|
يرتبط اسم الاخوين دردان بالسينما الواقعية الاوروبية الجديدة وبتلك
الحرفية السينمائية العالية الجودة التي تذهب الى قضايا الانسان عبر معطيات
واقعية، سهلة المضامين، صعبة الانجاز، ثرية بالفكر، والعمق، والتحليل،
ولهذا كله جاء جديدهما، حصد الجوائز والنجاحات، وايضا التحليل الثري لقضايا
ومتغيرات المجتمع الاوروبي، الذي يتخذ من بلجيكا مدخلا لاثارة هكذا قضايا.
الاخوان دردان.. من تلك النوعية من المبدعين الذين يقدمون نتاجاتهم
بلا بهرجة وبلا ضجيج لانهم ينتمون الى جيل من السينمائيين الاوروبيين الذين
يضعون في اعتبارهم قضايا الانسان والمجتمع فوق كل اعتبار.
خلال زمن قصير حقق هذا الثنائي انجازات سيكون من الصعوبة بمكان
انجازها وتحقيقها للاخرين وخلال زمن طويل.
ويكفي ان نعرف ان في رصيد هذا الثنائي، سعفتين ذهبيتين لمهرجان كان
السينمائي الدولي وقبل كل هذا وذاك نتاجات سينمائية ، نعتقد للوهلة الاولى،
انها بسيطة وعفوية ولكن حينما تضعها تحت مختبر التحليل نكتشف مدى اهميتها،
ومدى اهمية النهج الذي يشتغل به هذا الثنائي.
ولد جان بين دردان في 12 ابريل 1951 في ليبج في بلجيكا وولد شقيقه
الاصغرلول دردان في لييج - بلجيكا في 10 مارس 1954.
ومنذ مرحلة مبكرة من مشوارهما اشتغلا في مجال الكتابة والانتاج
السينمائي، كما كانا يتعاونان في اخراج اعمالهما السينمائية، على طريقة
الاخوين تافياني «في ايطاليا».
اعمالهما تمتاز بالواقعية المفرطة، للحديث عن طبقة المعدمين في
المجتمع البلجيكي والاوروبي بشكل عام.
وقد بدأ هذا الثنائي، نظامهما في العمل المشترك في مرحلة مبكرة من عام
1966 حيث بشرا بميلاد نهج سيكون له كثير من الشأن في مسيرة السينما
البلجيكية والاوروبية لاحقا.
المحطة الاساسية كانت مع فيلم «الوعد - 1996» الذي لفت الانتباه الى
اسلوبهما الواقعي، الذي يستعرض قضايا الانسان والمجتمع في تلك الطبقات
المسحوقة والمعدمة.
رصد وتحليل لشباب تلك الطبقات المسحوقة والهجرة والمهاجرين والبحث عن
فرص العمل وجملة اعمالهما تتمحور حول تلك الجوانب الثرية.
ولد الثنائي دردان ونشأ في لييج، ودرسا في معهد والونيا والمعروف ان
منطقة لييج هي احدى المناطق البلجيكية الناطقة بالفرنسية.
ولهذا فإن تلك المنطقة تبدو حاضرة جغرافيا في جميع اعمالهما
السينمائية.
درس جان بير الدراما بينما درس لوك الفلسفة في عام 1975 اسسا شركتهما
للانتاج والتي انتجت العديد من الاعمال الوثائقية، قبل ان يقدما عملهما
الروائي الاول.
والراصد لاعمالهما التسجيلية، يشاهد تأثيرها لاحقا على اعمالهما
الروائية، حيث المخرج بين ما هو واقعي وتسجيلي ودرامي، مما يمنح التجربة
مساحة من الواقعية المفرطة، التي تأسر المشاهد ببساطتها ومساحة الالم التي
تحملها.
ومن ضمن نتاجات المرحلة التسجيلية والوثائقية هناك اعمال ناقشت
موضوعات الفقر والحاجة وانعدام الضمانات والمهاجرين البولنديين والمقاومة
ابان الحرب العالمية الثانية.
وتأتي الانطلاقة الاولى مع فيلم «الوعد - 1996» حول حكاية بسيطة ترصد
الم ومعاناة المهاجرين عبر حكاية تجمع بين روجر البلجيكي وحميدو «من بركين
فاسو» ودور روجر حينما يلقي حمدو حتفه، ويتعهد روجر بتحمل مسؤولياته
والقيام برعاية اسرة حميدو وهو الدور المطلوب من اوروبا في رعاية افريقيا
بشكل عام.
