هذه المرة قبل موريتي ان
يكون ممثلا فقط في فيلم تعتمد احداثه كلها علي التيارات
النفسية المتداخلة التي
تدور في قلب رجل فقد اتزانه بعد ان ماتت زوجته..
وتركته وحيدا مع ابنته
الصغيرة.
ينهض الفيلم منذ بدايته علي هذا التوازن الدقيق بين الموت والحياة »فيترو بالازيب«
رجل الاعمال »ويلعب الدور طبعا موريتي«
يتمكن من انقاذ
غريقه قذفتها أمواج البحر وكادت أن تغرقها..
ولكنه عندما يعود الي منزله يفاجيء
بموت زوجته التي هاجمتها أزمة قلبية..
ولم تتمكن ابنتها الصغيرة التي كانت معها
في المنزل من انقاذها أو من طلب النجدة..
بسبب غياب أبيها وتأخره
بالمجييء.
اذن الموت..
والحياة يطلان بوجهيهما..
منذ الدقائق الأولي
للفيلم وسيستمر هذا العزف الثنائي البديع حتي نهاية الفيلم.. من خلال ما
يدور في
باطن رجل الاعمال هذا الذي تهده مأساته..
فيعجز عن متابعة حياته المعتادة والقيام
بما كان يقوم به من أعمال يومية..
ويقرر التفرغ لابنته التي تتابعه بنظرات
الاتهام ببراءة وعفوية لا يمكن تجاهلهما..
ويقرر اصطحابها الي مدرستها كما كانت
تفعل أمها الميتة ثم أن يجلس بسيارته منتظرا خروجها.. أو الجلوس علي مقعد
في
حديقة تقابل المدرسة يواجه بها نفسه ويحاول أن يجد مبررا عن اتهام نفسه
بجريمة قتل
لم يرتكبه.
ومن خلال هذا المقعد..
ولنسمه اذا شئنا مقعد الحياة والتأمل..
الذي يبعد بطلنا عن حياته الماضية كلها،
ويدفعه الي النظر فيما حوله..
في
انتظار مستقبل ستحدده نظرات البنت واتهامها له أو غفرانها لما ارتكبه.
وعلي
هذا المقعد.. الذي عزله تماما في عالمه..
يبدأ رحلته التي تجاوزت الاربعين
والتي ربما ألحقته زحمة أعماله..
عن النظر في تقلبات نفسه وعواطف قلبه..
في
تأمل ما حوله وكأنه يراه للمرة الاولي.
ومن خلال نظرته الجديدة لهذا العالم
الذي جعلته يكتشف مأساته
.. وكأنها ولادة جديدة له..
يري الطلاب الصغار
وأهاليهم..
ويرتبط بصلة خاصة مع طفل معاق يبادله النظر..
ويحقق له حلمه الساذج
باضاءة أنوار سيارته والتلاعب بها..
مستمدا من ابتسامته البريئة قوة نفسية
خاصة.. تجعله ينسي ولو لدقائق معدودة أزمته الخانقة.
زوجة صاحب المطعم الذي
يتناول عنده وجبات طعامه..
والتي تروي مأساتها الخاصة له عن خيانتها لزوجها
وحملها من رجل آخر.. وتسأله الرأي فيما يجب أن تفعله..
هل منزل الحياة تسير
بمجراها رغم قيامها علي كذبة كبري..
أم تكشف الحقيقة التي يمكنها أن تنسف كل
شيء، رجل آخر يحدثه عن متاعبه المالية وعن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها
البلاد
بعيدا عن العواطف والخيانات..
ورجل عجوز يراقبه من بعيد ويري فيه حلا للوحدة التي
يعيش بها دون أن يدرك أن وحدة بطلنا اقسي وأشد حدة.
زملاؤه في العمل الذين
يطلبون مساعدته لينقذهم من تسريح فلسفي قد يصيبهم بالبطالة بسبب الأزمة
المالية
التي بدأت تخنق الشركات كلها ومسئولي الشركة الذين يحاولون استدراجه ليقف
معهم
ويبرر هذا التسريح لرفاقه واعدين اياه بمنصب كبير..
عندما تندمج شركتهم مع شركة
أمريكية كبري عرضت شراء أسهمهم وامرأة وكلبها تذكرنا ببطلة تشيكوف الشهيرة
تشاهد
هذا الرجل الوحيد الجالس علي مقعده..
