سينماتك

 

مع ممثليه

ستيفن سبيلبرغ عالقا في صالة الانتظار!

احمد ثامر جهاد

 

سينماتك

1- أصل الحكاية السينمائية :

الأصل كان حكاية واقعية غريبة ذات مسار تراجيدي حدثت في ثمانينيات القرن الماضي. دراما حقيقية مكتملة المغزى والتأثير اجتذبت المخرج الأمريكي الشهير ستيفن سبيلبرغ فقرر إعادة صياغتها ومعالجتها سينمائيا في فيلمه ( محطة الوصول ) والذي اسند البطولة فيه لنجمين سينمائيين بارزين هما: توم هانكس وكاترين زيتا جونز، وفي نيته جذب الجمهور إلى فيلمه هذا . وقد ذكرت التقارير الصحفية إن سبيلبرغ دفع مبلغ 300 ألف دولار للإيراني ( ميرهان كريمي ناصري ) مقابل شراء تفاصيل قصته الفاجعة. وحكاية ميرهان الحقيقية غريبة وحزينة وهي بحكم ( طبيعتها السينمائية الواقعية ) مما يصعب تصور وقوعه في عالم اليوم ، بل أن مجرد حدوثها في العالم الغربي الحر يشكل وخزة للضمير الإنساني ككل . ولنا أن نرى هذا المعنى في تفاصيل سردها الملخص عبر الصحافة الفنية العالمية، لا كما تمت معالجته سينمائيا بنفس كوميدي ورومانسي ساخر:

غادر ميرهان وطنه الإيراني إلى بريطانيا عام 1974 لاكمال دراسته العليا وهو في التاسعة والعشرين من عمره . وقد اضطرته ظروف شخصية صعبة للعودة إلى إيران عام 1977 ، في حين قادته ظروف أخرى للمشاركة في مظاهرة شعبية ضد نظام الشاه ، القي القبض عليه خلالها ليفرج عنه لاحقا مقابل شرط مغادرته ارض إيران ، لتبدأ حكاية اغترابه ومنفاه القسري في مكان آخر . فبعد بضعة جولات شاقة في عدة دول أوربية منحته مفوضية اللاجئين الأممية حق اللجوء في بلجيكا . إلا أن حلم السفر إلى بريطانيا والحصول على الجنسية البريطانية بقي يراوده دائما، خاصة وان أمه من أصل إنكليزي. لكن قدرا آخر كان ينتظره في محطة قطار فرنسية سيحوّل مسار حياته بالكامل نحو الاغتراب الحقيقي غير المتوقع هذه المرة والى الأبد، حيث سرقت كل أوراقه التي تثبت كونه يحمل صفة لاجئ مقيم في بلجيكا. وبعد وصوله إلى مطار هيثرو في لندن لم تسمح له السلطات بدخول البلاد وقررت إعادته من حيث آتى ، أي إلى مطار شارل ديجول في باريس عام 1988 . هكذا تتعقد قضية ميرهان حينما ترفض الحكومة الفرنسية منحه حق الدخول إلى أراضيها من غير تأشيرة دخول قانونية ، ولا تعرف إلى أين يمكن أن تعيده في الوقت نفسه . وبصورة سريالية يجد ( ميرهان ) نفسه وقد تحول إلى مواطن عالمي سلبي ، مرفوض من قبل الجميع ، ولا يكترث أحد لمأساته ، فيقرر البقاء في المطار الذي أصبح بيته الحقيقي منذ 18 عاما خلت . لكن في العام 1995 وافقت بلجيكا على استقباله المشروط بعد مفاوضات ومداولات مع الجانب الفرنسي .، إلا أن السيد ميرهان رفض هذا العرض واعتبره مهينا وتعسفيا ، وربما فقد أساسا رغبته في مغادرة عالمه الخاص ، خشية من مجهولية العالم الخارجي وقسوته .

2- قبعة سبيلبرغ الذهبية :

لا شك أن هناك العديد من الممثلين ممن عملوا مع المخرج ستيفن سبيلبرغ اعترفوا بموهبته وخياله السينمائي الذي جعله إلى يومنا هذا ممسكا بلقب فتى هوليود الذهبي كما يطيب لجمهوره السينمائي أن يرى فيه . ونذكر هنا إن السير ( أنتوني هوبكنز ) - وهو الممثل السينمائي القدير -  لخص يوما ما إعجابه بالمخرج ستيفن سبيلبرغ بالقول : اشد ما يعجبني به هو قبعته الرياضية ( سبورت ) وحركته الدائمة بين طاقم الفيلم  . كان هوبكنز يتكلم وفي ذهنه تجربة ( امستاد ) الفيلم الرصين الذي جمعه مع سبيلبرغ ولم ينل نصيبا كافيا من الاهتمام لا في مواسم عرضه ولا في المهرجانات السينمائية التي رشح لها .

