بسلامته عايز يتجوز
عاد عزيز عيد ويوسف وهبي من رحلتهما في إيطاليا، وقررا إنشاء فرقة
جديدة كبيرة وبدآ يهيئان لها مسرحاً جديداً في شارع عماد الدين.
وصل هذا الخبر إلى نجيب الريحاني في سورية، فكان بمثابة «طوق النجاة»
وعودة الروح إلى نفسه، وانبعثت جذوة النشاط فيه بعدما عاد إلى الساحة من
يجد فيهما منافسين قويين له، فعقد العزم على الرجوع إلى مصر ومواصلة العمل
فيها، مهما كانت الأحوال… ومهما حكمت الظروف.
فور عودته إلى مصر بدأ نجيب الريحاني رحلة البحث عن رواية جديدة يواجه
بها المنافسين الجدد، فكان لا بد من دخول حلبة الصراع بما يجعله داخل
المنافسة لا خارجها، فراح يبحث عن رواية تصلح لهذا الغرض، غير أنه لم يوفق.
وجد بديع خيري نجيب الريحاني على هذه الحالة، فاقترب منه وبحيائه
المعروف، قدم له رواية علَّه يجد فيها ما يبحث عنه:
* إيه دي؟
= رواية اسمها «الفانوس السحري» كنت عاوزك تبص عليها.
* أيوه بتاعة مين… مين إللي كتبها؟
= في الحقيقة أنا كنت متردد أقولك. بس لما لقيتك بتدور على حاجة جديدة
قلت يمكن دي تنفع.
* ما جاوبتش على سؤالي يا بديع… مين إللي كتبها؟
= بصراحة كده… كتبتها أنا وجورج.
* جورج. يا تري فين أراضيه… عايش ولا… ياه يا بديع.. أد كدا كنتوا
بتحبو بعض.
= جورج كان أخويا إللي مخلفتهوش أمي. انتهزنا فرصة اننا قاعدين من غير
شغل بعد سفرك الشام المرة الأولانية وقعدنا نتسلى. طلعت معنا دي. لفينا
بيها على كل التياتروهات. إن حد يشتريها أو يعبرنا… أبداً. نهايته… آخر ما
زهقنا رميناها في الدرج ونسيتها لحد ما لقيتك بتدور على فكرة رواية جديدة
فافتكرتها.
* على فكرة يا بديع أنا كان فيه سؤال بيلح عليا من فترة كنت عاوز
أسألهولك بس بنسى. أنت ليه مكتفي بكتابة الزجل ما بتكتبش روايات؟ مع إن
عندك أفكار هايلة… وكمان بترسم شخصيات حلو قوي.
اطلع نجيب على الرواية فوجدها تتكون من 30 مشهداً، وهو عدد كبير جداً
يصعب على مخرج تنفيذه، أقرب إلى عبث المبتدئين، إلا أنه أحس فيها بثمرة
يمكن اجتناؤها وأساساً يصح البناء عليه، فجلس على إصلاحها وصبها في القالب
الذي يضمن لها النجاح المنشود، وأشرك معه في كل خطواتها بديع خيري. ما إن
أنتهيا منها حتى أطلقا عليها اسم «إلليالي الملاح»، لتكون أول عهد بديع
بالتأليف الروائي للمسرح، وعودة جديدة لنجيب، وأول تعاون مع الموسيقار
الكبير داود حسني، فعمد إلى نشر إعلان كبير في جريدة «الأهرام»:
«عودة نجيب الريحاني»
على مسرح الإجيبسيانة
يوم الخميس 22 مارس 1923 ـ بالرواية الجديدة الكبرى
«إلليالي الملاح»
مأخوذة من قصص ألف ليلة وليلة» ذات خمسة فصول، تأليف الأستاذ بديع
خيري
تلحين الموسيقار الشهير داود حسني، يمثل فيها نجيب الريحاني دور
«نواش» والست بديعة مصابني دور «شمعة العز».
وآن أوان اقتطاف الثمرة، وجاء الوقت الذي شاءت فيه الأقدار أن تنيلهما
أجر ما بذلاه من جهود فظهرت «الليالي الملاح» آية فنية رائعة، بدت فيها
بديعة مصابني كوكباً هلَّ على الجمهور واحتلَّ مكامن إعجابه.
زاد الإقبال وتحسنت الأحوال، وبدأ الناس يتحدثون في كل مكان عن نجمة
فرقة الريحاني الجديدة ويرفعونها إلى مكانة متميزة، وإن لم تصل إلى مكانة
الريحاني.
هنا فقط عرفت بديعة سر التدقيق في «البروفات» ورأت بعينيها أن نجاحها
لم يكن إلا وليد تلك الجهود التي أبكتها في ما مضى فأغضبتها المرة تلو
الأخرى، ما حملها على مطالبة نجيب بموالاة العمل لإخراج رواية جديدة، ظناً
منها أن تأليف الرواية لا يكلفه شيئاً من العناء!
مضى الشهر الأول والنجاح حليف «الليالي الملاح»، ولم يكن نجيب وبديع
قد أنهيا من الرواية التالية سوى فصلين، فراحت بديعة تستحثهما على الإسراع
وبذل الهمة للفراغ من الفصل الثالث، بكلام يلهب ظهورهما كالسوط كلما غدت أو
راحت، لدرجة إنها وصفت نجيب بـ «الكسول».
رحيل النغم
فكر الريحاني في الاستعانة مجدداً بالشيخ سيد درويش، خصوصاً بعد نجاحه
في تقديم الكثير من الأوبريتات الغنائية، وأصبحت موسيقاه تملأ مسارح مصر،
وتتردد على ألسنة العامة في الشوارع أو الحواري، وزاد من رغبة نجيب في
الاستعانة بالشيخ سيد، صدور دستور 1923، في 19 أبريل.
شعر نجيب بأن هذا هو وقت سيد درويش، وأن رواية «الشاطر حسن» هي الأنسب
لعودة اللقاء بينهما، خصوصاً أنه تأكد من حدسه بعبقرية بديع خيري كمؤلف
روائي، مثله كزجال، وأنه يملك أضعاف موهبته في التأليف، ورسم الحقائق
والأخلاق المصرية الصميمة، فأضحى بديع زجالاً ومؤلفاً في آن، وقد ساعده ذلك
على التفكير في إخراج الكوميدي المصري الصميم، واكتمل ذلك بتعاون سيد درويش
معهما.
أثر كلام بديعة في نجيب بشكل كبير، لدرجة أنه تعجل ظهور الرواية
الثانية «الشاطر حسن» وكان من أثر ذلك أن أخرجها من دون تهيئة الفصل الأخير
منها، ولا الاستعانة بالشيخ سيد درويش الذي كان خارج مصر، فظهرت في اليوم
الأول مفككة لا ضابط لها، إلا أنه استطاع أن يصلح ما أفسدت السرعة منه،
فاحتلت الرواية مكانها من إعجاب الجمهور، وكانت كسابقتها في النجاح
والإقبال، ومعها بدأت بديعة تنتقل كل يوم من نجاح إلى نجاح، حتى جاءت
الرواية الثالثة «أيام العز» وفيها ارتكز مجد بديعة على أساس ثابت، وأضحت
العروس التي تنبأ بها الريحاني، والمعدن الذي كشفه صقل جوهره.
فيما كان نجيب يعيش أجواء النجاح مع أحدث وأنجح اكتشافين قدمهما إلى
الوسط الفني والجماهير: وبديع خيري في كتابة الروايات وبديعة مصابني كممثلة
وراقصة، فوجئ بمؤامرة جديدة تحاك ضده، طرفاها الخواجة ديموكنجس الذي ملأ
الريحاني خزأنته بالأموال بما لم يكن يمتد إليه أمله حتى في أحلامه، ومصطفى
حفني مدير «مسرح برنتانيا»، إذ اتفقا على أن يشتركا في إتمام بناء تياترو
«الإجيبسيانة» (لأنه كان إلى تلك اللحظة على حاله، سقف من الخيش، جدران من
الطوب، وأرضية من الرمل)، لكن للأسف كان الشرط الأساسي أن يخرجا منه
الريحاني، وأن يجلبا فرقاً أجنبية من الخارج، الواحدة تلو الأخرى:
* إزاي يا خواجة؟ التياترو مش بس حيطان وطوب… التياترو ناس ونجاح
واسم.
= خبيبي «إيجبسانه» اسم كبير أكبر من أي فرقة واسم أي ممثلين.
* بس من غير الفرقة ومن غير نجيب الريحاني ممكن تعمله جراج تحط فيه
عربيتك.
= دا كلام مس مظبوط… التياترو عمل نجاح الريحاني ممكن يعمل نجاح غيره.
