|
يقول المخرج الاميركي القدير مارتن سكوريزي: «يمثل كياروستامي أعلى
المراحل التقنية في تاريخ السينما». فهل ترون بعد ذلك من اشادة.. او
تقديم.. او حتى تعريف بهذا المخرج الإيراني الفذ، الذي يمكن تجاوز كل
الالقاب، ووصفه بانه فيلسوف السينما الإيرانية وذلك لطبيعة ما يقدمه من
نتاجات وما تحمله ابداعاته من بعد وقيم فلسفية عالية الجودة.
والعلاقة مع اعمال كياروستامي، تمثل حالة من (الورطة) فالذهاب الى
اعماله، يعني الدخول الى تلك العوالم، المشبعة بالبعد الفلسفي، البعيدة عن
المباشرة، التي تأسرك بالقيم التي تحملها، والاشتغال الفكري والفني الاسر
الذي لا يجعلك تنفك عن تلك (الورطة) التي ذهبت اليها.
عباس من مواليد 22 يونيو 1940 في مدينة طهران العاصمة الإيرانية منذ
مرحلة مبكرة من مشواره، كيف عن موهبة فذة في كتابه السيناريو والاخراج،
وايضا التصوير الفوتوغرافي، ومنذ انطلاقته السينمائية في مرحلة مبكرة من
السبعينيات في القرن الماضي، وهو لا ؟؟؟ يقدم تلك النتاجات السينمائية التي
تجاوزت الاربعين فيلما، بين ما هو قصير ووثائقي وروائي طويل، وجملة تلك
النتاجات، اقترنت بسيل من الكتابات النقدية الايجابية على المستوى الدولي،
ولعل من ابرزها فيلم «طعم الكرز (1997) الذي فاز عنه بالسعفة الذهبية
لمهرجان كان.... وايضا فيلم ستأخذنا الريح 1999 الذي فاز عنه بجائزة الاسد
الفضي (الكبرى) لمهرجان فينسيا السينمائي الدولي.
درس كياروستامي الفنون جامعة طهران، وفي تلك الفترة كان يمارس الفن
التشكيلي والتصوير.. ولعل القلة في العالم الذين يعرفون انه عمل كشرطي مرور
في تلك الفترة، من اجل مواصلة دراسته الجامعية وفور تخرجه عمل في مجالات
الاعلانات التجارية كرسام ومصمم وكان ذلك في عام 1960 حينما كان في المراحل
الجامعية النهائية.
بعدها بدأ العمل في السينما.
وحينما اندلعت الثورة الإيرانية 1979، فضل ان يبقى في إيران، في الوقت
الذي هاجر به العديد من زملائه من صناع السينما الإيرانية، ويمثل قرار
بقائه، واحدة من اهم القرارات التي ساهمت في تقديمه نتاجات سينمائية عالية
الجودة، تذهب الى قضايا المجتمع بالعرض والتحليل الموضوعي، مستثمرا اعلى
سقف للحرية في التعبير بلغة سينمائية، تعتمد الفكر والتحليل.. والعمق.
وتمثل اعماله، مع عدد من زملائه، الهوية الحقيقية للسينما الإيرانية
الجديدة، التي تسلط الضوء على قضايا الانسان والمجتمع.
في عام 1970، قدم عمله السينمائي الاول، ومدته (12) دقيقة بعنوان
«الخبر والزقاق» عن حياة احد اطفال المدارس.
في عام 1974، قدم فيلم «المسافر» معتمدا على نص بنفس الاسم للروائي
الإيراني حسان درابي.
وهي ايضا عن حياة طفل في العاشرة من عمره في احدى المدن الإيرانية
الصغيرة، كان يتمنى ان يشاهد المنتخب الإيراني لكرة القدم في احدى مبارياته
في طهران. وقد شكل الفيلم لاحقا، النهج الذي سار عليه العديد من صناع
السينما الإيرانية، في الذهاب بتلك المرحلة التي تعري كل شيء، حتى بلوغ
الهدف. مع تحليل لادق التفاصيل عبر شخيصات تمثل الموزاييك الإيراني.
في عام 1975 قدم عباس فيلمين هما «انا استطيع» و«مشكلة واحدة» في عام
1976 قدم «الوان» ثم فيلم «بدلة العرس» وبعدها جاء عمله الروائي الطويل
الاول في عام 1977 بعنوان «التقرير» ثم فيلم «القضية الاولى القضية
الثانية» عام 1979.
