيله. واذا
نال، لا يعرف كيفية توظيفه في الاطار الصحّ. فماذا يعني مثلاً ان يؤتى
بكوبولا الى
بيروت، ولا يُستغل وجوده الا للسياحة ولمناسبات اجتماعية عديمة الفائدة
والأهمية،
لإرضاء أطراف لا يهتمون الا بتسطيح الأشياء وافراغها من
معناها. صحافة متخصصة، طلاب
سمعي - بصري، مهتمون بالشأن السينمائي، سينيفيليون، أين هؤلاء من هذا
الحدث؟ ما إن
جاء الرجل حتى تبخر، لا نعرف اين. هناك شيء، لا بل أشياء لا نفهمها، وهي
كانت دوماً
على هذا النحو السريّ في هذا المهرجان، والأرجح ان الوضع سيبقى
على ما هو عليه.
بعض المهرجانات السينمائية تصنع مدناً. أما هذا الموعد الذي نحن في صدد
متابعته
فأصبح نزوة موسمية، وهو لا يستوقف الجمهور ولا يشغل متابعي الدورة
السينمائية في
البلد. عمر المهرجان، الذي غيّر جلده مراراً، بات تسع سنوات.
ولا يبدو مهرجان بيروت
شيخاً لاهثاً في نهاية عمره، بل يبدو مراهقاً. فما السبيل للنهوض بهذا
المهرجان،
الذي يحمل اسم بيروت، وتحويله من موعد للنزوات الموسمية لجعله موعداً
حقيقياً
للأفلام، حيث النقاش هو السائد، والمادة الجادة هي المهيمنة؟
قرار هذه الانعطافة
الضرورية في يد كوليت نوفل، ولا احد سواها.
فـــرنــســـيــــس، إيـــطـــــالــي الـــــهـــــــوى
فـــي "تـــيــــتـــــــــرو"
بعد ثلاثة عقود على نيله "السعفة الذهب" في مهرجان كانّ، عن فيلمه "القيامة
الآن"، عاد فرنسيس فورد كوبولا وقدّم فيه، في ايار الفائت، واحداً من أكثر
الأفلام
شخصانية في مساره. لكن مشاركته هذه المرة لم تكن في المسابقة الرسمية بل في
"اسبوعا
المخرجين"، وهو القسم الذي وجد انه يليق أكثر بفيلم ينحو الى التجريبية.
"تيترو" هو
خلاصة عمله كسينمائي أميركي من أصول ايطالية، نظرته مشبعة بثقافة بصرية
عالية جداً،
وهو الشيء الذي كثيراً ما يجري إهماله عندما نتحدث عن شغله. فلا عجب اذاً،
ومخرجنا
يريد التفنّن والابتكار، ان نجد في الشريط الباروكي الاسلوب
والايطالي الهوى، بعض
اللقطات التي تذكّرنا بإدارة ايطالية للممثلين، بدءاً من دخول الشخوص الى
الكادر
وخروجهم منه، وصولاً الى الحوارات المتشعبة والمتداخلة. طبعاً، كوبولا
يتلذذ
لتحلّيه بقدر هائل من الحرية، على رغم ان الحرية هي عند صاحب
"العراب" وهم ظل يبحث
عنه طوال حياته، وحين وجد هذا الوهم لم يكن الا علاقة حبّ من طرف واحد.
بمعنى آخر،
ان أهم ما انجزه كوبولا في حياته هو ما انجزه مقيّداً وليس حراً. الضغوط
الخلاّقة
كانت دائماً تنتشله من العبث الذي سار خلفه سنين طويلة. في
اللقاء الذي جرى معه في
كانّ، قال الآتي: "كان عندي استقلالية تامة في عملية تصوير كل الأفلام التي
أنجزتها
بعد "العراب"، ومَنْتَجتها. ولكن عندما تعرضت لانتكاسة مادية كبيرة، وصرت
مديوناً
للمصرف، فإن كل الأفلام التي انجزتها ما بين سنوات الاربعين والخمسين من
عمري هي
اعمال طُلب مني أن أنجزها، ولست صاحب المبادرة. لكني، عندما لم
أعد مديوناً، توقفت
عن العمل بهذه الطريقة".