التي تتزاحم حوله مشاكل الحياة وتسعي اليه
دون أن يسعي اليها.
اما ما يدور في نفسه هو..
فأمر مخالف تماما.. كل موجات
الحياة بأشكالها المختلفة تقبل عليه وتحوم حوله..
وهو يبتعد عنها هاربا الي دائرة
الموت باكيا لوحده علي مقعد سيارته دون أن يراه أحد رافضا عرض أخيه الوسيم
باللجوء
الي المخدرات كوسيلة للنسيان والهرب من واقعه الحزين.
ومن خلال موجات اليأس
والكآبة هذه ..
هناك هذا الشاطيء البعيد الذي يمثله حواره مع ابنته التي يدفن
في
أعماق نفسها أن غفراتها له هو طوق النجاة الذي سينقذه مما هو فيه..
وأخيرا
هذه المرأة التي انقذها من الغرق والتي كانت السبب غير المباشر في وقوعه في هذه
الازمة النفسية المتراكمة..
والتي تجد ان من واجبها ان تعيده الي شاطيء الحياة..
من خلال اقامة علاقة جنسية حارة معه مؤمنة أن الجنس هو السلاح الوحيد الذي
يملكه
الانسان ليواجه الموت.
وهنا يقدم لنا المخرج مشهدا شديد السخونة يؤكد فيه عن
عمق وتأثير الجنس ثم عجزه أحيانا عن تحقيق المعجزة التي يطلبها عاشقان
يائسان
يريدان ان يتمسكا بحبل الحياة.
لقد تخلي بالديني عن عمله..
وعن المكاسب
المادية التي كان يحصل عليها..
ودخل في دائرة أخري مختلفة جعلته يري الحياة من
خلال منظار أخري.. والناس بشكل أكثر ثقة وواقعية.
أهي العاطفة التي تدفعك
الي تجاوز أسوار نفسك أم العقل الذي يعيدك الي صوابك؟!
لقد اختار بالديني ان
يبتعد عن الحياة..
والحياة حاصرته بكل أسلحتها وكل قوتها..
من خلال نماذج
مختلفة قدمت له حلولا شتي..
الجنس، التعاطف،
الحنان، الصداقة وكل المفردات
الأخري التي تزخر بها أجندة الحياة.
لقد ادرك واحس بانسانيته..
عندما اتاحت
له الظروف الصعبة ان يختلي بنفسه لأول مرة بعيدا عن مشاغل العمل ومكاسب
المال وان
ينظر الي أعماقه وأن يكتشف معني آخر للحياة وطعما ومذاقا
مختلفا للعلاقات
الانسانية.
ناتي موريتي اعطني أفضل ما عنده في هذا الدور الداخلي..
الصعب
والمعقد والذي يأرجحه بين الموت والحياة بين اليأس والأمل..
انه أشبه ما يكون
بالغريق الذي كادت الامواج العاتية أن تتمكن منه..
ولكن موجة خاصة رفعته خارج
الماء واعادت اليه أنفاسه المقطوعة وجعلته يري شاطيء الأمان الذي ظن للحظة
ما انه
لن يراه ابدا.
ويأتيه الجواب ليخرجه من حيرته..
عندما تطلب منه ابنته
الصغيرة ان يعود لحياته وان يكف عن انتظارها في سيارته.
هل عفت عنه ام أن
الحياة نفسها لقنتها الدرس..
وهل سيستطيع بالديني أن يعود حقا الي حياته
السابقة
وهل يمكن للزمن أن يمسح الذكري وأن يلئم الجرح.
الفيلم يضعنا في المنطقة
المليئة بالظلال التي تفصل بين الحياة والموت..
بين الشك واليقين..
بين الأمل
واليأس.
انه انتصار مؤقت للحياة ولكنه أكثر من ذلك انتصار للانسان الذي يعرف
كيف يواجه نفسه وكيف يتحمل مسئولياته..
دون أن يلقيها علي كتف الظروف
والأقدار.
انه تحية عابقة بالحنان..
يقدمها المخرج الينا بعد ان قادنا الي
أعماق النفس البشرية بكل تطوراتها وموازينها وتقلباتها.
فهل يمكننا أن ندهش
اذا سحرت لجنة التحكيم الدولية لمهرجان اسكندرية بهذا الفيلم واعطته
بالاجماع
جائزتها الكبري.
أخبار النجوم المصرية في
12/09/2009 |