* إحنا مش هنتحاسب دلوقت مين سبب نجاح التاني. إحنا نجحنا سوا وربنا
اكرمنا سوا. يبقى ليه الغدر.
= دا مس غدر… دي مصلحة. وكل واحد يسوف مصلحته فين… أنت كمان سوفتو
مصلحتك في السفر. أنت سافر وساب ديموكنجس ما فيس فلوس… ما فيس سغل.
* طب هو خواجة ومش قادر يفهم أصول ولاد البلد. انت كمان يا عم مصطفى
موافق على كلامه؟
- أنت ليه بتعتبر مصلحة غيرك ضدك يا نجيب أفندي؟
* ولما تكون مصلحة غيري تيجي على دبحي أقف اتفرج واصقف لكم.
- طب أنا عندي حل يرضي كل الأطراف.
* قول أنا في عرضك.
= الخواجة هيجيب الفرق الأجنبية إللي هتشتغل زي ماهو عايز. الفرقة من
دول بتيجي تشتغل أسبوعين وبتمشي… وعلى بال ما تيجي الفرقة التانية تأخد لها
أسبوع عشرة أيام… انت تشتغل فيهم.
* لا والله. حكمت وعدلت. بقى هو دا حكمك يا سي مصطفى؟!
- ما تزعلش يا سيدي. عندك كمان الفرق الأجنبية ما بتحبش تيجي في الحر
في يوليو وأغسطس. هنبقى نسيب لك التياترو في الشهرين دول… مبسوط يا عم؟
* إلا مبسوط… دا أنا هنفجر من الانبساط!! يعني دا آخر كلام عندكم؟
= كلام مسيو مصطفى جيتو مزبوط… وأنا ما فيس مانع.
أصبحت الأيام المتقطعة التي يقدمها نجيب على مسرح الإجيبسيانة، لا
تسمن ولا تغني من جوع، إذ كان ما يجنيه من عمل الفرقة خلال هذه الأيام لا
يكفي أجور الممثلين، ما اضطره إلى الجوء إلى الاقتراض من البنك بضمان
سنداته فيه والتي تبلغ ثلاثة آلاف جنيه مصري، وكي تزداد الأمور تعقيداً
امتنع البنك فجأة عن إقراضه، إذ ظهر من ادعى بأن نجيب مدين له بمبلغ مئة
جنيه، فقرر البنك الحجز على السندات… ليبدأ رحلة جديدة مع الإفلاس!
قبل نجيب شروط الشريكين ديمو كنجس ومصطفى حفني، ورضي أن يعمل على
فترات متقطعة، فأعد مع بديع رواية «البرنسيس» في محاولة لتقديم أول كوميديا
مصرية حقيقية، وإن كانت مشرَّبة ببعض نواحي «الأوبريت»، فأرسل بديع للاتفاق
مع الشيخ سيد درويش بعدما عاد من رحلته في الشام، لكن خيري رجع في حالة من
الدهشة والذهول:
* فيه إيه يا بديع؟ مالك الشيخ سيد رفض؟
= أيوه… مش هيشتغل خالص.
* يعني إيه مش فاهم؟ أنا آخر مرة قابلته كان موافق واتفقنا تقريباً.
= الشيخ سيد درويش مات يا نجيب!
* يا وقعة سودة. سيد مات… إزاي!؟ وامتى وفين؟
= سيد مات في الإسكندرية… كان رايح علشان محضر نشيد جديد هيستقبل بيه
سعد باشا في المينا وهو راجع من باريس.
* أيوه بس ما كانش بيشتكي من حاجة. إيه إللي حصل؟
= الكلام إللي بيتقال إن الإنكليز خلصوا منه. سموه علشان يخلصوا منه
ومن ألحانه وأغانيه إللي مجنناهم.
* الله يرحمك يا شيخ سيد. إذا كانوا قدروا يخلصوا على جسمه الضعيف مش
هيقدروا يموتوا ألحانه وأغانية إللي هتفضل عايشة جوه المصريين.
استعان نجيب الريحاني مجدداً بالملحن داود حسني في رواية «البرنسيس»،
وفيها خرج للمرة الأولى عن شخصية كشكش، وظهر في دور «آلاتي» بائس يعزف على
«القانون» اسمه «المعلم حسنين»، فيما جسدت بديعة في دور «عيوشه».
صعود وهبوط
نجحت الرواية، وتوطد مركز بطلتها بديعة في عالم التمثيل، فقدم نجيب
بعدها رواية «الفلوس» ثم «لو كنت ملك» و{مجلس الأنس»، ليرتفع مع فرقته إلى
مكانة عالية، غير أنهم أصبحوا كالأيتام على مأدبة اللئام، إذ لم يكن لهم
مسرح ثابت يعملون فيه، فضلاً عن أن التراجيديا طغت على الفن في مصر فاشتهر
فيها اسم «مسرح رمسيس»، وعمل عميده يوسف وهبي ومخرجه عزيز عيد على ترجمة
أفضل منتجات الغرب الأدبية، وعرضها على الجمهور في ثوب قشيب ومظهر خلاب،
لفت أنظار الناس قاطبة فتهافتوا على مشاهدته، وولوا وجوههم شطره، فيما راح
نجيب يتابع سيره المتقطع تحت رحمة ديموكنجس ومصطفى حفني، حتى انتهى تعاقده
معهما في أواخر يوليو عام 1924، وفيما يستعد لإخلاء المسرح والانتقال
بالملابس والمناظر، وقف مصطفى حفني بينه وبين أخذ أي شيء:
* ليه يا سيدنا؟
= لأنك مدين ليا بمبلغ سبعمية وعشرين جنيه!
* يا خبر زي بعضه… بتوع إيه دول يا حاج مصطفى؟
= بقى يعني مش عارف حضرتك؟ بتوع حفلات الماتينهات إللي بسلامتك رفضت
تشتغلها.
* لكن دا مش بسلامتي بس إللي رفض. دا بسلامتك أنت كمان ما كنتش
بتشتغلها لأن ما فيش جمهور يجي يشوف مسرح العصر في عز الحر، ولأنك كمان كنت
هاتخسر ثمن النور وأجر العمال!
= لا… مفيش كلام من ده. مفيش قشاية هاتخرج قبل ما تدفع إللي عليك.
انتهت المناقشة وانفض المشكل على أن يترك نجيب كل ما له من ملابس
ومناظر وستائر مقابل هذا المبلغ.
الزواج والهجرة
يئس نجيب من الحياة التي أنكر الناس فيها الوفاء وباعوا الأصدقاء،
فعزم على أن يرحل بعيداً عن أناس اشتراهم وباعوه، أخلص لهم فأنكروه، وفجأة
طرأت على رأسه فكرة عله يخرج بها من أزمته النفسية:
* تتجوزيني يا «بدعدع»؟
= إيه؟! بتقول إيه؟ انت فايق يا نجيب.
* أيوه يا ست فايق… هو أنا بقولك أنا قررت أنتحر. أنا بقولك تتجوزيني.
= أيوه بس أنت عمرك ما لمحت حتى انك ممكن تتجوزني.
* وآديني أهو صرحت مش لمحت.
= أيوه بس انت عارف إن أنا عندي بنت يعني مش عايشة لوحدي.
* يا ستي انت وبنتك على رأسي من فوق.
= فيه شرط تاني… هو ان الجواز في البيت بس. يعني في الشغل كل واحد
فلوسه لوحده وأجري زي ما هو.
* من غير ما تقولي. انت وبنتك ملزومين مني. أنا مش ممكن أقبل ان ست
تصرف مليم وهي ملزومة مني.
انقضى شهر العسل، وبدأ العروسان التفكير في العودة إلى العمل، فقررا
القيام بنزهة يستمتعان فيها بشم الهواء في مصيف روض الفرج، وفي الوقت نفسه
يطلع على ما تقدمه الفرق الأخرى.
ما كادا يصلان حتى طرق أذنيهما صراخ شخص يوزع إعلاناً ورقياً بصوت
جهوري:
الحق هنا يا جدع، تعالى وشوف «كشكش الأصلي» يا جدع، هنا ملك
«الكوموكودو» (الكوميديا) الحق قبل ما يلعب.
تراءى لبديعة أن تقف هنيهة لتناقش ذلك «الإعلانجي» في صيغة ندائه، ولم
يكن بالطبع يعرف شخصيتها:
= لكن يا أخينا «كشكش الأصلي» في عماد الدين مش هنا.
- لا يا ستي هانم. دكهه تقليد، لكن الأصل هنا.