كوبولا ازعج "السيستيم" القائم عليه المصنع
الهوليوودي، ولا يزال. لكن استفاد منه الكثير ايضاً ليصنع
مجده. اللافت في "تيترو"،
تحويل تجربته الخاصة في مجال يعرف اسراره جيداً الى فيلم ينسبه
الى طرف آخر. فخلف
الكاميرا هناك جبارّ لا تستطيع أن تتكلم عن الاربعين سنة الأخيرة من تاريخ
السينما
الأميركية من دون أن تأتي على ذكره عشرات المرات. أما على الشاشة، فهناك
شخصيات،
كلٌّ منها هو كوبولا في جانب من جوانبه. وبينهم جميعاً، هناك
شاب في الثامنة عشرة
مصفاة الحكاية. جدير بالذكر أن المراهقة ليست موضوعاً طارئاً لدى كوبولا.
الفيلم أولاً وأخيراً هو عن الخلق والكتابة والتأليف. ودعونا نستذكر هنا
هوس
كوبولا بالتأليف واعتبار كاتب النص الاصلي ذا شأن كبير في
عملية صنع الفيلم. ألم
يضع في أكثر من مناسبة اسم الكاتب فوق اسم الفيلم: "عراب ماريو بوزو"؛
"دراكولا
برام ستوكر". في لقاء له مع الجمهور في مهرجان كانّ، كان له التوضيح الآتي:
"عندما
أنجزت "العراب" كان العنوان يحمل اسم الكاتب بطريقة لا تجزأ، وعلى الشكل
الآتي: "العراب
لماريو بوزو". فعلت الشيء نفسه مع "دراكولا لبرام ستوكر". وكنت أحلم دائماً
بأن يكون اسمي في عنوان أحد أفلامي. لكن من أجل ذلك كان ينبغي لي أن أكتب
نصاً
أصلياً. كنت أعتبر عملية الكتابة شيئاً صعباً، ومن هذا المنطلق لم يكن يحق
لي أن
اضع اسمي مع العنوان، ما دمت لم أكتب السيناريو، وذلك احتراماً
وتقديراً. "تيترو"
أتاح لي أن أفعل ذلك للمرة الأولى".
دم شكسبيري يجري في عروق السينما التي
يصنعها كوبولا، ولا سيما في "تيترو"، حيث التأرجح الصارم بين الجميل
والقبيح، بين
عبقرية الوالد (في الفيلم) والقدرة المحدودة للولدين الشقيقين اللذين
سيحاولان
النجاة من سطوته الفكرية عليهما. العائلة وروابط الدم
والعلاقات المكلومة، هذه كلها
يسردها بدراماتورجية مفخمة وباروكية قد يصنفها البعض في خانة الترف
والمزايدة،
لكنها لعبة تجريبية تسلّي مخرجاً لم يعد عنده شيء ليثبته. أما الجمال
التشكيلي
بالأبيض والأسود، فهذه قصة أخرى، يستخدمها كوبولا لأسباب
تيماتيكية وجمالية وسردية
في آن واحد. بممثلين بارعين يقدّمون أفضل ما يملكونه، يحوك كوبولا نصاً
معقداً
وشاملاً عن رؤيته للحياة والفنّ، حصيلة ما تكوّن في جعبته خلال سبعين عاماً
من
الابحار بين الواقع والنزوة. بين الحياة - الحلم والحياة -
الكابوس. في حمأة هذه
الصراعات، لا خلاص عند كوبولا الا بالعشق المتطرف الذي لم يخف عنده البتة
مع التقدم
في السن، لا بل زاد، وما يؤكد هذا الشيء هو الكلام الذي قاله أمس لكل لبيب:
"الفنّ
لعاشقه فحسب".
برنامج العروض
اليوم:
•
الساعة 17:00: "أخيل والسلحفاة" لتاكيشي
كيتانو؛ "بصرة" لأحمد رشوان.
•
الساعة 19:30: "الشباب الجميلون" لرياض ستوف؛
Bloody mondays and strawberry pies
لكوكو شريجبر.
•
الساعة 22:00: "أفغان ستار"
لهافانا ماركينغ؛ Food. Inc
لروبرت كينر.
الجمعة:
•
الساعة 17:00: "الشباب الجميلون" لرياض ستوف؛
Gostanza da labbiano
لباولو
بينفينوتي.
•
الساعة 19:30: "أبو أولادي" لميا هانسن - لاف؛ "طوكيو!" لميشال
غوندري وليو كاراكس وبونغ جون هوو.
•
الساعة 22:00: "مسخرة" للياس سالم؛ "حدود
التحكم" لجيم جارموش.
السبت:
•
الساعة 17:00: "حدود
التحكم" لجيم جارموش، "طوكيو سوناتا" لكيوشي كوروساوا.
•
الساعة 19:30: "نيلوفار"
لسابين الجميل؛ Puccini e la fanciulla
لباولو بينفينوتي.
•
الساعة 22:00: "طوكيو!"
لميشال غوندري وليو كاراكس وبونغ جون هوو؛ "أبو أولادي" لميا هانسن -
لاف.
الأحد:
•
الساعة 17:00:"نيلوفار" لسابين
الجميل؛ "كونفورتوريو" لباولو بينفينوتي.
•
الساعة 19:30: "هلب" لمارك ابي راشد؛
Food. Inc
لروبرت كينر.
•
الساعة 22:00: "فجر العالم" لعباس فاضل؛ "تاتيل كتابي"
لصيفي تيومان.
الإثنين:
•
الساعة 17:00: Bloody mondays and strawberry pies
لكوكو شريجبر؛ أفلام قصيرة.
•
الساعة 19:30: "أمريكا"
لشيرين دعبس؛ "فجر العالم" لعباس فاضل.
•
الساعة 22:00: "مسخرة" للياس
سالم؛ أفلام قصيرة.
الثلثاء:
•
الساعة 15:00: "طوكيو
سوناتا" لكيوشي كوروساوا. El regalo de la pachamama
لتوشيفومي
ماتسوشيتا.
•
الساعة 17:00: "أمريكا" لشيرين دعبس؛ "تاتيل كتابي" لصيفي
تيومان.
•
الساعة 19:30: "بصرة" لأحمد رشوان؛ أفلام قصيرة.
•
الساعة 22:00: "هلب"
لمارك ابي راشد؛ أفلام
قصيرة.
الاربعاء:
15:00: "أفغان
ستار" لهافانا
ماركينغ.
17:00: "ذاكرة
مشتتة" للارا سابا؛ "أخيل والسلحفاة" لتاكيشي
كيتانو.
19:00: "اكتساح
وودستوك" لآنغ لي (ختاماً، في قصر "الأونيسكو" مع حفل
توزيع الجوائز).
(•)
العروض كافة تجري في صالة أمپير - صوفيل (متروبوليس).
(
hauvick.habechian@annahar.com.lb)
جورج قاعي، رحيل رائد من زمن آخر
في عزلة وفراغ،
رحل جورج قاعي. يقال عنه انه كان عميد السينمائيين في لبنان. وهو كان حقاً
أحد
الرواد المؤسسين الذين قام على أكتافهم ما يعرف بالسينما
اللبنانية. جيل آخر. زمن
آخر. سينما أخرى محمولة على الظهر قوامها الجهد والاكتشاف والشغف. قليل من
المكافأة
والاعتراف، وكثير من التضحيات.
لحظة رحيله، كثر لم يكونوا قد سمعوا به بعد.
بحثنا في محرك "غوغل" فلم نجد عنه سطراً واحداً. حتى الأرشيف أنكر تاريخه
عندما
أحرجناه. بعضهم فوجئ لدى تلقي الخبر المحزن. سألوا: ألم يمت منذ زمن طويل؟
هؤلاء لم
يكونوا في حفل "الأونيسكو" الشهير حين كرّمته النقابة المعنية
بدرع. النقابة نفسها
بعثت يوم الأحد الفائت ببرقية تعزية. هكذا انتهى الموضوع. ولا
تتمة.
بعد خمسة
عشر عاماً من العزلة والمرض، ختم قاعي مسيرة منقوصة وغير مكتملة. فهذا
المغامر
ينتمي الى الرعيل الثاني، لكن سيرته لا تختلف كثيراً عن خلفه.
فلكلٍّ من
السينمائيين الذين جعلوا السينما اللبنانية حقيقة واقعة، مصيبة. بعضهم كانت
مصيبته
شخصية أو فنية، والآخر اجتماعية أو سياسية. لكن المأزق الوجودي رافق الجميع
تقريباً
الا مَن تحوّل من صناعة السينما الى صناعة الأفلام، أو من باع
نفسه من السهولة
والرخص. الذين صمدوا، قد صمدوا، ولكن بأيّ ثمن، من مارون بغدادي الى برهان
علوية
وكريستيان غازي ورندا الشهال وغاري غارابيديان؟!
