أحد أهم رواد ومؤسسي حركة التجديد التي عرفتها السينما المصرية في
السبعينيات من خلال أفلامه التسجيلية التي قدمها في تلك الفترة، وهو أيضاً
من رواد تيار الواقعية الجديدة في الثمانينيات.
سينما خيري بشارة هي سينما شديدة الخصوصية، حيث تمرد على كل أو معظم
النماذج السابقة ليفرز نموذجاً خاصاً أهم ما يميزه أو يميز هذه السينما
التي قدمها: إنها سينما «الإنسان والمكان» أي السينما التي تعبر عن واقع
حياة الإنسان بكل آلامه وأحزانه.
وفق هذه الرؤية والفلسفة صنع وقدم أفلامه القليلة العدد «كماً»
العظيمة القيمة والمستوى «كيفاً»، فلم يقدم طوال مشواره السينمائي سوى
«11فيلماً» روائياً طويلاً بجانب سلسلة أفلامه التسجيلية، وكان كل فيلم
منها حدثاً فنيا.
ولد خيري بشارة في 30 يونيو 1947 لأسرة مصرية متوسطة بمدينة «طنطا»
بدلتا مصر وإن كانت أسرته تنتمي لجذور صعيدية وقبل أن يتم الخامسة من عمره
انتقلت أسرته إلى حي «شبرا» العريق بالقاهرة وفي هذا الحي العريق استكمل
طفولته ونشأته التي أدرك خلالها مدى حبه وعشقه للسينما من خلال تردده
المستمر على دور العرض السينمائي المنتشرة في هذا الحي العريق، ومع توالي
مراحله الدراسية ودخوله في مرحلة الصبا والمراهقة أدرك خيري أن السينما
والفن هو عالمه كله وأنه لا يجد نفسه في أي شيء آخر غير هذا العالم، وهو ما
جعله يقرر بشكل قاطع أن يدرس السينما بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة،
والتحق بالمعهد العالي للسينما ودرس به لمدة أربع سنوات وتخرج منه عام
1967، وتزامن مع تخرجه إنشاء المركز القومي للسينما التسجيلية في نفس العام
1967، فالتحق بهذا المركز وعمل مع مجموعة من أصدقائه وزملائه بالمعهد على
تأسيس جماعة السينما الجديدة التي كان هدفها تجديد السينما المصرية شكلاً
ومضموناً من خلال التمرد على كل النماذج السائدة بما فيها من تقليدية
وجمود.
وفي عام 1968 سافر إلى بولندا لدراسة الزمالة في السينما من خلال أحد
المعاهد المتخصصة ومكث هناك عاماً واحداً حصل خلالها على دبلومة في
السينما، وأيضاً التقى بزوجته البولندية «مونيكا كوك» وتزوجها عام 1969 وهي
أم أولاده «ميرندا وروبرت»، وخلال نفس العام عاد إلى مصر ليعمل مساعداً
للإخراج في بعض الأفلام ومنها فيلم «نائب في الأرياف» مع المخرج توفيق
صالح، كما عمل أيضاً بالتدريس في المعهد العالي للسينما، وفي عام 1974 بدأ
مشواره السينمائي كمخرج من خلال الأفلام التسجيلية التي ظل يقدمها على مدى
12 عاماً كاملة، وحتى بعد أن بدأ أفلامه الروائية مع بداية الثمانينيات لم
ينقطع عن عالم السينما التسجيلية، وقدم فيها رؤية مختلفة للفيلم التسجيلي
بشرت بميلاد مخرج جديد واعد يعد من آمال السينما المصرية في السنوات
المقبلة، ومن أهم أفلامه التسجيلية التي قدمها خلال تلك الفترة والتي تبلغ
12 فيلماً قدم خلالها موضوعات وقضايا متنوعة: «صائد الدبابات» 1974، «طبيب
في الأرياف» 1975، «طائر النورس» 1975، «حديث الحجر» 1976، «تنوير» 1977،
«حديث القرية» 1979، «الطواف» 1983، «الرحلة» 1983، «العبابدة» 1986.