وفي مرحلة الثمانينات واصل عباس مشواره ونتاجاته وابداعاته، في تلك
المرحلة، قدم عدد من الافلام القصيرة، الا ان اللحظة الاهم كانت مع فيلم
«اين منزل صديقي» 1987، الذي فتح له ابواب المهرجانات والشهرة العالمية.
وهي عن حياة طفل يعيش في احدى القرى الإيرانية.
حيث يعود الى ذات الموضوع في عام 1992، واثر الزلزال الذي ضرب قرية
ذلك الطفل، ليقدم فيلم «وتمضي الحياة» الذي يتحدث خلاله عن رحلته للبحث عن
ذلك الطفل.. الذي قضى تحت الزلزال.
وتتفجر التحف، وايضا البعد الفلسفي، حيث فيلم «خلال شجر الزيتون» عام
1994، والذي شكل المدخل لثلاثية اشتهرت عالمياً بثلاثية كوكير، لانها تدور
احداثها في منطقة كوكير شمال إيران وحصدت تلك الثلاثية نجاحات كبيرة في
فرنسا والمملكة المتحدة وعدد من دول اوروبا.
وتأتي القفزة الأهم مع فيلم «طعم الكرز» عام 1997، الذي يعتبر احدى
التحف السينمائية، من حيث عمق الرؤية، والمضامين الفكرية التي يقدمها
العمل، وهو ذات النهج الذي يشتغل عليه كياروستامي، حيث الموت دعوة للحياة
والاستمرارية... وهكذا بقية مفردات المسيرة الانسانية.
في عام 1990 قدم فيلم «كلوزاب» وقد حظي هذا الفيلم باعجاب عدد بارز من
كبار صناع السينما الاميركية على وجه الحضور ومنهم كونتين تاراتينو ومارتن
سكورسيزي والفرنسي جان لوك غودار والالماني دارنر هيرتزوج والايطالي ثاني
مورتين.
في عام 1992، قدم كياروستامي فيلم «الحياة ولاشيء اخر».
وتتواصل النتاجات
وكما اسلفنا، فان عباس ظل يواصل مفرداته الابداعية، فعمله في السينما
لم يعفه من مواصلة ابداعاته التشكيلة وايضا التصوير، وهكذا الامر مع كتابة
السيناريو، حيث قدم لمساعدة الاول المخرج جعفر بناهي سيناريوهات افلام.
الرحلة و«البالون الابيض» عام 1995.
وتمثل مرحلة التسعينيات، حالة من العطاء والحصاد فقد حصد السعفة
الذهبية عام 1997 عن طعم الكرز وثم جائزة الاسد الفضي الجائزة الكبرى
لمهرجان فنيسيا عن فيلم «ستأخذنا الريح» عام 1999.
وفي مطلع القرن الجديد، قدم عدة اعمال مهمة، من بينها فيلم عن افريقيا
بعنوان (اي. بي. سي افريقيا) صورة في اوغندا.
ثم قدم سلسلة افلام قصيرة هي (عشرة).
و(خمسة) وهي تجارب سينمائية تحمل البحث والتحليل واللغة السينمائية
الخاصة على مستوى تكوين المشهد وتحليل الاضاءة والصوت وبلغة شعرية عالية
الحساسية.
في عام 2010 قدم تجربة سينمائية خاصة مع النجمة الفرنسية جوليت بينوش
بعنوان «صورة اصلية» فازت فيها بجائزه افضل ممثلة في مهرجان كان السينمائي
حيث استطاع هذا المخرج الفذ، ان يفجر طاقات نجمة كبيرة، وان يذهب بها الى
فضاءات شخصية مليئة بالتفاعلات.
القراءة التحليلية لاعمال كياروستامي، نذهب الى البعد الفلسفي، وهذا
ما يجعل كثيراً من النقاد، يرونه احد المبدعين الكبار، بل ويقارنونه مع
الهندي ساتيجات راي والايطالي فيتريو اي سيكا والفرنسي ايرك رومير.. وغيرهم
يعتمد كياروستامي (ثيمه) او موضوع الموت، ولكنه لايجد في الموت نهاية، بل
مدخلا للبحث عن الامل.. والحياة.. والتجديد.. والمستقبل.
في اعماله نرى الواقع، وهو لايمارس النقد الصريح والفج، بل يذهب من
خلال الواقع الى الامل.. والى الغد لهذا يظل دون سواه، قادرا على البقاء في
إيران رغم كل الظروف التي تحيط به لانه يعرف بان السينما هي اداة للتغيير.
والبناء.
وهكذا هي سينما عباس كياروستامي.. سينما التغيير.. والامل.. رغم صعوبة
الحياة وقسوتها.
النهار الكويتية في
23/07/2012 |