منذ الخمسينات انخرط قاعي في
الحياة السينمائية. زملاؤه جورج نصر وميشال هارون وجوزف فهدة. كان لديهم كل
شيء،
ولا شيء في الحين نفسه. لكنهم كانوا يملكون الأهم: عدم وجود إرث ثقيل على
كاهلهم.
في هذا المعنى كانوا احراراً. فالايطالي جوردانو بيدوتي مهّد لهم الطريق،
لكنه لم
يفعل أكثر من هذا. كذلك بالنسبة الى علي العريس. ثمة شؤما خيّم على هؤلاء
جميعاً
وعلى سينماهم، منذ "مغامرات الياس مبروك"، الفيلم اللبناني
الأول عام 1930 من اخراج
جوردانو بيدوتي. لكن هذا الشؤم ليس مرتبطاً بظروف العمل فحسب. فهذا الفيلم
لاقى
نجاحاً باهراً يوم عرضه في صالة "أمپير" الى درجة أن تتمة جرى تصويرها، لكن
بيدوتي
اضطر الى التوقف عن الإخراج بسبب النقص في التمويل. فراح يصوّر حفلات
الأعراس. هكذا
نشأت السينما اللبنانية، بكل نجاح أحرزته، وبكل فشل منيت به، بفتراتها
الصاخبة
وبفترات سكونها الطويلة. تهمد مدة ثم تنهض، لتركد مجدداً فتعود
تستيقظ.
كان
ينبغي انتظار "بائعة الورد" (1943) لتشهد السينما اللبنانية ولادتها
الحقيقية. جاء
قاعي مع حقبة الخمسينات التي كانت اساسية في السينما اللبنانية، ومع بدء
تأسيس
استوديوات وظهور رعيل ثان من السينمائيين الحالمين، كان هو من
بينهم. معظم هذه
الأفلام كانت تحكي عن بيئة لبنانية، وكانت ناطقة بالعامية. القرية وأهلها
كانا محور
الأفلام في هاتيك الأيام. ثم حلّت السيارة مكان الحصان، وصارت دروب القرى
الآمنة
شوارع عريضة يراقبها قناصون في فترات لاحقة مشؤومة. مع مجيء علوية وبغدادي،
غزت
المدينيةُ الأفلام. لكن هنا ايضاً مصيبة أخرى. فما تمنحه الحرب
بيد تأخذه بيد أخرى.
وهكذا، فصلاً بعد آخر، وحرباً بعد أخرى، اجهضت كل المحاولات للنهوض بفن
سابع لبناني
لائق.
في الخمسينات أنجز قاعي فيلمين، "عذاب الضمير" الذي تعرض لانتكاسة
جماهيرية لكونه نطق بالفصحى، و"قلبان وجسد" في عام 1959، على
خلفية منافسة غرامية
بين شاب ووالده. كان الفيلم أوفر حظاً اذ وزِّع ايضاً خارج لبنان. دخل قاعي
الستينات مستعداً لتقديم أكبر قدر ممكن من الأفلام قياساً بزملائه. فأنجز
ثلاثة
منها: "السم الأبيض" (1961)، "عربة الشيطان" (1961) و"انت
عمري" (1964) الذي تشارك
فيه الاخراج مع محمد سلمان، الذي كعادته، طلب من نجوم الغناء في تلك
المرحلة
المشاركة في الفيلم، من مثل صباح وسميرة توفيق ووديع الصافي،
فاستجابوا نداءه. في
العموم، تناولت أعماله موضوعات اجتماعية، ولم تتوانَ عن طرح تيمات جريئة من
مثل
تفشي ظاهرة المخدرات.
في منتصف الستينات، أصبح لبنان مسرحاً للتصوير. وراحت مصر
تستغلّ جماله بعد التضييق على الحريات فيها. جورج نصر أنجز فيلمه الثالث
وتوقف عن
العمل تقريباً. أما هارون فصار منتجاً. انصرف قاعي الى أشياء أخرى وجلس في
الظلّ.