= طيب إزاي الأصلي يهزأ نفسه في روض الفرج، ويسيب التقليد يتمتع في
عماد الدين؟
- وإيه يعني عماد الدين يا ست، فيه في الدنيا أحسن من روض الفرج؟ روض
العشاق يا هانم!
قرر الريحاني وبديعة مشاهدة هذا «الكشكش» الأصلي، ورفع الستار وظهر
الممثل فوزي منيب، يرقص ويمثل ويغني، فطاش عقل الريحاني، وخرج مندفعاً من
دون أن يكمل الرواية… أو بمعنى أدق الإسكتش.
* معقولة إللي شفناه ده؟ هو فيه كدا في الدنيا؟
= هدي نفسك يا نجيب… بس كان لازم تفضحه قدام الناس.
* ناس مين! أنت ما كنتيش شايفة؟ دا كلهم معلمين وتجار… وأكيد مبسوطين
منه ولو كنت اتكلمت كان ممكن يضربونا ونطلع إحنا إللي حرامية.
= أيوه بس انت قولتلي أنك مسجل «كشكش» في المحكمة.
* على بال ما نثبت نكون رحنا المستشفى أقرب. أنا مش واجعني غير أنه
يمرمط «كشكش» بالشكل دا… دا أراغوز مش كشكش.
= إهدَ يا نجيب… إهدَ.
* عارفة أنا بحمد ربنا أنك موجودة معايا… لولا كده كان زماني رميت
نفسي في النيل.
= نجيب… ما تقولش الكلام دا. انت إللي عملت كشكش… وتقدر تعمل أحسن
منه.
* الحكاية مش أحسن ولا أوحش… دا إحباط. انت تتعبي وتسهري إلليالي
تفكري… ويجي غيرك يأخد ويأكل الشهد ع الجاهز. وإحنا قاعدين من غير شغل
بناكل سميط وجبنة على كورنيش روض الفرج.
كانت هذه السهرة سببا في القضاء على تردد نجيب في السفر خارج مصر، فلم
ينقض الليل، حتى كان في صباح اليوم التالي قاصداً قلم الجوازات، لاستخراج
وثيقتي سفر له ولبديعة:
= هنسافر نروح فين؟
* بلاد الله واسعة. أنا حاسس إني مخنوق وأيدي مكبلة. وكمان مش قادر
أشوف جورج أبيض بقى ملك الدراما في الشرق، ويوسف وهبي وعزيز عيد بيخرجوا من
نجاح يدخلوا في نجاح جديد، وعلى الكسار مسرحه كل يوم كومبليه. وأنا بتسرق
والسجادة بتنسحب من تحت رجليا وأقف أتفرج.
= طب نشتغل… ليه نتفرج؟
* صدقيني يا بديعة مش قادر دلوقت. خلينا نطلع الرحلة دي. أهو نتفسح
شوية ونشم هوا. ولو ربنا أكرمنا بشغل يبقى خير وبركة.
= طب أنا عندي فكرة. أنا سمعت من خواجة يوناني أعرفه ان فيه جالية
عربية كبيرة قوي في البرازيل وأميركا الجنوبية. إيه رأيك لما نروح نجرب
هناك؟
* والله فكرة… أهو يبقى شوفنا عالم تاني غير العالم إللي عايشين فيه
ونجرب… ياااه شوفي الواحد ممكن يعدي سبع بحور علشان يدور على شغل!
أنهى الريحاني الترتيبات وغادر مصر إلى «جنوا»، في معيته بديعة مصابني
و{جوجو» ابنتها من زواجها الأول، ومعهم فريد صبري ومحمود التوني، لكن ما إن
وصلوا جنوا حتى صدمهم شكل الباخرة «غريبالدي» التي سيستقلونها إلى أميركا
الجنوبية، فلم تزد عن كونها «مركب» صيد متواضعاً، ربما تستطيع بالكاد
التنقل بين الإسكندرية وبورسعيد، فالرحلة التي من المفترض أن تستغرق سبعة
أيام، قطعتها في 25 يوماً!
ترك الريحاني زوجته وابنتها وفريد صبري في الفندق، واصطحب محمود
التوني لارتياد المدينة علهما يستطيعان أن يجدا فرصة لإحياء حفلة أو
اثنتين، وراحا يجوبان سانتوس شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، لكن لم
يصادفهما أي نجاح، فاتجها إلى سان باولو في أول نوفمبر 1924.
(البقية في الحلقة المقبلة)
الجريدة الكويتية في
11/08/2012 |