ويأتي فيلم «روزيتا» الذي يمثل احدى النقلات الاهم والاثرى والاعمق في
مسيرتهما عن حكاية صبية، وتم اختيار موهبة لم تمثل من ذي قبل، تقمصت شخصية
روزيتا وهي الممثلة ايميلي ديكوين التي فازت بجائزة افضل ممثلة في مهرجان
كان كما فاز الفيلم بالسعفة الذهبية حكاية فتاة تعيش مع والدتها المدمنة
للكحول التي تبحث عن عمل من اجل إعالة نفسها ووالدتها المريضة ومعاناة رحلة
البحث عن العمل.
فيلم ينتقد اوروبا وغياب فرص العمل وحالة الفقر المتزايد والظلم
الاجتماعي وغياب الفرص الحقيقية للحياة الكريمة.
ثم يأتي فيلم «الابن» حول حكاية اوليفية «قدم الشخصية اوليفية غوريه
«فاز بجائزة افضل ممثل في كان» يحاول حماية ابنه.
وهنا نقد اخر حول مستقبل الطفولة في المجتمع الاوروبي الحديث، امام
المشكلات التي تعترض اولياء الامور في عوالم من الفقر والجريمة.
وتمضي المسيرة ليقدم الأخوات دردان فيلم «صمت لوما» وباختصار شديد عن
حكاية فتاة - لوما - التي تدخل حالة من الكآبة، تجعلها تعتقد ان كل شيء
مستحيل.. حتى انها تعتقد ان «الخالق» غير موجود وغير قادر على تغيير الواقع
الذي يحيط بالانسان في العالم.. ورغم نجاح الفيلم الا انه تعرض لبعض من
النقد من المؤسسات المتحفظة.
نتاجات مهمة «الوعد - 1996» و«روزيتا 1999» «الابن 2000» و«الطفل
2005» وهذا الاخير نال عنه السعفة الذهبية من جديد وللمرة الثانية.
وفي عام 2011 يأتي فيلم طفل مع دراجة ويذهب الفيلم بعيدا في الحديث عن
معاناة الاطفال.. حينما تفرق بين والديهما الحياة ولا يعود الوالد قادرا
على تحمل مسؤولياته.. فيكون الضياع وغياب المصير.
اشتغال الاخوين دردان على السينما الواقعية، جعلهما يذهبان الى الناس
البسطاء لدخول اعمالهما وتجسيد تلك الشخصيات ونظرا للاشتغال العالي
المستوى، من اجل تحضير تلك المواهب، ويكون حصادها في الغالب جائزة التمثيل
على المستويين الرجالي والنسائي، كما حصل مع نجمة فيلم «روزيتا» ونجم فيلم
الابن «هذا الاشتغال، يذهب ايضا، بابعاد فلسفية عميقة، على صعيد الفعل
الروائي، وايضا الحوارات التي رغم بساطتها الا انها تظل عامرة بالمواجهة
واللغة الاتهامية القاسية.
كما ان الاخوين دردان بمارسان لغة سينمائية اسرة ببساطتها وعميقة
بسلاستها، مدهشة بنقلاتها الدرامية، وتطورها وانسيابية شخوصها واحداثها
وجرءة المضامين التي ترسخها... والاهداف التي تذهب اليها.
وهي في الغالب قضايا تذهب الى الانسان والى الطفولة والمرأة والرجل
حيث المخاضات التي تحيط بتلك الشخوص والتي تأخذ بها الى عوالم من التعب
النفسي والقلق ولربما الجريمة.
جميع اعمال الاخوين دردان تأتي بذات النسق، بلا «فذلكة» وبلا «تكلف»
كاميرا محمولة واضاءة «حسب المتوفر» بلا ماكياج وبلا ازياء مبتكرة.. بل هي
العفوية التامة، ولكنها السينما التي تحملنا الى عوالم الدهشة، حيث التحليل
لقضايا الانسان والمجتمع والالم.
وفي جميع اعمال الاخوين دردان كم من الالم الذي يأتي بلا صراخ.. وبلا
تكلف بل انه يأتي ليستقر في وعي ذاكرة المجتمع، من اجل التغيير.
اعمال، لا تندرج في قائمة سينما المتعة بل سينما الواقع والالم، سينما
تدعو الى التفكير.. والتحليل والعمل على التغيير.
سينما اتهامية صدامية، مشبعة بالقلق والتوتر ما ان تذهب اليها، حتى
تحاصرك الى عوالهما، وشخوصها وتداعيات الفعل الروائي، الذي تعلم جيدا، انه
سيأخذك الى مساحات اكبر من الالم، ومن التعب النفسي، الذي يجعلك تبحث عن
مساحة من الاوكسجين كي تفجر ما بداخلك من الم.
سينما الاخوين دردان سينما قضايا الانسان في السينما الاوروبية
الواقعية الجديدة، التي يشتغل على نهجها القلة. ولكنها تبدو شديدة التأثير
عامرة بالحصاد والتقدير لانها سينما من نوع جديد.
النهار الكويتية في
13/08/2012 |