بلغت السينما المصرية في تلك الفترة أوجها، وعند تأميمها عام 1963، غطّت
الصناعة
بأكملها لبنان؛ فُتحِت الاستوديوات في كل مكان، أما بيروت، العاصمة الجديدة
للتوزيع
السينمائي التي ضمّت سبع شركات أميركية كبيرة و41 مكتباً
مستقلاً، فعرفت عصرها
الذهبي. شكّلت الستينات فترة السينما في لبنان، وليس السينما اللبنانية.
على الرغم
من تزايد الإنتاج المشترك كان هناك انعدام كبير في الهوية أو الرؤية الفنية
العالية.
خارج الكادر
الـــطــــــــــلاق !
لو عدنا الى
قضية رومان بولانسكي مجدداً، لاكتشفنا أن الطلاق على مدار الأيام العشرة
الأخيرة
بدا أكيداً بين النخبة المثقفة والشعب. هذه الحكاية أعادت نكء
الكثير من الجروح.
المشكلة فيها أن الجميع على حقّ، من اصغرهم الى أكبرهم سناً. للضحية حقها
في ان
تطالب بالعدالة. وللمتهم الحق في الدفاع عن نفسه. وللشعب الحق في أن يعاقب
الجاني
في حال ثبوت ادانته. كذلك من واجب السينمائيين أن يدعموا
زميلاً لهم ويسألوا عن
مصيره. وعلى الناس أن يسألوا عن اسباب هذا التضامن. وأن يستغربوا، لا بل أن
يستنكروا اذا أرادوا، لأن معظمهم لم يفهم بعد أن من يقول الشيء ليس في
الضرورة
فاعله. الكل محقٌّ اذاً. لا أحد مخطئاً في مطلبه. فمن يكون
المخطئ في هذه القضية؟
الرأي العام؟ خليط هذه الآراء يصنع ما يسمى الرأي العام او الرأي الواحد.
بيد
أن فصل الصحّ عن الخطأ يغدو أمراً ثانوياً أمام أزمة الشرخ الحاصل بين
السينمائيين
والجمهور العريض. فاذا كان الكبار الذين وردت أسماؤهم على
العريضة المتضامنة مع
بولانسكي، اقنعوا رواد السينما في جميع أنحاء العالم من خلال افلامهم، فهم
مع قضية
بولانسكي لم يستطيعوا أن يقولوا كلمتهم ويمشوا، من دون أن تكون التعليقات
الموجهة
اليهم جارحة وموجعة أحياناً، بل محقّرة أحياناً أخرى. الفنّ في
الغرب سلطة وهيبة
وزاوية تتحكم بالمشاعر والعقول ووسيلة فاعلة لصناعة الرأي العام. وقد اعتاد
الجمهور
أن يحاسب هذه السلطة لكونه الداعم الأول لوجودها. كثرٌ من الاوروبيين في
هذا الشأن
الحساس، كادوا يبصقون على السلطتين الثقافية والفنية، معتبرين أن قيمهم
باتت بعيدة
عن قيمهما، ولا سيما في فرنسا حيث أولى ضحايا هذه الفضيحة،
وزير ثقافتها فريديريك
ميتران الذي اعيد فتح ملفاته لدفاعه المستميت عن بولانسكي باسم انتمائهما
الى الوسط
نفسه، الذي يعتبر الرأيُ العام أفرادَه تجارَ ثقافة واستغلال ووصولية.
قضية
بولانسكي التي أحرجت كل الاطراف، أظهرت التباين بين الفنان وجمهوره، لكن
هذا لا
يعني ان التباين ابن اليوم، والآن، وفي هذه اللحظة. التباين
موجود منذ سحيق العهود،
ولكنه لا يتجلى على هذا النحو الفاضح الا عندما يتماهى الناس مع الضحية
ويتخلون عن
البطل، فيتضامنون مع الاضعف أو من يعتقدون انه كذلك.
كنا نسمع ونحن صغار أن
الفنان في مكان والناس في مكان آخر. ثم نقرأ كتابات التقليديين الذين لم
يتعبوا من
ترداد لازمة أن الفنّ أخلاق ورسالة وأن على السينمائي أن يعكس
هموم الناس. نحن نقول
إن الفنّ عموماً (والسينما خصوصاً)، اذا لم يستنبط الايجابيات من هذا
التباين بين
قيمه وقيم المُشاهد، فعلى الاقل يستمد منه روحاً نقية تجعله يعيش ويتنفس.
ولا
تسألوا عن الأسباب.
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
08/10/2009 |