ومع مطلع الثمانينيات كان فيلمه الأول في السينما الروائية الطويلة
«الأقدار الدامية» 1981 وهو الفيلم الذي بدأ به مشواره مع السينما
الروائية، وكان إنتاجاً «مصري جزائري» واعتمد على سيناريو كتبه السينمائي
الجزائري علي محرز عن مسرحية «الحداد يليق بألكترا» للكاتب الأميركي الكبير
«يوجين أونيل»، لكن ومن خلال رؤية عربية دارت أحداث الفيلم الذي قام
ببطولته يحيى شاهين وأحمد زكي ونادية لطفي وعلي محرز عن حرب فلسطين عام
1948 وقد عبر خيري بشارة من خلال لغة سينمائية عالية عن أجواء هذه الحرب
دون أن نرى على الشاشة لقطة واحدة للحرب أو المعارك.
وفي فيلمه الثاني «العوامة 70» 1982 والذي كتبه السيناريست فايز غالي
وقام ببطولته أحمد زكي وكمال الشناوي وماجدة الخطيب وتيسير فهمي، يقدم خيري
بشارة ومن خلال رصد بانورامي حيرة وضياع وتمزق جيل الستينيات بعد هزيمة
يونيو 1967، وكان الفيلم سيرة ذاتية موضوعية لهذا الجيل.
وفي عام 1985 كانت السينما المصرية على موعد مع تحفة سينمائية رائعة
ومع فيلم يعد من أهم كلاسيكياتها وهو فيلم خيري بشارة الرائع «الطوق
والاسورة» المأخوذ عن واحدة من أشهر روايات الكاتب والروائي الراحل يحيى
الطاهر عبدالله والتي حملت نفس الاسم، وكتب السيناريو والحوار د. يحيى
عزمي، وكانت البطولة لعزت العلايلي وشريهان وفردوس عبدالحميد ومحمد منير
وأحمد بدير وأحمد عبدالعزيز وعبدالله محمود، وقد عبر خيري بشارة في هذا
الفيلم عن مجتمع الصعيد كما لم يعبر أحد من قبل.
في هذا الفيلم وصل خيري بشارة من خلال لغته السينمائية إلى مصاف فنانن
السينما الكبار في العالم فهو هنا يعبر عن قضايا كونية عظيمة الأهمية لذلك
طاف الفيلم مهرجانات السينما في كل الدنيا وحصل من الداخل والخارج على ما
يقرب من 20 جائزة محلية ودولية، واعتبر من أهم أفلام السينما المصرية عبر
تاريخها وواحداً من تحفها الثمينة ومن كلاسيكياتها الخالدة.
ولعل هذا النجاح الساحق الذي حققه خيري بشارة في أفلامه الثلاثة التي
قدمها وأسلوبه السينمائي المختلف والمغاير والذي جعله يقدم سينما شديدة
الخصوصية متمردة على كل التقليدي الذي كان مسيطراً، سينما جديدة تملك لغة
مختلفة تعبر بها عن الإنسان والمكان وواقع كل منهما لتصل إلى التعبير عن
واقع الحياة، ولكل هذه الصفات التي ميزت خيري بشارة والسينما التي يقدمها
طلبت سيدة الشاشة «فاتن حمامة» من خيري أن يبحث لها عن موضوع سينمائي تقدمه
معه، وكان هذا من دلائل الاحترام الكبير لهذا المخرج الكبير من فنانة كبيرة
تعد النجمة الأسطورية للسينما المصرية، وكان فيلم «يوم مر.. يوم حلو» التي
قامت ببطولته فاتن حمامة ومعها عبلة كامل والمطربة سيمون ومحمد منير ومحمود
الجندي ومحمد كامل وقدمه خيري عام 1988، وتناول الفيلم عالم المهمشين
البسطاء من خلال أرملة مصرية فقيرة تعيش في حي شبرا في قاهرة الثمانينيات
وكيف تواجه قسوة الحياة والواقع مع أبنائها الخمسة.
وبعد هذا الفيلم يغوص خيري بشارة بعمق داخل عالم الفقراء والمهمشين
ويقدم هذا العالم بواقعية شديدة عبرت عن أحلامهم وانكساراتهم، عن تطلعاتهم
لحياة أفضل وعن قيود اجتماعية ومادية هائلة تحول دون تحقيق هذه الأحلام،
وقدم ذلك من خلال عدد من الأفلام المهمة الرائعة، مثل: «كابوريا» 1990 ومن
بطولة أحمد زكي ورغدة وحسين الإمام وسحر رامي ويقدم خيري في هذا الفيلم
عالم المهمشين من خلال كوميديا ودراما تعتمد عن الخيال الحر الأقرب «للفانتازيا»
من خلال تناقضات الواقع الاجتماعي،.
ويقدم أيضاً «آيس كريم في حليم» 1992 بطولة المطرب عمرو دياب وسيمون
وأشرف عبدالباقي وعزت أبو عوف وحسن الإمام، في هذا الفيلم يطرح خيري بشارة
رؤية تؤكد لنا أن الهامشيين سيظلون على نفس حالهم يعانون دائماً من الإهمال
والتجاهل والهامشية والفقر والإحباط والأحلام المنهارة، وقدم ذلك في إطار
أقرب إلى الشاعرية مع تنويعات موسيقية كي تبعد القتامة عن الأحداث بل
تكسبها بعض الحيوية والإبهار، وفي فيلمه «أميركا شيكا بيكا» 1993 يتحدث عن
واقع آخر مختلف لهؤلاء الهامشيين يتمثل في تآكل الانتماء للمجتمع والبلد
والوطن من خلال التفكير في الهجرة والابتعاد.
وفي عام 1994 يقدم خيري بشارة واحداً من أفلامه الرائعة «حرب
الفراولة» من بطولة يسرا ومحمود حميدة وسامي العدل وسحر رامي، ويطرح من
خلال الفيلم قضية إنسانية كونية عن معنى «السعادة» وكيف ينالها الإنسان ومن
أين تأتي وكيف السبيل إليها ومن أين يبدأ بحثه عنها؟!، وطرح كل هذه
التساؤلات من خلال رؤية درامية ذات إطار من الكوميديا القريبة من
الفانتازيا، عن عائلة من المهمشين في مواجهة رجل شديد الثراء.
وفي عام 1995 قدم واحداً من أفلامه الجيدة وهو «قشر البندق» الذي قام
ببطولته محمود ياسين وحسين فهمي وكان الفيلم هو الظهور الأول للفنانة
الشابة رانيا محمود ياسين التي قامت ببطولة الفيلم الذي أنتجه والدها وشارك
في البطولة أيضاً محمد هنيدي ومحمد لطفي وعلاء ولي الدين، في هذا الفيلم
يقدم خيري من خلال إطار كوميدي أقرب إلى الفانتازيا تطلعات الهامشيين لحياة
أفضل ورفض وسخرية الطبقة الثرية لهذه التطلعات، كذلك يطرح تغيرات المجتمع
في الثمانينيات والتي بدأت تظهر آثارها في التسعينيات من خلال الشهوة التي
أصابت المجتمع في كل طبقاته شهوة المال، شهوة السلطة، شهوة الانتقام، شهوة
الجنس وصولاً إلى شهوة الطعام والشراهة في كل شيء، وكان فيلماً أقرب إلى
أفلام الكوميديا السوداء، وفي العام التالي 1996 قدم خيري بشارة واحداً من
تحفه السينمائية الرائعة وهو «إشارة مرور» وكانت البطولة للمطرب محمد فؤاد
أمام ليلى علوي وسامي العدل وعزت أبو عوف وعماد رشاد وإنعام سالوسة والمخرج
المسرحي الكبير سمير العصفوري ودارت أحداث الفيلم بكاملها في الشارع وعلى
مدى زمني لم يتجاوز سوى ساعات قليلة، واستعرض الفيلم في أسلوب كوميدي سافر
واقع القاهرة المزدحمة في التسعينيات وهي مزدحمة بكل شيء بالبشر والصراعات
والفوارق الطبقية الهائلة والأحلام المكسورة والآمال المحبطة والأخلاق
المتدنية «أخلاق وسلوكيات الزحام»، ورصد الفيلم بشكل بانورامي بعيداً عن
الحواديت التقليدية نماذج هائلة من البشر وتعاملهم مع حياتهم ومع المكان
الذي كان من أهم أبطال هذا الفيلم الذي حصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة
«الهرم الفضي» من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 2006، ولعل ما قاله
خيري بشارة وهو يتسلم جائزته عن هذا الفيلم يلخص كثيراً ما يعانيه هذا
الفنان السينمائي المبدع، وأي فنان مبدع يريد أن يقدم فناً مختلفاً متمرداً
على التقليدي السائد فناً يحرك الحياة الراكدة من الجمود الفكري والإبداعي
قال خيري بشارة: «أنا أقدم سينما صعبة ومتعبة وشاقة، لكن هذه الجائزة رفعت
من معنوياتي».
وفي عام 2002 يقدم خيري بشارة فيلمه الأخير «ليلة في القمر» وكانت
تجربة جديدة في مجال أفلام الديجتال في محاولة للسيطرة على ارتفاع ميزانيات
الأفلام خلال تلك الفترة وهو ما كان يشير إلى أزمة هائلة ستعاني منها
السينما المصرية، وهو ما حدث بعد ذلك بالفعل، لكن بعد هذه التجربة التي تعد
رائدة اتجه الكثيرون من السينمائيين المصريين خاصة الشباب إلى الديجيتال
ليكون الوسيلة والحل من أجل تقديم أفلام جادة بكلفة قليلة، ومن هذه الأفلام
نشأت فكرة السينما المستقلة وبدأ هذا التيار ينتشر وقدم لنا أفلاماً جيدة
حصلت على جوائز مهمة من مهرجانات دولية، ولا يتسع المجال للحديث عن هذا
التيار الذي كان خيري بشارة هو أول من وضع حجر الأساس لنشئته، ولا يبقى في
النهاية إلا أن نشير إلى أن هذا المخرج الكبير اتجه في السنوات الأخيرة إلى
الدراما التلفزيونية وقدم بعض المسلسلات الناجحة مثل: «ملح الأرض»،
«الفريسة والصياد»، «الرقص مع المجهول»، «ريش نعام»، «مسألة مبدأ»، «قلب
حبيبة»، «الهروب من الغرب»، وقدم خيري رؤية سينمائية مبتكرة لهذه المسلسلات
من خلال الصورة والأسلوب والتكنيك.
أيضاً كان هناك هواية محببة لخيري بشارة تعبر عن ميول غريزة للتمثيل
وتمثلت هذه الهواية في الظهور كممثل لبعض المشاهد أو الأدوار الصغيرة في
عدد من الأفلام والتي كان في معظمها يظهر لإشباع هوايته في التمثيل، وأيضاً
لمجاملة زملاءه وأصدقاءه من مخرجي هذه الأفلام التي نذكر منها: «ملك
وكتابة» 2005، «أحلى الأوقات» 2004، «سمع هس» 1991، «امرأة آيلة للسقوط»
1995، وكان دائم الظهور أمام الكاميرا كممثل في أفلام صديقه الحميم المخرج
الكبير محمد خان وظهر في أفلام مثل: «نصف أرنب»، «أحلام هند وكاميليا»،
«زوجة رجل مهم»، «يوم حار جداً»، «موعد على العشاء».
كما نشير أيضاً على أن خيري بشارة يقوم الآن بالتدريس في معهد السينما
كما يشرف على بعض الورش السينمائية التي تعمل على تطوير إنتاج السينما
المستقلة، لكننا نبقى دائماً في انتظار أفلام هذا المبدع السينمائي الكبير.
الجريدة الكويتية في
16/08/2012 |