ربما يفكر أحدهم أن تعبيرا آخر سيرتسم على وجه السير ( هوبكنز ) حينما يشاهد فيلم سبيلبرغ المعروف بـ ( Terminal  ) ، فيما سيجد المتلقي السينمائي بدوره مبررا محتملا أيضا لتخيل المخرج الموهوب مقيدا إلى كرسيه الخشبي الصغير فاقدا حيويته وقدراته المعهودة . إذ كان يمكن لهذا الفيلم أن يكون حدثا سينمائيا ناجحا لو أن المخرج استوعب حجم قصته الأصلية ، خاصة بالنسبة لغير الأمريكيين وقدمها بمعالجة اكثر إقناعا . ولن يكون سبيلبرغ فاقدا للحيلة لو انه أراد حقا بلوغ تلك الغاية ، مثلما أجاد في صناعة روائعه السينمائية ذائعة الذكر : إي تي ، لقاء غريب من النوع الثالث ، إمبراطورية الشمس ، اللون القرمزي ، لائحة شندلر ، إنقاذ الجندي رايان ، حرب العوالم ، وغيرها .

3- فنتازيا واقعية بمواجهة خيال سينمائي :

بحسب الفيلم فان الرجل العادي المدعو ( فكتور نافورسكي ) والقادم من دول أوربا الشرقية في زيارة لمدينة نيويورك ، يجد نفسه عالقا في مطارها ، بسبب وقوع انقلاب عسكري في بلده بشكل مفاجئ ، كان قد تلقى أخباره من على شاشة التلفزيون ، وهو ما جعل أوراق سفره غير معتمدة رسميا عقب تبدل النظام السياسي ، وأصبح في مأزق قانوني لا يسمح له بدخول الولايات المتحدة ولا الخروج من المطار إلى أي دولة أخرى ، ولا يمكنه حتى العودة لبلده لان جواز سفره غير معترف به بعد التغيير الذي حدث .

بغض النظر عن طبيعة التغيير السياسي الذي وقع في بلد ( نافورسكي ) والذي لا ينشغل سبيلبرغ به مطلقا ، تتسبب هذه الورطة في خلق أزمة وجودية للبطل المسافر ، وتحدد حركته بشكل نهائي في بقعة صغيرة حيادية ، إذ تصبح صالة الانتظار في المطار هي بيته ومأواه الآمن وربما محطته الأخيرة . وبشكل تدريجي معتاد يألفه اغلب موظفي المطار وعماله ويتعاطفون مع قضيته الإنسانية بصورة تخلق مواقف طريفة تشير ضمنيا إلى إدانة أخلاقية لقوانين الدول وتشريعاتها التعسفية بحق الناس . خلال ذلك وبتصاعد أحداث الفيلم يتعرف ( نافورسكي ) على المضيفة الحسناء ( كاترين زيتا جونز ) التي تحاول كالآخرين أن تتفهم أزمته من دون أن تقدم له حلا ناجعا .

إن المسالة الأساسية التي يصعب إغفالها هنا - وقد كانت سمة ملحوظة أساءت إلى بناء دراما الفيلم - هي أن الإطار المصطنع للأحداث لم يجعله غير مقنع حسب ، بل انه جعل الفيلم ملهاويا ومتصنعا ، يسهل تصنيفه تحت لائحة أفلام الصيف الترفيهية ، لاسيما في النصف الثاني منه والذي يتحول فيه (نافورسكي) فجأة إلى إنسان غير عادي في تصرفاته الساذجة التي تناقض واقع أزمته النفسية وطبيعة محنته ، ليصبح بهذه الصورة شخصا مسليا بلا قضية يعتاش على هموم صغيرة تكسبه ود الناس المحيطين به ولا تعنيه بشيء حقيقي . وربما تعد الحكاية العاطفية بين الشخصيتين الرئيسيتين هي المسار الآخر غير الموفق في فيلم سبيلبيرغ حتى وان قام ( نافورسكي ) لمفاجأة المرأة التي يحبها ببناء نافورة مياه لها في المطار على غرار ما فعل نابليون لحبيبته الشهيرة جوزفين ! من المرجح إن المخرج أراد بذلك التمهيد لما سيظهر لاحقا في حياة بطله وهو يكشف في اللقطات الأخيرة للفيلم عن مهمة بطولية جاء من اجلها إلى نيويورك تتعلق بحياة والده.

تلك الأحداث الهوليودية المفتعلة هي التي أفقدت القصة الأصلية إطارها المؤثر ومغزاها الإنساني العميق من دون أن يتمكن المخرج فيها من كسب الرهان على نجومية ممثليه الذين لم يكونوا معه بأفضل أدوارهم على الشاشة . وربما تشير المفارقة اللافتة في فيلم ستيفن سبيلبرغ إلى ان الوقائع الحقيقية للمسافر الإيراني التي اعتمدها المخرج منطلقا أساسيا لفيلمه تبدو اشد غرابة ودلالة من الحكاية السينمائية المتخيلة ، وهو ما يعزز افتراضا يذهب إلى ان في الواقع قدرا من الخيال والفنتازيا يتفوق أحيانا على الخيال الفنتازي ذاته . وبرغم ذلك لن يتنازل عشاق سينما سبيلبرغ عن انتظار جديده ومتابعة عوالمه السينمائية الشيقة ، فموهبته الكبيرة في صناعة الأفلام هي وحدها التي يراهن الجميع على قدرتها في الإتيان بطائرة ساحرة تنتشل المخرج وممثليه محلقة في سماء رحبة .

6 أغسطس 2006

 

 

 

 

 

 

ملحوظة:

نشر هذا المقال في موقع "شريط"..

و"سينماتك" استلمت نفس المقال من صاحبة الناقد أحمد ثامر جهاد.. وارتأينا نشره في هذا الباب

الشكر للناقد الصديق على ثقته الطبية بـ"سينماتك".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك